الكتَّاب الروس في القرن العشرين، أعمالهم ومصائرهم
ملاحظات تمهيدية
شارك عدة آلاف من الكتَّاب، الذين دخلت أعمالهم في العملية الأدبية، في أحداث تاريخ الأدب في القرن العشرين. ومن بين الأدباء المحترفين في هذا العصر يمكن أن نجد، بطبيعة الحال، عددًا قليلًا نسبيًّا ورد ذكرهم، من بين مئات الكتَّاب، في المتن الأساسي لهذا الكتاب، في الجزء الخاص ﺑ «الشخصيات» من «دليلنا الموجز». وقد جاء انتقاء «الشخصيات» لهذا القسم من الكتاب وفقًا لوجهة نظر محددة.
لقد جرى، أولًا وقبل كل شيء، تقديم الكتَّاب الروس الذين حدَّدوا سمو الإنجازات الروحية والفنية لعصرهم، وهؤلاء هم الكتَّاب الذين تجاوزوا في تجربتهم الإبداعية الموهوبة الدوجما والأشكال النمطية، تاركين أثرهم الفعال، بطريقتهم الخاصة، على الطموحات الفنية للعصر، وهم أيضًا الذين يشهد مصيرهم الإبداعي على المستوى الرفيع لِما تمتَّعوا به من استقلال روحي وحرية داخلية. باختصار، فإن الحديث يدور هنا عن الكتَّاب الذين تعبِّر كلمتهم الأصيلة عن تعدُّد صور الحقيقة وتناقضاتها في مصير الإنسان والشعب الروسي في القرن العشرين بأكثر الأشكال الفنية والأخلاقية قوة.
وفي بعض الحالات نورد أيضًا معلومات عن كتَّاب مشهورين شغلوا مناصب رفيعةً في منظومة «القيادة» الأدبية، وهؤلاء تركوا بالفعل أثرًا حقيقيًّا على مسيرة الحياة الاجتماعية الأدبية. وفي نهاية كل «شهادة» نقدِّم معلومات ببليوجرافية موجزة، وقد وضعت هذه «الشهادات» في ترتيب زمني وفقًا لسنة ميلاد الكتَّاب، الأمر الذي يتفق مع الهدف الرئيسي للكتاب وهو تقديم صورة حية للأدب الروسي من خلال الأحداث والأشخاص، من خلال طبائعهم ومصائرهم الخاصة، لا مجرد تجميع لعدد من الحقائق فحسب. عمومًا فقد قمنا بكتابة أسماء «الشخصيات» بخط بارز تسهيلًا على القارئ في البحث عن المعلومات الضرورية له.
(١) قائمة أسماء «الكتَّاب الروس في القرن العشرين»
ف. ف. روزانوف، ف. ك. سولوجوب، د. س. ميريجكوفسكي، م. جوركي، ز. ن. جيبيوس، أ. إ. كوبرين، أ. ب. تشابيجين، إ. أ. بونين، ل. ن. أندرييف، م. أ. كوزمين، ف. ي. بريوسوف، م. م. بريشفين، إ. س. شميليف، م. أ. فولوشين، أ. م. ريميزوف، أ. أ. بلوك، أندريه بيلي، أ. ن. تولستوي، ي. إ. زامياتين، ن. أ. كليويف، أ. ك. فورونسكي، فيليمير خليبنيكوف، ن. س. جوميلوف، ف. ف. خوداسيفيتش، س. أ. كليتشكوف، أ. أ. أخماتوفا، ب. ل. باسترناك، أ. إ. ماندلشتام، م. أ. بولجاكوف، م. إ. تسفيتايفا، ف. ف. ماياكوفسكي، إ. إ. بابل، ي. ن. تينيانوف، ج. ف. إيفانوف، ب. أ. بيلنياك، م. م. زوشينكو، س. أ. يسينين، إ. إيلف وي. بيتروف، ك. ك. فاجينوف، ي. ك. أوليشا، أ. ب. بلاتونوف، ف. ف. نابوكوف، ل. م. ليونوف، م. أ. شولوخوف، أ. أ. فادييف، ن. أ. زابولوتسكي، أ. ب. جايدار، د. خارمس، ف. س. جروسمان، د. ل. أندرييف، ف. ت. شالاموف، ي. أ. دومبروفسكي، أ. ت. تفاردوفسكي، ف. ب. نكراسوف، ك. م. سيمينوف، أ. إ. سولجينتسين، ف. أ. أبراموف، ف. ب. أسطافيف، ي. ف. تريفونوف، ف. أ. بوجومولوف، أ وب. ستروجاتسكي، ف. م. شوكشين، ي. ب. كازاكوف، ج. ن. فلاديموف، ف. إ. بيلوف، ن. م. روبتسوف، أ. ف. فامبيلوف، ف. س. ماكانين، ف. ج. راسبوتين، ف. س. فيسوتسكي، ل. س. بتروشيفسكايا، ف. ف. يروفييف، إ. أ. برودسكي.
(١-١) فاسيلي فاسيليفيتش روزانوف
(٢٠ أبريل (٢ مايو بالتقويم القديم) ١٨٥٦م، فيتلوجا، إقليم كوسترومسكايا، ٥ فبراير ١٩١٩م، سيرجييف بوساد بالقرب من موسكو).
وُلد فاسيلي روزانوف في أسرة برجوازية صغيرة كثيرة الأطفال. فقد والده مبكرًا. قضى طفولته في مسقط رأسه، في هذه المدينة التي تركت في نفسه ذكريات أليمةً إلى الأبد. كان قدَره أن يعيش وحيدًا منذ مطلع حياته؛ ففي الثالثة عشرة من عمره فقَدَ أمه أيضًا.
تلقَّى روزانوف تعليمه في ثانوية سيمبيرسك، لينتقل منها إلى ثانوية نيجيجورود. وقد اعتنق الأفكار المادية و«التقدمية» التي كانت سائدةً في ستينيات القرن التاسع عشر آنذاك، ثم خمد حماسه تجاهها بعد ذلك.
الْتحق بجامعة موسكو بكلية الآداب والتاريخ ليتخرَّج فيها بعد اثنَي عشر عامًا، ليعمل بعدها مدرسًا للتاريخ والجغرافيا في المدارس الثانوية في عدد من مدن الأقاليم الروسية (بريانسك، سيمبيرسك، فيازيما، يليتس، بيليسك).
وفي مطلع التسعينيات يبتعد روزانوف عن مجال التعليم ليعكس خبرته في التدريس ودور المعلم وتأمُّله لمغزى التعليم، في واحد من أوائل كتبه المسمى «ظلام التعليم»، حيث جمع فيه مقالاته التي كتبها في الفترة من عام ١٨٩٣م وحتى عام ١٨٩٨م، قدَّم من خلالها رؤيةً نقدية كاملة لنظام التعليم الروسي.
كان روزانوف أديبًا روسيًّا متميزًا، وفي الوقت نفسه كان شخصيةً فريدة في الحياة الأدبية في هذا العصر. وبوصفه مثقفًا متعدد الجوانب أصدر عملًا ذا طابع فلسفي، يُعد الدراسة الأولى له في هذا المجال تحت اسم «عن الفهم» (١٨٨٦م). وقد ظهرت له أعمال كثيرة، باعتباره مؤرخًا دينيًّا وكاتبًا اجتماعيًّا، تتناول موضوعات خاصةً بالكنيسة والدين، منها: «بالقرب من حوائط الكنيسة» (١٩٠٦م)، «الكنيسة الروسية» (١٩٠٩م)، «الوجه الأسود» (١٩١١م)، «أناس ضوء القمر» (١٩١٢م) وغيرها. وفي هذه الكتب اشتبك روزانوف في جدل شديد مع ممثلي الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية. كما تناول بالنقد، بوصفه كاتبًا اجتماعيًّا، القضايا المعاصرة في الحياة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في العديد من الصحف الروسية، الأمر الذي أثار عليه هجومًا عنيفًا في أحيان كثيرة. كان لديه أيضًا أعمال عن الكتَّاب الروس الكلاسيكيين اتسمت بالعمق والتفرد والصراحة، مثل «أسطورة المفتش الأعظم لفيودور دستويفسكي»، ١٨٩١م وغيرها.
احتل روزانوف في الحياة الأدبية الاجتماعية في زمنه مكانةً مستقلة، ولكنه كثيرًا ما كان يتخذ مواقف متناقضةً حول القضايا نفسها، وهو ما جعله يشتهر بكونه صحفيًّا لا مبدأ له. واقع الأمر أن ذلك كان مرجعه إحساسه بالتناقض الهائل بين الحياة الواقعية واستحالة تآلفها مع النماذج البسيطة المتكرِّرة التي لا تُعد. وراء ذلك أيضًا يكمن اهتمامه العميق بعملية الإدراك ذاتها، والحياة الداخلية للتفرد الإبداعي في استمراريتها وتعقُّدها.
وقد عبَّر روزانوف عن نفسه، بوصفه كاتبًا، بشكل أكثر اكتمالًا وأصالة، في كتابين من كتبه، فريدَين من ناحية الشكل والنوع بشكل لم يسبق له مثيل، هما: «الناسك» (١٩١٢م)، «الأوراق التي سقطت، المجموعة الأولى، المجموعة الثانية» (١٩١٣–١٩١٥م). في هذين الكتابين أصبح روزانوف «مؤرخًا لتعبيره الذاتي الخاص» مصورًا ومسجلًا، في أشكال حرة تمامًا، التيار المباشر لحياته الداخلية، كما لو أن الكتابين هما سجل لمذكراته اليومية، أقواله المأثورة، ملاحظاته حول ما يحدث، مقتطفات من كتاباته الخاصة، نقده، تأمُّلاته الدينية، تصويره للأحداث اليومية. يُضفي روزانوف أهميةً خاصة للقيم المأخوذة بشكل مباشر من الحياة السريعة المفعمة بكل أشكال الحقائق، وبكل ما تتميَّز به من «دهشة عَفْوية»، تأتي مباشرةً من الروح، دون افتعال، دون غرض، دون قصد، ودون أي تدخُّل. كتب روزانوف فيما بعد: «كان من الأفضل لي أن أموت؛ فلم أكن لأعتبر نفسي إنسانًا نبيلًا، لو ظل كل شيء صامتًا في مكان ما في الخفاء …» «من «الصدفة» تخرج «الضرورة» … كان أثر «الناسك» هائلًا تمامًا، وعلى النحو الذي كنت أطلبه بجنون من الأدب، سواء الغريب، أو الذي أُبدعه؛ إذلال النفس والتأثير في العواطف وتعميق المشاعر ونزع «المعطف» عنها» (المظاهر والشكليات). كان هذا هو صراع الكاتب من أجل اكتمال التعبير عن فرديته، من أجل تحرُّره من الأشكال الأدبية «الميتة» المعتادة.
استقبل فاسيلي روزانوف أحداث ثورة ١٩٠٥م بمزيد من الأمل، وراح يستمع بتوتر بالغ إلى سير الأحداث، منتظرًا وقوع تحوُّلات مثمرة في الحياة الروسية وتطهِّرها من كل الانقسامات القديمة، أن يلم شتات المجتمع الروسي بأسره من أجل بناء دولة عظمى.
على أن مسيرة التاريخ الواقعية جاءت على خلاف توقعات فاسيلي روزانوف.
عاش روزانوف أحداث ١٩١٧م باعتبارها كارثةً قومية، وكان قد قضى سنواته الأخيرة في سيرجييف بوساد، مسقط رأسه، حيث فقد أفراد عائلته، وحيدًا إلا من بعض المقرَّبين له من الكنيسة، وهناك كتب كتابه «سفر رؤيا زماننا» (الإصدار من ١ إلى ١٠)، وهي مذكرات السنوات الرهيبة التي عاشها.
لقد قضى روزانوف نحبه وهو يخوض صراعًا روحيًّا قاسيًا، دون أن يصل إلى حل نهائي للعديد من القضايا التي عذَّبته.
لم يُعَد طبع أعمال فاسيلي فاسيليفيتش روزانوف بعد وفاته لمدة ما يقرب من سبعين عامًا، لكن اسم روزانوف سيظل في التاريخ الحقيقي للأدب والفكر الروسي واحدًا من الأسماء المهمة، الجذابة والأصيلة.
أعمال ف. ف. روزانوف
الأعمال الكاملة (جمع وإعداد النص والتعليق: أ. ل. ناليبين، ت. ف. بوميرانسكي)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكايا روسيا» (روسيا السوفييتية)، ١٩٩٠م؛ الأعمال الكاملة (جمع ب. ف. كورسانوف)، موسكو، «فسيسايوزني مولوديوجني كنيجني تسنتر» (مركز كتب الشباب لعموم الاتحاد السوفييتي)، ١٩٩٠م.
أعمال عن ف. ف. روزانوف
نوسوف ف. ف. روزانوف، جماليات الحرية، سان بطرسبورج، دار نشر «لوجوس»، دوسيلدورف، «جولوبوي فسادنيك» (الفارس الأزرق)، ١٩٩٣م.
نيكوليوكين أ. ن. فاسيلي فاسيليفيتش، روزانوف، موسكو، دار نشر «زنانيا» (المعرفة) ١٩٩٠م.
(١-٢) فيودور كوزميتش سولوجوب
(١٧ فبراير (الأول من مارس بالتقويم القديم) ١٨٦٣م، بطرسبورج، ٥ ديسمبر ١٩٢٧م، ليننجراد). يُعَد ف. ك. سولوجوب (الاسم الحقيقي للعائلة تيتيرنيكوف) كاتبًا كبيرًا ذا موهبة فذة. عانى مصيرًا صعبًا نادرًا منذ ميلاده وحتى الأيام الأخيرة في حياته. كان والده كوزما تيتيرنيكوف ابنًا غير شرعي لمالك أرض من بولتافا إبَّان الإقطاع القيصري. عاش في بطرسبورج بعد إلغاء الإقطاع، ليعمل ترزيًّا ثم ليموت مبكرًا تاركًا الأم مع طفلين، لتعمل خادمةً لدى عائلة أرملة مساعد مستشار. بدا أن الطفلين في وضع ملتبس، فلا هم أطفال بالتبني، ولا هم أطفال لخادمة. كانا يتعرَّضان، وفقًا لسير الأمور، للعقاب الجسدي على سبيل المثال. هنا عانى فيودور تيترنيكوف منذ طفولته من الوجه الآخر المتدني من الحياة. وكذلك بدأ تعليمه أيضًا من أدنى الدرجات؛ مدرسة أبرشية، مدرسة في أحد المراكز التابعة لبطرسبورج، وأخيرًا طالبًا في أحد المعاهد التربوية المغمورة في بطرسبورج، التي تخرَّج فيها في عام ١٨٨٢م. وبعد ذلك يقضي عشرة أعوام في التدريس في الريف، بدءًا من قرى محافظة نوفوجورد. في عام ١٨٩٣م فقط، وبعد تعرُّفه على الشاعر ن. مينسكي، الذي أثنى ثناءً رفيعًا على أعمال فيودور تيتيرنيكوف الأدبية، ينجح، للمرة الأولى، في الانتقال من الريف إلى بطرسبورج ليصبح مدرسًا للرياضيات في معهد روجديستفينسكي في البداية، لينتقل منه إلى معهد أندرييفسكي (ليعمل به مدرسًا لمدة خمسة عشر عامًا أخرى)، ثم ينجح، للمرة الثانية، وقد بلغ من العمر ثلاثين عامًا، في الدخول، أخيرًا، إلى الأوساط الأدبية الجادة.
ومنذ هذه اللحظة يصبح موظفًا في واحدة من المجلات الكبرى؛ «سيفيرني فيستنيك» (بشير الشمال)، التي كان يجتمع حولها «الرمزيون الكبار» (ن. مينسكي، وز. جيبيوس، وس. ميريجكوفسكي، وق. بالمونت). وهناك، في هيئة تحرير المجلة وُلد الاسم الأدبي المستعار للكاتب، ليصبح منذ هذا التاريخ سولوجوب.
ظهرت رواية «أحلام مزعجة» في «روسكي فيستنيك» (البشير الروسي) (١٨٩٤م). وعنوان الرواية يحمل دلالات رمزية؛ فهذه الأحلام هي، من ناحية، صور من حياة الريف المقبضة للنفس، الثقيلة على الروح. إنها تمثِّل الوجود الباهت والتافه لمدرس منزوٍ في أحد أركان الريف. لقد ظهر هذا العنوان مبكرًا عند سولوجوب تحت تأثير الفيلسوف شوبنهاور، وفكرة الحياة باعتبارها كابوسًا، حلمًا عبثيًّا يستغرق الإنسان فيه، ولا يصبح حتى الموت نفسه هو الاستيقاظ منه. إن مواجهة هذا الواقع لا تتم إلا بالخيال («نجمة ماير»، «أرض أويسلي»)، بالصلابة الداخلية فقط للإنسان الوحيد، الذي يدرك أن هذا الواقع لا مخرج منه. وبمرور الأعوام فقط أصبحت هذه المواجهة أكثر وضوحًا ورسوخًا عند سولوجوب، ولم يتغير أي شيء بداخله، بعد أعوام تقول زيانيدا جيبيوس عنه: «لا أعرف شخصًا غيره يمتلك إحساسًا أكثر رهافةً وعمقًا وشمولًا بوحدة الشخصية الإنسانية» (كتب سولوجوب، قائلًا: «أنا إله العالم الخفي»).
في الأعوام التي تلت الثورة الروسية الأولى كتب سولوجوب روايته الشهيرة «الكلب الصغير» (١٩٠٢–١٩٠٥م)، استند فيها على ما لديه أيضًا من مادة عن الحياة الريفية، أما بطل الرواية فهو بيريدنيوف، مدرس الثانوي، الذي أصبح تجسيدًا للحياة المبتذلة في عالم عبثي يدفع إلى الجنون والجريمة. وفي عام ١٩٠٨م يصدر لسولوجوب واحدة من أهم رواياته الشعرية؛ «الدائرة المشتعلة»، حيث تنوَّعت بصدق داخلي عميق نغمة عبثية الحياة والقضاء المحتوم للإنسان.
استقبل الأدباء المعاصرون نزعة التشاؤم والاكتئاب عند سولوجوب بصور شتى؛ فاليساريون والسياسيون (جوركي، فوروفسكي، لينين) استقبلوها بسلبية حادة، بينما قدَّر ألكسندر بلوك موهبة وإخلاص سولوجوب تقديرًا رفيعًا، واعتبر أن موضوع الاغتراب المأساوي للإنسان هو واحد من أهم الموضوعات في الأدب الروسي في القرن العشرين (كتب بلوك في مقالته «اللازمن» يقول: إن سولوجوب يعرف سر التحول الذي يحدث في ظلمات الطبيعة).
وبالإضافة إلى «الكلب الصغير» كتب سولوجوب عددًا آخر من الروايات («سحرة نافي»، ثلاثية «الأسطورة المصطنعة» وغيرها)، وكذلك عددًا من المسرحيات.
كان سولوجوب يأمل في تجديد الحياة الروسية إبَّان الحرب الروسية الألمانية. لم يقبل أحداث أكتوبر ١٩١٧م، حتى إنه طلب في البداية من السلطة أن تسمح له بالهجرة بشكل قانوني، لكن طلبه قوبل بالرفض. وبعد وفاة (انتحار) أقرب إنسان له وأكثرهم أهميةً في حياته، زوجته أنستاسيا تشيبوتاريفسكايا، لم تعاوده الرغبة هو نفسه في ترك بتروجراد، وراح يندمج بالتدريج في الحياة الأدبية بعد أكتوبر (عمل ضمن هيئة تحرير دار نشر «فسيميرنايا ليتيراتورا» (الأدب العالمي)، كما عمل بعض الوقت رئيسًا لإدارة اتحاد كتَّاب ليننجراد، وما إلى ذلك من أعمال). وقد عمل سولوجوب بالترجمة على نحو احترافي رفيع، وله في هذا المجال ترجمات قيمة لأشعار بول فيرلين. إجمالًا فإن سولوجوب، سواء باعتباره فنانًا، أو كشخصية، كان صعب الاندماج مع قانون «الأدب الروسي»، الذي كان سائدًا آنذاك. ظل سولوجوب على مدى خمسين عامًا بعد وفاته، في حقيقة الأمر، كاتبًا منبوذًا يحيطه النسيان.
أعمال ف. ك. سولوجوب
أشعار (المقال الافتتاحي والإعداد والملاحظات، م. ديكمان، ليننجراد، دار نشر سوفيتسكي بيساتل (الكاتب السوفييتي)، ١٩٧٨م (سلسلة مكتبة الشاعر، السلسلة الكبرى)).
انسجام: قصائد شعراء المهجر، ترجمة إ. أنينسكي، ف. سولوجوب (تقديم أ. فيودوروف)، موسكو، دار نشر «بروجرس» (التقدم)، ١٩٧٩م.
«الكلب الصغير»: رواية، موسكو، خودوجستفينايا ليتيراتورا، ١٩٨٩م.
«أحلام مزعجة»: رواية، «قصص قصيرة»، موسكو، خودوجستفينايا ليتيراتورا، ١٩٩٠م.
أعمال عن ف. ك. سولوجوب
انظر: المقالات والمقدمات في طبعات دُور النشر المشار إليها، يروفييف فيك. على حافة الانفجار («الكلب الصغير» سولوجوب على خلفية تقاليد الواقعية الروسية). مجلة «قضايا الأدب»، ١٩٨٥م، العدد ٢، ص١٤٠–١٥٨.
(١-٣) ديمتري سيرجيفيتش ميريجكوفسكي
(٢ (١٤) أغسطس ١٨٦٥م، سان بطرسبورج، ٩ ديسمبر ١٩٤١م، باريس).
وُلد د. س. ميريجكوفسكي في عائلة نبيلة كثيرة العدد لموظف في البلاط، وصل بعد خدمته الطويلة إلى رتبة مستشار. كان الأب مشغولًا كليةً بمستقبله العملي، وكان فظًّا بارد المشاعر، أما الأم فكانت تعني الكثير بالنسبة للصبي («بفضل حنانك المفعم بالعذاب والألم/أدين بكل ما أملك في الحياة لك»). قضى د. س. ميريجكوفسكي «السنوات العجاف» في الدراسة في إحدى الثانويات التقليدية، كان في طفولته خجولًا منطويًا، يتعرَّف على أترابه بصعوبة بالغة، وقد بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة. وفي عام ١٨٨٠م اصطحبه أبوه في زيارة إلى فيودور دستويفكسي، الذي كان يتعامل مع الشعر بحرص شديد. وهناك قال له دستويفكسي: «لكي تكتب شعرًا جيدًا، عليك أن تكابد الألم، أن تكابد الألم!» وقد تعرَّف الشاعر الشاب آنذاك على س. ي. نادسون، ليدخل بعد ذلك إلى عالم الأدب. كان ميريجكوفسكي يرى أن ن. ك. ميخايلوفسكي، وج. إ. أوسبينسكي هم معلموه. وبتأثير من أوسبينسكي شرع ميريجكوفسكي في القيام برحلته؛ إلى الشعب. كان يأمل في الوقت نفسه، وبعد أن أنهى الجامعة، في أن يصبح مدرسًا ريفيًّا. وكان ميريجكوفسكي قد تلقَّى تعليمه في كليتَي الآداب والتاريخ بجامعتَي سان بطرسبورج وموسكو.
شهد عام ١٨٨٨م صدور أول ديوان شعري لميريجكوفسكي، وفي العام نفسه تعرَّف في أثناء رحلته إلى جورجيا، بعد أن أنهى الجامعة، على زينايدا ن. جيبيوس في منتجع بورجومي ليتوِّجا تعارفهما بالزواج في يناير ١٨٨٩م، وقد احتلَّت هذه العائلة مكانةً بارزة في الحياة الأدبية الروسية.
بدايةً من مطلع التسعينيات، ربط ميريجكوفسكي نشاطه الأدبي بمجلة «سيفرني فيستنيك» (بشير الشمال)، التي أصبحت لسان حال «الرمزيين الكبار». كان كتاب د. س. ميريجكوفسكي «حول التيارات الجديدة في الأدب الروسي المعاصر وأسباب سقوطها» (١٨٩٢م) بداية حركة الرمزية الروسية باعتبارها اتجاهًا أدبيًّا منهجيًّا. وقد أصدر ميريجكوفسكي في العام نفسه ديوانًا شعريًّا حمل اسم «الرموز». وكان يرى أن أسباب الأزمة تكمن في التوجه الضيق الأفق للأدب «الوطني» منذ الستينيات وحتى الثمانينيات، وكذلك في التصوير الاجتماعي والفلسفي الضحل والفقر الروحي الذي ميَّز هذا الأدب، معتبرًا أن الخروج من هذه الأزمة يكمن في تعميق المضمون الديني الصوفي والوصول إلى الرموز في الجوانب العميقة الغامضة في الحياة من خلال اللغة، وتحقيق الحرية الكبرى ومرونة الشكل الفني.
دخل د. س. ميريجكوفسكي إلى الأدب الروسي الذي أبدعه «العصر الفضي» باعتباره فيلسوفًا دينيًّا، هذا الإبداع الباحث عن إجابات على الأسئلة المطروحة حول مغزى التاريخ ومعنى الحياة الإنسانية. وقد خضعت كتابات ميريجكوفسكي، سواءً الاجتماعية والنقدية، أو رواياته العديدة ومسرحياته، بل مجمل نشاطه الأدبي والاجتماعي بأكمله إلى هذا التيار الإبداعي.
وقد طوَّر ميريجكوفسكي أفكاره في كتابه «الرفاق الخالدون» (١٨٩٧م)، وهو مجموعة من المقالات، ثم في بحثه الموسع الصادر في مجلدين بعنوان «ليف تولستوي ودستويفسكي» (١٩٠١-١٩٠٢م)، وكذلك في رواياته من ثلاثية «المسيح والمسيح الدجال» حيث تضمنت «موت الآلهة (يوليان المرتد)» (١٨٩٨م)، «بعث الآلهة (ليوناردو دافينشي)» (١٩٠١م)، «المسيح الدجال (بيوتر والكسي)» (١٩٠٥م). وبوصفه روائيًّا يستلهم التاريخ، فقد تعامل ميريجكوفسكي مع الأحداث والوقائع التاريخية الحاسمة، حيث تظهر الصدمات بين أقطاب القوى الروحية في الكون.
برز ميريجكوفسكي إبَّان سنوات الثورة الروسية الأولى باعتباره كاتبًا مستقلًّا حادًّا، يقدِّم تفسيره الخاص للقوى الاجتماعية، التي ظهرت في سياق أحداث هذه الثورة («الوغد القادم» (١٩٠٦م)، «روسيا المريضة» (١٩١٠م) وغيرها). وقد احتلت الجمعية الفلسفية الدينية التي أسَّسها ميريجكوفسكي بالاشتراك مع كل من ز. ن. جيبيوس، ود. ف. فيلوسوفوف في عام ١٩٠١م مكانةً مهمة في الحياة الثقافية الروسية، وكان هدف الجمعية هو مكافحة الأفكار المادية من أجل خلق وعي ديني جديد وتجاوز النزعة الدوجمائية لدى الأرثوذوكسية الرسمية، وتوحيد الكنيسة مع العالم باعتبارها طريقًا نحو النهضة الروحية. وقد قوبل نشاط هذه الجمعية بهجوم حاد في الحياة الأدبية والكنسية في تلك الأعوام.
تشغل الأعمال المسرحية لميريجكوفسكي مكانةً بارزة في إبداعه (مسرحيات «بافل الأول» ١٩٠٨، «القيصر ألكسي» ١٩١٠م، وجميعها لاقت نجاحًا كبيرًا عند عرضها على خشبات المسارح الكبرى). وقد كتب ميريجكوفسكي روايات عن الحياة الروسية في مطلع القرن التاسع عشر («ألكسندر الأول» (١٩١١م)، و«الرابع عشر من ديسمبر» (١٩١٨م)).
اتخذت عائلة ميريجكوفسكي والمحيطون بها موقفًا من أحداث ثورة ١٩١٧م، فقد استقبلوا أحداث فبراير ومارس بروح مفعمة بالأمل، بينما أعرضوا بشدة عن أكتوبر. وبعد مرور بعض الوقت على محنة «عصر الشيوعية العسكرية»، قامت العائلة في ديسمبر ١٩١٩م بالهروب من روسيا السوفييتية إلى بولندا أولًا، ثم إلى باريس ليقيموا بها حتى أيامهم الأخيرة. وفي باريس كان بيت عائلة ميريجكوفسكي واحدًا من مراكز أدب المهجر الروسي. وقد ظل آل ميريجكوفسكي على موقفهم السلبي تجاه الحركة البلشفية لم يغيِّروه حتى النهاية، الأمر الذي كان له بعض الأثر على عُزلتهم في أوساط المهجر. على أن اتهام عائلة ميريجكوفسكي بتورُّطهم في علاقات مشبوهة مع دوائر رجعية وخاصةً مع دوائر فاشية، ليس له أي أساس من الصحة. لقد جرى ترشيح ميريجكوفسكي (إلى جانب شميليف وبونين) للحصول على جائزة نوبل، والآن توضع على بيته في باريس لوحة تذكارية.
بعد نسيان لأعمال د. س. ميريجكوفسكي في وطنه امتدَّ لنصف قرن، تعود هذه الأعمال مرةً أخرى لتأخذ مكانها في الأدب الروسي، ولتجتذب حياته ومؤلفاته اهتمام الباحثين المعاصرين.
أعمال د. س. ميريجكوفسكي
الأعمال الكاملة في أربعة مجلدات، دار نشر «برافدا» (الحقيقة)، ١٩٩٠م، (مكتبة أوجينيوك (الشعلة)).
المختارات: رواية، أشعار، مقالات، أبحاث (الإعداد والمقال الختامي بقلم أ. جورلو كيشيينيوف، دار نشر «ليتيراتورنايا أرتيستيكا»، ١٩٨٩م).
أعمال عن د. س. ميريجكوفسكي
جيبيوس ميريجكوفسكايا، ز. ديمتري ميريجكوفسكي: مذكرات ديمتري ميريجكوفسكي، ١٤ نوفمبر … موسكو، دار نشر «موسكوفسكي رابوتشي» (العامل الموسكوفي)، ١٩٩١م، وكذلك المقالات المشار إليها في طبعات كتب د. س. ميريجكوفسكي.
(١-٤) مكسيم جوركي
(١٨ (٢٨) مارس ١٨٦٨م، نيجني نوفوجورود – ١٨ يونيو ١٩٣٦م، ضاحية جوركي بالقرب من موسكو).
وُلد مكسيم جوركي (الاسم الحقيقي ألكسي مكسيموفيتش بيشكوف) في عائلة مدير في مكتب لإحدى شركات الملاحة العاملة في نهر الفولجا. فقد والده وهو في الثالثة من عمره. تنتمي أمه لأسرة كان عائلها يمتلك مصبغة. وبعد وفاة جده ثم أمه من بعده، عاش جوركي مرارة الوحدة واليتم المبكر، واضطُر للخروج للحياة «وسط الناس» ليصبح أكثر صلابةً في مواجهة الظروف من حوله. عاش في مدينة قازان بدايةً من عام ١٨٨٦م، وهناك اقترب من الشباب الراديكالي، وانضم إلى الحلقات الماركسية، وقد فشل في محاولته الدعوة للمذهب الماركسي بين الفلاحين. وعندما بلغ العشرين، قام برحلة طاف فيها أرجاء روسيا، وهي رحلة تركت لديه انطباعات عديدةً متنوعة، كما تركت لديه إحساسًا عميقًا بكراهية نمط الحياة التقليدي الذي يعيشه الفلاحون الروس.
في عام ١٨٩١م يكتب مكسيم جوركي أول قصة قصيرة له بعنوان «ماكار تشودرا»، ليحترف الأدب منذ عام ١٨٩٢م. وكان أول اسم مستعار يستخدمه هو إيوجوديل خلاميدا، أما أبطال نثره المبكر فهم: إيزيرجيل، لويكو، دانكو، تشيلكاش، مالفا وغيرهم. وهؤلاء هم المهمَّشون، الذين خرجوا على نمط الحياة العادية، وعلى رأسهم الذين وضعوا استقلالهم وإرادتهم وحقهم في مواجهة الحياة «المعتادة». كانت هذه القضية واحدةً من أكثر القضايا التي سادت الأدب الروسي على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين شعبية. وقد اكتسب اسم مكسيم جوركي شهرة، وزاد من تألُّقه أنه الكاتب القادم من جماهير الشعب. وفي عام ١٨٩٨م، صدرت «مقالات وقصص» جوركي في مجلدين.
بحلول القرن العشرين أصبح مكسيم جوركي في قلب الحياة الأدبية والاجتماعية. وقد تعرَّض للاضطهاد السياسي لمجرد أنه بات كاتبًا ذائع الصيت، واختارته أكاديمية العلوم الروسية أكاديميًّا فخريًّا بها، لكن هذا الاختيار أُلغي بناءً على تعليمات خاصة من القيصر نيكولاي الثاني. انتهت مشاركة جوركي الفعالة في أحداث الثورة الروسية الأولى بالاعتقال والحبس لمدة قصيرة في قلعة بتروبافلوفسك، وهناك كتب مسرحية «أبناء الشمس». وقد عُرضت مسرحياته الأخرى بنجاح بالغ في كل أرجاء روسيا وخاصةً «الحضيض». تم نفي الكاتب ليعيش في الولايات المتحدة الأمريكية عامَي ١٩٠٦م، ١٩٠٧م، ليذهب بعدها للعيش في إيطاليا في جزيرة كابري حتى عام ١٩١٣م، وطوال هذه السنوات واصل عمله الأدبي المبدع على نحو متميز. وفي سياق بحثه عن أُسس يستند إليها في نضاله ضد العالم «القديم»، اتجه مكسيم جوركي للتحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين. وقد استخدم جوركي بشجاعة الثوريين السريين ليكونوا أبطال روايته «الأم» (١٩٠٧م) (وصوَّرهم في بعض الأحيان بشكل بلاغي صريح)، وهي رواية تفتقر إلى العمق والواقعية. وقد نالت الرواية مزيدًا من الإطراء والمديح إبَّان العهد السوفييتي، وإن تناولها النقد الجاد عند ظهورها بتحفُّظ شديد، وكذلك فعل تجاهها الفيلسوف والناقد جيورجي بليخانوف. زد على ذلك أن علاقة مكسيم جوركي بالعقائد الجامدة (الدوجما) التي اعتنقها الاشتراكيون الديمقراطيون، وخاصةً العقائد البلشفية، بدت في أحيان كثيرة مثارًا للجدل الحاد. وعشية الانقلابات الكبرى راح الكاتب يفكِّر مليًّا في مصير الشعب الروسي. وعلى الرغم من أنه تناول الحياة الروسية بشكل سطحي في بعض أعماله، فإنه توصَّل إلى إدراك كنه هذه الحياة على نحو أكثر عمقًا واكتمالًا في أعمال أخرى مثل: «حياة ماتفي كوجيمياكين»، «جورودوك أوكوروف»، «حكايات روسية» وغيرها. أمَّا سيرته الذاتية التي سجَّلها في ثلاثية «الطفولة، بين الناس، جامعاتي» (١٩١٦–١٩٢٣م)، فهي واحدة من الأعمال التي كُتب لها الخلود.
وعلى مدى سنوات الثورة والحرب الأهلية، ظل جوركي ينشر في صحيفة «نوفايا جيزن» (الحياة الجديدة) ملاحظات لاذعةً دفاعًا عن الثقافة، تضمَّنت هذه الملاحظات «أفكارًا سابقة لأوانها»، كان يدخل من خلالها في جدل مع البلاشفة. وفي هذه السنوات كان يصنع الكثير من أجل إنقاذ الإنتليجنسيا الروسية. وفي نهاية ١٩٢١م يسافر إلى الخارج، في الواقع فقد هاجر ليعيش نمطًا مختلفًا من الحياة في إيطاليا، في سورينتو.
كانت هذه الفترة من أكثر الأوقات من الناحية الإبداعية نضجًا وقوة (ملاحظات من المذكرة، «المذاكرات»، «قضية آل أرتومونوف»، «حياة كليم سامجين»، قصص قصيرة). إجمالًا فقد كان وضع جوركي ملتبسًا؛ فمن ناحية، لم يدعم علاقاته بأدب المهجر تمامًا، وباعتباره كاتبًا حساسًا يعبِّر عن مجتمعه، فقد كان بحاجة إلى قوة إضافية وإلى الاعتراف به، وهو ما أعاده إلى روسيا السوفييتية، في عام ١٩٢٨م يسافر للاحتفال بيوبيله الستيني، وفي عام ١٩٣١م يعود بصفة نهائية إلى الاتحاد السوفييتي.
وكسابق عهده يعمل بوصفه روائيًّا (رواية «حياة كليم سامجين»، مسرحيات، مقالات). كتب روايته «الأخيرة» بصعوبة بالغة لتجيء مفاجئةً للجميع، رواية «مخالفة لجوركي» في شيء ما. وكان جوركي عادةً مستعدًّا، وهو يدعو لأكذوبة أن النشاط الإنساني يكمن في إعادة بناء العالم، «للتضحية بالمسيرة الطبيعية للحياة». وفي قلب الرواية كان سامجين يبدو بائسًا على نحو واضح، «مثقفًا متوسط القيمة»، وكان الإنسان ضحيةً لهذه الأكذوبة. قد يُرينا الكاتب هنا، فجأة، أن التدخُّل المتعسِّف في الحياة يكون قاتلًا، في الواقع؛ فقد أصبحت شخصيات الرواية رهن التاريخ. إننا نعرف بشكل واضح، لماذا أصبحت «حياة كليم سامجين» الأقل «طلبًا» من بين أعمال الكاتب الأخرى العظيمة.
ها هو مكسيم جوركي يعود إلى الاتحاد السوفييتي من جديد ليأخذ مكانه في قلب الحياة الأدبية والسياسية. أما النظام الشمولي، الذي توطَّدت أركانه، فقد سعى على نحو فعَّال لاستغلال طاقة وشهرة مكسيم جوركي لدعم هذا النظام. على أي حال، فقد كان من الواضح أن وجوده قد حال، جزئيًّا، من تطرف سلطة السياسة الأدبية. انبرى جوركي للدفاع عن زامياتين وبيلنياك، حافظ على هيبة يسنين وماياكوفسكي، ولكنه لم يستطع أن يكون مستقلًّا عن النظام.
ما من شك في أن مكسيم جوركي كان فنانًا وإنسانًا عظيمًا، ذا شخصية مركبة ومتناقضة. كان واحدًا من هؤلاء الكتَّاب الروس الكبار في القرن العشرين، الذين يجب علينا دراسة خبرتهم الروحية والفنية بجد وأمانة.
أعمال مكسيم جوركي
طبعات السيرة الذاتية لجوركي لا يمكن حصرها. ينبغي الاهتمام بواحد من أهم أعماله التي صدرت حديثًا، وهو «أفكار سابقة لأوانها، ملاحظات عن الثورة والثقافة». ريبرنت، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بياستل» (الكاتب السوفييتي)، ١٩٩٠م.
أعمال عن مكسيم جوركي
من بين المراجع الحديثة المهمة عنه التي تلفت الانتباه مقالة ن. بارامونوف «جوركي، الحلقة المفقودة»، مجلة «أوكتيابر» (أكتوبر)، ١٩٩٢م، العدد ٥، وهناك عديد من الإصدارات الأخرى. نوصي أيضًا بالاطلاع على «المذكرات» التي صدرت مؤخرًا (في مجلدين) ك. إ. تشوكوفسكي.
(١-٥) زينايدا نيكولايفنا جيبيوس
(٨ (٢٠) نوفمبر ١٨٦٩م، في بيليف بمحافظة تولسكايا – ٩ سبتمبر ١٩٤٥م، باريس).
وُلدت ز. ن. جيبيوس في عائلة رجل القانون ن. ر. جيبيوس، وترجع أصوله إلى بوميرانيا، وقد استقرَّت في موسكو في الضاحية الألمانية منذ أوائل القرن السادس عشر. كان والدها كثيرًا ما يغيِّر أماكن عمله بسبب ضرورات العمل أو تبعًا لحالته الصحية (تولا، ساراتوف، بيليف، خاركوف، نيجين). وبعد وفاة الوالد المبكرة اضطُرت العائلة إلى التنقل أيضًا عدة مرات (يالطا، تفليس، وغيرها). كما كان على ز. ن. جيبيوس أن تبدأ في التعلم بشكل أساسي على يد مدرسين بالمنزل. وها هي تبدأ في كتابة الشعر في مطلع حياتها.
كان لقاؤها في ١٨٨٦م، في منتجع بورجومي في جورجيا بالشاعر الشاب د. س. ميريجكوفسكي هو الحادث الأهم في حياتها، وقد تزوَّجا في يناير ١٨٨٩م، واستقر بهما المقام في بطرسبورج، التي ارتبطت حياتها الإبداعية والاجتماعية بها على مدى العقود الثلاثة التالية. اقتربت من حلقة «الرمزيين الكبار» (ن. مينسكي، أ. فولينسكي، ف. سولوجوب)، ونشرت قصائدها في مجلة «سيفيرني فيستنيك» (بشير الشمال)، وشاركت في تأسيس الجمعية الفلسفية الدينية، ومجلة «نوفي بوت» (الطريق الجديد) لسان حال الجمعية (١٩٠٣-١٩٠٤م).
كانت قصائدها الأولى، ثم نثرها فيما بعد، يعكسان مشاعر إنسان يعاني الوحدة على نحو مؤلم ورباطة جأش فائقة في عالم يفتقر إلى الكمال، كما عبَّرت فيها عن البحث عن القيم الروحية الرفيعة ومواجهة ركاكة الحياة، وعن إحساسها بتفوُّقها وقدرتها على تحمُّل مسئولية البقاء. وفي تلك السنوات كان موضوع «الإنسان الإله» ومساواة الإنسان به، واحدًا من الموضوعات الأساسية في شعر ز. ن. جيبيوس. وقد نشرَت أول «ديوان شعري» لها في عام ١٩٠٤م، تلاه الديوان الثاني في عام ١٩١٨م. كل من الديوانين تضمَّن أعمالًا مهمة تم اختيارها بعناية، وقد حوى ديوانها الثالث «القصائد الأخيرة»، بشكل خاص، أشعارها عن سنوات الحرب والثورة المأساوية (١٩١٤–١٩١٨م).
ز. ن. جيبيوس كاتبة تمتلك إمكانات أدبيةً عريضة؛ فهي تكتب النثر (ولها في هذا النوع حوارات روائية سياسية ودينية: «الدمية الشيطانة» ١٩١٧م، «ملكة الروايات» ١٩١٣م؛ مجموعة قصصية: «أسود على أبيض» ١٩٠٨م، «أعشاب القمر»)، كما أنها ناقدة أدبية شاركت بنشاط فعَّال في الدوريات الأدبية في تلك الفترة، ونشرت فيها مجموعةً من المقالات بعنوان «المذكرة الأدبية» ١٩٠٨م، تحت اسم مستعار هو «أنطون كرايني».
لم تكن الخبرة الثقافية التي تملكها جيبيوس، وكذلك القيم الروحية التي تدافع عنها تتماشى مع واقع الثورة البلشفية، يدل على ذلك ما دوَّنته في يومياتها عن ١٩١٧–١٩١٩م، عندما راحت تراقب عن كثب «الحياة الجديدة». وفي أواخر عام ١٩١٩م فرَّت بصحبة د. س. ميريجكوفسكي من روسيا السوفييتية لتذهب في البداية إلى بولندا، ثم إلى فرنسا، حيث عاشت بها ما يزيد على ربع قرن، أدَّت خلالها دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية والأدبية والفلسفية للمهجر الروسي. وفي عام ١٩٣٩م يصدر إبَّان حياتها ديوانها الأخير «إشراق»، ضمَّنت جيبيوس كتابها الذي حمل اسم «وجوه حية» (١٩٢٥م)، مادةً حادة وموضوعية. وقد عملت جيبيوس في سنواتها الأخيرة على كتابة مذكراتها عن د. س. ميريجكوفسكي، وقد صدر بعد وفاتها.
ظلت أعمال ز. ن. جيبيوس ممنوعةً من النشر في وطنها على مدى سبعين عامًا. كان اسمها مرفوضًا، ولكن أعمالها عادت للظهور في السنوات الأخيرة بوفرة وعلى نطاق واسع لتعود من جديد إلى ذاكرتنا الأدبية.
أعمال ز. ن. جيبيوس
المؤلفات: شعر، نثر. المقدمة والتعليق: ك. أزادوفسكي، وأ. لافروف. ليننجراد، دار نشر «خودجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩١م.
وجوه حية: قصائد، يوميات، في مجلدين. الإعداد والمقال الافتتاحي: ي. كورجانوف. تبليسي، دار نشر «ميداني»، ١٩٩١م.
(القرن العشرين. روسيا-جورجيا: تشابك المصائر)، أشعار. وجوه حية. المقال الافتتاحي، إعداد النص والتعليق: ن. بوجولوموف. موسكو، دار نشر «خودجستفينايا ليتراتورا»، ١٩٩١م.
(كتاب مهجور)، الدمية الشيطانة. نثر، شعر، مقالات. المقال الافتتاحي: ف. أوتشينوفايا. موسكو، دار نشر «سوفريمينيك» (المعاصر)، ١٩٩١م.
أعمال عن ز. ن. جيبيوس
انظر المقالات المشار إليها في الإصدارات الخاصة بزينايدا جيبيوس.
(١-٦) ألكسندر إيفانوفيتش كوبرين
(٢٦ أغسطس (٧ سبتمبر) ١٨٧٠م، نانروفتشات بمحافظة بنزينسكايا – ٢٥ أغسطس ١٩٣٨م، ليننجراد. دُفن في جبانة فولكوف عند جسور الأدباء).
وُلد أ. إ. كوبرين في عائلة من الطبقة الوسطى، كان أبوه موظفًا بسيطًا، أما والدته فتنحدر من أسرة مُعوِزة أسلافها كانوا من أمراء آل كولونتشاكوف. فقد أ. إ. كوبرين والده في مطلع طفولته، ليعيش مع أمه منذ الثالثة من عمره في بيت مخصَّص للأرامل في موسكو، وعندما بلغ السادسة انتقل لدار رازوموفسكي للأيتام في موسكو. كان لهذه الطفولة اليتيمة القاسية أثر بالغ في نفسه، لكنها أكسبته صلابةً أفادته في مستقبل حياته ككاتب. كان مفعمًا بالمشاعر إبَّان الحرب الروسية التركية ١٨٧٧م، ممَّا دفعه للالتحاق (١٨٨٠م) بالمدرسة العسكرية، ثم ليكمل تعليمه العسكري في مدرسة ألكسندر العسكرية في موسكو. بدأ في كتابة الشعر والنثر في سن مبكرة، وكان أول ما نشره هو قصته «البداية الأولى» (١٨٨٩م).
خدم في الجيش في المدن النائية، في بروسكروف ومحافظة فولوتشيسك بودولسكايا. سعى لأداء الامتحانات المؤهِّلة للالتحاق بالأكاديمية العسكرية، ولكن لم يُسمح له بأدائها بسبب صدامه مع البوليس في كييف. أُحيل إلى الاستيداع في عام ١٨٩٤م برتبة ملازم. خمسة أعوام قضاها كوبرين بعد ذلك في الترحال عبر أرجاء روسيا كلها، آخذًا على عاتقه القيام بعدد من المهام، السعي وراء العيش والاطلاع على الحياة ومعرفتها. امتهن كثيرًا من الأعمال (عمل في مصنع، في السيرك، مسَّاحًا للأراضي، حارس غابة، مغنيًا في جَوقة، وما إلى ذلك)، تعرَّف على عدد كبير من الناس وغاص في بحر الحياة اليومية بكل تفاصيلها.
وفي الوقت نفسه بدأ عمله في مجال الأدب، وبشكل رئيسي في الدوريات الصادرة في أقاليم جنوب روسيا. كان أول عمل بارز له هو قصة «الطاغية» (١٨٩٦م)، وهي أول أعمال كوبرين بوصفه كاتبًا محترفًا، تلتها قصة «أوليسيا»، ثم عدد من القصص القصيرة والمقالات التي طوَّر من خلالها موهبته الأدبية وإبداعه كقصَّاص ممتع.
في عام ١٩٠١م، سافر كوبرين إلى بطرسبورج، وهناك تعرَّف على أنطون تشيخوف، وأثار اهتمام تولستوي، واقترب من مكسيم جوركي ومن جماعة «سريدا» (الأربعاء) وساهم بكتاباته في منتخبات «زنانيا» (المعرفة). ودخلت قصته «المعركة» (١٩٠٥م) أبواب الأدب الكبير، وهي القصة التي استلهم فيها الثورة الروسية الأولى باعتبارها لوحةً أخرى تعكس أزمة الحياة الروسية، وكعمل مناهض للنزعة العسكرية على أن مغزى هذا العمل، الأفضل بين أعمال كوبرين، يكمن في تأمُّل الكينونة المركَّبة للإنسان، حنينه إلى الحياة في كل صورها، التي «وُهبت له»، والتي من أجلها ينبغي عليه أن يدخل في معركة مع ذاته، ضد عاداته الروتينية، ضد اعتياده لفقدان إرادته والسير في الدروب المطروقة. يكتشف روماشوف بطل القصة القيم الخالدة للحب والطبيعة وجمال النفس الداخلي. وفي سياق الأحداث الدرامية كافةً فإن الرواية يسودها ضوء داخلي، وهو ما يجعلها أكثر اتساعًا من التفسيرات الأيديولوجية الشائعة.
لقد عكس كوبرين في أعماله في تلك الفترة أحداث الثورة الروسية الأولى. التقلُّبات التي مسَّت أوضاع الحياة الروسية («نهر الحياة»، «جامبرينوس»، «دوار البحر»، «الحفرة» (العملان الأخيران تم رفضهما من جانب النقد «التقدمي المؤدلج»، ولم يُنشرا في العهد السوفييتي على الإطلاق)). وفي أعماله الأخرى: «سولاميف»، «سوار العقيق»، «الزمرد»، «قائد الأركان ريبنيكوف» وغيرها؛ يُبرز أ. إ. كوبرين الاهتمام المرهف بالعالم الداخلي للإنسان والقيم الإنسانية للحياة.
كان كوبرين شديد التأثر بأحداث الحرب التي دارت رحاها في الفترة من عام ١٩١٤م وحتى ١٩١٨م، مثله في ذلك مثل غالبية الكتَّاب الروس من أبناء جيله، وقد استقبل ثورة فبراير ١٩١٧م بروح مفعمة بالأمل، ثم عايش إحباطًا عميقًا نتيجة الأحداث التي وقعت في أكتوبر بعد ذلك. ذهب إلى مدينة جاتشينا إبَّان الحرب الأهلية، وكانت آنذاك تحت سيطرة الجيش الذي يقوده الجنرال يودينيتش (البيض (المترجم))، حيث تعاون مع الصحافة البيضاء ليسافر بعد ذلك إلى المهجر؛ بدأت هجرته بإستونيا ثم فنلندا، ثم انتقل ليعيش في فرنسا منذ عام ١٩٢٠م. ارتبطت كتاباته النثرية في هذه الفترة بشكل رئيسي بذكرياته عن روسيا، وعن الأحداث الحاسمة وعن سنوات طفولته وشبابه («يلان»، «عجلة الزمن»، رواية «طالب الكلية العسكرية» وغيرها). دفعته قسوة الحياة في المهجر، سواء المادية أو الإبداعية، لقَبول اقتراح الكتَّاب السوفييت، فعاد إلى الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٣٧م، وقد أنهكه المرض، ليموت بعد عام وبضعة أشهر دون أن يخط سطرًا واحدًا في تلك الفترة.
لقد جرى تناول إبداع ومصير كوبرين في العهد السوفييتي على نحو مُوجه وبرؤية ضيقة، ولم يكن من السهل على القارئ في الوطن الحصول على الكثير من أعماله.
أعمال ألكسندر إيفانوفيتش كوبرين
الأعمال الكاملة في تسعة مجلدات. المقال الافتتاحي: ك. تشوكوفسكي. موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٦٤–١٩٧٥م.
أعمال عن أ. إ. كوبرين
ك. تشوكوفسكي. كوبرين. في كتاب: تشوكوفسكي ك. المعاصرون. موسكو، ١٩٦٣م؛ م. كوبرينا-إيوردوتسكايا. سنوات الشباب. الطبعة الثانية. موسكو، ١٩٧٢م؛ ميخايلوف أ. كوبرين. موسكو، ١٩٨١م، كوليشوف ف. مسيرة إبداع أ. إ. كوبرين. ١٨٨٣–١٩٠٧م. الطبعة الثانية. موسكو، ١٩٨٣م.
(١-٧) ألكسي بافلوفيتش تشابيجين
(٥ (١٧) أكتوبر ١٨٧٠م في قرية زاكوميخينسكايا، مركز كارجوبولسكي، محافظة أولونيتسكايا – ٢١ أكتوبر ١٩٣٧م، ليننجراد).
وُلد ألكسي بافلوفيتش تشابيجين في أسرة من الفلاحين في بقعة نائية لمنطقة تكسوها الغابات في شمال روسيا، عاش طفولته المبكرة بين الصيادين والمزارعين، لكن الأرض في هذه المنطقة كانت تطعم سكانها بالكاد. سافر الأب، كما كان شائعًا آنذاك، إلى المدينة بحثًا عن الرزق؛ عمل حارسًا لبناية في بطرسبورج، أما الأم فقد تُوفيت في سن مبكرة. ترك الجد أثرًا كبيرًا لدى الطفل، كان جنديًّا قديمًا في سيفاستوبول وحكاءً بارعًا، كان يقدِّر تقديرًا عظيمًا روح هذه الأرض، مهد الكلمة الروسية الأسطورية البدائية البكر. أنهى أ. ب. تشابيجين على هذه الأرض المدرسة الريفية، وفي عام ١٨٨٣م سافر إلى والده في بطرسبورج، ليرتبط منذ هذه اللحظة بهذه المدينة حتى أيامه الأخيرة. أرسله والده ليتعلم حرفة النقاشة والدهان، وفي عام ١٨٨٨م حصل تشابيجين على لقب مساعد صانع. وقد ظل يمارس هذه المهنة بعد ذلك لسنوات طويلة في بطرسبورج، وفي الوقت نفسه راح يتعلم ذاتيًّا ليبدأ في الكتابة. عرض أول تجاربه على الكاتب د. ف. جريجوروفيتش، لينضم إلى الأوساط الأدبية الديمقراطية ويتعرف على ف. ج. كورولينكو، ون. ك. ميخايلوفسكي. نشر أول مقال له بعنوان «المبصرون» (١٩٠٣م)، وتراكمت لديه تدريجيًّا مواد ضمها في كتاب «الإنطوائيون» (١٩١٢م)، أبطاله هم هؤلاء الذين قضى بينهم عشرين عامًا في مدينة بطرسبورج، النازحون من القرى، صغار الحرفيين في المدينة الكبيرة. في مطلع حياته الإبداعية يعكس تشابيجين في نثره المصير المرعب لسكان المدن المهمَّشين، المستعبَدين، الباحثين عن مأوًى، ويعرض عيوب ومثالب المدينة «المنهارة» في روسيا في تلك السنوات.
دفعت الرغبة في الابتعاد عن المدينة، والاحتجاج على الشعور بالإهمال والضعف فيها، دفعت تشابيجين أن يقرِّر مغادرة بطرسبورج لمدة طويلة، وأن يعود إلى مسقط رأسه. وفي عام ١٩١١م، يسافر إلى بونوجي ليستقر بها فترةً طويلة من الزمن، وترتبط بهذه المدينة المرحلة الثانية من إبداعه؛ حيث كتب قصصًا طويلة وقصيرة عن سكان كارجوبول، الذين يمتهنون الصيد في غابات التايجا، والذين راح يبحث من خلال مصائرهم عن إجابة على أسئلته. وقد صوَّر تشابيجين في أعماله «خلوة الناسك البيضاء» (١٩١٣م)، و«في بحيرات البجع» (١٩١٦م)، الباحثين الأقوياء العظام عن الحقيقة. على أن أحداث العقود الأخيرة، أصابت مسيرة الحياة، حتى هنا، في هذه البقاع الريفية، بكثير من الدمار والتغيرات. وما إن مال تشابيجين بجوانحه باتجاه هذه الحياة البسيطة «الفطرية» مبتعدًا عن حياة المدينة المليئة بالتشتُّت والإذلال، حتى وجد نفسه أمام مأساة اختفاء هذه «البساطة» و«الفطرية». بل على العكس، أصبحت التناقضات «الفكرية والروحية» تزداد فيها قوةً يومًا بعد الآخر على نحو محسوس. لعل جذور هذه التناقضات تعود إلى أعماق التربة التاريخية الروسية، منذ عصر روسيا كييف. ومن هنا نضجت لدى تشابيجين فكرة، كان عليه من أجل تجسيدها أن يكون محاطًا بموضوعات من التاريخ القومي الروسي.
في السنوات الأخيرة من حياته واصل أ. ب. تشابيجين محاولته لفهم التاريخ الروسي في تشابكاته الجديدة، وذلك في روايته التي لم يكملها «المتجولون» (١٩٣٥–١٩٣٧م)، وهذه الرواية تتناول التقلُّبات الدينية التي وقعت في عصور الانشقاق، زمن البطريرك نيكون، وهي رواية لا تترك انطباعًا بالاكتمال؛ ربما لأنها كُتبت في ظروف لا تسمح بإبداء الشجاعة أو بالتفكير التاريخي العميق.
تمثِّل روايات السيرة الذاتية التي كتبها تشابيجين: «حياتي» (١٩٢٩م)، و«عبر الطرق والممرات» (١٩٣٠م)، أعمالًا ذات قيمة رفيعة سواء على المستوى الفني أو من ناحية إدراك الواقع. وقد تُوفي تشابيجين في خريف ١٩٣٧م، بعد أن أُصيب بنزلة برد شديدة في أثناء قيامه بالصيد. وقد حمل أحدُ شوارع ليننجراد اسمه تخليدًا لذكراه.
أعمال أ. ب. تشابيجين
الأعمال الكاملة في سبعة مجلدات (تقديم ف. أ. ديسنيتسكي، موسكو، ليننجراد، ١٩٢٨م).
الأعمال الكاملة في خمسة مجلدات (إعداد النص والتعليقات: ف. أكيموف، ن. يميلنانوف وآخرون. المقال الافتتاحي: ن. توتوبالين)، ليننجراد، ١٩٦٧–١٩٦٩م. رازين ستيبان (إعداد النص والمقال الختامي والملاحظات: ف. أكيموف). موسكو، دار نشر «برافدا» (الحقيقة)، ١٩٨٥م، ودُور نشر أخرى.
أعمال عن أ. ب. تشابيجين
ب. بالبي، أ. ب. تشابيجين. سيرة الحياة والإبداع، الطبعة الثانية، موسكو، ١٩٥٦م؛ تشالمايف ف. الإشراق الشمالي للموهبة. في كتاب أ. تشابيجين، خلوة الناسك البيضاء. قصص، قصص قصيرة وروايات. موسكو، ١٩٨٥م.
(١-٨) إيفان ألكسيفيتش بونين
(١٠ (٢٢) أكتوبر ١٨٧٠م، فورونيج – ٨ نوفمبر ١٩٥٣م، باريس).
ينحدر إ. أ. بونين من أصول ريفية نبيلة عريقة. عاش طفولته في قرية بوطيركا التابعة لمركز يليتسكي محافظة أرلوفسكايا، في قلب الحقول وفي أعماق الريف والضياع الروسية. بدأ تعليمه في البداية في المنزل، وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره التحق بثانوية يلتس، لكنه تركها وهو في الفصل الرابع ليُكمل تعليمه ذاتيًّا.
بدأ كتابة الشعر وهو لا يزال في المدرسة الثانوية. مارس السفر والترحال في شبابه ورجولته فطاف بأنحاء روسيا وعدد من دول العالم (اليونان، تركيا، فلسطين، مصر، الهند). عمل في صحيفة «أرلوفسكي فيستنيك» (بشير أريول) منذ عام ١٨٨٩م. أصدر ديوانه الأول في كُتيب صغير في عام ١٨٩١م.
شغف بتعاليم ل. تولستوي، والْتقى بالكاتب الكبير في موسكو، وكان على صلة حميمة بتشيخوف، وقد كتب عنهما بعد ذلك كتابين («تحرر تولستوي» ١٩١٧م، «عن تشيخوف»، وقد صدرا في عام ١٩٥٥م).
لم يتعاطف مع أكتوبر فغادر الوطن، وقد عبَّر عن خروجه إلى المهجر وعن أفكاره ومعاناته فيه في كتاب «الأيام الملعونة» (١٩٢٥-١٩٢٦م). وفي هذا الكتاب يرسم بونين صورةً لروسيا التي انحرفت عن طريق الضمير والحقيقة لتقع في قبضة المرتَدِّين والقوى المناهضة للقومية. عاش بونين في بؤرة الحياة الأدبية في المهجر الروسي بعيدًا عن الوطن، وهناك وصلت موهبته إلى قمة النضح. كتب «حياة أرسينيف» (١٩٣٠م)، وهي الرواية التي حازت على جائزة نوبل عام ١٩٣٣م، «الطرقات المظلمة» (الثلاثينيات والأربعينيات)، إلى جانب العديد من الأعمال. في عام ١٩٥٠م ينتهي من كتابة «المذكرات»؛ حيث قدَّم فيها عددًا من شخصيات معاصريه بفِراسة وحس مُرهف، وإن جاء متحيِّزًا. كانت الأفكار الخاصة بقيمة الحياة المادية للشعب الروسي وعمقه الروحي عند فئاته الاجتماعية كافةً هي الأقرب دائمًا إلى بونين. وقد استطاع ببصيرة حادة ودقة أن يُصغي إلى صوت الحياة الداخلية للإنسان، وإلى أسرار روحه وألغاز مشاعره. استطاع بونين أن يصيغ «موضوعاته الخالدة» بحرفية رفيعة وأن يفسِّرها تفسيرًا دقيقًا. إن بونين ناقد وكاتب اجتماعي شديد القسوة، لا يعرف المحاباة، وقد تجلَّى ذلك على وجه الخصوص في يومياته أو مذكراته. لقد منحه حبه للوطن، موهبته، صلابته وإخلاصه، الحق في إصدار أحكام صريحة حازمة عن الحياة الروسية وعن الفن الروسي.
أعمال إيفان ألكسيفيتش بونين
الأعمال الكاملة في تسعة مجلدات، موسكو، ١٩٦٥–١٩٦٧م؛ الأعمال الكاملة في ستة مجلدات، ١٩٨٧-١٩٨٨م.
الأيام الملعونة؛ المذكرات؛ المقالات؛ موسكو، ١٩٩٠م.
«إنما وُهبت الحياة من أجل الكلمة فقط.» موسكو، ١٩٩٠م (يوميات روسية).
أعمال عن بونين
تفاردوفسكي أ. عن بونين، في كتاب: تفاردوفسكي أ. النثر؛ المقالات، موسكو، ١٩٧٤م. بابوديكو أ. إ. أ. بونين؛ مواد للسيرة من ١٨٧٠م وحتى ١٩٧٠م، الطبعة الثانية، موسكو، ١٩٨٣م.
بايوريكو أ. كلمة الزمن، في كتاب بونين إ. الأيام الملعونة، موسكو، ١٩٩٠م.
مورومتسيفا-بونينا ف. ن. حياة بونين، ١٨٧٠–١٩٠٦م؛ أحاديث مع الذاكرة، موسكو، ١٩٨٩م.
(١-٩) ليونيد نيكولايفيتش أندرييف
(٩ (٢٠) أغسطس ١٨٧١م، أريول – ١٢ سبتمبر ١٩١٩م، قرية نيفولا بالقرب من موستامياك، كانت تُسمى آنذاك فنلندا، الآن برزخ كاريليسكي بالقرب من سان بطرسبورج. في عام ١٩٥٦م تم نقل رفاته إلى جسور الأدباء في جبانة فولكوف).
وُلد ل. ن. أندرييف في عائلة موظف صغير يعمل مساحًا للأراضي، فقد والده وعمره سبع سنوات، واضطُر وهو لا يزال طالبًا بالثانوية لكسب عيشه عن طريق إعطاء الدروس الخصوصية. درس في ثانوية أرلوفسكي. وفي الفترة من ١٨٩١–١٨٩٧م كان طالبًا في كليتَي الحقوق في كلٍّ من جامعتَي موسكو وبطرسبورج، ولكنه لم يستكمل دراسته بهما.
نُشرت أول أعمال أندرييف في عام ١٨٩٢م، في صحيفة «أرلوفسكي فيستنيك» (بشير أريول). بدأت شهرته عندما بدأ بالنشر في صحيفة «كورير» (الرسالة) التي تصدر في موسكو («بارجاموت وجارساكا»، ١٨٩٨م إلى جانب أعمال أخرى عديدة). سريعًا ما توطَّدت علاقته بمكسيم جوركي ومع الكوكبة التي تُحيطه من الأدباء («سريدا» (الأربعاء)، منتخبات «زنانيا» «المعرفة»).
في مطلع القرن العشرين أصبح لأندرييف صورته وطابعه الأدبي الخاص، وهو ما جعل منه على الفور واحدًا من أكثر الكتَّاب شعبيةً في تلك الفترة. لم تكن كتابته مجرَّد استجابة ﻟ «القضايا المُلحة» التي كانت تُثير قلق الجمهور الروسي، وإنما كانت أيضًا سعيًا لإدراك العمق المأساوي لها، والنظر إلى «الهوة» الكامنة وراء المظهر الخارجي للحياة، والتوغُّل في تناقضات الحياة اليومية وتعقيدها، وكشف ما فيها من مخاطر وآلام، وتشابك القوى «القدرية» مع مصير الإنسان. كان ميَّالًا لتصوير المواقف الحادة للمشاعر الإنسانية، أن يرفع من نبرة صوته الفني، فيكثِّف من الألوان ويضغطها. وقد جعل ذلك منه كاتبًا «من طراز حديث» واسع الانتشار لدى القراء، بما في ذلك في الدوائر الأدبية الديمقراطية.
في الوقت نفسه فقد رأى معاصرو ليونيد أندرييف في ذلك تطرفًا، وتعامل كلٌّ منهم مع أسلوبه في الكتابة من وجهة نظره، وفي بعض الأحيان كان البعض ينظرون إلى هذا الأسلوب بقدر كبير من السخرية. ومن الملاحظات الشهيرة، تلك التي قالها ليف تولستوي عن قصص أندرييف «المرعبة»: «إنه يريد أن يخيفني، ولكنني لا أخاف.» وقد أشار صديقه المقرب جوركي إلى ما لديه من إفراط بقوله: «في أسبوع واحد قدَّم للعالم أغنيته «أوساتا»، ثم إذا به يخرج علينا بمسرحيته «اللعنة»!» ومع ذلك فإن أندرييف يركِّز في مسرحياته ونثره على المشكلات التي تؤرِّق المعاصرين، أما دوره في عالم الأدب في مطلع القرن العشرين فهو دَور لا يمكن الإقلال من شأنه.
كتب ل. ن. أندرييف عن إحساس الإنسان بالوحدة، وعن عزلته عن الآخرين، واستغراقه في مشكلاته الخاصة («كان يا ما كان» ١٩٠١م، «الملاك الصغير»، و«الخوذة الصغيرة» (١٨٩٩م)). تأمَّل الموت كثيرًا وأطال التفكير في محدودية العقل البشري («الفكر» ١٩٠٢م، «حياة فاسيلي الطيبي» ١٩٠٣م، «الأشباح» ١٩٠٤م، إلى جانب العديد من الأعمال الأخرى). ومن القضايا التي ظل ل. ن. أندرييف مهتمًّا بها محاولة الإجابة على الأسئلة الخاصة بمغزى الإيمان والإله، وكيفية أن يكون الإنسان منافسًا له. وقد طوَّر أندرييف موضوعات حروب الآلهة في رواية «حياة فاسيلي أرسينيف» ١٩٠٣م، ومسرحية «اللعنة» ١٩٠٨م وغيرها. وكذلك عبَّر عن رأيه في أحداث الحرب الروسية اليابانية في قصته «الضحك الأحمر» (١٩٠٤م)، التي كشف من خلالها عن جنون أشكال إراقة الدماء كافة. أما قصته «الظلام» (١٩٠٧م) فتصف إحباطه من قدرة الثورة على تغيير الحياة. وفي قصة «السبعة المحكوم عليهم بالإعدام» يُبدي أندرييف تعاطفًا كبيرًا، على طريقته، مع شخصيات قصته، التي جاءت بمثابة رد فعل على المحاكمات التي تعرَّض لها الثوريون-الإرهابيون.
كان ل. ن. أندرييف كاتبًا مسرحيًّا غزير الإنتاج، وقد سعى في مسرحياته لتصوير ما في الحياة من رموز والوصول إلى إجابات على الأسئلة الخالدة فيها. وأن يكثِّف مغزى الحياة ويحوِّل الشخصيات إلى رموز تحمل الطبائع الإنسانية كافة، بل ما فوق الإنسانية، وقد ظهر ذلك في مسرحيات «حياة إنسان» ١٩٠٦م، «اللعنة»، «الجوع»، وهي واحدة من سلسلة مسرحيات كتبها عن حياة البشرية بأسرها). وإلى جانب مسرحياته ذات الطابع الرمزي المعروف، كتب أندرييف مسرحيات أخرى بأسلوب واقعي اعتيادي: «أيام حياتنا» ١٩٠٨م، و«جادوياموس» ١٩٠٩م، وقد نالتا نجاحًا كبيرًا عند عرضهما.
وفي السنوات الأخيرة من حياته — عشية الحرب والثورة — كتب ل. ن. أندرييف رواية «ساشكا جيجوليف» (١٩١١م)، وهي عن الجيل الشاب الثائر الذي نَهَج نهجَ الصعاليك النبلاء بحثًا عن العدالة.
أثارت الحرب الروسية الألمانية مشاعر ل. ن. أندرييف، فانخرط في العمل في الصحافة القومية الوطنية (صحيفة «روسكايا فوليا» (الإرادة الروسية))، الأمر الذي أكَّد انفصاله عن الأدب «اليساري»، ليبدأ العمل في رواية «مذكرات شيطان»، حيث جعل من القدرة غير الإنسانية للتدمير باستخدام سلاح الإبادة الجماعية مادةً للتأمل والتفكير.
لم يتبنَّ أندرييف انقلاب أكتوبر؛ إذ كان قد عقد الكثير من الآمال على أحدث فبراير–مارس ١٩١٧م. وقد تصادف أن بيته كان يقع بالقرب من روشينو (حاليًّا رايفول)، وهكذا أصبح في عداد المهاجرين بمجرد انضمام هذا الجزء من الأراضي إلى فنلندا. وقد قضى الشهور الأخيرة من حياته في حالةٍ من الحزن والاكتئاب الشديدَين.
وقد جرى إدراك إبداع هذا الكاتب المتفرِّد بعد الثورة من خلال الفرز الأيديولوجي الصارم، وقد تأرجحت سُمعته ككاتب ما بين الواقعيين والمتهمين بالانحلال الأدبي.
ومع كل ذلك، فإن أندرييف يُعَد بلا أدنى شك واحدًا من أكثر كتَّاب ما قبل الثورة التي وقعت في العقد الثاني من القرن العشرين شهرةً وأهمية. كان إ. أ. بونين على حق، عندما كتب عنه في مذكراته في عام ١٩١٦م: «على أي حال فهو الوحيد من بين الكتَّاب المعاصرين، الذي جذبني، والذي كنت أقرأ كل جديد له على الفور.»
أعمال ل. ن. أندرييف
روايات وقصص في جزأين (المقال الافتتاحي ف. تشوفاكوف، موسكو، ١٩٧١م).
أعمال عن ل. ن. أندرييف
إيزويتوفا ل. أ. إبداع ليونيد أندرييف، ١٨٩٢–١٩٠٦م. ليننجراد، ١٩٧٩م.
(١-١٠) ميخائيل ألكسيفيتش كوزمين
(٥ أكتوبر (٢٣ سبتمبر) ١٨٧٢م، ياروسلافل – الأول من مارس ١٩٣٦م، ليننجراد).
وُلد م. أ. كوزمين في عائلة نبيلة، وهو ينحدر من أصول مركبة من المؤمنين القدامى (جماعة دينية لم تقبل بالإصلاحات الكنسية في القرن السابع عشر (المترجم)) والعرق الفرنسي. قضى طفولته في ياروسلافل وساراتوف («أشكر القدر؛ فقد جعلني أنمو وأترعرع في ياروسلافل»).
انتقل للعيش في بطرسبورج منذ عام ١٨٨٤م، حيث درس ثلاث سنوات، بعد أن أنهى الثانوية (١٨٩١م)، فن التأليف الموسيقي في الكونسرفاتوار على يد ن. أ. ريمسكي كورساكوف. عانى من أزمة روحية في النص الثاني من التسعينيات (حاول فيها الانتحار)، ونتيجةً لهذه الأزمة بعد تجواله الطويل في بلاد العالم، لم يكتفِ بزيارة إيطاليا ومصر، وإنما طوَّف بالقرى التي يسكنها المؤمنون القدامى في شمال روسيا. وخلال هذه السنوات تعلَّم ديانات الشرق، وجمع العديد من الأناشيد الدينية والأشعار الروحية.
وقد كتب م. أ. كوزمين في أنواع الإبداع الأدبي كافة بوصفه أديبًا (رواية «الأجنحة» وغيرها)، مسرحيًّا («ثلاث مسرحيات» ١٩٠٧م، وغيرها)، شاعرًا (ديوانه الأول «الشباك» ١٩٠٨م).
ارتبطت الاهتمامات التاريخية الثقافية عند م. أ. كوزمين، وهي الاهتمامات التي كانت تميِّز الذُّرويين بوجه عام، بروما القديمة والإسكندرية والقرن الثامن عشر في فرنسا وإيطاليا (كل العصور التي وقعت فيها الكوارث الكبرى أو التي سبقت وقوعها). وفي هذا السياق فإن أفضل ما كتبه كوزمين، بوصفه شاعرًا، هي «الأغاني السكندرية» (العقد الأول من القرن العشرين)، و«فوريل يحطِّم الجليد» (١٩٢٩م)، وهو الديوان الأخير الذي كتبه قُبيل وفاته.
يتميَّز الإنتاج الفني لكوزمين بتصوير الحياة الواقعية بكل ما تمتلئ به من مآسٍ وأفراح، وبالجوانب المادية والحسية في هذه الحياة، ويتجلَّى ذلك أيضًا في أشعاره الأيروتيكية، كما يتميَّز عمله برهافة ودقة الشكل وعرض مشاعر السعادة في قالب فني شاعري.
اهتمَّ كوزمين أيضًا اهتمامًا شديدًا بالعصر الأول للمسيحية، بالوثنية، وبجماعة المؤمنين القدامى، وبالمذهبَين الفرنسيسكاني والغنوصي.
وتشكِّل الموسيقى عنصرًا قويًّا وعميقًا في إبداع كوزمين الشعري، الذي كان من أوائل الذين استخدموا أسلوبًا معاصرًا، فكان من الشعراء الذين يُلقون بأشعارهم بصورة فنية، فيغنُّون هذه الأشعار بمصاحبة الجيتار بألحان وضعوها بأنفسهم. كما وضع كوزمين أيضًا الألحان الموسيقية لعدد من المسرحيات (على سبيل المثال: مسرحية «ممثلة السرادق» لألكسندر بلوك، والتي عُرضت على مسرح كوميساريجيفسكايا). كان كوزمين على علاقة وثيقة بالعديد من الجماعات الفنية والصالونات والتيارات الثقافية. ومن بين هذه التيارات والمدارس، كانت الذُّروية هي الأقرب إليه، باعتبار أن أفكارها العميقة لا تختلف كثيرًا عن أفكار المدرسة الرمزية. أما الموضوع الذي شغل المكانة الرئيسية في شعره العاطفي الناضج فكان طريق النفس البشرية إلى الجمال والمجد الروحي عبر الحب. اتسم الشعر المركَّب الذي أبدعه م. أ. كوزمين بصفات مميزة؛ التشبع بالنزعة الدينية والكنسية العميقة، والتعبير الإثني الواضح عنها من ناحية، ثم بالنزعة الجمالية والغندرة والعاطفية الأيروتيكية المثيرة. وقد أصبحت أشعار كوزمين في الفترة السوفييتية أكثر تجهُّمًا، وأخذ الأسلوب الدراماتيكي والانعزالية و«الانطوائية» الثقافية يزداد في إبداعه يومًا بعد الآخر حتى نهاية حياته.
في النهاية، فقد كان كوزمين واحدًا من أكثر فناني «العصر الفضي» ثقافة، وإن لم يكن له «برنامج». كان مغرمًا بمبدأ كل شيء مباح في الشعر، وباللعب بالمعاني الداخلية والأصوات، وتعدُّد معاني الكلمة، الذي ينشأ عن تداعي الأفكار. لكن مثل هذا الفنان بدا غير ضروري للأدب السوفييتي الجديد.
توقف م. أ. كوزمين، الذي بقي في الوطن بعد أحداث ثورة ١٩١٧م (التي قبلها في فبراير وأكتوبر)، عن النشر تدريجيًّا ليعمل بالترجمة. وفي عام ١٩٢٩م توقف تمامًا عن الكتابة.
تُوفي كوزمين في حالة من الفقر المدقع وقد طواه النسيان. وقد تعرَّضت أجزاء كبيرة من أشعاره التي لم تُنشر وغيرها من مخطوطاته للضياع في أثناء القبض على صديقه ي. يوركون في عام ١٩٣٨م.
أعمال ميخائيل ألكسيفيتش كوزمين
الأعمال المختارة (الإعداد والمقال الافتتاحي والتعليقات: أ. لافروف، ر. تيمينتشيك)، ليننجراد، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩٠م.
شعر ونثر (الإعداد والمقال الافتتاحي والتعليقات: ي. يرميلوف)، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك» (المعاصر)، ١٩٨٩م.
أعمال عن م. أ. كوزمين
بوجومولوف ن. ميخائيل كوزمين، «نافذة صغيرة فوق الحب والبغض المكبوت …» مجلة «ناشي ناسليديه» (تراثنا)، ١٩٨٨م، العدد الرابع؛ تيموفييف أ. الخروج من أسر النسيان، مجلة «نيفا»، ١٩٨٨م، العدد الأول.
(١-١١) فاليري ياكوفليفيتش بريوسوف
(١ (١٣) ديسمبر ١٨٧٣م، موسكو – ٩ أكتوبر ١٩٢٤م، موسكو).
من ناحية مصيره وما يتحلى به من صفات، فإن ف. ي. بريوسوف يعد ظاهرةً نادرة في الثقافة الروسية في عصره. كان شخصيةً انتقالية في كثير من جوانبه. ويُعد بريوسوف الجيل الثاني لعائلة مثقفة تنحدر من عائلة من التجار، تعود بجذورها بدَورها إلى فلاحين بسطاء. ويتضح لنا أن ف. ي. بريوسوف رجل ينتمي إلى عصرين؛ ففي طفولته تربَّى على تقاليد «الستينيين»، خاصةً أن أسرته كانت تقدِّر تقديرًا كبيرًا ن. أ. نكراسوف، ود. إ. بيساريف. «حمتني أسرتي من الحكايات، ومن «الأمور الشيطانية كافة»، ومن ثم تعلمت أفكار داروين ومبادئ النزعة المادية قبل أن أتعلم عمليات الحساب. لا حاجة لي أن أتحدَّث عن الدين في بيتنا؛ فأنا لا أكاد أذكر عن ذلك شيئًا بالمرة …» هذا ما كتبه بريوسوف في «سيرته الذاتية». كان طريقًا شاقًّا ذلك الذي قطعه بريوسوف. يقول الشاعر وهو يلقي ببصره على حياته:
تلقَّى ف. ي. بريوسوف تعليمه في البداية في مدرسة ثانوية خاصة، ثم من بعدها في الثانوية الشهيرة التي يُديرها التربوي وعالِم الدراسات الأدبية ل. إ. بوليفانوف. بدأ ولعه بالقراءة، ومن بعدها التأليف مباشرةً منذ السنوات الأولى له في المدرسة. وفي عام ١٨٩٩م أنهى كلية الآداب والتاريخ بالحصول على دبلومة من الدرجة الأولى.
بعد ذلك سنجد أن سيرة ف. ي. بريوسوف تستند أساسًا على عمله الأدبي، الذي عكس بشكل مميز أيضًا ما استلهمه من طفولته وشبابه وما اختاره، بشكل واعٍ، من تصوراته وأهدافه.
يكاد ف. ي. بريوسوف أن يُعد مؤسس المدرسة الرمزية الروسية، ويرجع السبب في التأكيد على ذلك إلى صدور ثلاثة دواوين تحت عنوان «الرمزيون الروس»، عكست التأثير القوي للشعر الفرنسي الحديث (بول فيرلين، أرثور رامبو وغيرهم). وكما هو معروف، فقد مثَّلت أشعار ف. ي. بريوسوف نفسه المحتوى الأساسي للديوانين. على أنه من المستحيل أن نتحدَّث على نحو جاد حول أن بريوسوف هو مؤسس هذه المدرسة. إن المدرسة الرمزية الروسية الحقيقية باعتبارها وجهة نظر إلى العالم تعود إلى جذور أخرى (نذكر هنا ف. س. سولوفيوف، أ. بلوك، أ. بيلي). لا توجد نقاط تماس بين بريوسوف وهؤلاء الشعراء من الناحية الإبداعية إلا قليلًا، وإن اشترك معها في أدب واحد. إن اسم بريوسوف يرتبط بحق بتصوُّر الشعر باعتباره التعبير الحر عن الفرد («إلى الشاعر الشاب»)، كما يرتبط بإتقان فن الكلمة. ومن وجهة نظر بريوسوف، فإن الشعر ينبغي أن يكون مستقلًّا عن الصراع الأيديولوجي والفلسفي والديني. ولعله من الأكثر دقةً أن نقول إن اسم ونشاط ف. ي. بريوسوف ارتبط بالخطوات الأولى بالانحطاطية الروسية وبالحداثة بكل معنى الكلمة («أبحث عن النجم العادي في الظلام، وها أنا آراه الآن: إنه الانحطاطية.» فقرة من يوميات ف. بريوسوف الشاب).
وقد حقَّقت دواوينه الشعرية الأولى («الراوئع» ١٨٩٥م، «هو أنا» ١٨٩٦م) هذا البرنامج؛ فقد تناول بريوسوف موضوعات تتسم بالغرابة والطرافة، حطَّم فيها بشكل واضح وعن عمد، المعايير والذائقة التقليدية للشعر الروسي في هذا العصر. أما دواوينه الأكثر اتزانًا: «الحرس الثالث» ١٩٠٠م، «إلى المدينة والعالم» ١٩٠٣م، فقد شقَّت لنفسها طريقًا عبر ركام الثقافة العالمية، التي انفتحت أمام ف. ي. بريوسوف، واهتمامه بأحداث التاريخ العالمي، التي أفرزت شخصيات أصيلةً عظيمة، ممَّا حدَّد شكل هذه الدواوين.
منذ ذلك الحين أصبح ف. ي. بريوسوف واحدًا من الذين يحرِّكون الحياة الأدبية؛ فبعد عدة سنوات ترأَّس مجلة «الميزان» (١٩٠٤–١٩٠٩م)، وهي واحدة من أكبر المجلات التي تصدر في موسكو، والتي أصبحت نقطة جذب للعديد من الأدباء الشبان من ذوي النزعة الحداثية. وبوصفه شاعرًا فقد دافع عن اتساع دائرة الاهتمامات، والاندماج في التجربة الفنية والثقافية العالمية. وقد عبَّر عن موقعه من خلال عمله الصحفي بقوله: «كل الأحلام ممتعة، كل اللغات عزيزة على نفسي، وأشعاري هدية مني لكل الآلهة.»
يُعد ف. ي. بريوسوف من أوائل الذين أدخلوا إلى الشعر الروسي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، حياة ومصير الإنسان المعاصر الذي يعيش في ظروف المدينة الكبرى. وقد جاءت صور المدينة في شعره مبتكرةً ومعبرة وبأسلوبه المميز («الجواد الشاحب» ١٩٠٣م وغيرها من قصائد). وقد كتب بريوسوف دواوينه: «إكليل الزهور» ١٩٠٦م، و«كل الألحان» ١٩٠٩م، في أفضل أوقات إبداعه. وممَّا يدل على سعة ثقافته وتنوُّع اهتماماته العلمية الدراسات الأدبية التي قام بها (مقالات عن الشعراء بوشكين، باراتينسكي، تيوتشيف وغيرهم)، ورواياته التاريخية: «الملاك المشتعل» ١٩٠٨م، وهي عن الحركات الدينية في ألمانيا في القرن السادس عشر، وروايتان وقصة طويلة مستوحاة من روما القديمة («مذبح الانتصار»)، «هزيمة جوبيتر»، و«رياسيلفيا» (١٩١١–١٩١٦م)، إلى جانب ترجماته العديدة الشهيرة الرائعة.
وفي السنوات اللاحقة، السنوات الأولى للثورة، وفي ظروف الحرب الروسية الألمانية، ثم أحداث العام ١٩١٧م التي تلتها مباشرة، اندمج بريوسوف في تيار الحياة اليومية كسابق عهده بكل نشاط وأريحية بوصفه شاعرًا وأديبًا. كان واحدًا من قلة من الشعراء الروس الكبار، اعتنق أهداف ثورة أكتوبر، فضلًا عن أنه انضم إلى الحزب الشيوعي (١٩٢٠م)، كما أدار نشاطًا أدبيًّا تنظيميًّا واسعًا، فأسَّس، بصفة خاصة، المعهد العالي للفنون والآداب، الذي حمل اسمه، كما أصبح رئيسًا لاتحاد الشعراء لعموم روسيا، ثم للعديد من الاتحادات الأخرى. وباعتباره شاعرًا فقد مارس التجريب في مجال ما عُرف باسم «الشعر العلمي»، وكتب عددًا من المقالات الصحفية أعرب فيها عن تعاطفه مع أحداث الحياة السوفييتية، ودراسة علمية تحت عنوان «أسس الشعر».
أعمال ف. ي. بريوسوف
الأعمال الكاملة في سبعة أجزاء (إشراف ب. أنتوكولسكي وآخرين، الأجزاء من ١–٧، موسكو)، دار نشر «خودوجستيفينايا ليتيراتورا»، ١٩٧٣–١٩٧٥م؛ مختارات؛ الإعداد والمقال الافتتاحي والتعليقات: ن. بانيكوف، موسكو، دار نشر «مالادايا جفارديا».
«سلاح الفرسان الفتي»، ١٩٨٩م (مكتبة القرن العشرين: «الشاعر والزمن»).
أعمال عن ف. بريوسوف
مكسيموف د. ي. بريوسوف، الشعر والموقف؛ في كتاب مكسيموف د. الشعراء الروس في مطلع القرن: مقالات، موسكو، ١٩٨٦م؛ شابوفالوف م. فاليري بريوسوف، كتاب لطلبة الفصول العليا، موسكو، دار نشر «بروسفيشينيه» (التنوير)، ١٩٩٢م.
(١-١٢) ميخائيل ميخايلوفيتش بريشفين
(٢٣ يناير (٤ فبراير) ١٨٧٣م، عزبة خروشيفو مركز يليتسكي، محافظة أرلوفسكي – ١٦ يناير ١٩٥٤م، موسكو).
وُلد م. م. بريشفين لعائلة من التجار، وعاش في القرية حتى بلغ العاشرة من العمر. خسر والده ضيعته في لعب الورق ليترك عائلته (خمسة أطفال) في مهب الريح. أما الأم فقد كانت امرأةً نشيطة متفانية، استطاعت شراء ضيعة، وبذلت كل جهدها لتوفِّر لأطفالها سُبل التعلم (يقول بريشفين: «أردت أن أتعلَّم حتى أبرِّر هذا الجهد الذي بذلته أمي طوال عمرها من أجل ذلك»). تلقَّى بريشفين تعليمه في البداية في ثانوية يليتسكي (في الفترة نفسها مع إيفان بونين الذي كان يكبره بثلاثة أعوام). كان يتميَّز بالاستقلال والحمية، يُحكى أنه هرب ذات يوم من مسكنه إلى وجهة «غير معلومة»، وبعد عدة سنوات إذا به يُفصل من الثانوية لشجار وقع بينه وبين ف. ف. روزانوف، الذي أصبح كاتبًا ذائع الصيت (وقد الْتقيا بعد ذلك في مُناخ أدبي مختلف وأصبحا صديقين حميمين). أتم بريشفين تعليمه في معهد تيومينسكي (اعتمادًا على مساعدة عمه رجل الصناعة الكبير في سيبيريا). في عام ١٨٩٣م، أصبح طالبًا في معهد ريجا الصناعي («كانت الدراسة تجري آنذاك فيه باللغة الألمانية، وقد الْتحقتُ بالمعهد لأتعلم بالألمانية من ناحية، ولأن كل شيء في ريجا، من ناحية أخرى، كان جديدًا بالنسبة لي»). في الفصل الثاني من المعهد يولع بريشفين بالماركسية، فيلتحق على الفور بإحدى الحلقات الثورية الطلابية ويُترجم كتاب أ. بيبل «المرأة في الماضي والحاضر والمستقبل»، الذي كان له أبلغ الأثر عليه («كان هذا الكتاب بالنسبة لي بمثابة قصة حب عظيمة»). وسرعان ما تم اعتقاله، ليقضي في الحبس الانفرادي عامًا في سجن ميتافسكايا، ثم يعاد إلى مسقط رأسه في يليتس. أنهى تعليمه في ليبتسيج، في قسم العلوم الزراعية. وبعد أن أنهى الجامعة (١٩٠٢م) عاش فترةً من الزمن في باريس، التي ارتبطت بعض الأحداث المهمة في حياته الشخصية بها.
عمل مهندسًا زراعيًّا في لوجا في ضواحي بطرسبورج، ثم في أكاديمية بتروفسكي الزراعية في موسكو (وقد ألَّف كتابًا في تخصُّصه بعنوان «زراعة البطاطس في الحقول والبساتين»). وفي الوقت نفسه عمل بشغف بالصحافة لسنوات طويلة إلى جانب عمله بعلم الزراعة، فنشر عددًا من المقالات والدراسات في الدوريات التي كانت تصدر في تلك الفترة.
كان لقاؤه بعالم الإثنوجرافيا ن. ي. أونتشوكوف حدثًا بالغ الأهمية في حياته، حيث قام بتكليف منه برحلة إلى الشمال لجمع حكايات روسية. وفي أثناء هذه الرحلة جمع أيضًا مادةً علمية لكتابه الأول، الذي حاز على شهرة كبيرة، حول رحلته عبر كاريليا، والذي أسماه «نحو بلاد الطيور الآمنة» (١٩٠٧م)، كان هذا الكتاب هو نقطة البداية الحقيقية للكاتب الروسي م. م. بريشفين، الذي تميَّز برؤيته للطبيعة باعتبارها واحدةً من أسس الحياة الرئيسية للإنسان، ورؤيته للإنسان باعتباره شريكًا كامل الأهلية في الطبيعة الكونية. وقد كان للمعرفة التي امتلكها بريشفين بوصفه متخصصًا في شئون الطبيعة وإثنوجرافيًّا وشاعرًا موهوبًا، وفيلسوفًا مهتمًّا بدراسة هذه المنظومة التي تجمع — الإنسان — الطبيعة في الظروف الخاصة، التي يمر بها التاريخ القومي الروسي عند منعطف بين عصرين، دور مهم في اختياره لموضوعات ومواد كتبه اللاحقة.
في عام ١٩٠٧م، يقوم بريشفين برحلة إلى سولوفسكا، والتي كان من ثمارها كتابه «من أجل الرغيف المسحور»، بعث من خلاله الإحساس بالماضي الأسطوري بروسيا (حيث احتفظ هذا التاريخ بروسيا الغابرة، دون أن تغيب عن صفحاته: العجائز-المنسيات، كوشي الذي لا يموت، وماريا موريفينا). وفي العام التالي قام برحلته الثالثة إلى ما وراء نهر الفولجا وكيتبج (كتب عنها كتابه «عند حوائط المدينة الخفية»). في هذه الكتب عرض بريشفين تأملاته حول المشاعر الدينية للشعب الروسي وبحثه الروحاني، وتأملاته في قضايا الإيمان والكفر، التي أصبحت تمثِّل على تخوم القرنين القضايا الخاصة بمصير السلامة الروحية القومية. في عام ١٩١٠م، صدرت له كُتب أخرى جديدة تناولت رحلاته: «العربي الأسود»، و«آدم وحواء»، تعرَّض فيها لدراسة مصائر الفلاحين الروس الذين نزحوا من قراهم بعد أن أصدر ستوليبين قوانين الإصلاح التي أزاحت روسيا الريفية عن مكانها.
شغل بريشفين مكانةً مميزة في الحياة الأدبية في الفترة ما قبل السوفييتية وخاصةً بين «الواقعيين» و«الحداثيين»؛ إذ كان مقبولًا من المجتمع الفلسفي الديني، وكانت الشخصيات الرئيسية في هذا المجتمع هما ميريجكوفسكي ورميزيف (وكان بريشفين يرى في الأخير أستاذًا له في مجال الأدب)، وفي الوقت نفسه كان مكسيم جوركي، الواقعي الاشتراكي الواعد، يقدِّره تقديرًا رفيعًا. وقد صدرت مجموعة أعمال بريشفين في ثلاثة أجزاء عام ١٩١٣م، عن دار نشر «زنانيا» (المعرفة)، والتي كان مكسيم جوركي هو رئيس تحريرها.
كان بريشفين يراقب أحداث ثورة ١٩١٧م عن بعد، وذلك إبَّان إقامته في الريف. وأخيرًا، حقَّق وبصعوبة بالغة على أي حال، مكانةً في الحياة الأدبية «السوفييتية». لم يستطع أن يصبح مهاجرًا؛ فالفنان الذي تمثَّل الكلمة الروسية له، فضلًا عن الأرض الروسية ذاتها، بطبيعتها الغنية، وما يقع فيها من أحداث يومية، ذات طابع قومي متفرد، وجد في هذه الأشياء الفكرة والمضمون والهدف الرئيسي لإبداعه. ومن ثم لم يكن بمقدوره، في سياق الظروف المتناقضة والاختلاف مع السلطة، أن يفقد هذا الوطن. لقد بقي بريشفين، المؤهَّل للتكيُّف الرشيد ولم يهاجر، وقد وجد «مكانه المناسب» (أنقذته الكتابة عن الطبيعة والحيوانات، وقد هجاه أحدهم بقوله: «إنه الكاتب الوحيد الذي كتب عن الأرانب البرية»). ويمكن القول أيضًا، إنه بمعنًى محدَّد، قد حقَّق ذاته؛ لقد كتب وأصدر أعمالًا كثيرة؛ فمنذ عام ١٩٢٣م وحتى عام ١٩٥٤م، كتب سيرته الذاتية «جبال كاشييفا»، كما كتب أيضًا رواية «شباب ألباطوف» استنادًا على تجربته الشخصية. استمرَّ في رحلاته عبر البلاد، وظهرت له أعمال جديدة: «جن-شين» ١٩٥٣م، وتدور حول رحلته إلى الشرق الأقصى، كما كتب دواوين تجمع بين الشعر والنثر بعنوان: «قَطر الغابة»، «فاتسيليا» (١٩٤٠م)، وفي أثناء الحرب كتب قصة «مخزن الشمس» (١٩٤٦م). وفي هذه الفترة نفسها بدأ التفكير وكتابة روايته «طريق أسوداريفا»، التي اكتملت مع نهاية حياته، وتتناول إصلاحات بطرس الأكبر في شمال البلاد، وأثرها على حياة الروس، «في بلاد الطيور الآمنة»، كما كتب عددًا آخر من الكتب.
في العشرينيات والثلاثينيات أصبح م. م. بريشفين واحدًا من أبرز كتَّاب الأطفال (آنذاك دخل إلى عالم أدب الأطفال العديد من الكتَّاب، بعد أن وجدوا فيه درجةً أكبر بعض الشيء من التحرُّر من الدوجمات الأيديولوجية والسياسية، يمكن أن نتذكَّر في هذا الصدد: ك. تشوكوفسكي، وب. جيتوف، ود. خارمس، ون. أوليينيكوف، وت. جابي، وي. شفارتس، وكثيرين غيرهم).
وفي الوقت نفسه فإن العمل الأساسي في حياة م. م. بريشفين، وهو «مذكراته» المكوَّنة من عدة مجلدات، والتي سجَّلها على مدى عدة عقود، ظلَّت طي الكتمان. ولم يكن من الممكن أن يُنشر منها في العصر «السوفييتي» سوى مقاطع لا تتسم بأهمية كبرى. وفي نهاية الثمانينيات فقط، أصبح بمقدور الصحف أن تنشر من حين لآخر أجزاءً صغيرة منها. وقد صدرت بعض الأجزاء منفردة، وقد تم إعدادها على نحو متعسِّف كيفما اتفق عن دار نشر «برافدا» (الحقيقة).
وبناءً على ذلك، فإن مؤلَّفات م. م. بريشفين ينبغي أن تُقرأ كاملةً من جديد؛ لكي نفهم هذا الكاتب الكبير المتعدِّد الجوانب.
أعمال م. م. بريشفين
الأعمال الكاملة في ثمانية أجزاء، موسكو، دار نشر «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٨٢–١٩٨٦م.
المذكرات، موسكو، دار نشر «برافدا»، ١٩٩٠م.
أعمال عن م. م. بريشفين
خايلوف أ. ن. ميخائيل بريشفين، مسيرة الإبداع، موسكو-ليننجراد، ١٩٦٠م؛ بريشفينا ف. الطريق إلى الكلمة، موسكو، ١٩٨٤م؛ كورباتوف ف. ميخائيل بريشفين، موسكو، ١٩٨٦م.
(١-١٣) إيفان سيرجييفيتش شميليف
(٢١ سبتمبر (٣ أكتوبر) ١٨٧٣م، موسكو – ٢٤ يونيو، ١٩٥٠م، باريس).
وُلد إ. س. شميليف في عائلة تقليدية من التجار، عمل الأب بمقاولات البناء، بينما أولت الأم جُل اهتمامها للبيت والأطفال. تيتَّم إ. س. شميليف في سن مبكرة، ولكنه ظل دائمًا وفيًّا لروح العائلة، وراح يدعم هذه الروح في نفسه بوعي تام. وقد تركت دروس الأخلاق الشعبية والتقوى المسيحية والإحساس بالعدل والبر، التي ورثها عن العائلة، أثرًا كبيرًا عليه طوال عمره. تلقَّى شميليف تعليمه في الثانوية، ثم في كلية الحقوق بجامعة موسكو في الفترة من ١٨٩٤م وحتى ١٨٩٨م. أدَّى الخدمة العسكرية ليعمل بعدها بالمحاماة لفترة قصيرة، تلا ذلك عمله لمدة ثمانية أعوام تقريبًا في إحدى الإدارات الحكومية في الأقاليم.
بدأ شميليف نشاطه الأدبي منذ أن كان طالبًا في المدرسة الثانوية. وكان أول كتاب له هو «على صخور فالام» (١٨٩٧م) وهي مقالات في الرحلات، كتبها بعد قيامه بالحج إلى تلك الجزيرة المقدسة. وقد عبثت يد الرقيب بهذا الكتاب فحوَّلته إلى مسخ، بعدها صمت إ. س. شميليف عن الكتابة لمدة عشر سنوات تقريبًا. وقد وافقت عودته إلى الكتابة تلك الأحداث العاصفة — التي صاحبت الثورة الروسية الأولى — التي بعثت الإيمان بتجديد الحياة على أسس إنسانية عادلة (آنذاك كتب شميليف قائلًا: «لقد انبثقت أمام عينَي حياة جديدة …»).
اتسمت أعمال شميليف النثرية، التي كتبها في الفترة من ١٩٠٥م إلى ١٩١٠م، بأنها مفعمة بالحداثة الحية، والتي تجلَّت من خلال مصير شخصية الإنسان العادي الذي يعيش في هذه الفترة، والذي يقوم بتغيير علاقته العَفْوية تجاه النمط السائد في هذه الحياة («السيد أوكليكين» ١٩٠٨م، «رجل من المطعم» ١٩١٠م). انضمَّ شميليف إلى جمعية «الأربعاء» الأدبية، ثم ما لبث أن أصبح واحدًا من مديري «دار نشر الكتَّاب» في موسكو.
غادر شميليف موسكو متجهًا إلى القرم إبَّان سنوات الثورة والحرب الأهلية، وقد اضطُر إلى أن يتركها مهاجرًا إلى الغرب (١٩٢٢م) بعد إعدام ابنه الضابط رميًا بالرصاص دون محاكمة. وقد كتب عن مأساة الإرهاب الأحمر في القرم في كتابه «شمس الموتى» (١٩٢٣م). وفي المهجر يصل شميليف إلى ذروة إبداعه، فيكتب أفضل أعماله، والتي من بينها قصص مستلهَمة من سيرته الذاتية باسم «العزيز» (١٩٣١م)، وكذلك كتاباه الرائعان «الصيف الرباني»، و«الحج»، فضلًا عن عدد آخرَ من أعماله. ويُعد نثر شميليف نموذجيًّا من ناحية الإحساس باللغة، والروحانية في التعبير عن نسق الحياة القومية التقليدية، وإيمان الفنان المبعد عن الوطن، والذي لم ينسَ هذا الوطن.
أعمال إ. س. شميليف
الأعمال الكاملة في جزأين؛ الجزء الأول قصص وأقاصيص، الجزء الثاني قصص قصيرة؛ الحج؛ الصيف الرباني؛ كيف التقيت بتشيخوف، موسكو، ١٩٨٩م؛ الصيف الرباني، موسكو، ١٩٩١م.
(العودة)، طريق في السماء؛ مختارات، موسكو، ١٩٩١م.
أعمال عن إ. س. شميليف
ميخايلوف أ. عن إيفان شميليف؛ في كتاب شميليف إ. المؤلفات في جزأين، الجزء الأول، موسكو، ١٩٨٩م؛ سميرنوف م. طرق على الأرض؛ في كتاب شميليف إ. طرق في السماء، موسكو، ١٩٩١م.
(١-١٤) مكسميليان ألكسندروفيتش فولوشين
(١٦ (٢٨) مايو ١٨٧٧، كييف – ١١ أغسطس ١٩٣٢م، كوكتيبيل بالقرم).
الاسم الحقيقي لعائلة م. أ. فولوشين هو فولوشين-كيرينكو. ينحدر من سلالةٍ من النبلاء. أجداده لأبيه من قازاق زابوروج، ومن ناحية الأم ينتمي إلى يلينا أوتتوبالدوفنا جلازر، من الألمان الذين عملوا في روسيا في القرن السابع عشر قُبيل عصر بطرس الأكبر.
فقد فولوشين والده في عام ١٨٨١م، وهو لا يزال طفلًا، وكان لأمه أثر كبير للغاية في تكوُّن شخصيته. تلقَّى تعليمه في البداية في موسكو (ثانوية بوليفانوف، ثم ثانوية موسكو الأميرية). أنهى تعليمه الثانوي في فيودوسيا، ومنذ ذلك الحين ارتبطت حياته كلها بالقرم.
في عام ١٨٩٧م يلتحق بكلية الحقوق بجامعة موسكو. يكتب في مذكراته عن ذلك بقوله: «لست مدينًا للجامعة أو الثانوية بأي قدر من المعرفة، ولا بفكرة واحدة.» وفي عام ١٩٠٠م، يُفصل من الجامعة بسبب مشاركته في الاضطرابات الطلابية. ومنذ هذه اللحظة تبدأ سنوات الترحال في حياة هذا الشاعر الذي أتم ثلاثةً وعشرين عامًا من عمره (وكان قد بدأ كتابة الشعر وهو في الثالثة عشرة). في آسيا الوسطى شارك في أعمال الاستكشاف الخاصة بمد خطوط السكك الحديدية. «هنا باغتني نيتشه»، و«الأحاديث الثلاثة» لفلاديمير سولوفيوف. وهذان الرجلان منحاني إمكانية أن أمد بصري باتجاه الثقافة الأوروبية على نحو يتسم بالشمول والتأمل، بدءًا من المرتفعات الآسيوية المسطَّحة. وقد وضع فولوشين نصب عينيه مهمة السير عبر طريق الثقافة الإنسانية بأشكالها كافة، بدءًا بالثقافة الأوروبية، ثم اكتشاف الشرق. يقول فولوشين: «ما أنا إلا إسفنجة ماصة، كلي عيون مفتوحة وآذان صاغية. أطوف البلاد والمتاحف والمكتبات: روما، إسبانيا، باليارا، كورسيكا، سردينيا، أندورا … اللوفر، البرادو، الفاتيكان، أوفيتسي …»
في عام ١٩٠١م، يذهب فولوشين إلى باريس، يستمع إلى محاضرات في السوربون، يسافر في رحلة طويلة عبر إسبانيا وإيطاليا، يفتتن بالأدب الإغريقي والفرنسي القديم، يبدأ في نشر المقالات في مجلات الرمزيين عن الثقافة والحياة الفنية الفرنسية، فضلًا عن عدد من القصائد الشعرية (صدر أول ديوان له باسم «أشعار» في عام ١٩١٠م). وقد أُولع فولوشين إلى جانب الأدب بممارسة التصوير بالزيت والألوان المائية، وازدادت علاقته قربًا من الشعراء والفنانين الروس والفرنسيين. وعلى الرغم من ارتباطه سنوات طويلةً بباريس بشكل أساسي، فقد بنى، في الوقت نفسه، عشَّه المفضَّل في القرم، في كوكتيبيل، «عند نقطة الالتقاء بين أوروبا وآسيا»، على حد قوله؛ حيث اكتمل بناء بيته في عام ١٩٠٣م، والذي أصبح بدايةً لبيت فولوشين الشهير باعتباره «بيتًا للجميع» (وإلى هذا المكان، وبفضل شخصية صاحبه البشوشة الودودة، توافد المئات، دون مبالغة، من الفنانين والأدباء والعلماء الروس).
احتلَّت روسيا بما تعانيه من ظروف قاسية واضطرابات شديدة، مكانةً مهمة في إبداع فولوشين في السنوات الأولى للثورة. وكان شاهدًا عيانًا، بصفة خاصة، على الأحداث المأساوية، التي وقعت في التاسع من يناير عام ١٩٠٥م، وقد سجَّلها في أشعاره.
واصل م. أ. فولوشين نشر إبداعه في العقد الأول من القرن العشرين في دُور النشر ذات النزعة الرمزية: «فيسي» (الميزان)، «زولوتوي رونو» (الصوف الذهبي)، لكنه مال إلى أصحاب النزعة الذُّروية ليصبح محرِّرًا مؤثرًا في مجلة «أبوللون».
لعب فولوشين أكثر الأدوار أهميةً في التلاعب المعروف بأشعار ي. ديمترييفا المعروفة باسم تشيربينيه دي جابرياك. وبعد الخلاف الذي نشب بينه وبين س. ماكوفسكي، رئيس تحرير مجلة «أبوللون»، ثم دخوله في مبارزة مع ن. جوميلوف، ابتعد قليلًا عن «أبوللون» مواصلًا مع ذلك نشر أشعاره فيها، وكذلك مقالاته ودراساته عن الفنانين الروس، الذين كانت صداقته بهم تمثِّل دائمًا أهميةً كبرى في حياته (كان فولوشين قريبًا من جماعتَي «بونيوفي فاليت» (الولد الديناري)، و«أوسليني خفوصت» (ذيل الحمار)، وهما جماعتان تضمان عددًا من الفنانين «اليساريين»، وكان فولوشين يدخل أحيانًا في جدل حاد مع الفن المعبِّر عن الاتجاه «المحافظ»، وفي الوقت نفسه لم يكن يتقبَّل «الحداثيين» بشكل كامل، وإنما كان يقف في الواقع خارج الجماعات.
كانت اهتماماته الأدبية والفنية عريضةً ومتنوعة؛ ترجم لعدد من الكتَّاب الفرنسيين، وأصدر كتابًا عن ريبين أثار جدلًا حادًّا، وكثيرًا ما مارس هو نفسه الرسم والتصوير الزيتي.
وكعهده دائمًا، فقد ارتبط مصير م. أ. فولوشين بقرية كوكتيبيل، حيث عاش دائمًا، ولم يكن يغادرها إلا على نحو مؤقت تارةً إلى الخارج، وتارةً أخرى إلى موسكو أو بطرسبورج.
وقُبيل الحرب التي اشتعل أُوارها في عام ١٩١٤م، أعجِب فولوشين بعِلم الأنثروبوصوفيا (الحكمة الإنسانية)، فسافر إلى سويسرا، إلى دارناخ، حيث شارك في بناء معبد «جيتيانوم» للأنثروبوصوفيا. عاصر الحرب في سويسرا ثم في باريس، ومنها عاد إلى روسيا في عام ١٩١٦م عبر إنجلترا والنرويج. وقد رأى الحرب العالمية الأولى باعتبارها «رعب أزمان الشتات»، وأطلق على ديوانه الذي ضمَّنه أشعار الحرب اسم «عام العالم المشتعل» (العنوان باللاتينية)، وصدر عام ١٩١٦م. استقبل ثورة فبراير ١٩١٧م، في موسكو بمزيد من الأمل في التجديد. وسرعان ما عاد إلى كوكتيبيل ليعمل في وضع ديوان من أشعاره المختارة بعنوان «إبفيرني» (١٩١٨م).
مثَّلت أحداث أكتوبر بالنسبة لفولوشين نذير سوء لروسيا، وكان يؤمن أن الشعب والوطن قادران على الخروج من هذه المحنة. وقد قضى سنوات الحرب الأهلية كلها في القرم ولم يغادره تقريبًا، داعيًا للتحلي بالخير والصبر، باذلًا جهوده لتخفيف حدة العنف والإرهاب سواء من جانب «البيض» أو «الحمر». وقد انعكست هذه السنوات في ديوان «الشياطين الصم البكم» (١٩١٩م)، وديوان «أشعار عن الإرهاب» (برلين، ١٩٢٣م).
وفي العشرينيات أُعيد افتتاح بيته في كوكتيبيل ليستقبل الأدباء والفنانين، متلقيًا بعض الرعاية والدعم من أ. ف. لوناتشارسكي، الذي كان يشغل آنذاك منصب قوميسار الشعب للتعليم، ولم يمنع ذلك أن تنشر مجلة «نا بوستو» (في نوبة الحراسة) في الوقت نفسه في عام ١٩٢٣م مقالًا شديد اللهجة تحت عنوان «مناهضة الثورة في أشعار ميخائيل فولوشين». وفي مطلع العشرينيات كتب فولوشين سلسلةً من القصائد الفلسفية: «على طريق قابيل» (١٩٢١–١٩٢٣م)، ثم أتبعها بقصيدتَي «روسيا» و«أفاكوم كبير القساوسة» وغيرها، كذلك كتب قصيدة «بيت الشاعر»، وهكذا ظل فولوشين يعمل بهمة ودأب بوصفه فنانًا، كما راح يشارك في العديد من المعارض التي أُقيمت في فيودوسيا وأوديسا وخاركوف وموسكو وليننجراد. وفي السنوات الأخيرة من حياته ظل يعاني من ضيق ذات اليد، وقد أوصى ببيته لمنظمات الكتَّاب، وبعد عدة عقود من وفاته تحوَّل ليُصبح بيت إبداع الصندوق الأدبي.
بعد وفاته في عام ١٩٣٢م، لم يُعَد طبع أعمال فولوشين لسنوات طويلة، ولم يُذكر اسمه في الصحافة السوفييتية. وفي الخارج صدرت بعض دواوينه ومنها ديوان «أشعار عن الإرهاب» (برلين، ١٩٢٣م) وغيره.
ماكسيميليان فولوشين هو كاتب روسي بارز، واسع الثقافة، يمتلك موهبةً كبيرة وحرفية رفيعة. تتحدَّث الشاعرة مارينا تسفيتايفا عن التفرُّد في شخصية فولوشين، بعد أن درست حياته كلها، بقولها: «هو فرنسي الثقافة، روسي الهُوية واللغة، ألماني الروح والدم.»
بدأت أعماله في الظهور في وطنه منذ الستينيات.
أعمال ماكسيميليان ألكسندروفيتش فولوشين
أشعار المقال الافتتاحي س. ناروفتشاتوف؛ إعداد النص والملاحظات: ل. يفستيجنييفا، ليننجراد، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل» (الكاتب السوفييتي)، ١٩٨٢م (مكتبة الشاعر، السلسلة الصغيرة).
ضفاف كوكتيبيل: شعر، رسوم، ألوان مائية، مقالات (إعداد النص، المقال الافتتاحي: ز. د. دافيدوف)؛ سيمفيروبل، دار نشر «تافريا»، ١٩٩٠م.
بيت الشاعر؛ وجوه الإبداع، ليننجراد، ١٩٨٨م.
أشعار (مدير اللجنة العلمية: ف. كوبتشنيكو، إعداد الصور التوضيحية: ن. كايديليف)، موسكو، دار نشر «كنيجا» («الكتاب»)، ١٩٨٩م (سلسلة من التراث الأدبي).
أعمال عن م. أ. فولوشين
كوبريانوف إ. مصير شاعر (شخصية وشعر ماكسميليان فولوشين)، كييف، دار نشر «ناءوك دومكا»، ١٩٧٨م؛ ذكريات عن فولوشين (الإعداد والتعليقات: ف. كوبتشنيكو، وز. دافيدوف؛ المقال الافتتاحي: ل. أوزيروف)، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٩٠م؛ كوبتشينكو ف. رحلات ماكسميليان فولوشين، مجلة بروستور، ١٩٩٢م، الأعداد ١، ٢، ٤.
(١-١٥) ألكسي ميخايلوفيتش ريميزوف
(٢٤ يونيو (٦ يوليو) ١٨٧٧م، موسكو – ٢٦ نوفمبر ١٩٥٧م، باريس).
وُلد أ. م. ريميزوف في عائلة من التجار، أنهى دراسته بالمعهد التجاري، لكنه الْتحق بعد ذلك بكلية الطبيعة والرياضيات بجامعة موسكو، مخالفًا بذلك تقاليد العائلة. كان ميَّالًا في شبابه للاتجاهات الثورية (قرأ جيرتسين وتشرنيشيفسكي، والأدبيات الماركسية). تم نفيه وهو في سن التاسعة عشرة إلى محافظة بنزينسكايا، ليكون تحت الرقابة العلنية للشرطة؛ وذلك لاشتراكه في المظاهرات الطلابية، وهناك سعى لتأسيس اتحاد عُمال لهذه المحافظة. تم اعتقاله مرةً أخرى في سجون ومعتقلات مدينتَي فولوجدا وأُوسط-سيسولسك، ليقضي فترةً صعبة من حياته بلغت حوالي ست سنوات. وعلى الرغم من أنه لم يصبح ثوريًّا، بل سرعان ما ابتعد عن الحركة الثورية، فإن انطباعاته عن الحياة الروسية، التي تولَّدت لديه بفضل تجرِبته في المعتقلات، وخاصةً في شمال روسيا، قد أصبحت مصدر إلهام له بوصفه فنانًا. في تلك الفترة استطاع أن يجمع مادةً فولكلورية وأن يزور الأديرة والقرى القديمة.
ارتبطت أعماله الأولى («بكاء عذراء قُبيل الزواج» ١٩٠٢م، «الظلام»، «أغنية خريفية» ١٩٠٢م أيضًا) باللغة الروسية الفطرية، وهو ما ميَّز في الواقع كل إبداعه اللاحق.
وبدءًا من عام ١٩٠٥م، استقرَّ في بطرسبورج ليعيش فيها ويصبح كاتبًا محترفًا. وبوصفه فنانًا فقد عانى ريميزوف في البداية من الازدواجية؛ إذ امتزج بداخله الواقعي التقليدي بالحداثي. وعلاوةً على ذلك فقد راح تدريجيًّا بعد ذلك يصنع لنفسه أسلوبًا أصيلًا ورؤية متميزة تختلف عن غيره من الكتَّاب. وقد بدأ إبداعه بكتابة القصص القصيرة، التي استلهم غالبها من سيرته الذاتية («في الأسر» وغيرها)، تحدَّث فيها عن الحياة في السجون. وفي الوقت نفسه جذبته حياة القاع في المدن، فكتب قصة «الأخوات الصليبيات» ١٩١٠م، وغيرها.
كان ريميزوف شديد الارتباط، باعتباره فنانًا، بفلسفة «العصر الفضي» وتوجُّهها الأخلاقي، مدركًا مصير الناس وسَير الأحداث، عاكسًا إياها بصورة دينية صوفية.
مع نهاية العقد الأول من القرن العشرين، ثم فيما تلاها من عقود، انطلق ريميزوف في طريقه الخاص، الذي قاده إلى علم الأساطير وإلى جماليات وأخلاقيات الفن الشعبي، هذا الفن الذي ترتبط به اللغة الروسية المجازية بكل ثرائها الذي لا حدود له. وفي كتابه «بوسولون» (١٩٠٧م) أعاد ريميزوف صياغة الطقوس وألعاب الفولكلور الروسية المرتبطة بأشهر العام في قالب قصصي. استطاع ريميزوف أن يرى، ليس فقط في اللغة الشفاهية التي يستدعي نطقها معاني عدةً لديه، بل رأى أيضًا في اللغة المكتوبة نوعًا خاصًّا من الرموز السحرية التي تكشف عن العالم القديم بكل ما فيه من غموض. وقد بذل جهدًا فائقًا في صياغة وتفسير «عمارة الأدب»، وكان هو نفسه خطاطًا رائعًا ورسامًا مميزًا، وقد لاقت أعماله تقديرًا رفيعًا بعد مرور سنوات عديدة من جانب بابلو بيكاسو.
يكشف ريميزوف في العديد من أعماله، وإلى نهاية عمره، عن عوالم الماضي وعن الروح الشعبية الروسية (على سبيل المثال: «ليمونار»، سيريتش: «المرج الروحاني» ١٩٠٧م؛ «دوكوكا والهزل» ١٩١٤م؛ «حكاية آل نيكولين» ١٩١٧م، وغيرها)، كما كتب عددًا من المسرحيات ذات الطابع الديني الشعبي منها: «طفولة شيطانية» ١٩١٧م، «مأساة يهودا» ١٩٠٨م.
ارتبطت حياة ريميزوف ارتباطًا وثيقًا بماضيه الحي، الذي تجسَّد في سلوكه بشكل مباشر، وفي لعبه الفطري، الذي تحوَّل إلى واقع. وقد أسَّس ريميزوف وترأَّس فرقة «القرد العظيم والقصر الرحيب»، وهي فرقة شبه هزلية، شبه جادة (وتُعرف اختصارًا باسم «القرعظقصيب». واختار لها عددًا من «الفرسان» (كان من بينهم: ف. شيشكوف، ي. زامياتين وغيره)).
إن بحوث ريميزوف النفسية تفسِّر موقفه الفني الوطني الراسخ إبَّان سنوات الحرب الروسية الألمانية. لقد تلقَّى ريميزوف هزيمة روسيا في هذه الحرب وما يتبعها من أحداث ثورة ١٩١٧م، بدءًا من فبراير وانهيار الملكية، بإحساس شديد بالتشاؤم. وقد كتب في هذا الصدد كتابه «كلمة عن نهاية الأرض الروسية» (١٩١٨م) وعددًا من الأعمال الأخرى. وسرعان ما غادر الاتحاد السوفييتي ليتجه في البداية إلى برلين، ثم ليستقر بعد ذلك منذ عام ١٩٢٣م، وحتى نهاية حياته في باريس.
مثَّلت هذه العقود في حياة ريميزوف الروحية زمنًا لتعميق تصوُّراته السابقة، وشيئًا فشيئًا بدأ في رؤية الحياة من خلال فكرة «ثنائية العالم»، الذي أصبحت الأحلام وتفسيرها هي المفتاح إلى إدراك الواقع الحقيقي. وينطبق ذلك على الكثير من كتبه، حيث يعتمد الكاتب على الأحداث التي عايشها بنفسه وعلى تاريخ القرن العشرين («روسيا في مهب الإعصار» ١٩٢٧م، «نار الأشياء، الأحلام وما قبلها» ١٩٥٤م، وأعمال أخرى).
ومن الناحية السياسية فقد أخذ ريميزوف في سنوات حياته في المهجر يشعر بالولاء الشديد تجاه وطنه الذي تركه. وفي عام ١٩٤٨م استعاد جنسيته السوفييتية.
إن تأثير ريميزوف وتجاربه الأدبية وشعوره المرهف باللغة على الأدب الروسي أمر لا يطاوله شك. وقد ظهر هذا التأثير على الكتَّاب الذين عُرفوا باسم «الكتَّاب السوفييت» (ل. ليونوف، أ. فيسيولي، ف. إيفانوف)، وكذلك على كتَّاب المهجر.
أعمال أ. م. ريميزوف
المختارات (الإعداد، المقال الافتتاحي والتعليقات: ف. تشالمايف)، موسكو، دار نشر «بروسفيشينيا» (التنوير)، ١٩٩٢م.
المختارات (الإعداد والتعليقات والمقال الختامي: دانيليفسكي)، ليننجراد، دار نشر «لينيزدات»، ١٩٩١م.
أعمال عن أ. م. ريميزوف
إيلين إ. أ. عن الظلمة والاستنارة … ميونيخ، ١٩٥٩م؛ كودريانسكايا ن. ف. ألكسي ريميزوف، باريس، ١٩٦٠م؛ ريزنيكوفا إ. ف. الذاكرة المشتعلة، بيركلي، ١٩٨٠م.
(١-١٦) ألكسندر ألكسندروفيتش بلوك
(١٦ (٢٨) نوفمبر ١٨٨٠م، بطرسبورج – ٧ أغسطس ١٩٢١م، في المدينة نفسها).
وُلد أ. أ. بلوك في واحدة من أكثر العائلات ثقافةً في روسيا. والده أ. ل. بلوك الفيلسوف والأستاذ في جامعة وارسو، وأمه أ. أ. بيكيتوفا المترجمة والكاتبة وابنة عالم النبات الشهير أ. أ. بيكيتوف، رئيس جامعة بطرسبورج، الذي تزوَّج من ل. د. مندلييفا، وكانت فنانةً موهوبة وابنة للعالم الشهير د. إ. مندلييف. كانت عائلة بيكيتوف، التي ترعرع فيها بلوك بعد رحيل والده عن الحياة، بؤرةً للاهتمامات الثقافية والأدبية والعلمية. وقد عاش الطفل محاطًا بمشاعر الحب والرعاية من جانب كل المحيطين به. وفي الوقت نفسه لم يزَل يعاني منذ طفولته على مدى حياته كلها مرارة «فقد الأب»، التي تركت أثرًا لا يُستهان به في نفسه، بل على مستقبله كله (وقد وجدت هذه المشاعر صدًى لها في أعماله وخاصةً في قصيدته «الجزاء»). لقد نضجت شخصية الشاعر في آتون الانفعالات الدينية وفي المكابدات الصوفية العميقة. وهكذا اعتنق في فترة مبكرة من حياته وبقوة تعاليم الفيلسوف الديني ف. س. سولوفيوف عن روح العالم وعن مبدأ الأنثوية الخالدة، التي سنعقد عليها الأمل في إنقاذ العالم من خلال انسجام الجمال والخير، اللذين يمثِّلان الينبوع الروحي لكل كائن حي. وقد جسَّد بلوك هذه العقيدة في ديوانه الأول المعروف باسم «أشعار عن السيرة الجميلة» (١٩٠٤م).
يرتبط التاريخ الشعري لألكسندر بلوك ارتباطًا وثيقًا بالأحداث المأساوية التي عاشتها روسيا في العقد الأول من القرن العشرين، وهو ما أضفى طابعًا عاطفيًّا على أشعار بلوك في «أعماله الكاملة» الشهيرة، التي صدرت في ثلاثة أجزاء: «أشعار عن السيرة الجميلة» (١٩١١م)، «سعادة بمحض الصدفة» (١٩١١م)، «ليلة كثيفة الثلوج» (١٩١٢م)، وقد أطلق عليها بلوك اسم «ثلاثية التجسُّد».
كانت أشعار ألكسندر بلوك تنبُّؤًا كاملًا «بالتعبيرات التي لم يسبق لها مثيل» وأشكال «التمرد الذي لا نظير له»، وقد عبَّر الشاعر فيها بطريقته وعلى نحو عميق عن الخوف من «الجحيم» الذي اجتاح روسيا، ومن حلول «حضارة» خالية من كل ما هو روحاني في عالم يضج بالحروب والثورات. وفي الوقت نفسه فقد كان هذا الشعر مُفعمًا بالأمل في تغيير الحياة بواسطة الطاقة العظيمة الناشئة عن الانفجار الكوني السلمي. تلك الطاقة التي أسماها الشاعر «موسيقى الثورة»، والتي رأى فيها ينبوع التجديد الدرامي الأكبر.
وقد تطوَّرت هذه الموضوعات أيضًا في أشعاره التي كتبها في العقد الثاني من القرن العشرين في قصيدة «القصاص». كان الطريق الذي قطعه ألكسندر بلوك كله طريقًا إلى الوطن، إلى روسيا، طريقًا لإدراكه انتماءه للشعب، للتحرُّك نحو «مصادر» القوة الأخلاقية للأمة، والتي تمثِّل الخلاص في زمن التغييرات والطفرات. وتمثِّل قصيدته الأخيرة «الاثني عشر»، والتي كتبها ألكسندر بلوك في مطلع عام ١٩١٨م، ذروة إبداعه الشعري، والتي تغلَّب أبطالها في البداية على تلك السلطة المميتة ﻟ «الجحيم» لينتصروا بعدها على تلك الظواهر الطبيعية الجامحة التي «ألهبت عيونهم بالغبار» لينطلقوا بعدها «على مسافة» خلف المسيح، في طريق الخلاص الطويل المليء بالمعاناة نحو البعث الروحي.
لقد عانى الشاعر في سنوات «الشيوعية العسكرية» اللاحقة أزمةَ الإحباط الحاد في «ثورة» حقيقية، وعن إحساسه بفقدان الحرية الداخلية في هذا «الهواء» الذي يتنفَّسه إبداعه. لقد قضى نحبه في سن الأربعين وهو في حالة من الإحباط النفسي الشديد. وقد دُفن الشاعر في البداية في جبَّانة سمولينسكي، ثم نُقل رفاته بعد الحرب إلى جسور الأدباء في جبَّانة فولكوف.
كان لشخصية ألكسندر بلوك ولبحوثه النفسية والعالم الفني الذي أبدعه أثر كبير على معاصريه. ولعله الشاعر الروسي الأعظم في القرن العشرين.
أعمال أ. أ. بلوك
صدرت أعمال ألكسندر بلوك مرات عديدةً بأعداد كبيرة.
أعمال عن أ. أ. بلوك
جرموف ب. ألكسندر بلوك، سابقوه ومعاصروه، موسكو، ليننجراد، ١٩٦٦م؛ مكسيموف د. شعر ونثر ألكسندر بلوك، ليننجراد، ١٩٧٣م.
أورلوف ف. حياة ألكسندر بلوك، ليننجراد، ١٩٧٨م.
(١-١٧) أندريه بيلي
(١٤ (٢٦) أكتوبر ١٨٨٠م، موسكو – ٨ يناير ١٩٣٤م، في المدينة نفسها).
الاسم الحقيقي لأندريه بيلي هو بوريس نيكولايفيتش بوجايف. ابن لأستاذ الرياضيات ن. ف. بوجايف بجامعة موسكو، وكان عالمًا جادًّا، غريب الأطوار. أمه موسيقية، يقول عنها الأديب بوريس زايتسيف في مذكراته: «كانت امرأةً رائعة ذات طموحات خاصة وإن تميَّزت بالاندفاع الشديد في بعض الأحيان، ومن ثم جاء أندريه بيلي نتاجًا لهذه التناقضات.»
تلقَّى الكاتب المرتقب تعليمًا جادًّا في قسم العلوم الطبيعية بكلية الطبيعة والرياضيات بجامعة موسكو (ولكنه لم يُكمل الدراسة بها). كان مولعًا بالأدب والفلسفة منذ أن كان طالبًا في الثانوية، شديد الاهتمام بالمشكلات الدينية. وقد ظل قائمًا على هذه الاهتمامات طوال حياته. دخل إلى عالم الأدب في مطلع العقد الأول من القرن العشرين ملتزمًا بالنزعة الرمزية بصحبة جيل «الرمزيين الشبان»، كان على علاقة وطيدة بآل سولوفيوف، كما أمضى سنوات طويلةً مليئة بالمعاناة إلى جانب ألكسندر بلوك.
قام أندريه بيلي بتقديم أفكار عديدة خاصة به في تفسير الرمزية. وكان ديوانه الأول «ذهب في اللازورد» (١٩٠٤م) مليئًا بأفكار المسيح الجديد والمجيء الثاني، وقد رأى بيلي أن مغزى الفن يكمن في كونه يفتح الطريق نحو إدراك الله وأنه نوع من معرفة الله عن طريق «الكشف» الصوفي أو التأمل أو كليهما (الثيوصوفية).
من بين كتَّاب «العصر الفضي» الروس يُعد أندريه بيلي واحدًا من أكثر هؤلاء الكتَّاب تنوعًا وتقلبًا فيما يتعلَّق باهتماماته وطموحاته، التي تجمَّعت كلها في نهاية الأمر في نقطة واحدة هي معرفة الفنان لذاته. ومن أجل ذلك كان عليه أن يخوض عبر كل أشكال الحياة، وأن يتعرَّف على ذاته في كل شيء ومن خلال كل شيء. وقد جذبت هذه العملية اللانهائية إليها كل ثراء التجربة الروحية الثقافية لتتجه بها نحو «أنا» الفنان، نحو كشفه الكامل لذاته. أما الدين والفلسفة والموسيقى والرياضيات والعلوم الاجتماعية فجميعها أشياء كانت شديدة الأهمية لأندريه بيلي لتحقيق أهدافه. وها هو يضع «السيمفونيات» (١٩٠١–١٩٠٨م) وفقًا للقواعد الموسيقية.
ومثله مثل غالبية معاصريه كان أندريه بيلي مصدومًا من جراء أحداث الثورة الروسية الأولى، وقد سجَّل في أعماله انطباعاته عن واقع الحياة. وقد أصبحت الموضوعات ذات الصبغة القومية، والتي تسعى إلى اكتشاف روسيا والتعبير عن المأساة التي مسَّت روحها في اللحظات التاريخية الفاصلة هي الموضوعات الرئيسية في كتابه «الرماد» (١٩٠٩م)، وفي روايته «الحمامة الفضية» (١٩٠٩م). وقد جاء ديوانه الثالث «الوعاء» (١٩٠٩م) انعكاسًا لاهتماماته الفلسفية ودراسته لخبرة الشعر الروسي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر.
وفي العقد الثاني من القرن العشرين أُولع أندريه بيلي بمذهب الأنتروبوصوفيا، ومن ثم فقد سافر إلى سويسرا، حيث تعرَّف على د. شتاينر، زعيم أتباع هذا المذهب، وشارك في بناء معبد يوانوف في مدينة دورناخ، وهو المعبد الرئيسي لهذا المذهب.
وفي السنوات اللاحقة استمرَّت بحوث أندريه بيلي الفنية والدينية الفلسفية، والتي اتسمت بالتوتُّر الدائم في كتاباته النثرية أيضًا (والتي استخدم في غالبها قواعد لغة الشعر)؛ يتضح ذلك في قصته الطويلة عن الطفولة «القط ليتايف» (١٩١٨م)، ومذكراته الضافية «على تخوم قرنين من الزمان»، «مطلع القرن»، «بين ثورتين» (١٩٣٠–١٩٣٤م)، ثم ثلاثية «موسكو» («الموسكوفي غريب الأطوار»، «موسكو في خطر»، «الأقنعة» (١٩٢٠–١٩٣٠م)).
ممَّا لا شك فيه أن العمل الأدبي الأكبر الذي أبدعه أندريه بيلي هو رواية «بطرسبورج» (ظهرت الطبعة الأولى عام ١٩١٢م، والثانية عام ١٩٢٧م)، وهي الرواية التي وضعت نموذجًا غامضًا قدريًّا ومأساويًّا لهذه المدينة، فضلًا عن أنها قدَّمت لوحةً قاتمة وضفيرة من التناقضات المنافية للطبيعة، وربطت بين الإرهاب «الثوري» والفضاء البيروقراطي لروسيا. هنا ينظر الكاتب فيري، ليس فقط ما هو غير عقلاني، وإنما أيضًا الأساس الاجتماعي لانهيار الحياة الروسية، المعاناة التي ملأت العديد من مؤلفاته بكل ما هو مبهج ومظلم ومأساوي.
استقبل أندريه بيلي، شأنه في ذلك شأن ألكسندر بلوك، ثورة ١٩١٧م على أمل أن تكون ميلادًا جديدًا وتطهيرًا لروسيا (قصيدة «المسيح يُبعث» ١٩١٨م). في تلك السنوات كان بيلي يعمل في كتابة ملحمة سيرته الذاتية «أنا» (رواية «الصيني المسيحي» (جريمة القط ليتايف) ١٩٢٠م). في الفترة من ١٩٢١م وحتى ١٩٢٣م عاش أندريه بيلي في الخارج، في برلين، شبه مهاجر.
وفي الفترة السوفييتية بذل أندريه بيلي جهدًا ملحوظًا حتى يدخل إلى الثقافة الجديدة، وأن يتقبَّل العقيدة السوفييتية بعد أن يجمع بين الأنتروبوصوفيا والمادية الجدلية (تعود أعماله في الدراسات الأدبية إلى تلك الفترة: «حرفة جوجول»، «الفارس البرونزي» (عن بوشكين)، «الإيقاع باعتباره جدلية» وغيرها من أعمال). لكن كل ذلك لم يؤدِّ به إلى أي نتائج إبداعية كبيرة، ومن ثم ظل وحيدًا غامضًا بين أقرانه من أدباء تلك الفترة.
يُعد أندريه بيلي في تاريخ الأدب الروسي باحثًا موهوبًا مندفعًا، وفنانًا كان بحثه عن طرقات جديدة أعز لديه من كل إنجازاته.
أعمال أندريه بيلي
الأعمال الكاملة في جزأين. الجزء الأول: الشعر، النثر (المقال الافتتاحي، وضع النص وإعداده: ف. بيسكونوف؛ التعليقات: س. بيسكونوفا، ف. بيسكوف). موسكو، دار نشر «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩٠م؛ الجزء الثاني: أشعار وقصائد (المقال الافتتاحي: ت. خملنيتسكايا؛ إعداد النص والملاحظات: ن. بانك ون. زخارينكو)، ليننجراد، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل» (الكاتب السوفييتي)، ١٩٦٦م؛ بطرسبورج، رواية، موسكو، دار نشر «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٧٨م؛ بطرسبورج، رواية في ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة، إصدار وإعداد: ل. ن. دزلجزبولوف. ليننجراد، دار نشر «ناءوكا» (العلم)، ١٩٨١م، (سلسلة الآثار الأدبية).
أعمال عن أندريه بيلي
أندريه بيلي: مشكلات الإبداع: مقالات، ذكريات، منشورات (إعداد النص: س. ليسنيفسكي، أ. ميخايلوف)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٨م، دولجوبولوف ل. أندريه بيلي وروايته «بطرسبورج». دار نشر «مونوجرافيا». ليننجراد، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٨م.
(١-١٨) ألكسي نيكولاي فيتش تولستوي
(٢٩ ديسمبر ١٨٨٢م / ١٠ يناير ١٨٨٣م، نيكولايف، محافظة سامارا – ٢٣ فبراير ١٩٤٥م، موسكو).
ينحدر ألكسي تولستوي من أصول نبيلة ضاربة في القدم. والده الأمير نيكولاي تولستوي، بينما تعود أصول أمه إلى تورجينيف. على أن مصير الكاتب المرتقب بدا بعيدًا تمامًا، لأسباب عديدة، عن تكرار مساره الطبقي. هجرت الأم الأمير تولستوي، الأب، قبل ولادة الابن، ليقوم على تربيته فيما بعدُ زوج الأم أ. أ. بوستر، وهو مالك أرض، مثقف، لا يمتلك حظًّا من المال. وقد تركت الأم ألكسندرا ليونتيفا، وكانت تمتلك موهبةً أدبية رفيعة، أثرًا كبيرًا على ابنها. قضى ألكسي تولستوي طفولته في منطقة ما وراء نهر الفولجا في قرية زوج أمه. لم يذهب للدراسة في الثانوية، وإنما الْتحق بأحد المعاهد الذي كان يؤهِّل تلاميذه للالتحاق بالتعليم الفني العالي. في عام ١٩١٠م، الْتحق بمعهد بطرسبورج الفني، وبعد أن قضى بالتعليم بضع سنوات (في البداية في بطرسبورج ثم في درزدن بعد ذلك وفي التخصُّص نفسه) ترك الدراسة دون أن يحصل على المؤهل الدراسي. انجذب في العامين ١٩٠٥-١٩٠٦م تارةً إلى الثورة، وتارةً أخرى إلى الحياة الاجتماعية الطلابية الهادرة، وتارةً ثالثة إلى الأدب. وقد ذهب في تلك الفترة إلى إيطاليا، فضلًا عن ألمانيا.
قدَّم ألكسي تولستوي، بعد أن أصبح كاتبًا مشهورًا، أول أعماله الشعرية: محاكاة «غنائية» (١٩٠٧م)، وكان يكتب الشعر تارةً تحت تأثير نكراسوف ونادسون، وتارةً تحت تأثير الشعراء الانحطاطيين المبكرين. ثم قدَّم ديوان «وراء الأزهار الزرقاء» (١٩١١م) تجلَّى فيه صوته الشعري الخاص بشكل أوضح وأكثر أصالة، مفعمًا بعَفْوية اللغة الشعبية المجازية، مستخدمًا الفولكلور دون تقليد، وإنما بشكل عضوي. وفي مسار هذا الولع ظهر كتابه النثري الأول تحت عنوان «أربعون حكاية» (١٩٠٩م)، وفي العام التالي أصدر «قصص وحكايات»، وفيه تناول أكثر الموضوعات قربًا منه بأسلوب السيرة الذاتية؛ انهيار وانحلال طبقة النبلاء في الريف. وقد اشتهر هذا المسلسل أكثر بعد ذلك باسم «ما وراء الفولجا». وقد ظهرت بعده تباعًا رواياته غير الطويلة «غريبو الأطوار» (١٩١١م)، و«الفتى الأعرج» (١٩١٢م). وفي هذه الأعمال عرض ألكسي تولستوي بطريقته ما ألَّف واحدةً من أهم صفحات دراما الحياة الروسية: خروج الطبقة العليا، طبقة النبلاء، من المشهد الاجتماعي والحكومي، ورفض هذه الطبقة المشاركة بدورها التاريخي النشيط. واقتفاءً لأثر إيفان بونين، الذي تناول هذه القضية في «تفاحات أنطون»، و«الوادي القفر» وغيرها من أعمال، راح ألكسي تولستوي يعالج هذا الموضوع ذاته في كثير من جوانبه، وإنما بطريقة مختلفة؛ فهو لم يكتفِ بأن يعرض الأمر من ناحية جوانبه المعيشية على نحو أكثر تفصيلًا، وإنما زاد عليه جانب السخرية، مقدِّمًا طبقة النبلاء بوصفها طبقةً تفتقر تمامًا إلى القوة، فضلًا عن كونها تعاني من الانحلال.
في أدب العقدين الأول والثاني من القرن العشرين أصبح ألكسي تولستوي خلَفًا موهوبًا للتقاليد الموروثة منذ منتصف القرن الأسبق؛ فقد عرض من دون رحمة وبنظرة عميقة ساخرة اختفاء طبقة بأكملها من خارطة المجتمع. كانت الفرصة الوحيدة لمشاركة «السابقين» في الحياة تتمثَّل في تكفيرهم عن ذنوبهم وإدراكهم لعدم جدوى وجودهم دون إنكار للذات. إجمالًا، فإن تولستوي تخلَّى في نثره المبكر عن طبقته، عارضًا بحيوية وبقدر من الانتقام عقم هذه الطبقة وافتقادها المهارة وضعفها وتناقضها مع مسيرة الحياة ومطالب العصر. تُرى هل كان الأمر على هذا النحو في حقيقة الأمر؟ وماذا عن ستولبين؟ فيتي؟ ميليوكوف؟ بريجفالسكي؟ كولتشاك؟ أغلب الظن أن الأمر لم يتوقَّف عند هذا الحد. ولكن لا يمكن ألَّا نأخذ شهادات ألكسي تولستوي الفنية على محمل الجد.
في نثره المبكر يكشف ألكسي تولستوي عن طبيعته الفنية والروحية الخاصة؛ فهو نفسه روسي «حتى النخاع»، حساس، سريع التأثر، قادر على الانسجام مع ما حوله، يشعر بالحياة بكل حدة، في حال ازدهارها أو تحلُّلها، يقبلها بعَفْويتها، وأكثر من مرة في انحدارها، لكنه يقف دائمًا حائرًا أمام دراميتها، غير مدرك للصراعات الروحية في داخلها.
واستنادًا إلى هذا النثر كتب ألكسي تولستوي مسرحياته (وقد جمعها تحت عنوان «كوميديا الحب»).
كان اندلاع الحرب العالمية الأولى لحظةً فارقة في تحول مصيره الأدبي؛ فقد أصبح مراسلًا عسكريًّا لصحيفة «روسكي فيدوموستي» (الوقائع الروسية)، الصحيفة الأكبر آنذاك. وعن هذه الفترة كتب تولستوي بعد مرور سنوات طويلة يقول: «لقد رأيت الحياة على حقيقتها وشاركت في أحداثها، بعد أن نزعت عن كاهلي هذا المعطف الأسود القاتم الذي يرتديه الرمزيون، وعندئذٍ رأيت الشعب الروسي.»
كان موقفه يتسم بالقومية والوطنية، على أنه كان ينظر في الوقت نفسه إلى حكم آل رومانوف المستبد باعتباره حكمًا ضعيفًا، الأمر الذي جعله يرحِّب بثورة ١٩١٧م بكثير من الحماس، ولكنه نفر منها بشدة بعد ذلك. وقد عاش ألكسي تولستوي عدة سنوات في المهجر، وهناك غيَّر من أفكاره تجاه مصير روسيا ما بعد الثورة بعد أن رأى أن البلاشفة يمثِّلون قوةً كبيرة أظهرت الوعي الإمبراطوري الجديد للدولة، ممَّا دعاه إلى العودة إلى الوطن «ليُسهم في إنقاذ سفينة الدولة الروسية التي تجتاحها العواصف» (هذا ما أعلنه في خطابه الشهير إلى الثوري الشعبي نيكولاي تشايكوفسكي في عام ١٩٢٢م). كتب ألكسي تولستوي، بعد أن قطع صلته بالمهجر، عددًا من الأعمال صوَّر فيها الروس في المنفى على نحو يظهرون فيه مفتقرين إلى الجاذبية («المهاجرون»، «يوم الجمعة الأسود»، والعديد من الأعمال الأخرى).
وفي المهجر كتب تولستوي واحدةً من أفضل رواياته: «طفولة نيكيتا»، وصف فيها الحياة في الريف بتعاطف شديد، لم يُظهره من قبل، وفي المهجر أيضًا بدأ في كتابة رواية «طريق الآلام»، صوَّر فيها حياة المثقفين الروس، بمن فيهم المثقفون النبلاء، إبَّان سنوات الكارثة بكل التعاطف والحب تجاههم. وقد أدخل الكاتب كثيرًا من التعديلات الجوهرية على هذه الموضوعات بعد عودته إلى روسيا السوفييتية لتتحوَّل هذه الرواية إلى ثلاثية ضخمة (أتم كتابتها في عام ١٩٤١م)، ويتلخَّص مغزى هذه الثلاثية في عرض حتمية ومنفعة القَبول التام للسلطة السوفييتية من جانب الإنتليجنسيا الروسية، التي تُعَد القوة الوحيدة، من وجهة نظر الكاتب، القادرة على قيادة البلاد وثقافتها نحو الازدهار. وتُعتبر رواية «الخبز» (١٩٣٧م) شاهدًا على الاعتراف بالتزييف الذي قام به ستالين لتاريخ الحرب الوطنية.
لكن أهم أعماله في الفترة السوفييتية هي ثلاثية «طريق الآلام» (١٩١٨–١٩٤١م) وروايته التاريخية «بطرس الأول» ((١٩٢٩–١٩٤٥م، والتي لم يستكمل كتابتها). وقد تناول تولستوي موضوع فترة حكم بطرس الأكبر قبل ذلك في قصة من قصصه القصيرة المبكرة هي «يوم بطرس» (١٩١٨م) وفي مسرحية «على عروسة التعذيب» (١٩٢٩م). وبوصفه أديبًا يكتب الرواية التاريخية فقد استخدم ألكسي تولستوي على نحو ملحوظ الأبحاث التي توصَّل إليها علم التاريخ السوفييتي حول شخصية بطرس الأكبر وعصره بعد أن طوَّرها لتُلائم مقتضيات العمل الروائي. وفي الوقت نفسه يكرِّس تولستوي كل قوته، باعتباره رسامًا بارزًا وفنانًا بارعًا في الوصف اللغوي ومبدعًا للبناء الروائي بما فيه من شخصيات متعدِّدة وتركيب معقد، في جذب كل الطبقات الموجودة في الحياة الروسية بكل تنوُّعها إلى بؤرة الأحداث.
كان ألكسي تولستوي أديبًا كلاسيكيًّا معترَفًا به في الأدب السوفييتي، وقد فاز بجائزة ستالين من الدرجة الأولى عدة مرات، كما أصبح أكاديميًّا (منذ عام ١٩٣٩م)، ونائبًا في مجلس السوفييت الأعلى (منذ عام ١٩٣٧م) وما إلى ذلك. وفي الوقت نفسه كانت سنوات ذروة عطائه في الكتابة، سنواتٍ مليئةً بالمتناقضات والغموض؛ فقد وافقت هذه السنوات فترة الحرب الوطنية العظمى. كان تولستوي في بداية هذه الحرب كاتبًا جادًّا، شديد الحماس، كتب عددًا من القصص القصيرة المفعمة بالتفاؤل بعنوان «حكايات إيفان سوداريف»، ولكن النصف الثاني من الحرب أحدث في نفسيته شرخًا بالغًا. لقد تسنَّى له أن يكون عضوًا في لجنة البحث في المجازر الوحشية التي ارتكبها المُحتل الألماني الفاشي، وكان عليه أن يقوم بصفة شخصية بالتقصي عن الحقائق الخاصة بالقتل الجماعي، وأن يحضر بنفسه عمليات الإعدام وما إلى ذلك. لقد كشفت له الحرب عن بشاعة الصدام بين آليتين لدولتين شموليتين، ولم يكن من الممكن ألَّا يترك ذلك أثره على قلمه، وعلى المشاهد التاريخية التي سجَّلها هذا القلم بالدرجة الأولى. هنا رأى الكاتب بطرس الأكبر ولكن بعيون أخرى، فأحجم عن إنهاء روايته التي كانت تتحدَّث عن مآثره. وكذلك ظلَّت فكرته عن كتابة سلسلة من المسرحيات عن مستبدٍّ آخر هو إيفان الرهيب غير مكتملة، على الرغم من أن المسرحية الأولى في هذه السلسلة كانت تلقى تأييدًا كبيرًا لمنحها جائزة ستالين. لقد انتهى مصير هذا الفنان البارز إلى الانكسار نتيجةً للقهر السياسي والأيديولوجي، الذي لم يكن بمقدوره دائمًا أن يصمد أمام جبروته.
أعمال أ. ن. تولستوي
الأعمال الكاملة في خمسة عشر جزءًا، موسكو، دار نشكر «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٤٦–١٩٥٣م.
الأعمال الكاملة في عشرة أجزاء، موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٥٨–١٩٦١م.
الأعمال الكاملة في ثمانية أجزاء، موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٧٢م وطبعات أخرى.
أعمال عن أ. ن. تولستوي
شيربينا ف. أ، أ. ن. تولستوي، مسيرة الإبداع، موسكو، ١٩٥٦م؛ كريستينسكي ي. أ، أ. ن. تولستوي، حياته وإبداعه: بحث قصير، موسكو، ١٩٦٠م؛ سكوبيليف ف. ب. البحث عن الانسجام، التطور الفني عند أ. ن. تولستوي، ١٩٠٧–١٩٢٢م، مدينة كويبشيف، ١٩٨٢م.
أ. ن. تولستوي، سلسلة مواد وأبحاث (رئيس التحرير المسئول أ. م. كريوكوف)، موسكو، ١٩٨٥م.
(١-١٩) يفجيني إيفانوفيتش زامياتين
(٢٠ يناير/١ فبراير ١٨٨٤م، مدينة ليبيديان بمحافظة تامبوفسكايا – ١٠ مارس ١٩٣٧م، باريس).
ينحدر يفجيني زامياتين من أصول نبيلة، وإن لم تمتلك عائلته ثروةً كبيرة أو شهرة ذائعة؛ الأم عازفة بيانو، والأب قس. ظلت علاقته بأبيه منذ الطفولة مرتبكةً إلى حد كبير، وهو ما حدث للعديد من مثقفي هذا الجيل. كانت مسيرة زامياتين إلى الإيمان وإلى الكنيسة وإلى الله مسيرةً بالغة الصعوبة والوعورة، وهو نفس ما حدث له مع أبيه أيضًا.
مرَّت سنوات طفولته في مدينة صغيرة يُظلها جو أبوي هادئ، في جو قروي طبيعي بطيء الإيقاع. وبمرور الوقت أصبح انهيار هذا الجو واحدًا من أسباب الصراعات الدرامية الرئيسية في أدبه.
في عام ١٩٠٢م، أنهى زامياتين المدرسة الثانوية في فورونيج، حاصلًا على ميدالية التخرج الذهبية، ليلتحق بعدها بمعهد بطرسبورج البوليتكنيكي بقسم «بناء السفن»، وقد أنهى دراسته به بامتياز أيضًا. وقد قام هذا المهندس البارز وصانع السفن بالتدريس لسنوات طويلة في المعهد البوليتكنيكي بوصفه أستاذًا مساعدًا. وفي الوقت نفسه فقد أُولع بالثورة التي نشبت في مطلع القرن، وانضمَّ بعض الوقت إلى البلاشفة، بل إنه مارس العمل السري أيضًا. أُلقي به في السجن، وعاش فترةً من الزمن باعتباره خارجًا على القانون (١٩٠٦–١٩١١م). اختبأ في ضواحي بطرسبورج، في بيت شتوي خالٍ، حيث كتب قصته «شئون ريفية» (١٩١١م)، ثم «ألاتير» و«وراء الشمس» (١٩١٣ و١٩١٤م)، حيث واصل فيها تناوله لموضوع موت الريف الروسي وانهيار الإنسان الروسي «ابن الطبيعة». تعرَّف زامياتين عن قرب على «أنصار الأرض»: أ. ريميزوف، م. بريشفين، ر. إيفانوف-رازومنيك. يتميَّز زامياتين بأنه أديب بليغ، فنان مرهف في مجال القص، مناصر ﻟ «الواقعية الجديدة» في الأدب.
سافر زامياتين إلى الخارج عدة مرات، سعى خلالها للتعرُّف الدقيق على الإنسان الأوروبي من خلال الأسلوب الذي يتبعه في حياته، مقارنًا بينه وبين أسلوب الحياة الشعبية الروسية الفطرية، مدافعًا عن الإنسان «الطبيعي» ضد الإنسان «الآلي»، الذي يعيش وفقًا ﻟ «نظام» صارم («سكان الجزر» ١٩١٧م، «صياد الناس» ١٩١٨م).
دفعت ثورة ١٩١٧م بزامياتين للبقاء في إنجلترا، حيث أشرف على بناء كاسحة جليد، وفي الخريف عاد إلى روسيا. وقد استقبل الثورة في البداية بمزيد من الأمل، لكنه عانى بعد ذلك مشاعر الإحباط العميق. كتب على أثر ذلك عددًا من المقالات تحمل طابع الهجاء والسخرية من البلاشفة (١٩١٧-١٩١٨م). وفي عام ١٩٢٠م أبدع روايته المناقضة للطوباوية واسمها «نحن».
شارك يفجيني زامياتين إبَّان سنوات «الحرب الشيوعية» وبصحبته بلوك وجوركي وتشوكوفسكي وعدد آخر من الأدباء في إنقاذ الثقافة الروسية. وهو واحد من الذين أسَّسوا بيت الفنون ومعلِّم جماعة «الإخوة سيرابيون».
وفي عام ١٩٢٩م، أصبح زامياتين هدفًا للنقد الأيديولوجي المدمر، حتى إنه فقد إمكانية العمل والنشر. وبعد وساطات طويلة مضنية قام بها جوركي، وافق النظام على التصريح له بمغادرة البلاد في نهاية عام ١٩٣١م. كانت السنوات الست الأخيرة من حياته، بصفة عامة، عقيمة (لم يستطع إكمال روايته الضعيفة «سوط الله» حول حياة أتيلا، كما أعد عددًا من السيناريوهات لأعمال كتبها أدباء آخرون، وهلم جرًّا). وتمثِّل الأعمال التي كتبها يفجيني زامياتين خلال الخمسة عشر عامًا الأولى من نشاطه الأدبي إحدى القمم الرفيعة في الأدب الروسي في القرن العشرين. وبعد نصف قرن من النسيان والمنع عادت أعماله لتُنشر من جديد في وطنه.
أعمال ي. إ. زامياتين
مختارات في جزأين، موسكو، ١٩٩٠م.
المؤلفات، موسكو، ١٩٨٨م (سلسلة التراث الأدبي).
نحن، روايات، قصص، قصص قصيرة، حكايات، موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن ي. إ. زامياتين
تشوداكوفا م. زنديق أم بحَّار على الصاري في كتاب زامياتين ي. المؤلفات، موسكو، ١٩٨٨م.
شيطانوف إ. «… لكن روسيا كانت وحدها …» في كتاب زامياتين ي. نحن، روايات، قصص، قصص قصيرة، موسكو، ١٩٨٩م.
ميخايلوف أ. أستاذ الأدب، في كتاب زامياتين ي. مختارات في جزأين، الجزء الأول، موسكو، ١٩٩٠م.
أكيموف ف. الإنسان والدولة الموحدة (العودة إلى يفجيني زامياتين)، في كتاب قراءة جديدة: مقالات في النقد الأدبي، ليننجراد، ١٩٨٩م.
(١-٢٠) نيكولاي ألكسيفيتش كليويف
(١٠ / ٢٢ أكتوبر ١٨٨٤م، قرية كوشتوجا، مركز فيتيجورسكي، محافظة أولينيتسك – تُوفي بين ٢٢–٢٥ أكتوبر ١٩٣٧م في سجن تومسك).
وُلد ن. أ. كليويف لعائلة من فلاحي أولينتسيك، تعود جذوره إلى أصول بعيدة شاركت في حركة الانشقاق الديني التي وقعت في القرن السابع عشر، وتمتلك عائلته ثقافةً ريفية عميقة. كان والده جنديًّا متقاعدًا، عمل «بائعًا في إحدى الحانات الحكومية»، أما والدته فكانت تغنِّي الأغاني الروسية الملحمية القديمة (وقد خلَّد كليويف ذكراها في واحد من أفضل دواوينه؛ «أغاني الكوخ») وقد تلقَّى الشاعر تعليمه في مدرسة تتبع إحدى الكنائس، ثم قضى عامين في أحد المعاهد بالمدينة، وكذلك في مدرسة بتروزافودسكي للتمريض. طاف بمعظم أنحاء الشمال الروسي لسنوات عديدة، كما زار عددًا من البلدان في الخارج (من المرجَّح أنه زار إيران والهند والصين). يُعَد ن. أ. كليويف شاعرًا ذا خبرة فريدة بالثقافة الشعبية الشفاهية، يمتلك إحساسًا مرهفًا تجاه الكلمات الأصيلة في اللغة، وهو فنان واسع الاطلاع على الثقافتين الأوروبية والعالمية، وصل إلى ما وصل إليه من استنارة وثقافة بالعمل الفكري والروحي الدءوب الهادف.
بدأ في كتابة الشعر في سن مبكرة، وقدُّمت دُور النشر في بطرسبورج أول أعماله في عامَي ١٩٠٤-١٩٠٥م. شارك في حركة الفلاحين في الثورة الروسية الأولى، وقد أُلقي القبض عليه آنذاك ليقضي ستة أشهر في السجن. دخل إلى الأوساط الأدبية منذ بداية العقد الأول من القرن العشرين؛ حيث تعرَّف على بلوك وكليتشكوف ويسينين، ثم بدأ في نشر العديد من الأعمال («رنين أشجار الصنوبر» ١٩١٢م، «حكايات الغابة» ١٩١٣م وغيرها). قاد مجموعةً من شعراء الريف عُرفوا باسم شعراء «الجمال». ظهرت حصيلة أشعاره التي نظَمها قبل الثورة في ديوان من جزأين باسم «كلمات للغناء» ١٩١٩م.
في عام ١٩٢٨م، ظهر ديوانه المسمى «الكوخ والأرض»، وهو الديوان الأخير له قبل وفاته.
وبدءًا من الثلاثينيات لم يكن كليويف ليظل على قيد الحياة لولا ما كان يتلقَّاه من الهبات والإحسان. وفي فبراير ١٩٣٤م، تم نفيه إلى قرية كولباشيفو في إقليم ناريمسكي، لينتقل منها في أكتوبر من العام نفسه إلى مدينة تومسك بعد مساعٍ طويلة. وهناك عاش كليويف في ظروف بالغة القسوة ثم ليُصاب بالشلل، على أن موهبته الشعرية لم يُصِبها التدهور ليواصل عمله الروحي، «كانت الموسيقى السماوية تأسر روحي أكثر فأكثر»، هذا ما كتبه كليويف في واحد من خطاباته التي كتبها في تلك الفترة.
في يونيو عام ١٩٣٧م، عاودت السلطات اعتقاله مرةً أخرى ليقضي في السجن أربعة أشهر بعد أن لُفِّقت له قضية «اتحاد إنقاذ روسيا»، وبناءً على الحكم الذي صدر بإدانته تم إعدامه رميًا بالرصاص في الفترة ما بين ٢٣ و٢٥ أكتوبر ١٩٣٧م. وهكذا انتهت حياة واحد من أكثر شعراء القرن العشرين أصالة، فنان للكلمة الروسية الساحرة، ولم تُنشر مؤلفاته لأكثر من نصف قرن.
أعمال ن. أ. كليويف
قصائد وأشعار، مدينة أرخانجلسك؛ كلمات للغناء، قصائد وأشعار، بتروزافودسك، ١٩٩٠م.
الأعوام الأخيرة من حياة نيكولاي كليويف: خطابات ووثائق: مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، ١٩٨٨م، العدد ٨.
أعمال عن ن. أ. كليويف
س. كونيايف، الحياة، محيط متعدِّد الأصوات … في كتاب كليويف ن. قصائد وأشعار، أرخانجلسك، ١٩٨٦م.
أزادوفسكي ك.، نيكولاي كليويف، مسيرة شاعر، ليننجراد، ١٩٩٠م.
(١-٢١) ألكسندر قنسطنطينوفيتش فورونسكي
(١٩ / ٣١ أغسطس ١٨٨٤م، قرية دوبرينكا بمحافظة تامبوف – ١٣ أغسطس ١٩٣٧م، في أحد السجون بمدينة موسكو).
إذن لماذا علينا أن نعود اليوم لنتعرَّف على فورونسكي؟
أعمال أ. ق. فورونسكي
مقالات مختارة عن الأدب، موسكو، ١٩٨٢م؛ فن رؤية العالم، موسكو، ١٩٨٧م.
مختارات أدبية، موسكو، ١٩٨٧؛ عين العاصمة، قصص، مدينة فودونيج، ١٩٩٠م.
أعمال عن أ. ق. فورونسكي
انظر المقالات الافتتاحية لكل من: أ. ديمينتيف، ج. بيلاياوف، أكيموف في الطبعات المشار إليها آنفًا.
(١-٢٢) فيليمير خليبنيكوف
(٢٨ أكتوبر/٩ نوفمبر ١٨٨٥م، في إحدى قبائل مالوديربيتوفسكي بمحافظة أستراخان – ٢٨ يونيو ١٩٢١م، في قرية سنتاليفو بمحافظة نوفجورودسكي، في عام ١٩٦٠م تم نقل رفات الشاعر إلى جبَّانة نوفوديفيتشي في موسكو).
وُلد فيليمير (فيكتور فلاديميروفيتش) خليبنيكوف، كما يتذكَّر هو نفسه، في معسكر لقبيلة من الرحل المنغوليين، الذين ينتمون إلى العقيدة البوذية. «… تجري في عروقي دماء أرمينية … ودماء زابوروجية أيضًا … وأنتمي إلى المكان الذي يلتقي فيه نهر الفولجا ببحر قزوين … وهو المكان الذي ظل لقرون طويلة يتحكم في مصير روسيا، تارةً لصالحها، وتارةً ضدها …» كان والده اختصاصيًّا في علم الطيور والغابات، وهو واحد من مؤسسي محمية أستراخان الطبيعية. غادر خليبنيكوف مسقط رأسه في السادسة من عمره، ليعش أولًا في فولين، ثم لينتقل منها إلى سيمبيرسك، وهناك الْتحق بالصف الثالث بالمدرسة الثانوية، لكنه أنهى الثانوية في كازان. وفي عام ١٩٠٣م، أصبح طالبًا في جامعة كازان (حيث درس بها الرياضيات)، وقد فُصل خليبنيكوف من الجامعة لمدة عام لاشتراكه في إحدى المظاهرات الطلابية، ثم استقرَّ بعدها في كلية العلوم الطبيعية. ولكن الدراسة بها لم تلبِّ حاجته كشاعر (كان يشعر بجاذبية شديدة إلى الشعر وهو لا يزال بعدُ طالبًا في الثانوية). وفي صيف عام ١٩٠٨م، تعرَّف في القرم على فياتشيسلاف إيفانوف، وفي خريف العام نفسه سافر إلى بطرسبورج، حيث راح يدرس تارةً في كلية الطبيعة والرياضيات، وتارةً أخرى في كلية الدراسات الشرقية، وأخرى في كلية التاريخ والآداب، وكلها تتبع جامعة بطرسبورج، وأخيرًا تم فصله نهائيًّا لعدم سداده مصروفات الجامعة. لكن العلوم الطبيعية لم تستهوِه على الإطلاق. كان مُولعًا بالأدب، فانضمَّ إلى زُمرة «برج» فياتشيسلاف إيفانوف (وهناك، بالمناسبة، خلعوا عليه اسم فيليمير على الطريقة السلافية الأسطورية)، وفي بطرسبورج تعرَّف على مجتمعها الأدبي وليبدأ فيها طريقه إلى النشر. لم يكن الرمزيون على أي حال، هم الأقرب إليه، وكان قد تعرَّف عليهم في «البرج»، وإنما «اليساريون»، الذين ظهرت من بينهم جماعة «جيليا» المستقبلية، وقد ضمَّه فاسيلي كامينسكي إليها. سرعان ما أصبح خليبنيكوف المنظِّر الأول للجماعة والمشارك النشيط في إصداراتها كافة، بدءًا من «فخ من أجل القضاة» (١٩١٠م)، وفي «صفعة لذوق المجتمع» (١٩١٢م). ويعود نصف ما كُتب من مطبوعات هذه الجماعة إلى قلمه. وقد بدأت كتبه في الظهور بعد ذلك كتابًا وراء الآخر سواء شعرًا أو نثرًا، سواءً بالاشتراك مع آخرين (منهم أ. كورتشينيج) أو بمفرده («المدرس والتلميذ») ١٩١٢م، «اللعب في جهنم» ١٩١٢م، «العالم من النهاية» ١٩١٢م، «الكلمة كما هي» ١٩١٣م، «مختارات شعرية» ١٩١٤م وغيرها.
تميَّز أسلوب حياة خليبنيكوف ومظهره بالجنوح نحو البوهيمية والتطرف على غرار ما كان سائدًا في الوسط الأدبي في تلك السنوات، كما كان شديد الميل للنُّخبوية، غير عملي في نظرية الحياة اليومية؛ فهو مغرق في التنظير لإعادة صياغة اللغة الشعرية، ولم يكن حريصًا على الإطلاق على الوجود في الأوساط الشعبية، والتواصل ولو مع عدد قليل من جمهور القراء العريض. كان خليبنيكوف يستخدم لغةً ذات طابع تجريبي، وكثيرًا ما كانت هذه اللغة تتسم بالطوباوية والغموض، مع مسحة علمية كانت تستنفد كل قوته ووسائله. وعندما بدا أنه موجود بقوة في قلب طموحات الأدب المستقبلي الطليعي، إذا به ينكبُّ على حياة قضاها وحيدًا في عزلة شديدة، شريدًا يجوب أنحاء روسيا.
لا يمكن تصوُّر الطليعة الروسية في مطلع القرن (العشرين) من دون فيليمير خليبنيكوف. لقد كان الفن بالنسبة له ولدائرة معارفه تجاوزًا للتقاليد الثقافية. كان الشعر عنده يعني تحرير الكلمة من الأفكار والمعاني التي اكتسبتها على مدى ألف عام في خدمة الثقافة. كان الإبداع الفني وفقه اللغة والأدب عند خليبنيكوف يتجهان ناحية «نزع القداسة» عن الكلمة والعودة إلى فطرية «الشعر الجزل»، وإزاحة هالة الذكرى الروحية عنه.
لقد أصبحت الكلمة «في حد ذاتها»، «كما هي»، «خارج الحياة اليومية المعتادة ومصالحها»، شيئًا، «علامة»، سبيكة من الزمن والمكان.
إن «الخيال» من وجهة نظر فيليمير خليبنيكوف والقريبين إليه ممن أسماهم بالمستقبليين، يكشف المعنى الحقيقي والطبيعي للكلمة، هذا المعنى المختفي وراء المعاني الشائعة والمُقحمة على الكلمة. أما العنصر الأدبي الوحيد الموجود في أعماق الحياة فيكتشفه الشاعر فقط في «أحلامه ما وراء البشرية»، ومن ثم فإنه يفتح أمام هذه الأحلام بابًا لتجسيد هذا العنصر في إبداعه. إن «الخيال» عند خليبنيكوف، على حد قول الشاعر أوسيب مندلشتام، ليس سوى مجرد أشكال انتقالية لم تنجح بعدُ في اكتساب قشرة المعنى الحقيقي الصحيح، وذلك بسبب كون اللغة لا تزال في طَور التكوين.
وقد قام خليبنيكوف بوضع توليفة ما، بحيث تُعبِّر الكلمة عن المعرفة الفلسفية والتاريخية والرياضية والعلوم الطبيعية، مستهدفًا بذلك تحرير الكلمة «الجاهزة» من ثقافة المعاني «الحقيقية الصحيحة» التي تُكبِّلها. وهو يعرِّف هذه التوليفة باعتبارها نوعًا يسميه «ما فوق القص» («خدش السماء» ١٩٢٠م، «زانجيزي» ١٩٢٢م وغيرها). هنا تقف نماذج روسيا وآسيا، الشرق والغرب، أقدار أوروبا ومصائر روسيا في الحاضر والمستقبل أمام خليبنيكوف بكل ما فيها من إشراقات («زمن قياس العالم» ١٩١٦م، «ألواح القدر» ١٩٢٢م وغيرها).
اتسم عمل خليبنيكوف بالفاعلية والنشاط، وخاصةً في تلك السنوات التي تميَّزت بالأحداث الكبرى — الحرب والثورة — وفي البيئة التي هوت فيها الثقافات استمد خليبنيكوف طاقته الإبداعية وشحذ قواه اللازمة لخلق رؤاه الطوباوية الهائلة.
كان خليبنيكوف يرى نفسه، باعتباره شاعرًا مبدعًا للكلمة، في قلب الأحداث العالمية، وفي البيان الجماعي الذي صدر إبَّان سنوات الحرب العالمية الأولى تحت عنوان «بوق المريخ»، والذي نشره خليبنيكوف (بالاشتراك مع كلٍّ من ن. آسييف وج. بيتنيكوف). وبناءً على «أوامره»، التي كان يوقِّعها باسم «فيليمير الأول ملك الزمان»، تم الإعلان في «بوق المريخ» عن تقسيم البشر كافةً إلى «مخترعين» و«مالكين»، إلى «نبلاء» و«مبدعين»، وقد أُضيف إلى الصنف الثاني منهم، بطبيعة الحال، الفنانون الطليعيون. وبعد الإطاحة بالنظام الملكي رأى خليبنيكوف أن من الضروري إنشاء جمعية عالمية للشعراء يمثِّلون الكرة الأرضية بأسرها، ويبلغ عددهم ٣١٧ شخصًا. ومنذ ذلك الحين راح يوقِّع بياناته وتصريحاته باسم «ممثل الكرة الأرضية».
عمل خليبنيكوف جنديًّا في أثناء الحرب الروسية الألمانية لفترة قصيرة، بعد أن بذل قصارى جهده لينأى بنفسه عن أعباء الخدمة العسكرية.
كانت الثورة تمثِّل لخليبنيكوف، ولغيره أيضًا من المستقبليين الآخرين، زمنًا لتحقيق آمالهم في انهيار «الثقافة» القديمة وإعادة صياغة العالم وفقًا للخطط التي اقترحوها لتوحيد البشرية جمعاء وتغيير الكون نفسه، تبعًا للقوانين التي استنُّوها. وافترض خليبنيكوف، أن من الممكن في المجتمع الجديد المنتظر «حساب كل جهد يُبذل بدقات القلب، والتي تُعد هي وحدة الحساب النقدي في المستقبل، بحيث يصبح الجميع متساوين في الثراء». وقد أكَّد خليبنيكوف على الأحداث الجارية وتقبَّلها باعتبارها الطريق إلى المستقبل المأمول، وعبَّر عن ذلك في أعماله التي كتبها في تلك الفترة («الليل قُبيل السوفييتات»، «ليلة في النافذة»، «الحاضر»، «تفتيش ليلى»، «لادومير» وغيرها).
قضى خليبنيكوف أعوامه الأخيرة كسابق عهده شريدًا لا مأوى له، ينتقل من مدينة إلى أخرى لا يعرف مستقرًّا له ولعائلته. عاش في موسكو وفي نيجني نوفجورود وأستراخان وخاركوف وباكو، وفي ربيع عام ١٩٢١م، ذهب مع إحدى وحدات الجيش الأحمر إلى بلاد فارس «لمساعدة الثوار الإيرانيين». وفي خريف العام نفسه سافر إلى جيليزنوفودسك وبيتيجورسك، وفي الشتاء ذهب ليعيش في موسكو، ثم عاد في ربيع عام ١٩٢٢م ليسافر إلى قرية سنتالوفو بمحافظة نوفجورود بدعوة من الفنان بيوتر ميتوريتش، وهناك قضى نحبه ودُفن (في البداية في قرية روشتا).
نُشرت أعماله جميعها تقريبًا ولكن في طبعات قليلة؛ إذ لم تتفهَّمها سوى دائرة محدودة من الخبراء والباحثين للمذهب الطليعي الروسي. وفي الآونة الأخيرة بدأت مؤلفاته وشخصيته تجتذبان إليهما اهتمامًا ما فتئ يتزايد يومًا وراء الآخر.
أعمال ف. خليبنيكوف
إبداعات (المحرر العام والمقال الافتتاحي: م. بولياكوف؛ إعداد النص والتعليقات: ف. جريجورييف وأ. بارنيس)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل» (الكاتب السوفييتي)، ١٩٨٦م.
مختارات (المقدمة، سيرة الحياة والإبداع والتعليقات: ف. سميرنوف)، موسكو، دار نشر «ديتسكايا ليتيراتورا» (أدب الأطفال)، ١٩٨٥م.
قصائد وأشعار. مسرحيات، أعمال نثرية (المقال الافتتاحي، إعداد النص والتعليقات: ف. دوجانوف)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكايا روسيا» (روسيا السوفييتية)، ١٩٨٦م.
أعمال عن ف. خليبنيكوف
ستيبانوف ن.، فيليمير خليبنيكوف، حياته وإبداعه، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٥م.
دوجانوف ر.، فيلمير خليبنيكوف، طبيعة الإبداع، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٩٠م.
(١-٢٣) نيكولاي ستيبانوفيتش جوميلوف
(٣ / ١٥ أبريل ١٨٨٦م، كرونشتادت – ٢٤ أغسطس ١٩٢١م، في ضواحي بتروجراد، في منطقة ليسي نوس).
وُلد ن. س. جوميلوف في عائلة الطبيب البحري ستيبان ياكوفليفيتش جوميلوف وزوجته أنَّا إيفانوفنا (لفوفا قبل الزواج)، وهي تنتمي إلى عائلة من صغار المُلاك من النبلاء. كان جد ن. س. جوميلوف لوالده شماسًا في قرية جيلوديفو بمحافظة ريازان، أما والده فقد أنهى السمينار الديني في ريازان، ولكنه خرج على تقاليد العائلة والْتحق بكلية الطب بجامعة موسكو.
قضى ن. س. جوميلوف طفولته المبكرة في مدينة تسارسكويه سيلو، وفي عام ١٩٨٣م الْتحق بالسنة التمهيدية بثانوية تسارسكويه سيلو، كان يدرس دونما حماس ملحوظ، ومن ثم كان يشعر بالوحدة وهو بين أترابه منذ طفولته. كان مولعًا بقراءة أدب المغامرات الذي كتبه أُدباء الغرب (ماين ريد، جول فيرن، جوستاف إيمار)، وكان يحلم بالسفر إلى البلاد «الطريفة» في الشرق وأفريقيا والصين وإسبانيا، كما كان مرهف الإحساس منذ سنوات عمره المبكرة.
في عام ١٩٠٠م، سافر إلى تفليس ليدرس في ثانوية تفليس الثانية، وهناك نشر أول أشعاره (قصيدة «هاربًا من المدن إلى الغابة») بمجلة «تفليسكايا ليستكا» في سبتمبر عام ١٩٠٣م.
وفي عام ١٩٠٣م، عاد جوميلوف إلى تسارسكوي سيلو ليواصل دراسته في ثانوية نيكولايفسكويه تسارسكويه سيلو، وكان مديرها آنذاك الشاعر إنيوكينتي فيودورفيتش أنينسكي. كان يوم الرابع والعشرين من ديسمبر هو اليوم الذي تعرَّف فيه جوميلوف على أنَّا جورينكو (أنَّا أخماتوفا فيما بعد (المترجم))، وكانت تدرس هي أيضًا بالثانوية. وبدءًا من ربيع عام ١٩٠٤م، بدأت لقاءاتهما على نحو دائم.
بدأ ن. س. جوميلوف قراءة الأدب الحديث بشغف بالغ في السنوات الأخيرة من الدراسة الثانوية، وعلى الأخص شعراء الحداثة الروسية: بالمونت، بريوسوف، بيلي؛ وراح يتابع باهتمام المجلات الأدبية وبخاصة مجلة «فيسي» (الميزان). وفي عام ١٩٠٥م، وكان لا يزال طالبًا بالثانوية، أصدر ديوان أشعاره الأول «طريق الفاتحين».
تقدَّم ن. س. جوميلوف ثلاث مرات لخطبة أنَّا جورينكو (في الأعوام ١٩٠٥م، ١٩٠٦م، ١٩١٠م). وفي الثالث والعشرين من أبريل ١٩١٠م تزوَّجا في إحدى الكنائس الريفية، وفي الشهر نفسه صدر ديوانه الثالث «اللؤلؤة». وفي خريف ١٩١٠م قام برحلة إلى أفريقيا (إلى الحبشة) ليعود منها في مارس ١٩١١م.
شهدت بدايات عام ١٩١٠م تأسيس «ورشة الشعراء»، واشتد أُوار الجدل بين الذُّرويين والتيارات الأخرى، تم إصدار مجلة «هايبربوليا» (المبالغة) ومجلات أخرى، وقد شارك فيها جميعها ن. س. جوميلوف بنشاط شديد بوصفه ناقدًا (خطابات عن الشعر الروسي). وقد سعى للدراسة في جامعة بطرسبورج، في البداية في كلية الحقوق، ثم في قسم الدراسات الرومانية بكلية التاريخ والآداب، ولكنه لم يُكمل الدراسة في أيٍّ منهما.
وفي ربيع عام ١٩١٣م، يقوم برحلة أخرى إلى أفريقيا، مكلَّفًا بمهمة من قِبل أكاديمية العلوم في شبه جزيرة الصومال بهدف استكمال مجموعة متحف الأنثروبولوجيا والأثنوجرافيا (المعروضات النادرة).
عندما اندلعت الحرب الروسية الألمانية تطوَّع ن. س. جوميلوف للاشتراك فيها، وقد اختار لنفسه سلاح الفرسان. وقضى عدة شهور على الجبهة مشاركًا في المعارك، وقد حاز على وسام جيورجي مرتين، وهناك ترقَّى إلى رتبة ملازم ثانٍ، ثم ليبدأ بعد ذلك في نشر «مذكرات فارس» (بدءًا من نهاية ١٩١٤م وطوال عام ١٩١٥م). خلال ذلك النشاط ظهرت شخصية ن. س. جوميلوف على نحو جلي (وعن هذه الشخصية كتب صديقه المقرَّب ج. إيفانوف قائلًا: «ظل طوال حياته مشغولًا بركوب المخاطر»).
مع نهاية الحرب سافر جوميلوف في بعثة استكشافية روسية إلى فرنسا، وهناك باغته وقوع الثورة. في مطلع عام ١٩١٨م، يعود إلى روسيا لينغمس كليةً من جديد في الحياة الأدبية. يقول الشاعر والناقد نيكولاي أوتسوب: «في الفترة من ١٩١٨م وحتى ١٩٢١م لم يكن هناك بين الشعراء الروس، على الأرجح، من يضاهي جوميلوف في حيويته وتنوُّع نشاطه الأدبي الذي لا يتوقف. لم يطغَ جوميلوف على أحد استنادًا إلى نفوذه وسمعته، وإنما فاق الجميع بحماسه» (ن. أوتسوب).
ن. س. جوميلوف هو واحد من مؤسسي دار الفنون، فيها قرأ محاضرات في «نظرية الشعر»، وكان يحلم بأن يجعل الشعر أحد العلوم الدقيقة، وبمبادرة منه تم إنشاء فرع بتروجراد لاتحاد كتَّاب عموم روسيا، وكذلك فرع اتحاد شعراء عموم روسيا، وقد ترأَّسه بعده ألكسندر بلوك في عام ١٩٢١م. في شتاء عام ١٩٢٠م ينتقل إلى دار الفنون، فرارًا من البرد القارس (وهو المكان الذي تم اعتقاله فيه ليلة الثالث من أغسطس ١٩٢١م).
في يونيو عام ١٩٢١م، كانت رحلته الأخيرة إلى الجنوب، إلى كلٍّ من سيفاستوبول وروستوف-نا-دانو. وفي سيفاستوبول صدر له كتاب «الخيمة» كرَّسه لرحلاته في أفريقيا. وفي تلك الفترة التي امتدت لبضعة شهور كتب ديوان أشعاره «عمود النار» (صدر بعد وفاته في عام ١٩٢١م)، وهو أفضل دواوينه، عبَّر فيه عن مكنوناته، موجِّهًا إلى الحياة نظرةً مفعمة بالتوتر والحِدة على نحو تراجيدي. وفي تلك الأثناء كان يضع ديوان أشعاره الجديد «الترحال عبر الأرض».
تم اعتقال ن. س. جوميلوف في مطلع أغسطس، وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه جرى إعدامه رميًا بالرصاص وكان عمره خمسةً وثلاثين عامًا. كانت التهمة الموجَّهة إليه هي ممارسة نشاط معادٍ للثورة والاشتراك في مؤامرة، على الرغم من أنه لم يكن هناك دليل حقيقي واحد لإصدار هذا الحكم، كما تدل على ذلك الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة كافة. وفي محضر التحقيق أجاب على سؤال حول ممتلكاته بقوله: «لا شيء.» وعن انتماءاته السياسية أجاب: «لا توجد.» كان هناك خطاب الْتماس بإطلاق سراحه بكفالة ولكنه لم يُسفر عن شيء.
أعمال ن. س. جوميلوف
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، تحرير: ج. ستروفي، وب. فيليبوف، موسكو، دار نشر «تيرا»، ١٩٩١م.
قصائد وأشعار (المقال الافتتاحي: أ. بافلوفسكي؛ دراسة بيوجرافية: ف. كاربوف)، ليننجراد، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٨م (مكتبة الشاعر، السلسلة الكبرى).
قصائد وأشعار (المقال الافتتاحي: ن. سكاتوف)، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك» (المعاصر)، ١٩٩٠م، (مكتبة «محبي الأدب الروسي»).
الأعمال المسرحية، ترجمات، مقالات (إعداد: د. زولوتنيسكي)، ليننجراد، دار نشر «إيسكوستفو» (الفن)، ١٩٩٠م (مكتبة المسرح الروسي).
أعمال عن ن. س. جوميلوف
حياة نيكولاي جوميلوف (مذاكرات معاصريه)، إعداد: ي. زوبكين، ف. بترانوفسكي، أ. ستانيوكوفيتش، ليننجراد، دار نشر الصندوق العالمي لتاريخ العلوم، ١٩٩١م.
لوكنيتسكايا ف. نيكولاي جوميلوف، حياة الشاعر استنادًا إلى مواد الأرشيف الشخصي لعائلة لوكنيتسكي (تقديم: د. ليخاتشوف، ف. لوكنيتسكايا)، ليننجراد، دار نشر لينيزدات، ١٩٩٠م، ودُور نشر أخرى.
(١-٢٤) فلاديسلاف فيليتسيانوفيتش خوداسيفيتش
(١٦ / ٢٨ مايو ١٨٨٦م، موسكو – ١٤ يونيو ١٩٣٩م، باريس).
وُلد ف. ف. خوداسيفيتش في أسرة رسام بولندي، تنحدر أمه من أصول كاثوليكية يهودية، كانت مُرضعته فلاحةً من تولا تُدعى يلينا كوزينا، ظل ف. ف. خوداسيفيتش يحمل لها مشاعر الحب طوال حياته. عشق فن الباليه منذ أن كان طالبًا بالثانوية، ثم أُولع بالشعر بعد ذلك ولعًا شديدًا («الشعر إلى الأبد»، على هذا النحو تحدَّث عن علاقته بالشعر في عام ١٩٠٣م).
في عام ١٩٠٤م، أنهى المدرسة الثانوية والتحق بجامعة موسكو، في البداية بكلية الحقوق، ثم بكلية الآداب.
كان الاستقلال الداخلي والابتعاد عن التيارات والمدارس السائدة، ثم الميل إلى الأسلوب «الكلاسيكي» والنزعة الطبيعية، وكذلك الإصدار والإحساس المرهف والنقد الذاتي الصارم عند خوداسيفيتش، هو الذي حدَّد المظهر الشعري له.
عمل خوداسيفيتش إبَّان الثورة والحرب الأهلية في محل لبيع الكتب، ثم في الغرفة التجارية للكتاب. وفي الأعوام من ١٩٢٠م إلى ١٩٢٢م عاش في بتروجراد في دار الفن. وقد قام بترجمة العديد من الأشعار عن اللغتين البولندية والعبرية. وفي عام ١٩٢٢م، صدر له في برلين مختارات مترجمة «من أعمال الشعراء اليهود». وقد لاقى ديوانه الثالث «عن طريق النواة» (١٩٢٠م) نجاحًا كبيرًا، وضعه في عداد الشعراء الكبار المعاصرين. وفي العام الذي رحل فيه إلى المهجر (وكان مدرَجًا في قوائم النفي الإجباري لكنه أسرع بالرحيل)، صدر ديوانه الرابع «القيثارة الثقيلة» (١٩٢٢م).
وفي المهجر عاش ف. ف. خوداسيفيتش في برلين وبراج وإيطاليا وفرنسا. قام هو وجوركي الذي قدَّر موهبة خوداسيفيتش تقديرًا رفيعًا، معتبِرًا إياه أفضل شعراء «العصر الفضي»، على تحرير مجلة «بيسيدا» (الحوار) في الفترة من ١٩٢٣م إلى ١٩٢٥م، وقد عاش في ضيافة جوركي في سورينتو. وبدءًا من عام ١٩٢٥م يعود خوداسيفيتش ليعيش في باريس حتى نهاية حياته. وراح إنتاجه للشعر يقل يومًا بعد الآخر، وقد ضم ديوانه الأخير «مختارات من الشعر» (١٩٢٧م)، فضلًا عن أفضل أشعاره المشهورة، سلسلةً رائعة من القصائد بعنوان «ليلة أوروبية»، عرض خلالها موضوعات الشعور بالفزع من المدينة المجرَّدة من الملامح، من الإحساس بالوحدة في الغربة، من الحنين إلى الانسجام المفتقد مع العالم.
منذ نهاية العشرينيات راح خوداسيفيتش يعمل في الصحافة باعتباره ناقدًا أدبيًّا، يحظى بتأثير كبير في أوساط المهجر، وباعتباره كاتب ذكريات ومؤرخًا للأدب. كتب بحثًا أدبيًّا في قالب الرواية أسماه «سيرة حياة ديرجافين» (١٩٣١م)، وكتابًا «عن بوشكين» (١٩٣٧م)، ومذكرات بعنوان «مدينة الموتى» (١٩٣٩م).
أُعيدت طباعة كتبه ونشرها في وطنه بعد نصف قرن من وفاته.
أعمال ف. ف. خوداسيفيتش
أشعار، ليننجراد، ١٩٨٩م (مكتبة الشاعر)، مختارات من الشعر في كتاب المزار المقدس، أشعار المهجر الأول، إعداد: ف. كربيد، موسكو، ١٩٩١م.
حامل مهتز له ثلاثة قوائم، مختارات، موسكو، ١٩٩١م.
أعمال عن ف. ف. خوداسيفيتش
بيربيروفا ن. التشديد لنا، مجلة «قضايا الأدب»، ١٩٨٨م، الأعداد ٩–١١، مجلة «أكتوبر»، ١٩٨٨م، الأعداد ١٠–١٢.
بوجومولوف ن. حياة وأشعار فلاديسلاف خوداسيفيتش، في كتاب خوداسيفيتش ف. أشعار، ليننجراد، ١٩٨٩م (مكتبة الشاعر).
(١-٢٥) سيرجي أنطونوفيتش كليتشكوف
(١ / ١٣ يوليو ١٨٨٩م في قرية دوبروفكا، مركز كاليازينسكي، محافظة تفير-توفي (رميًا بالرصاص) في ٨ أكتوبر ١٩٣٧م في موسكو).
وُلد س. أ. كليتشكوف في عائلة فلاحين كثيرة الأبناء، وكان أبوه يدين بالأديان الغابرة. كان يكتسب رزقه من صناعة الأحذية الجلدية (كانت كنيته الريفية ليشينكوف). يحكي كليتشكوف عن ذكرياته قائلًا: «أنا مدين بلغتي لجدتي أفدوتيا وإلى أمي فيكلا ألكسيفنا فصيحة اللسان وإلى أبي، وكان حكيمًا زرب اللسان.»
أصدر ديوانه الأول «الأغاني» في الفترة من ١٩١٠م إلى ١٩١١م، والثاني «الحديقة السرية» في عام ١٩١٣م. منذ الأبيات الأولى يشعر القارئ أن س. أ. كليتشكوف هو شاعر الريف والقرية الروسية، أحد كبار فناني ما يُعرف باسم «الشعر الريفي الجديد» ومعه ن. كليويف، س. يسينين، وكانت تربطه علاقة صداقة وإبداع مع الفنانَين إيفان بيلبين وسيرجي كونيوكوف ونيكولاي ريوريخ. انشغل بمصير القرية الروسية وبطبيعتها، وكانت هذه القضايا، إلى جانب عالم الفلاحين، هي موضوع أشعاره وكتاباته الأدبية. ومن خلال هذا المزاج والمعاناة انعكست الأحداث الاجتماعية والشخصية الأخرى كافة.
ومن بين الحقائق الأخرى في حياته تجدر الإشارة إلى أنه كان مولعًا بالانتفاضة التي أثارتها الثورة الروسية الأول، ثم خدم في الجيش في أثناء الحرب الروسية الألمانية، التي رأى فيها مأساةً درامية حلَّت بالشعب والفلاحين. احتفى كليتشكوف في البداية بثورة ١٩١٧م، «كان يُلقي الخُطب في الاجتماعات الشعبية دفاعًا عن البلاشفة»، فضلًا عن أن علاقاته ازدادت توثُّقًا بيسينين، الذي كان يمر بالمشاعر نفسها. وفي ديوانه «ينابيع ماريا» وصف يسينين كليتشكوف بأنه «شاعر شعبي رائع بحق».
في عام ١٩١٨م، صدر له ديوانان؛ «خاتم لادا» و«دوبرافنا»، عبَّر فيهما كليتشكوف عن آماله في ازدهار القرية الروسية وأن يعمل الفلاح حرًّا، وقد صوَّر فيهما عالم الريف على نحو بالغ الجمال.
في عام ١٩١٩م، ذهب إلى القرم بصحبة زوجته المريضة، وكان القرم يحتشد آنذاك بجيوش من «البيض»، الذين كادوا أن يُطلقوا عليه الرصاص.
وتنعكس في دواوينه الشعرية التي أصدرها عام ١٩٢٣م («أغاني البيت» و«الضيف الرائع») أحاسيس أكبر بالخوف والفزع. وهي الأحاسيس نفسها التي نجدها لديه في رواياته: «السكر الألماني» (١٩٢٥م)، «حكاء من تشيرتوخين» (١٩٢٥م). كان المغزى وراء هذه الروايات هو هاجس الحفاظ على الطبيعة الروسية الوثيقة الصلة بالوطن. فكَّر س. أ. كليتشكوف في كتابة سلسلة من تسع روايات بعنوان «الشبح والموت»، وكان من المفترض أن يعرض خلالها مصير الفلاحين على امتداد الفترات التاريخية الرئيسية، منذ القِنانة وحتى الثورة، لكنه لم يتمكَّن من تحقيق سوى جزء يسير من فكرته في روايته الثالثة «أمير العالم» (١٩٢٨م).
منذ منتصف العشرينيات، عندما بدأ اضطهاد الشعراء الفلاحين، أصبح س. أ. كليتشكوف في عيون النقد الرسمي شاعرًا رجعيًّا «برجوازيًّا»، واحدًا من «الكولاك».
في عام ١٩٣٠م، صدر آخر دواوينه؛ «في ضيافة الغرانيق». وقد تم التعتيم على سلسلة أشعاره القوية، المأساوية، الشجاعة، التي كتبها في السنوات الأخيرة من عمره تحت اسم «لعنة الموت». وفي تلك السنوات راح يتصرف بحكمة ووقار، فتوقَّف عن المشاركة في حملة الكفاح ضد «أعداء الوطن»، وقد توطَّدت علاقته بأوسيب ماندلشتام وأنَّا أخماتوفا، وكان يساعد ن. كليويف في منفاه.
اضطُر كليتشكوف للعمل بالترجمة، وقد أحرز فيها، مع ذلك، نجاحًا ملحوظًا. وقد نشر عددًا من المقالات دافع فيها عن الفلاحين وعن النظرة الشعبية إلى العالم وعبَّر فيها عن رؤيته للفن، وهو ما أثار جدلًا حادًّا.
اعتقل كليتشكوف في صيف ١٩٣٧م، وسرعان ما جرى إعدامه رميًا بالرصاص، أما أعماله فلم تصبح متاحةً إلا بعد مرور نصف قرن من الزمان.
أعمال س. أ. كليتشكوف
في ضيافة الغرانيق، أشعار (الإعداد والمقال الافتتاحي: ن. يانيكوف)، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك»، ١٩٨٥م.
أشعار (الإعداد والمقال الافتتاحي والتعليقات: س. سوبوتين)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكايا روسيا»، ١٩٩١م (بويتيتشسكايا روسيا).
أعمال عن س. أ. كليتشكوف
فورونسكي أ. سيرجي كليتشكوف (ضباب بلون القمر)، في كتاب فودونسكي أ. رؤية الفن للعالم، «روسكايا ليتيراتورا»، ١٩٨٨م، العدد ٤.
موروزوف ف. القسمة، مائة عام على ميلاد س. أ. كليتشكوف، مجلة «موسكفا» (موسكو)، ١٩٨٩م، العدد ٨؛ المراسلات، المؤلفات، مواد خاصة بالسيرة، إعداد ونشر ن. كليتشكوفا؛ المقال الافتتاحي والتعليقات س. سوبوتين، مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، ١٩٨٩م، العدد ٩.
(١-٢٦) أنَّا أندرييفنا أخماتوفا
(٢٢مايو/١١ يونيو ١٨٨٩م، في بولشوي فونتان بالقرب من أوديسا – ٥ مارس ١٩٦٦م، في دوموديدوفا بالقرب من موسكو، دُفنت في قرية كوماروفو بالقرب من بطرسبورج).
وُلدت أ. أ. أخماتوفا (كُنيتها الحقيقية جورينكو) في عائلة مهندس ميكانيكا بحري تقاعد برتبة قبطان أول، تنتمي أمها إلى أصول نبيلة قديمة.
صدر أول دواوينها «المساء» في عام ١٩١٢م بمقدمة كتبها م. أ. كوزمين، والموضوع الرئيسي لهذا الديوان هو أحاسيس الحب القوي التي كشفت عن يقين وبنبرة مليئة بالحيوية الأحوالَ التي وهبها الزمن. وفي هذا الديوان يعبِّر بطل أنَّا أخماتوفا المفعم بالعواطف عن نفسه ببلاغة رفيعة.
أما ديوان «المسبحة» (١٩١٤م) فقد كان وراء نجاحها الأدبي والمكانة المتميزة التي شغلتها في عالم الشعر، وقد أُعيد نشر هذا الديوان ثماني مرات على مدى السنوات العشر التالية لظهوره. وقد استحسنت أنَّا أخماتوفا رأي الناقد ن. ف. نيد وبروفو في دواوينها الأولى («لقد كُشف عن سر حياتي»)، وكان الناقد قد كتب قائلًا: «إن الجرس الشعري ذاته عند أخماتوفا جرس ثابت، والأرجح أنه مفعم بالثقة بالنفس وبالطمأنينة ذاتها عند الاعتراف، سواء بالألم أو الضعف. إن هذا الجرس، في النهاية، هو وفرة من الألم الذي عايشَته على نحو شعري، كل شيء هنا يدل لا على التشكي من تفاهات الحياة، بقدر ما يكشف عن روح أقرب إلى القسوة منها إلى الضعف، أقرب إلى الغلظة منها إلى الميل إلى البكاء، إنها تكشف عن روح قاهرة لا مقهورة.» وقد اعتبرت أنَّا أخماتوفا أن هذا الرأي بمثابة «النبوءة».
وقد تجنَّبت أخماتوفا المبالغة والرومانسية المبتذلة، مبتعدةً عن الرمزية بكل ما تحويه من موسيقية وسُمو، وقد حرصت على دقة الوصف وتقدير المشاعر الصادقة، مسترشدةً بما في الأبيات من موسيقى داخلية. لكن انفعالاتها الشعرية وأحوالها، التي راحت تبثُّها في أشعارها العاطفية تجاوزت اليومي والمعتاد. لم تكن هذه الأشعار مجرد مذكرات «خاصة» لإنسان، وإنما هي بحث في الروح ودراسة لمصير الإنسان المعاصر. وقد استفادت في هذا الشأن من دروس الرمزيين وبخاصة ألكسندر بلوك.
كان «السرب الأبيض» (سبتمبر ١٩١٧م) هو ديوانها الثالث، وقد شهد هذا الديوان ابتعادها القاطع عن المعاناة الشخصية لتُظهر فيه دراما الحياة الاجتماعية؛ الحرب والثورة. وفي هذا الديوان استبصرت أنَّا أخماتوفا المحن القاسية القادمة. لم تستطع أن تتقبَّل الثورة، لكن ترك الوطن كان بالنسبة لها أمرًا مستحيلًا. وفي هذه السنوات العاصفة تحدَّدت وبشكل نهائي سماتها كشاعرة؛ امرأة لا تقبل بالحلول الوسطى، ولا تتراجع عن مبادئها الإبداعية. وفي عام ١٩٢١م، صدر لها على الفور ديوانان؛ «فاكهة البلانتين»، «العام الميلادي الحادي والعشرون»، لتصمت بعدهما لسنوات طويلة.
عانت أنَّا أخماتوفا شظف العيش ما يزيد على ثلاثة عقود، وفي هذه الفترة تعرَّض الكثيرون من القريبين منها إلى الاضطهاد والملاحقة، ومن بينهم ابنها د. ن. جوميلوف، وزوجها ن. ن. بونين.
كانت الفترة من منتصف العقد الثالث وحتى منتصف الأربعينيات ذروة ازدهارها الإبداعي. كان زمن كتابة «القداس الجنائزي» التراجيدي (١٩٣٥–١٩٤٠م)، «قصيدة بلا بطل» (١٩٤٠–١٩٦٥م)، ثم الشعر العاطفي الحماسي والمأساوي في سنوات الحرب والسنوات التي تلتها. وفي عام ١٩٤٠م، صدرت لها مختارات «من ستة دواوين» اضطُرت بعدها للصمت التام مرةً أخرى لمدة عشرين عامًا. وقد استقبلت أنَّا أخماتوفا دراما عام ١٩٤٦م بكل كبرياء، وتعاملت معها بعزة وإباء. أصدرت أنَّا أخماتوفا في سنوات عمرها الأخيرة ديوان «أشعار» (١٩٦١م)، و«هروب الزمن» (١٩٦٥م). وفي سنوات عمرها الأخيرة نالت أشعارها شهرةً عالمية، لتفوز في عام ١٩٦٤م بجائزة «إتنا-تاورمينا» (في إيطاليا)، وفي عام ١٩٦٥م تحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد.
الطبعات الأساسية لأعمال أ. أ. أخماتوفا
هروب الزمن: المساء، المسبحة، السرب الأبيض، فاكهة البلانتين، قصب السكر، الديوان السابع، ١٩٠٩–١٩٦٥م، موسكو، ليننجراد، ١٩٦٥م.
قصائد وأشعار، ليننجراد، ١٩٧٦م (مكتبة الشاعر)، المؤلفات في جزأين، الجزء الأول: قصائد وأشعار؛ الجزء الثاني: نثر وترجمات، موسكو، ١٩٩٠م.
أعمال عن أ. أ. أخماتوفا
أيخنباوم ب. أنَّا أخماتوفا، تجربة التحليل، في كتاب أيخنباوم ب. عن الشعر، ليننجراد، ١٩٥٩م.
جيرمونسكي ف. إبداع أنَّا أخماتوفا، ليننجراد، ١٩٧٣م.
بافلوفسكي أ. أنَّا أخماتوفا، حياتها وإبداعها، موسكو، ١٩٩١م؛ مذكرات حول أنَّا أخماتوفا، موسكو، ١٩٩١م.
(١-٢٧) بوريس ليونيدوفيتش باسترناك
(٢٩ يناير/١٠ فبراير ١٨٩٠م، موسكو – ٣٠ مايو ١٩٦٠م، بيريديلكنو بالقرب من موسكو).
كان والده، ليونيد أوسيبوفيتش باسترناك، أستاذًا أكاديميًّا في الرسم، وهو فنان روسي بارز من ناحية الثقافة والروح والاحتراف، أما والدته فهي عازفة بيانو. وكانت العائلة على صلة وثيقة بحلقتَي ليف تولستوي والموسيقار ألكسندر سكريابين، وتنتمي إلى النخبة الروسية المثقفة.
بعد أن أتم ب. ل. باسترناك ثانوية موسكو الخامسة، الْتحق في عام ١٩٠٩م بكلية الآداب والتاريخ بجامعة موسكو، وهناك درس الفلسفة بشكل جاد. وفي عام ١٩١٢م، ذهب إلى ألمانيا ليُمضي فصلًا دراسيًّا لدى الفيلسوف ج. كوجين، الذي اقترح عليه البقاء في قسم الفلسفة لأداء امتحانات الدكتوراه. قام برحلة إلى إيطاليا، زار خلالها فينيسيا وفلورنسا، ثم زار بعدها سويسرا. وفي عام ١٩١٣م، أنهى دراسته بالجامعة.
شغف بدراسة الموسيقى بشكل احترافي منذ طفولته. وفي هذا السياق كان أستاذه ومعبوده هو ألكسندر سكريابين. ولكنه في عام ١٩٠٩م، اختار الأدب والشعر.
ظل ب. ل. باسترناك منذ خطواته الأولى في الحياة وإلى الأبد فنانًا شديد التأثر، عميق الإحساس، تتغذى روحه على كل ما هو ثقافي، متخذًا الطريق الصعب المؤدي إلى الإبداع. في البداية درس جماليات النزعة الرمزية وفلسفتها، ثم انضم منذ عام ١٩١١م لفترة، لم تَطُل كثيرًا، إلى المستقبليين «تسنتريفوجا» («القوة الطاردة المركزية»). كان ديوانه الأول «توأم في الغيوم» (١٩١٤م)، تلاه «أعلى من الحواجز» (١٩١٧م). وانعكس حماسه بالأحداث الكبرى في الحياة والآمال العظيمة في تجديد جوهرها كله في واحد من أهم دواوينه المعروف باسم «شقيقتي الحياة» (١٩٢٢م)، وكذلك في منتخبه الشعري «موضوعات ومُنوَّعات» (١٩٢٣م)، وفي قصائده «العام الحادي والخمسين» (١٩٢٦)، و«الملازم شميدت» (١٩٢٧م).
لم ينقطع ب. ل. باسترناك مطلقًا عن كتابة النثر فكتب («قصص قصيرة» ١٩٢٥م، «صك الأمان» ١٩٣١م وغيرها). وقد تحمَّل بمشقة بالغة واقع الحياة في بداية الثلاثينيات معانيًا من ضغط النظام، الذي سعى لجذبه إلى جانبه. وقد قادته مقاومته كشاعر وصراعه من أجل أن يظل مستقلًّا إلى العزلة، وإلى استحالة الكتابة ونشر أعماله المبتكرة. وفي النصف الثاني من الثلاثينيات راح يترجم تراجيديات وليم شكسبير وقصائد شعراء جورجيا. وفي هذه الفترة بدأ في التفكير في عمل روائي ظهر فيما بعدُ تحت اسم «دكتور جيفاجو».
أعمال ب. ل. باسترناك
المختارات، في جزأين، موسكو، ١٩٨٥م.
أعمال مختارة، في خمسة أجزاءم موسكو، ١٩٩٠-١٩٩١م.
قصائد وأشعار، في جزأين، ليننجراد، ١٩٩٠م (مكتبة الشاعر).
مراسلات بوريس باسترناك، موسكو، ١٩٩٠م.
دكتور جيفاجو، رواية، قصص. موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن ب. ل. باسترناك
باسترناك ي. بوريس باسترناك، مواد للسيرة، موسكو، ١٩٨٩م؛ «دكتور جيفاجو» بوريس باسترناك، من وجهات نظر متعدِّدة، موسكو، ١٩٩٠م؛ ألفونسوق ف. أشعار بوريس باسترناك، ليننجراد، ١٩٩٠م.
(١-٢٨) أوسيب إيميليفيتش ماندلشتام
(٣ / ١٥ يناير ١٨٩١م، وارسو – ٢٧ ديسمبر ١٩٣٨م، في أحد المعسكرات الانتقالية بالقرب من مدينة فلاديفوستوك أو ديسمبر ١٩٣٨م في سيفوستوكلاج (محافظة ماجادانسك)).
وُلد أوسيب ماندلشتام في عائلة تاجر من الأثرياء وكانت أمه موسيقية. قضى طفولته بين بطرسبورج وبافلوفسك. في عام ١٩٠٧م أنهى دراسته في معهد تينيشيفسكي. في الفترة من ١٩٠٧م إلى ١٩٠٨م درس في السوربون في باريس، ثم في جامعة هايدلبرج في الفترة من ١٩٠٩م إلى ١٩١٠م، ثم في جامعة بطرسبورج منذ عام ١٩١١م، ولم يكمل الدراسة بها. عاش لفترات قصيرة في برلين وسويسرا وزار إيطاليا. كان مهتمًّا بدراسة اللغات الرومانسية وآدابها والثقافة الكلاسيكية لليونان وروما، وقد ظل طوال عمره شديد الاهتمام بالقيم الأساسية للثقافة الأوروبية.
وقد أُعجِب أ. إ. ماندلشتام لفترة من الزمن بأفكار الاشتراكيين الثوريين، ولكن كان بعيدًا، إجمالًا، عن كل ميول ذات صبغة سياسية (وإن لم يمنعه ذلك من كتابة هجائيته الشهيرة ضد النظام الستاليني في عام ١٩٣٣م).
ظل أ. إ. ماندلشتام منكبًّا دائمًا على التفكير في مصير الثقافة؛ كانت الشخصيات الخالدة تواصل مسيرتها الأبدية. وفي هذا السياق يقول ماندلشتام: «إن ترسيخ قيم الماضي الحقيقية وتبريرها، هو فعل ثوري أيضًا، مثله في ذلك مثل خلق قيم حقيقية جديدة.» وقد حرص على أن يقول كلمته، المشبعة بالثقافة ورهافة الحس وبالتوازن الشديد تجاه كل عصور الثقافة، وقد دافع عن الحق في الحفاظ على هذه الذاكرة. كان ماندلشتام يغوص بكلمته في مزيج مكثَّف من المعاني والرموز والأفكار الثقافية يتم إدراكها في سياق العصور الماضية. كما كان يدرك هو نفسه انفجار هذه العصور باعتباره مأساةً للنظام الإنساني والقومي، ينعكس في مأساوية مصيره الشخصي. ولعل كلمات ماندلشتام التي يقول فيها: «أود ألَّا أتحدَّث عن نفسي، وإنما أتتبَّع العصر، أن أُلاحق تطوُّر الزمن وضجيجه. إن ذاكرتي تخالف كل ما هو شخصي»؛ لعلها تعكس ما يميِّز أشعاره. وهذه الخاصية تربط بين أ. إ. ماندلشتام والتقاليد الكبرة للشعر العاطفي الفلسفي الروسي، وبأسماء بوشكين وباراتينسكي وتيوتشيف. لقد أثار انفجار العصور الثقافية لدى الشاعر الإحساس الشديد بالضياع المأساوي والتمرُّد، والسعي بكل حماس إلى لملمة الزمن المفكَّك. دائمًا ما كان أوسيب ماندلشتام في سلوكه الشعري راغبًا عن الرواج الجماهيري، وبسبب اعتزازه بكبريائه كان يتجنَّب الشهرة الطاغية، على الرغم من أنه كان على الدوام معترفًا به من جانب مشاهير الشعراء أجمعين.
وفي السنوات التي تلت الثورة عمل أ. إ. ماندلشتام في لجنة التعليم الشعبي، ثم انتقل للعيش في كييف، ثم في القرم، ثم في جورجيا، ليعود للعيش في عام ١٩٢٠م في موسكو. لم يهنأ على الإطلاق بالاستقرار، وإنما قضى حياته في الانتقال والتشرد في ظروف مادية بالغة الشدة. ومنذ منتصف العام ١٩٢٤م عاش في ليننجراد بشكل رئيسي، ليعود للحياة في موسكو مرةً أخرى في أواخر عام ١٩٢٨م.
صدرت أعماله القليلة في طبعات نادرة: كتَّاب السيرة الذاتية «ضجيج الزمن» (١٩٢٥م)، «طابع بريد مصري» (١٩٢٨م)، ديوان «أشعار» (١٩٢٨م)، إضافةً إلى عدد من المقالات في بعض الدوريات: «رحلة إلى أرمينيا» (١٩٣٣م) وغيرها. اختيرت أعماله الشعرية لتظهر في ديوان في خريف عام ١٩٣٣م، لكنها لم تُنشر. عمل مستشارًا في إحدى صُحف الشباب، وعلى الرغم من ابتعاده عن العمل بالسياسة فإن ماندلشتام كان واحدًا من القلائل، الذين كانت لهم تنبُّؤات شجاعة في أشعارهم، من خلال رؤيتهم غير المهادنة لشخصية ستالين (قصيدة «نعيش منكفئون على أنفسنا لا نشعر بوطننا …» ١٩٣٣م).
وقد أدَّت هذه الأشعار إلى اضطهاده. وفي مايو ١٩٣٤م تم نفيه إلى مدينة تشيردين في محافظة بريمورسك، ومنها تم نقله في العام التالي إلى فورونيج، حيث عاش تحت المراقبة حتى مايو. وبعد عودته إلى موسكو تم اعتقاله مرةً أخرى في مايو ١٩٣٨م بناءً على إحدى الوشايات. كتب ماندلشتام آخر قصائده في معسكر الاعتقال باسم «ليل بهيم، عنبر خانق، حشرات سمان».
كان أ. إ. ماندلشتام أحد أكثر الشخصيات مأساوية في الشعر العالمي.
أعمال أ. إ. ماندلشتام
أشعار، ليننجراد، ١٩٧٨م (مكتبة الشاعر)؛ الحَجَر، ليننجراد، ١٩٩١م (سلسلة الآثار الأدبية).
كلمة عن الثقافة: عن الشعر، حديث عن دانتي، مقالات، تعليقات، موسكو، ١٩٨٧م.
أعمال عن أ. إ. ماندلشتام
حياة أ. إ. ماندلشتام وإبداعه، ذكريات، مواد تمهيدية للسيرة، «أشعار جديدة»، تعليقات، بحوث، فورونيج، ١٩٩٠م.
جينزبورج ل. عن الشعر، الطبعة الثانية، مزيدة، ليننجراد، ١٩٧٤م.
بولياكوف م. النقد النثري عند أوسيب ماندلشتام، في كتاب ماندلشتام أ. كلمة عن الثقافة. موسكو، ١٩٨٧م.
ناديجدا ماندلشتام، ذكريات، موسكو، ١٩٨٩م، لنفس المؤلفة؛ الكتاب الثاني. موسكو، ١٩٩٠م.
(١-٢٩) ميخائيل أفاناسيفيتش بولجاكوف
(٣ / ١٥ مايو ١٨٩١م، كييف – ١٠ مارس ١٩٤٠م، موسكو).
وُلد م. أ. بولجاكوف في عائلة أ. إ. بولجاكوف، الدكتور في اللاهوت، الأستاذ بأكاديمية اللاهوت في كييف. كان والدا الكاتب أقارب من محافظة أرلوف ينتميان إلى الطائفة الروحية نفسها. كانت عائلة بولجاكوف تتميَّز بكثرة الأولاد وشدة الأُلفة فيما بينهم. تُوفي الوالد في سن مبكرة في عام ١٩٠٧م. وهكذا أصبح ميخائيل بولجاكوف الرجل الأكبر في العائلة، روح الأسرة. وكان البيت يعني الكثير بالنسبة للكاتب.
أنهى م. أ. بولجاكوف ثانوية كييف الأولى في عام ١٩٠٩م، ليلتحق بعدها بكلية الطب بجامعة كييف، وقد أنهى دراسته بها في عام ١٩١٦م، ليعمل طبيبًا في الأرياف بالقرب من سمولنسك وفي غيرها من الأماكن . حصل على تدريب طبي في مدينة كييف في عام ١٩١٩م، وهناك شاهد عن قرب الكثير من أحداث الحرب الأهلية. في الفترة من ١٩٢٠م إلى ١٩٢١م عاش في فلاديقفقاز، حيث بدأ نشاطه المسرحي والأدبي. رفض الهجرة وكانت الفرصة متاحةً أمامه لذلك.
سافر إلى موسكو في سبتمبر من عام ١٩٢١م، ليعمل في العديد من المجلات والصحف (بما فيها «ناكانوني»، و«جودوك» وغيرها). انخرط في الحياة الأدبية، فتعرَّف على ماياكوفسكي وألكسي تولستوي وإسحاق بابل وكاتاييف، كما تعرَّف على إيلف وبتروف وأوليشا وباوستوفسكي وآخرين.
كان ابداعه الأول، الذي جاء متأخرًا، حدثًا بالغ الأهمية في الحياة الأدبية؛ فقد أثار انهيار «الوطن» القومي التليد (الذي مثَّل لب روايته الأولى «الحرس الأبيض» ١٩٢٤م، والتي تحوَّلت بعد ذلك إلى عمل مسرحي بعنوان «أيام آل توربين» ١٩٢٤م) ذهول جماهير المواطنين، وأظهر تشتُّت «عش النمل» المتحاب فجأة، وتوالى ظهور الأقنعة الانتهازية لتحل محل الوجوه الإنسانية.
إن موضوعات فقدان الهُوية تكاد تكون موجودةً في أعمال بولجاكوف الهجائية كافة؛ «ملحمة الشيطان» ١٩٢٤م وغيرها، وكذلك في أعماله المسرحية المبكرة وما تلاها، إلى أن يصل إلى روايته الأخيرة «المعلم ومرجريتا». لقد بات تدخُّل العلماء كافة، والتجريبيين في العمليات الاجتماعية وفي مجال العلوم الطبيعية يتم وفق أهوائهم، وهو أمر أصبح يهدِّد الحياة ذاتها على نحو جاد («البيض المشئوم» ١٩٢٤م، «قلب كلب» ١٩٢٥م). وقد صادرت «السلطات المختصة» «قلب كلب» إلى جانب اليوميات في عام ١٩٢٥م، على أنهما نُشرا مع ذلك إبَّان حياة الكاتب. بينما لم يُسمح بعرض مسرحية «أيام آل توربين» إلا على خشبة المسرح الفني فقط، وقد صمدت هذه المسرحية في حياة بولجاكوف أمام ألف مسرحية أخرى تقريبًا. أما المسرحيات الأخرى («شقة زويكنا» ١٩٢٦م، «الجزيرة القرمزية» ١٩٢٦م، «الهروب» ١٩٢٨م، «كابالا سفياتوش» ١٩٢٩م، «آدم وحواء» ١٩٣١م، «السعادة» ١٩٣٤م، «إيفان فاسيليفيتش» ١٩٣٦م)، فهذه إما جرى سحبها من الريبيرتوار على الفور، وإما لم يُسمح بعرضها أساسًا. لم يبدأ م. أ. بولجاكوف في كتابة مسرحيته «الأيام» الأخيرة (بوشكين) ١٩٣٥م، سوى في الأيام الأخيرة من حياته، كما لم ترَ النور في حياته أيضًا رواياته؛ «حياة السيد دي موليير» ١٩٣٣م، «مذكرات ميت» (رواية مسرحية) ١٩٣٩م، و«المعلم ومرجريتا» ١٩٤٠م.
تستحق رواية بولجاكوف الأخيرة «المعلم ومرجريتا» الإشادة باعتبارها درة إبداعه. لقد خلق التأمل في مشكلة العصر: كيف يمكن للإنسان «الضائع» أن يجد السكينة الروحية في ظروف الكارثة القومية الكبرى، أو بالأحرى، الكارثة الفكرية؟ كيف بإمكانه أن يصمد أمام «الشيطنة» التي مسَّت جماهير الطبقة «الدنيا» من المجتمع، موضوعًا عميقًا مركبًا، بدأت فيه الحياة البشرية عهدًا جديدًا (قصة يسوع الناصري وبيلاط) يرتبط في الوقت نفسه بمصير الناس في القرن العشرين. وفي هذه الرواية، مثلها مثل معظم أعماله الأخرى، راح بولجاكوف يتعمَّق بدأب شديد في التفكير في النخبة الثقافية (العاملين في المسرح، الكتَّاب، العلماء)، معتبرًا أن هذه النخبة في معظمها ينبغي أن تكون مسئولةً عن «الاستقلال الروحي لروسيا».
وفي الفترة من ١٩٣٥م وحتى ١٩٣٩م أخذ بولجاكوف في كتابة مسرحية «باتوم»، وهي مسرحية عن ستالين. وقد فُرض الحظر على هذه المسرحية أيضًا. وكانت العلاقة بين الكاتب وستالين، والتي أصبحت واحدةً من الأحداث الدرامية في حياة بولجاكوف في الثلاثينيات، قد بدأت في عصر «الانعطافة الكبرى»، عندما أرسل بولجاكوف، الذي فقد إمكانية الكتابة والنشر وحظر نشر مسرحياته وعرضها، وبعد أن دمَّر الجزء الأكبر من مخطوطة «رواية عن الشيطان»، خطابًا إلى «حكومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية»، أعقبه بخطاب آخر إلى ستالين يطلب فيه منه إما منحه إمكانية الكتابة، أو السماح له بالسفر إلى الخارج، ولو لفترة محدودة. لكن هذا الطلب قوبل بالرفض، وهكذا ظل بولجاكوف يعمل في أثناء فترة الثلاثينيات مساعد مخرج في المسرح الفني، وكاتبًا للسيناريو في مسرح البولشوي، وهلم جرًّا.
سرعان ما طوى النسيان اسم بولجاكوف بعد وفاته في عام ١٩٤٠م لسنوات طويلة. وبعد ربع قرن من الزمن يأتي الميلاد الثاني له بعد نشر روايته «المعلم ومرجريتا» في عام ١٩٦٧م.
أعمال م. أ. بولجاكوف
الأعمال الكاملة في خمسة أجزاء، موسكو، ١٩٨٩-١٩٩٠م.
الخطابات، سيرة حياة بولجاكوف بالوثائق، موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن م. أ. بولجاكوف
تشوداكوفا م. سيرة حياة ميخائيل بولجاكوف، موسكو، ١٩٨٨م.
يانوفسكايا ل. إبداع ميخائيل بولجاكوف، موسكو، ١٩٨٣م؛ إبداع ميخائيل بولجاكوف، الكتاب الأول (مجموعة مقالات)، ليننجراد، ١٩٩١م.
بيلوزيرسكايا-بولجاكوفا ل. ي، ذكريات، موسكو، ١٩٩٠.
بولجاكوفا ي، يوميات يلينا بولجاكوفا، موسكو، ١٩٩٠م؛ ذكريات عن ميخائيل بولجاكوف، موسكو، ١٩٨٨م.
(١-٣٠) مارينا إيفانوفنا تسفيتايفا
(٢٦ سبتمبر/٨ أكتوبر ١٨٩٢م، موسكو – ٣١ أغسطس ١٩٤٠م، يلابوجا).
وُلدت م. إ. تسفيتايفا في عائلة إيفان تسفيتايف، أستاذ التاريخ، مؤسس ومدير متحف الفنون الجميلة في موسكو. كانت والدتها عازفة بيانو رائعة. قضت م. إ. تسفيتايفا طفولتها، حتى العاشرة من عمرها، في موسكو وعلى ضفاف نهر أوكا بالقرب من تادوس. كانت مشاعرها في هذه الفترة تميل إلى الإحساس بالوحدة والمعاناة من جرَّاء افتقادها الحب من جانب أمها، ثم بسبب حاجتها للثقة بالنفس. عاشت في مدارس داخلية في كلٍّ من لوزان (سويسرا) وفرايبورج (ألمانيا). في عام ١٩٠١م، قامت بشكل مستقل برحلة إلى باريس، حيث استمعت إلى عدد من المحاضرات في تاريخ الأدب الفرنسي بجامعة السوربون.
فقدت أمها وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ثم أباها في عام ١٩١٣م.
في موسكو تلقَّت تعليمها في ثانوية فون ديرفيز، وفي عام ١٩١٠م نشرت ديوانها الأول «ألبوم المساء»، وكانت لا تزال طالبةً في المدرسة الثانوية، وفي عام ١٩١٢م ظهر ديوانها الثاني «المصباح السحري»، ثم منتخب من أشعارها بعنوان «قصائد من ديوانين» (١٩١٣م).
منذ خطواتها الأولى في الأدب كانت قريبةً من ف. بريوسوف وم. فولوشين، وأخيرًا تعرَّفت على فلاديمير ماياكوفسكي. وسرعان ما احتلَّت م. إ. تسفيتايفا مكانةً بارزة بين الشاعرات المعاصرات (أ. أخماتوفا، تشيروبينا دي جابرياك (ي. ديمترييفا)، ي. كوزمينا-كارافايفا، ل. ستوليتسا، س. بارنوك، م. شاجينيان). وبالنسبة لتسفيتايفا فإن «الصوت الخاص» يعني، بالدرجة الأولى، العاطفة التي لا تنقطع والطاقة المتوهِّجة للكلمة، التي تنتشر بفضل القوة الداخلية، والتي تعبِّر عن وتؤكِّد الإرادة الإبداعية لدى الشاعر.
في السنوات الأولى للثورة عملت م. إ. تسفيتايفا من أجل أن تكسب قُوتها في العديد من المؤسسات السوفييتية. وقد رأت في الحرب الأهلية مأساةً قومية («قوام البجعة» ١٩١٧–١٩٢٠م). عملت على إصدار طبعتين من ديوان «الفراسخ»، كما بذلت جُل جهدها في الكتابة المسرحية. وقد بلغ عدد المسرحيات التي كتبتها تسفيتايفا ست مسرحيات من بينها «الحظ»، «المغامرة»، «نهاية كازانوفا»، «العاصمة الجليدية» وغيرها.
في مايو ١٩٢٢م، سافرت تسفيتايفا بصحبة ابنتها أريادنا، البالغة من العمر عشر سنين، إلى زوجها س. ي. إيفرون، الضابط الأسبق في الجيش الأبيض، والطالب في الوقت نفسه في جامعة باريس، وكان قد انفصل عن حركة البيض. أقامت تسفيتايفا في براج ثم في فرنسا بدءًا من عام ١٩٢٥م، هنا عانت من شدة الفقر. كتبت «قصيدة الجبل» و«قصيدة النهاية» (كلاهما في عام ١٩٢٤م)، «المصيدة» (١٩٢٦م)، ديوان «الحرفة» (١٩٢٣م)، وفي باريس أصدرت واحدًا من أفضل كتبها «ما بعد روسيا» (١٩٢٨م).
عانت من التشرذم في المهجر، بينما راح زوجها س. ي. إيفرون يعمل عميلًا سريًّا لصالح ج. ب. أُو (البوليس السياسي) الروسي. وفي يونيو ١٩٣٩م تعود م. إ. تسفيتايفا إلى موسكو «في أثر العائلة ولكي تعطي لابنها جيورجي (وُلد في ١٩٢٥م) وطنًا» (من «السيرة الذاتية» ١٩٤٠م).
وفي موسكو فقدت تسفيتايفا كل إمكانية للعيش والعمل، حيث تعرَّضت هي وزوجها وابنتهما أريادنا للاضطهاد، كما لم يعد لديها أي أمل في إصدار كتابها الأخير الذي أعدَّته بنفسها في عام ١٩٤٠م، العمل الأدبي الوحيد الذي أصبح متاحًا أمامها هو الترجمة الجبرية.
ومع اندلاع الحرب أصبحت تسفيتايفا تعيش ظروف التهجير والوحدة دون أي دعم أو موارد مالية تُعينها على الحياة، فضلًا عن معاناتها من الضغوط من جانب ن. ك. ف. د (قوميسارية الشعب للشئون الداخلية)؛ وعندئذٍ أنهت حياتها بالانتحار.
عادت مارينا تسفيتايفا إلى الأدب الروسي في وطنها، بعد انقطاع دام عدة عقود، لتبدأ أعمالها في الظهور بدءًا من فترة «ذوبان الجليد» (في عهد خروشوف (المترجم)) وحتى الآن.
أعمال م. إ. تسفيتايفا
الأعمال الكاملة في جزأين، موسكو، ١٩٨٤م.
الأعمال الكاملة في جزأين، الجزء الأول: الأشعار ١٩٠٨–١٩٤١م، القصائد، الأعمال المسرحية؛ الجزء الثاني: النثر، الخطابات، موسكو، ١٩٨٨م؛ أشعار وقصائد، ليننجراد، ١٩٩٠م (مكتبة الشاعر).
أعمال عن م. إ. تسفيتايفا
ساكيانتس أ. مارينا تسفيتايفا، صفحات من الحياة والإبداع (١٩١٠–١٩٢٢م)، موسكو، ١٩٨٦م.
إيفرون أ، عن مارينا تسفيتايفا، مذكرات الابنة، موسكو، ١٩٨٩م.
(١-٣١) فلاديمير فلاديميروفيتش ماياكوفسكي
(٧ / ١٩ يوليو ١٨٩٣م، قرية بغدادي، محافظة كوتايسك – ١٤ أبريل ١٩٣٠م، موسكو).
وُلد ف. ف. ماياكوفسكي في عائلة مدير منطقة غابات في زاوية نائية في إحدى محافظات جورجيا، تبعد كثيرًا عن الأراضي الروسية، وسط أناس يتحدَّثون لغات مختلفة (يقول ماياكوفسكي في سيرته الذاتية: «كان رفاقي من أبناء جورجيا، وكذلك كنت أنا نفسي»).
ينحدر ماياكوفسكي من أصول نبيلة عريقة؛ فمن بين أجداده من جهة أمه، على سبيل المثال، جريجوري بتروفيتش دانيليفسكي كاتب الروايات التاريخية. غير أن ف. ف. ماياكوفسكي «انفصل» عن جذوره سواءً الطبقية أو القومية في سن مبكرة وعن وعي تام. الْتحق للدراسة بثانوية كوتايسكايا في عام ١٩٠٢م. وفي عام ١٩٠٦م، بعد موت أبيه المفاجئ، انتقلت أسرته، بعد أن فقدت كل مورد للعيش، إلى موسكو. لقد مثَّلت التناقضات غير المعتادة للحياة في المدينة صدمةً كبرى لهذا المراهق المتحمِّس، الذي فقد لتوِّه أركان بيته، المغرم فوق هذا وذاك بالمُناخ الثوري العارم من حوله آنذاك؛ انخرط ماياكوفسكي في نشاط الحلقات السرية، وقام بتنفيذ المهام «الحزبية». مرةً وراء الأخرى يتوالى الحبس لمدد قصيرة في العامين ١٩٠٨ و١٩٠٩م. كان ماياكوفسكي مبهورًا بالحبس «الانفرادي» إلى حد أنه راح ينظم الشعر فيه، ومنذ عام ١٩٠٩م بدأ يخط سيرته الشعرية، على الرغم من أن أشعاره الأولى لم تُنشر إلا في عام ١٩١٢م. في عام ١٩١١م الْتحق بمعهد موسكو للرسم والنحت والعمارة. شارك في الصدامات التي جرت بين «الأكاديميين» و«اليساريين»، راح يتنفَّس بنهَم الهواء النقي المشبع بالتمرُّد والبوهيمية، وكان واحدًا من المبادرين لكتابة البيان المستقبلي «صفعة على وجه الذوق العام» (١٩١٢م).
تضمَّنت الأشعار الأولى لماياكوفسكي عناصر التمرُّد على القواعد الجمالية والعاطفية وتحطيم «العالم القديم»، «الثورية» العدمية، الإحساس بالوحدة والخوف، سخافة الحياة والضياع في زحام المدينة. فبعد انقضاء حياة الطفولة السعيدة في القوقاز، راح ماياكوفسكي يُدرك «المدينة الجهنمية» و«الشارع» البشع اللامبالي باعتبارهما القوة الساحقة لروح بطله العاطفي الجريح.
لقد بات الصدام مع هذه الحياة شرخًا نفسيًّا عميقًا بالنسبة لماياكوفسكي، كان يرى أنه لا يمكن التخلص منه إلا بانفجار ثوري مدمِّر. كانت أشعار ف. ف. ماياكوفسكي قبيل عام ١٩٠٧م، وسيلةً للدفاع الذاتي، وخلق غلاف يمكن أن يعيش بداخله الإنسان الجريح، المتعطِّش للحب غير المتبادل. لم يرَ الشاعر في إعادة تشكيل العالم على نحو راديكالي سوى في الخروج إلى العالم وفي الحب الصادق، في التجسيد الحقيقي للطوباوية الرومانسية. لعله لهذا السبب أعلن في أكتوبر قصيدته: «ثورتي». كان الأمل يحدوه في تجاوز العزلة في عالم تجري إعادة تشكيله، ومن أجل هذا كان متحمسًا لدفع «العالم القديم» إلى حافة الموت («نحن الذين سندفع حصان التاريخ!»). لقد تضمَّنت القصائد المذكورة كل عناصر التأليف عند ف. ف. ماياكوفسكي في أثناء سنوات الثورة لكن الثورة خذلته، وعندئذٍ راح يبحث بقوة جديدة عن ملجأ لروح البطل الجريحة. وإذا كانت هذه القصائد قبل ذلك هي محاولات «لإخفاء جرسه الخاص» في السلوك «الليِّن، الأنثوي» أو في «القميص الأصفر»، وكلها من نزوات النزعة المستقبلية، فإنه في منتصف العشرينيات كان يريد أن يختفي «داخل الإحساس العظيم الذي يسمَّى الطبقة».
إن التأكيد على «الأنا» خارج إحداثيات الثقافة الروسية والحياة اليومية والعائلة والقيم الشخصية، موجود في كل قصائده التي كتبها بعد الثورة («١٥٠٠٠٠٠٠٠» ١٩٢٠م، «أحب» ١٩٢٢م، «عن ذلك» ١٩٢٣م، «فلاديمير إيليتش لينين» ١٩٢٤م، «حسنًا» ١٩٢٧م)، لكن هذا الموضوع راح يتحوَّل شيئًا فشيئًا من الدفاع عن الروح والإخلاص في انتظار الحب والانسجام مع العوالم، إلى الاستسلام أمام فكرة «بناء المستقبل» المجهول، وإلى الجزء «الطبقي» الأساسي، المحمي من الانطباعات الجارحة للحياة بسبب انعدام الملامح ذاتها («الفرد؛ عبث! الفرد؛ صفر! صوت الفرد أدق من حبة الرمل …»)، هذا التطور المأساوي وصل إلى ذروته في قصيدة «بأعلى صوت»، حيث دفعت العزلة الروحية التي لا تطاق، وإن كانت غير ظاهرة، في سنوات «الانعطافة الكبرى»، دفعت بالشاعر لأن يتوجَّه إلى «الأجيال القادمة» برجاء أن «يتفهَّموا الأمر».
لقد استغل النظام الشمولي لصالحه حماسة الإنكار الذاتي في حياة ف. ف. ماياكوفسكي وبعد وفاته، وبعد أن تلاعب بصورته، قام بتحويل «الأغنية التي كانت على لسان بطله العاطفي»، إلى رُقية أيديولوجية، وإلى لافتة دعائية، ثم تحويله هو نفسه إلى «شاعر سوفييتي» أرثوذوكسي.
انتحر ف. ف. ماياكوفسكي في الرابع عشر من أبريل ١٩٣٠م.
أعمال ف. ف. ماياكوفسكي
أُعيد طبع أعمال ماياكوفسكي مرات عديدةً تزيد على الألف طبعة في الفترة السوفييتية وحدها باللغة الروسية. نوصي عند الاختيار بالطبعات الصادرة في السنوات الأخيرة؛ إذ إن الطبعات «القديمة» كثيرًا ما تعرضت للتزييف والتصحيح المتعسِّف والاختصارات وما إلى ذلك.
أعمال عن ف. ف. ماياكوفسكي
ألفونسوف ف. ن. الكلمة كضرورة للحياة، ليننجراد، ١٩٨٤م.
كارابتشيفسكي ي، بعث ماياكوفسكي، موسكو، ١٩٩٠م؛ ماياكوفسكي في ذكريات أقاربه وأصدقائه، موسكو، ١٩٦٨م.
(١-٣٢) إسحاق إيمانويلوفيتش بابل
(١ / ١٣ يوليو ١٨٩٤م، أوديسا – أُعدم رميًا بالرصاص في ٢٧ يناير ١٩٤٠م في موسكو).
إ. إ. بابل (اسم العائلة الحقيقي بوبل، كان يكتب أيضًا تحت الاسم المستعار باب-إيل). وُلد في عائلة تاجر يهودي في ضاحية مولدافانا بالقرب من أوديسا. تلقَّى تعليمًا دينيًّا أوليًّا في المنزل. درس الإنجيل والتلمود، وفي الوقت نفسه درس في معهد الإمبراطور نيكولاي الأول التجاري في أوديسا. أولع مبكرًا باللغة الفرنسية وآدابها (كتب إ. إ. بابل قصصه القصيرة الأولى بالفرنسية).
في عام ١٩١٥م، غادر بابل مسقط رأسه ليعيش أولًا في كييف، حيث درس فيها بالمعهد التجاري، ثم لينتقل منها بعد ذلك إلى بتروجراد، وهناك «راح يوزِّع أعماله على دُور النشر» (من سيرته الذاتية). نشر له مكسيم جوركي في مجلته «ليتوبيس» أول قصتين قصيرتين له (١٩١٦م).
وفي السنوات التالية عمل إ. إ. بابل مراسلًا صحفيًّا في مدينتي بتروجراد وتفليس، وجنديًّا على الجبهة الرومانية، وصحفيًّا في سلاح الفرسان الأول، خدم في لجنة الطوارئ (المعروفة ﺑ «تش كا»، البوليس السري (المترجم)) وفي القوميسارية الشعبية للتعليم (وزارة التعليم)، كما شارك في وحدات توزيع المنتجات الغذائية، وهلم جرًّا. ومنذ عام ١٩٢٤م، استقر في موسكو.
في العشرينيات والثلاثينيات سافر إ. إ. بابل عدة مرات إلى الخارج، وخاصةً إلى فرنسا، حيث قضى بها زمنًا طويلًا.
أثار ظهور إ. إ. بابل على الساحة الأدبية في مطلع العشرينيات ضجةً كبيرة، فقد تميَّز كتابه «سلاح الفرسان» برهافة غير مسبوقة بالنسبة لتلك الفترة، وبالوصف الصادق للأحداث الدامية للحرب الأهلية. كل ذلك من خلال أسلوب بليغ مدهش، ولغة رفيعة مفعمة بالحيوية. كما صوَّر بشكل قوي متميز لوحةً للصدام المأساوي الذي وقع إبَّان الثورة والحرب الأهلية التي دارت رحاها على ثلاث «ساحات» ثقافية، لم يكن من الممكن، في جوهر الأمر، أن تتماس فيما بينها: مصير اليهود، طموحات الإنتلجنسيا والشعب الروسي، و«سواده الأعظم» في فهم الحياة. كان لهذا الصدام أثره في خلق جو من المعاناة الروحية الكاملة والآمال، ورؤية الأخطاء المأساوية وسقوط الغشاوة، وذلك بفضل العالم الفني والأخلاقي الذي رسمه بابل في «سلاح الفرسان». وعلى الفور أثار ظهور هذا الكتاب جدلًا حادًّا تصادمت فيه وجهات نظر متباينة (وخاصةً بين س. م. بوديني، قائد سلاح الفرسان الأول، من جانب، وم. جوركي وأ. فورونسكي، من جانب آخر).
وفي «قصص من أوديسا» رسم إ. إ. بابل نموذجًا رومانسيًّا لضاحية مولدافانكا، الواقعة بالقرب من أوديسا، والتي أصبح بينيا كريك، رجل العصابات النبيل، روحها المحركة. في هذا الكتاب تم تصوير الحياة اليومية للصوص أوديسا وتجارها، حكمائها وحالميها، باعتبارها أمرًا طريفًا يتأهب للزوال، كل ذلك بلغة أدبية رائعة، وأسلوب ساخر حماسي.
كل من «سلاح الفرسان» و«قصص من أوديسا» (وقد جاءت مسرحية «الغروب» بعد ذلك صورةً مخففة لموضوعاتهما) اعتُبرا من الأحداث البارزة في الأدب في منتصف العشرينيات، وقد تركا أثرًا ملحوظًا على إبداع بعض الكتَّاب، وخاصةً إ. إيلف وي. بتروف …
وحتى إ. إ. بابل نفسه راح بعد هذا الصعود الإبداعي له في العشرينيات، يكتب أقل إلى حد الندرة. حتى حل النصف الثاني من الثلاثينيات ليركن إلى الصمت التام. لكن هذا الصمت لم يشفع له. في مايو ١٩٣٨م تم القبض على الكاتب، اختفت مخطوطاته، وجرى محو اسمه لمدة عشرين عامًا تقريبًا من عالم الأدب. وقد ثار الجدل مرةً أخرى حول إبداع ومصير إسحاق بابل بعد إعادة الاعتبار إليه ولا يزال مستمرًّا حتى اليوم.
أعمال إ. إ. بابل
الأعمال الكاملة في جزأين (جمع وإعداد النص أ. ن. بيروجكوف، المقال الافتتاحي ج. م. بيلايا، تعليق س. ن. بوفارتسوف)، موسكو، «خودوجيستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩١م.
مختارات، موسكو، «خودوجيستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٥٧م.
أعمال عن إ. إ. بابل
إ. بابل، ذكريات المعاصرين، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٢م؛ ف. ليفين. إ. بابل، مقال في الإبداع، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٢م؛ ذكريات عن بابل، إعداد: أ. ن. بيروجيكوف، ن. ن. بورجينيف، المقال الختامي: س. بوفارتسوف، موسكو، «كنيجنايا بالاطا»، ١٩٨٩م.
(١-٣٣) ميخائيل ميخايلوفيتش زوشينكو
(٢٩ يوليو/١٠ أغسطس ١٨٩٤م، بطرسبورج – ٢٢ يوليو ١٩٥٨م، ليننجراد، دُفن في سيستروريتسك).
بدأ م. م. زوشينكو نشاطه الأدبي بكتابة عدد من القصص القصيرة تتناول الحياة اليومية، وسرعان ما أصبح واحدًا من أشهر الكتَّاب وأكثرهم شعبيةً لدى جمهور القراء. حملت أول مجموعة قصصية له اسم «حكايات نازار إيليتش، السيد سنيبريوخف» (١٩٢٢م). ومنذ هذا التاريخ وحتى عام ١٩٤٦م، أصدر العديد من القصص القصيرة والطويلة والمسرحيات طُبعت فيما يقرب من مائة كتاب.
ولكنه في الحقيقة لم يُصدر على مدى العشر سنين التالية، من ١٩٤٦م وحتى ١٩٥٦م، أي كتاب (يعود السبب في ذلك إلى النقد «الحزبي» الذي وُجِّه لأعماله).
وتعد أكثر أعماله شهرةً (إلى جانب أفضل قصصه التي صدرت في العشرينيات): «الكتاب الأزرق» (١٩٣٥م)، «الشباب المستعاد» (١٩٢٣م)، «خطابات إلى الكاتب» (١٩٢٩م)، قصص للأطفال من سلسلة «ليليا ومينكا»، وكذلك كتابه «قُبيل شروق الشمس» (١٩٤٣م). وفي الفترة من ١٩٢٩م إلى ١٩٣٢م صدرت لزوشينكو «الأعمال الكاملة في ستة أجزاء». وقد بلغ عدد النسخ التي صدرت في العشرينيات والثلاثينيات عدة ملايين.
ما تفسير هذه الشعبية التي حظي بها زوشينكو؟
لقد وجد الفنان ضالَّته في موضوع الكارثة الثقافية، التي عاشتها الجماهير في سنوات ما بعد الثورة، عندما وجدت نفسها فجأةً في واقع شديد التغير. وفي سياق سعيه للتأقلم مع الحياة الجديدة، كان بطله يقع دائمًا في مواقف سخيفة؛ فكان لسلوكه تأثيرات كوميدية شديدة. لقد استطاع م. م. زوشينكو بدقة فائقة أن يخلق سمات لغويةً ونفسية للدراما الثقافية التي يعيشها أبطاله؛ ممَّا جعله فنانًا «سهل المنال» بالنسبة للقارئ العادي، فنانًا أصيلًا على نحو يصعب تكراره. ومع ذلك فقد كان قدره أن يظل في حالة مقاومة مستمرة للوسط المحيط به، وكان هذا الوسط يتطلَّب بدوره التكيُّف والمواءمة من جانب الكاتب نفسه (وهو السبب الذي جعله يتنازل أمام الضغوط التي تعرَّض لها، وذلك في روايته «الجزاء»، التي كتبها عن كيرينسكي، ثم في رواية «تاريخ حياة»، وهي عن التزييف الذي حدث في قناة بيلومور وما إلى ذلك). لكن الأمر الأساسي هو أن م. م. زوشينكو لم يتنازل عن تقديم الصورة الحقيقية للحياة، متجنبًا وضع أي «أصباغ» وهو يرسم صورًا للشعب السوفييتي. ومن ثم فإن شخصياته قد «ابتعدت» كثيرًا عن التطابق مع الخرافات الدعائية وفقًا للتوحيد القياسي الشمولي للمعايير والأخلاق. ولم يكن من الممكن لكل هذا إلا أن يجعل من الكاتب كاتبًا غير مقبول، سهل التعرُّض للتجريح والإساءة، وخاصةً في سنوات ما بعد الحرب. وفي عام ١٩٤٦م، تم طرده من الأدب بشكل فظ، وفي الواقع، من الحياة ذاتها. لم يبرأ الكاتب، حتى أيامه الأخيرة، من الجرح الذي أصابه في عام ١٩٤٦م، وكذلك من القرار الخاص بمجلتَي «زفيوزدا» و«ليننجراد»، الذي لم يتم إلغاؤه إلا بعد ثلاثين عامًا من وفاة زوشينكو.
أعمال م. م. زوشينكو
الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء، ١٩٨٦-١٩٨٧م.
خطابات إلى الكاتب، الشباب المستعاد، قبيل شروق الشمس، موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن م. م. زوشينكو
تشوداكوفا م. الإبداع الفني عند ميخائيل زوشينكو. م، ١٩٧٩م.
ستراخوف أز ميخائيل زوشينكو، مصير فنان، موسكو، ١٩٩٠م.
جرانين د، ظاهرة عابرة، في كتاب جرانين د، عن قضية ملحَّة، ليننجراد، ١٩٨٨م.
ميخائيل زوشينكو في مذاكرات معاصريه، ليننجراد، ١٩٨١م.
ذكرياتي عن ميخائيل زوشينكو، مجموعة مقالات، موسكو، ١٩٩٠م.
(١-٣٤) جيورجي فلاديميروفيتش إيفانوف
(٢٣ سبتمبر/١١ أكتوبر ١٨٩٤م، ضيعة ستودينكا بمحافظة أوفينسكايا – ٢٦ أغسطس ١٩٥٨م، مدينة إيير لو بالما، فرنسا).
ينحدر ج. ف. إيفانوف من عائلة عسكرية وعريقة، تلقَّى تعليمه في الفيلق الثاني للكاديت في بطرسبورج (حتى عام ١٩١٠م، لكنه لم يستكمل الدراسة به).
بدأ في نظم الشعر ونشره في سن مبكرة في عام ١٩١٠م. في البداية كان قريبًا من النزعة المستقبلية، وقع تحت تأثير إ. سيفيريانين، ثم أصبح واحدًا من المشاركين في «ورشة الشعراء»، حيث اجتاز بنجاح هذه المدرسة المتخصِّصة في حِرفة الشعر. كان أول ديوان له هو «الإبحار إلى جزيرة تسيتيرا» (يرتبط اسم الديوان بلوحة للرسام أ. فاتو وصدر في عام ١٩١٢م). ويتجلَّى في هذا الديوان تأثير الشاعر م. كوزمين. أما الدواوين التالية لإيفانوف فتظهر في ثناياها روح المدرسة الذُّروية، وهي «غرفة في بيت ريفي» (١٩١٤م)، «تمثال للمجد» (١٩١٥م)، «نبات الخلنج» (١٩١٦م). وقد تميَّزت دواوين ج. ف. إيفانوف منذ البداية بالحرفية الشعرية الرفيعة، وفي الوقت نفسه كان الجانب الإنساني فيها واضحًا دون أي غموض. كانت «متقنة»، على حد تعبير ألكسندر بلوك، تجد فيها الموهبة والفكر والذوق الرفيع، لكنها تفتقر إلى الدراما النفسية بما فيها من مشكلات حيوية. ولعل أفضل مجموعات ج. ف. إيفانوف الشعرية التي كتبها قبل الثورة كان ديوان «الحدائق» والذي صدر في عام ١٩٢١م، لكننا نلمح في هذا الديوان محاولة الشاعر القوية أن يردِّد نغمةً شعرية واحدة، مغلقًا قلبه عن كل كلمة تبتعد عن سياق التقاليد.
إن ج. ف. إيفانوف شاعر كبير أصيل اتخذ طريقه إلى المهجر بعد كارثة من كوارث الثورة، وهي جريمة قتل جوميلوف، وبعيدًا عن الوطن ظل يعاني مأساة الوحدة والعزلة، التي فجعته حتى آخر يوم في حياته، وكان ج. ف. إيفانوف قد أعدَّ للنشر قُبيل رحيله إلى المهجر كتاب جوميلوف: «أشعار ما بعد الموت» و«خطابات عن الشعر الروسي».
كان عام ١٩٢١م بداية سنوات المهجر في برلين بالنسبة لإيفانوف، لينتقل منها بعد ذلك إلى باريس، وقد استكمل في هذه السنوات أشعاره التي ظهرت في دواوينه الأولى، إنها أشعار واحد من أفضل شعراء المهجر، أشعار تراجيدية مغرقة في الأسى الكوني واليأس الوجودي، تكمن قوتها في البصيرة الروحية وفي تلك المأساوية التي تربط بينه وبين ليرمونتوف في استهانته المتكبرة، وبين بلوك في رؤيته «النزقة» المتعالية تجاه العالم. ربما يكون إيفانوف أكثر الشعراء الروس تشبُّعًا، بعد بلوك، بروح بطرسبورج. وقد أصدر في المهجر عددًا من الدواوين: «ورود» (١٩٣١م)، «الإبحار إلى جزيرة تسيتيرا» (١٩٣٧م)، ليكرِّر بذلك اسم أول دواوينه، أما ديوانا: «صورة لا مثيل لها» (١٩٥٠م)، و«أشعار ١٩٤٣–١٩٥٨م» فيعبِّران تمامًا عن صفات ج. ف. إيفانوف الشاعر. ويُعَد ج. ف. إيفانوف أديبًا شيقًا أيضًا وكاتب مذكرات متميزًا، تحوَّلت يومياته «فصول شتاء بطرسبورجية» (١٩٢٨م) إلى قصة، وكذلك كانت له روايات قوية كتبها في الثلاثينيات، وهي: «روما الثالثة» و«كتاب المملكة الأخيرة»، وله مقال بعنوان «انهيار الذرة».
عاش ج. ف. إيفانوف، كما عاش الكثير غيره من المهاجرين، في فاقة، ومات في بيت للمسنين.
أعمال ج. ف. إيفانوف
أشعار؛ روما الثالثة، فصول شتاء بطرسبورجية؛ ذكريات؛ ظلال صينية، صور أدبية، موسكو، ١٩٨٩م.
أشعار مختارة، في كتاب القوس، موسكو، ١٩٩١م.
كتاب المملكة الأخيرة، مجلة «أكتوبر»، ١٩٧٢م، العدد ٧.
أعمال عن ج. ف. إيفانوف
أودويفتسيفا إ، على ضفاف النيفا، موسكو، ١٩٨٨م.
أودويفتسيفا إ، ١٩٨٩م؛ كرييد ف (عن ج. إيفانوف)، في كتاب القوس، موسكو، ١٩٩١م.
(١-٣٥) يوري نيكولايفيتش تينيانوف
(١ / ١٨ أكتوبر ١٨٩٤م، مدينة ريجيتسا بمحافظة فيتيبسك – ٢٠ ديسمبر ١٩٤٣م، موسكو).
وُلد ي. ن. تينيانوف في عائلة طبيب، درس في مدينة ثانوية تقليدية، وفي عام ١٩١٨م أنهى كلية الآداب والتاريخ في جامعة بتروجراد. عمل مترجمًا بالكومنترن (القسم الفرنسي، ١٩١٨–١٩٢١م)، ثم عمل من عام ١٩٢١م وحتى عام ١٩٣٠م أستاذًا بمعهد تاريخ الفنون في بتروجراد، ليننجراد.
سافر إلى الخارج عدة مرات (إلى ألمانيا ١٩٣٢م، وإلى فرنسا ١٩٣٦م). اختير في المؤتمر الأول للكتَّاب، الذي عُقد في عام ١٩٣٤م، ليكون عضوًا في مجلس إدارة الكتَّاب السوفييت. عاش في ليننجراد حتى منتصف الثلاثينيات، ليعيش بعد ذلك في موسكو.
انتمى ي. ن. تينيانوف في البداية لِما عُرف باسم «المدرسة الشكلانية»، ثم انضم إلى أوبوياز. وهو واحد من كبار علماء الدراسات الأدبية، وظل زمنًا طويلًا مرتبطًا بحبه الأول وهو الشكلانية، لكنه أصبح بعد ذلك مراقبًا بارزًا للحياة الأدبية التي ولَّت والتي لا تزال قائمة، مستقلًّا عن قوالب «النزعة الشكلانية»، وعن المدرسة الاجتماعية المبتذلة. وهو من أوائل الذين كتبوا عن هذا الفن الجديد آنذاك، فن السينما. كان ي. ن. تينيانوف أكثر من معاصريه إيمانًا بالثقافة التي جاء بها «العصر الفضي»، وبتعدُّديتها الإبداعية، لقد انطلق من الشعور بوحدة الأدب، ورأى الروابط الداخلية الخالدة للأحداث الأدبية. وباعتباره أديبًا فقد توصَّل إلى نمطه الخاص في المصدر التاريخي، الذي أصبح أستاذًا بارزًا فيه ومبتكرًا أيضًا. جاء من العلم، من التاريخ ومن نظرية الأدب، ومن فن الإبداع «البويوطيقا»، جاء من المصدر التاريخي، من الوثيقة ليسير بعد ذلك أبعد وأعمق من الوثيقة. عرف الأدب الروسي وأحبَّه، من بوشكين إلى جوجول، ثم إلى معاصريه: بلوك، خليبنيكوف وماياكوفسكي.
عمل ي. ن. تينيانوف بعض الوقت في مجلة «ليف»، التي كان يُصدرها ماياكوفسكي، وكان قريب الصلة من هذه الجماعة (جماعة «ليف») وكذلك من «المدرسة الشكلانية». ويُعَد تأسيس ي. ن. تينيانوف لسلسلة «بيبليوتيكا بوييتا» (مكتبة الشاعر) الشهيرة، ومشاركته الفعَّالة فيها مؤثرة ثقافية وعلمية كبرى. ومن الجدير بالإشارة أيضًا ترجماته الرفيعة لأشعار هنريخ هينة.
لكن الأهم في إبداع ي. ن. تينيانوف هو نشره المستند إلى المادة التاريخية، التي كان أفضل من يعرفها من بين معاصريه. لقد تناول تينيانوف في قصصه ورواياته وقصصه القصيرة عن التاريخ الروسي، وعن مصائر المثقفين الروس، عن مفارقات ودراما النبلاء والإنتلجينسيا الروسية من المهن كافة، كما تناول كيفية صعود التاريخ القومي بكل هؤلاء ومن خلالهم، وهو الموضوع الذي لم يتناوله أحد قبله. وباعتباره كاتبًا تاريخيًّا، فربما بات من الممكن وضعه، بعد أن حدَّد اتجاهه، جنبًا إلى جنب ألكسي تولستوي وألكسي تشابيجين، وذلك عن استحقاق وجدارة.
اصطدم يراع تينيانوف — الروائي التاريخي طوال الوقت، كما قال هو نفسه — بأمور «موازية مع عصرنا». ولم يكن من الممكن ألَّا تنعكس خبرته في استيعاب التاريخ جزئيًّا في أشكال هجائية جروتسكية، الأمر الذي أصبح يقابَل يومًا بعد يوم بالمنع في إطار التفسيرات الرسمية في الماضي. لم يُغفر لتينيانوف امتلاكه لروح مستقلة، وما جُبلت عليه نفس من كبرياء وتمسُّك بالمبادئ، أما المرض المضني، الذي تعذَّب به طويلًا والموت المبكر، فقد حرماه من استكمال الكثير من مشروعاته.
أعمال ي. ن. تينيانوف
الأعمال الكاملة في جزأين (المقال الافتتاحي والتعليقات: ب. كوستيليانتس)، ليننجراد، «خودجيستيفينايا ليتيراتورا»، ١٩٨٥م؛ الحقيقة الأدبية، موسكو، دار نشر «فيشيا شكولا» (المدرسة العليا)، ١٩٩٣م.
أعمال عن ي. ن. تينيانوف
بيلينكوف أ. ف. يوري تينيانوف، الطبعة الثانية، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٦٥م.
ذكريات عن ي. تينيانوف موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٣م.
فيرين ف، نوفيكوف ف، رؤية جديدة، كتاب عن يوري شينيانوف، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٨م.
(١-٣٦) بوريس أندرييفيتش بيلنياك
(٢٩ سبتمبر/١١ أكتوبر ١٨٩٤م، مدينة موجايسك بمحافظة موسكو – أعدِم رميًا بالرصاص في ٢١ أبريل ١٩٣٨م في موسكو).
الاسم الحقيقي له فوجاو. والده من ألمان نهر الفولجا، كان يعمل بيطريًّا. والدته روسية تنحدر من عائلة تجار عريقة من ساراتوف. قضى طفولته وشبابه في عدد من المدن والأقضية التابعة لمحافظة موسكو وفي مسقط رأس والديه في الفولجا الألمانية. بدأ تعليمه في ساراتوف، في المدرسة الثانوية، لينهي هذه الدراسة في معهد فلاديميرسكي في مدينة نيجني نوفجورود، ثم في معهد موسكو التجاري عام ١٩٢٠م.
بدأ ب. أ. بيلنياك في نشر أعماله مبكرًا، قبل اندلاع الثورة، لكن أفضل سنوات إبداعه وافقت العشرينيات. عاصر بيلنياك أحداث الثورة والحرب الأهلية وتتبَّع أخبارهما في أثناء وجوده في الريف، وعن هذه الأحداث كتب روايته الأشهر «العام العاري» (١٩٢١م). طوَّف ب. أ. بيلنياك في بلدان عديدة، فسافر إلى ألمانيا (١٩٢٢م) وإنجلترا (١٩٢٣م)، وفي نهاية العشرينيات ذهب إلى الصين واليابان والشرق الأوسط، وفي بداية الثلاثينيات سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية …
امتلك ب. أ. بيلنياك شخصيةً متميزة بارزةً على خلفية الأدب السوفييتي في تلك الفترة. وكان لبيلنياك رؤاه الفنية المهمة والشجاعة، التي سبق بها العديد من الكتَّاب الشباب من أبناء الجيل الذي جاء بعد الحرب. تعلَّم على يد كلٍّ من بيلي وزامياتين وريميزيف. لقد علَّمته دروس وخبرات السابقين أن يقول كلمته. وحتى الزمن نفسه، هذا الزمن العاصف الكارثي، الذي انهار فيه كل شيء، والذي فقدت الأمور فيه أشكالها وأُطُرها، قد جعل من أدبه، أدبًا فطريًّا واضحًا ومتميزًا.
على أن مصير الكاتب اتخذ مسارًا متقلبًا للغاية.
ظل هناك عملان فقط في الأدب الروسي يمثِّلان ب. أ. بيلنياك: روايته الأولى «العام العاري» و«قصة قمر متألق» (١٩٢٦م). وقد حاول الكاتب أن «يلعب على الوجهين» مع النظام؛ فتارةً يثير حفيظة هذا النظام باستقلاله، وتارةً يقوم بأداء «طلباته». أما السلطة، فتارةً لم تكن تشعر بقوته، وتارة، وهو الأكثر، كانت «تلعب معه أيضًا على الوجهين» بالتناوب (وخاصةً بشأن «ليبراليي» العشرينيات)؛ فتارةً تتغاضى عن «جماعة بيلنياك»، وتارةً تنهره في غضب، ولكن تبقى الكلمة دائمًا لها، للسلطة. وقد جرى ضم بيلينياك إلى زامياتين وبولجاكوف وكليويف (الذين تم اعتبارهم كتَّابًا معادين للنظام السوفييتي بامتياز) بهدف تخويف الأدب المستقل بأسره على نحو التجريدة الأيديولوجية التي جرت في زمن «الانعطافة الكبرى»، زمن «نزع ممتلكات الكولاك» بشكل شامل، وعند تعرض ب. أ. بيلنياك للنقد الأيديولوجي، أعلن توبته على الملأ (خلافًا لكليويف وزامياتين وبولجاكوف)، الأمر الذي كان مقبولًا في تلك السنوات، ومن ثم أصبح بإمكانه الكتابة والنشر، ولكنه عندئذٍ لم يعد بيلنياك الذي كان من قبل، فراح يكتب ما ينبغي كتابته. أخذ بيلنياك يُعِد العدة للتصريح له للقيام بأسفار جديدة ليُحضر منها ما يتوقعه منه، وفي هذه الفترة تحوَّل أدبه إلى قَصص «سوفييتي» عادي. على أن ذنوبه القديمة لم تُنسَ؛ أحد أول هذه الذنوب أدَّى إلى التنكيل به في نهاية الثلاثينيات ليختفي دون أثر. وفي روايته «العام العاري»، التي تعد من أوائل روايات «الأدب السوفييتي»، كان ب. أ. بيلنياك تقريبًا أول من قدَّم الثورة الروسية باعتبارها ثورةً تعادي من داخلها ثقافة القرن العشرين، ثورةً كارثية تستمد مرجعيتها من مصادر بدائية زائفة، وهي بطبيعتها تُعتَبر عودةً إلى نموذج الحياة الغابرة. وقد تناولت الرواية «الشخصيات البدائية الفظة»، التي صعدت إلى سطح الأحداث قادمةً من أعماق الحياة المظلمة، بعد أن خلعت عن نفسها أغطية الثقافة. وقد أصبح تعبير «ذوي المعاطف الجلدية»، الذي أدخله ب. أ. بيلنياك، تعبيرًا شائعًا لعدة عقود، وهو يصف البلاشفة الذين يعملون ﺑ «حماس» وغباء.
وخلافًا لهاتين الروايتين، هناك أعمال أخرى لبيلنياك منها: «ماكينات وذئاب» (١٩٢٥م)، «نهر الفولجا يصب في بحر قزوين» (١٩٣١م)، «قصة أمريكية» «أو كي»، قصة «إيفان وماريا»، مجموعة مقالات بعنوان «جذور الشمس اليابانية» وغيرها. في ١٩٢٩-١٩٣٠م صدرت لبيلنياك «الأعمال الكاملة» في ثمانية أجزاء.
أعمال ب. أ. بيلنياك
قصص طويلة قصيرة (الإعداد والمقال الافتتاحي والتعليقات إ. أ. شيطانوف)، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك» (المعاصر)، ١٩٩١م.
قصة قمر متألق، موسكو، دار نشر «برافدا» (الحقيقة)، ١٩٩٠م.
أعمال عن ب. أ. بيلنياك
المقال والتعليقات الموجودة في الطبعات المشار إليها سابقًا.
(١-٣٧) سيرجي ألكسندروفيتش يسينين
(٢١ سبتمبر/٣ أكتوبر ١٨٩٥م، قرية قنسطنطينوفو بمحافظة ريازان – ٢٧ / ٢٨ أكتوبر ١٩٢٥م، ليننجراد).
وُلد س. أ. يسينين في أسرة من الفلاحين، ترعرع في البداية في بيت أسرة والده، ثم انتقل ليعيش مع أسرة أمه. عاش والده في موسكو وكان يعمل بالتجارة. بدأ في نظم الشعر وهو في التاسعة من عمره، كان نهمًا للقراءة منذ صباه، وخاصةً قراءة الشعر الروسي. استوعب بداخله البيئة الشعرية الشعبية والمشاعر الروحية الدينية المحيطة به. تلقَّى تعليمه في مسقط رأسه، أنهى فصلين بمدرسة المعلمين. منذ عام ١٩١٢م، ذهب ليعيش في المدينة، في موسكو في البداية، ثم في بطرسبورج، ليعود مرةً أخرى إلى موسكو. عمل مع والده في محل تجارته، ثم عمل في مطبعة، وفي دار للنشر. لم يستمرَّ طويلًا في الدراسة بقسم الأدب والتاريخ بجامعة أ. ل. شانيافسكي الشعبية.
أبدى نبوغًا شعريًّا مبكرًا ومكثَّفًا. وكانت موضوعاته الشعرية الدائمة تدور حول الإحساس بالحب تجاه كل ما ينبض بالحياة، الحنين إلى انسجام الإنسان مع الطبيعة، الذي أثارته هواجسه بانهيار هذا الانسجام، ثم الخوف من ضياع الاندماج مع العالم، وأخيرًا حبه المضني لروسيا، التي حلَّت بها المصائب («غنيتُ آنذاك، عندما أصاب المرض بلادي»).
سافر يسينين إلى بطرسبورج في عام ١٩١٥م، وانضمَّ إلى الحياة الأدبية، فتعرَّف على بلوك وكليتشكوف وكليويف وريميزيف وجوديتسكي وغيرهم. وكان نجاحه في هذه الحياة نجاحًا سريعًا مدويًا على نحو لافت ومُميز، لقد نالت قصيدته «العصامي» استحسانًا كبيرًا. اكتسب شهرته عند القارئ الجاد بعد ظهور ديوانه الأول «رادونيتسا» (طقوس التأبين) (١٩١٦م).
عاش الشاعر لحظة اندلاع الثورة في عام ١٩١٧م بأمل باطل امتزج بأوهام طوباوية («إينونيا» ١٩١٨م)، ولكنه في السنوات التالية كتب («الأربعون يومًا» ١٩٢٠م، «بوجاتشيوف» ١٩٢٢م، «حانات موسكو» وغيرها). شهد س. أ. يسينين الانهيار الكارثي لعالم «القرية» الروسية، ينابيع الإنسان الروسي، بل انهيار روحه ذاتها. وفي السنوات الأخيرة ظهرت في أشعار س. أ. يسينين وبقوة موضوعات إدراك الذات والندم، الاستشراف الحاد لاستحالة قَبول هذه «الأحداث التي فرضها القدر»، التي حطَّمت الحياة الروسية القديمة.
وفي عامَي ١٩٢٢ و١٩٢٣م قام يسينين برحلة طويلة في الخارج، ولا تزال حادثة انتحار س. أ. يسينين غامضةً حتى الآن.
أعمال س. أ. يسينين
ظهرت دواوين س. يسينين على مدى العشرين – الثلاثين عامًا الأخيرة بأعداد كبيرة عدة مرات.
أعمال عن س. أ. يسينين
مراتشينكو أ. عالم يسينين الشعري، موسكو، ١٩٧٢م.
ذكريات عن سيرجي يسينين، الطبعة الثانية؛ حياة يسينين يحكيها المعاصرون، موسكو، ١٩٨٨م.
(١-٣٨) إيليا إيلف ويفجيني بتروف
إيليا أرنولدوفيتش فايزيليرج (الاسم الحقيقي لإيلف) (١٥ / ٣ أكتوبر ١٨٩٧م، أوديسا – ١٣ أبريل ١٩٣٧م، موسكو).
يفجيني بتروفيتش كاتاييف (الاسم الحقيقي لبتروف) (١٣ ديسمبر/٣٠ نوفمبر ١٩٠٣م، أوديسا – لقي حتفه في الثاني من يوليو ١٩٤٢م في حادث طائرة، لدى عودته من مدينة سيفاستوبول المحاصَرة).
وُلد إ. إيلف في عائلة موظف بأحد البنوك. أنهى المدرسة الفنية في عام ١٩١٣م، عمل في مكتب للرسوم الهندسية، ثم في محطة تليفونات وفي أعمال أخرى. في عام ١٩١٨م بدأ نشاطه الأدبي، فالتحق بالعمل في الصحف والمجلات بمدينة أوديسا وفي وكالة التليفون والبرق لجنوب روسيا.
أمَّا ي. بتروف فوُلد في عائلة مدرِّس ثانوي، ينحدر من أصول نبيلة. في عام ١٩٢٠م أنهى إيلف المدرسة الثانوية في أوديسا. اشتغل عميلًا بإدارة للبحث الجنائي ثم صحفيًّا.
وفي مطلع عام ١٩٢٠م انتقل إ. إيلف وي. بتروف، شأنهما شأن العديد من العاملين بالأدب في أوديسا إلى موسكو، حيث كان ف. ب. كاتايف، الأخ الأكبر ﻟ «ي. بتروف» يعمل في صحيفة «جودوك» (الصافرة). وهناك في صحيفة «جودوك» تعرَّف إ. إيلف ﺑ «ي. بتروف»، الذي اختار لنفسه اسمًا مستعارًا حتى لا يكرر اسم أخيه في الحياة الأدبية. وإلى جانب «جودوك» عمل إيلف وبتروف معًا في العديد من الصحف والمجلات، الساخرة على وجه الخصوص، في موسكو: «كروكوديل» (التمساح)، «تشوداك» (غريب الأطوار)، «سميخاتش» (الساخر).
وفي منتصف العشرينيات سافر إيلف إلى آسيا الوسطى، ولم يكن قد بدأ العمل بعدُ مع بتروف، الذي ذهب ليؤدِّي الخدمة العسكرية في الجيش الأحمر، وقد نجح بتروف في هذه الفترة في إصدار عدد من الكتيبات تحتوي على قصص قصيرة فكاهية («أفراح ميجاس» ١٩٢٦م وغيرها).
وفي عام ١٩٢٧م، وبناءً على نصيحة ف. ب. كاتاييف، بدأ إيلف وبتروف عملهما الأدبي المشترك (المقال الأول لهما بعنوان «الشيطان الأزرق» باسم مستعار هو ف. تولستويفسكي. وكانت لهما أسماء أخرى مستعارة، أكثرها شهرة: الفيلسوف البارد). أمَّا عملهما الكبير فكان القصة الساخرة «قصص غير عادية من حياة مدينة كولوكولامسك» (١٩٢٩م). أما العمل الأول الذي وقَّعاه باسم «إ. إيلف» و«ي. بتروف»، فقد أصبح واحدًا من أشهر الروايات وحمل اسم «اثني عشر كرسيًّا» (١٩٢٩م)، وأتبعاه بعمل آخر هو رواية «العجل الذهبي» (١٩٣١م). وقد تحوَّل ظهور هاتين الروايتين الفكاهيتين، الطريفتين، الجذابتين، «المتماسكتين فكريًّا»، إلى حدث هائل في الأدب السوفييتي الساخر، جعلا من إ. إيلف وي. بتروف يحظيان بشهرة عريضة، وفتحا أمامهما الطريق إلى دُور النشر ذات النفوذ، مثل «برافدا» و«ليتيراتورنايا جازيتا». ظلَّت قصص إيلف وبتروف القصيرة ومقالاتهما الساخرة تنشر طوال النصف الأول من الثلاثينيات.
في ربيع عام ١٩٣٠م، سافر إيلف وبتروف إلى مشروع تركسيبا (سكك حديد تركمانيا-سيبيريا)، وكان آنذاك واحدًا من أشهر مشروعات الخطة الخمسية الأولى.
وقد سافر إيلف وبتروف عدة مرات إلى أوروبا الغربية في أعوام ١٩٣٣-١٩٣٤م (إيطاليا، اليونان وغيرها) باعتبارهما مراسلين صحفيين سوفييتين، وفي الأعوام (١٩٣٥-١٩٣٦)، قاما برحلة طويلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة الأمريكية، وصفاها في كتابهما «أمريكا ذات الطابق الواحد».
تُوفي إيليا إيلف في أبريل عام ١٩٣٧م، نتيجة إصابته بالسُّل الرئوي، وقد قام ي. بتروف بإعداد «مذكراته»، ونشرها في طبعة منفصلة في عام ١٩٣٩م (الطبعة المزيدة ظهرت في ١٩٥٧م).
بعد وفاة إ. إيلف عمل ي. بترو ففي عدد من المجلات الأدبية، ولكنه ظل صحفيًّا بصورة أساسية. وفور الْتحاقه بالحزب الشيوعي (البلاشفة) أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «أجونيوك» (الضوء) (١٩٤١-١٩٤٢م)، ليسافر بعدها إلى الشرق الأقصى بوصفه مراسلًا لصحيفة «برافدا» ثم إلى سوق لايبتزيج (ربيع ١٩٤١) بوصفه مراسلًا لصحيفة «إيزفيستيا» (الأخبار). وفي هذه الفترة كتب مسرحيةً دعائية معادية لأتباع النهج المسالم بعنوان «جزيرة السلام». وقد وضع بالاشتراك مع ج. مونبليت سيناريوهات فيلمين نالا شعبيةً كبيرة: «قصة موسيقية»، «أنطون إيفانوفيتش يعلن عن غضبه»، وكذلك سيناريو فيلم «الحوذي الجوي»، وغيرها من الأفلام. وكانت له خبرة سابقة في العمل في وضع سيناريو الفيلم الشهير «السيرك» (بالاشتراك مع إ. إيلف).
في خضم الحرب الوطنية العظمى نشرت صحيفتا «البرافدا» و«كراسنايا زفيزدا» (النجم الأحمر) أن ي. بتروف، المراسل الحربي لدى مكتب الاستعلامات السوفييتي، أصبح مراسلًا حربيًّا خاصًّا لوكالة «نانا» الأمريكية. وقد لقي ي. بتروف حتفه في حادث سيارة، وحصل بعد وفاته على وسام لينين. وفي عام ١٩٦٥م، نُشرت أجزاء من رواية ي. بتروف التي لم تكتمل: «رحلة إلى بلد الشيوعية» (وهي عن الحياة في الاتحاد السوفييتي عبر ٢٥ عامًا). وقد مرَّت الرواية دون أن تحظى بأي اهتمام، وهو ما حدث مع الجزء الأكبر من أعمال ي. بتروف التي كتبها بعد وفاة إ. إيلف.
كلا الكاتبين، في الواقع، ظلا معروفين في الأدب الروسي في القرن العشرين باعتبارهما مؤلفَي روايتين ترتبطان بعضهما ببعض من ناحية الموضوع: «اثني عشر كرسيًّا» و«العجل الذهبي». ويكمن الدور الساخر في الروايتين في الاستهزاء بأبناء روسيا «الماضي»، حيث قدَّمتهم الروايتان باعتبارهم أناسًا بؤساء، يثيرون الشفقة، لا مكان لهم في «الحياة الجديدة» المنتصرة. قدَّم الكاتبان وصفًا لكافة «تفاصيل الماضي الصغيرة»، لصغار الناس من طبقات المجتمع وفئاته كافة؛ للمثقفين الثرثارين المدَّعين، لرجال الدين المغرضين المملين، والنبلاء المنحطين، وللجهلة الأغبياء من أصحاب الحرف وسكان المدن، وهلم جرًّا. على هذا النحو أنجز الكاتبان «المهمة الاجتماعية» لزمانهما، وهي تتلخَّص في فضح «رجال الماضي» البائد، والتهكُّم على آمالهم السخيفة في تحرير روسيا من البلاشفة. وقد تم بناء موضوع الروايتين وفقًا لهذه المهمة الأيديولوجية. ومع ذلك فينبغي الاعتراف أن العالم الفكاهي للروايتين يحمل في طياته جزءًا من الحقيقة، التي جاءت في وصف مظاهر ضعف الوعي الروسي الجماهيري، وكذلك الموقف التاريخي الصارم الذي عانته روسيا (وإن تم ذلك على نحو كاريكاتيري). لكن الشخصية النافذة في الروايتين؛ أوستاب بيندير، المغامر الدنيء والجذاب في الوقت نفسه لا يشعر بالثقة في نفسه إلا عندما يصطدم بضيقي الأفق، الذين لا حول لهم ولا قوة، وبالسخفاء غير الواعين بما يدور حولهم. وما إن يلتقي هذا البطل بالواقع السوفييتي المنتصر فإنه، وفقًا للقوانين الرسمية المؤكدة، يشعر بالهزيمة الحتمية الماحقة. وفي رواية «العجل الذهبي» يسخر الكاتبان سخريةً لاذعة من الأدباء الفاشلين الانتهازيين، المؤهَّلين فقط للخنوع الساذج شبه الأمي أمام النظام المنتصر الجديد. لقد استطاع الكاتبان إيلف وبتروف، هم أنفسهم، أن يتأقلما، على نحو أكثر نجاحًا، ودون أن يفقدا شخصيتهما، مع النظام الجديد للحياة الاجتماعية والأدبية، وكانا يستحقان عن جدارة المكافأة من قِبل هذا النظام. لسنوات طويلة استمرَّت روايتا مغامرات أوستاب بينديرا تُنشر ويعاد نشرها، وظلَّت تحظى باستحسان النقاد والنجاح الكبير من جانب القارئ، الذي كان يسير في طريق التأقلم نفسه، محاولًا مع ذلك أن يحتفظ هو الآخر ﺑ «شخصيته».
على أي حال، فإن مستوى التهكُّم والسخرية من «بقايا الماضي» وما به من تشوُّهات، والذي استطاع إيلف وبتروف أن يسمحا به لأنفسهم في هذا الوقت، في ظروف الستالينية المتأخرة، قد جرى بحيث يمكن استيعابه دون السماح له بأن يُلقي بظلاله على النظام الاشتراكي. ويرتبط ذلك بالنقد السلبي، الذي تعرَّضت له الروايتان في نهاية الأربعينيات وفرض بعض القيود على إعادة طبعها. على أنه ومع بداية «ذوبان الجليد» عادت أعمال إ. إيلف وي. بتروف للظهور مرةً أخرى، فكان أن طُبعت أعمالهما الكاملة في خمسة أجزاء. كان لإيلف وبتروف مكانة راسخة بين الكتَّاب السوفييت، الذين أحاطت بهم هالة الليبرالية مع ظل خفيف من الانشقاق. لقد كان نجاح روايتَي إيلف وبتروف، اللتين كُتبتا على نحو مبتكَر شديد التألق والجاذبية، مليء بالحيوية والسخرية، على خلفية مؤلفات معيارية تمامًا لكتَّاب محافظين دعائيين لنمط الحياة السوفييتية، أمرًا مفهومًا وحتميًّا.
أعمال إ. إيلف وي. بتروف
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٣٨-١٩٣٩م.
الأعمال الكاملة في خمسة أجزاء، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٦١م؛ انظر أيضًا الطبعات العديدة لروايتي «اثني عشر كرسيًّا» و«العجل الذهبي»، «أمريكا ذات الطابق الواحد» وغيرها.
أعمال عن إ. إيلف وي. بتروف
ذكريات عن إيليا إيلف ويفجيني بتروف، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٦٣م.
لورييه ي. س. في بلاد البلهاء الشجعان، كتاب عن إيلف وبتروف، باريس، ١٩٨٣م.
(١-٣٩) أندريه بلاتونوفيتش بلاتونوف
(٢٠أغسطس/١ سبتمبر ١٨٩٨م، فورونيج – ٥ يناير ١٩٥١م، موسكو).
وُلد أ. ب. بلاتونوف (الاسم الحقيقي للكاتب: كليمينتوف) لأب يعمل بالبرادة في مصنع فورونيج لإصلاح القطارات، وترعرع في يامسكايا سلوبودا على أطراف مدينة فورونيج. وعندما بلغ الثالثة عشرة من العمر بدأ في العمل في هذه السن المبكرة. وقد درس أ. ب. بلاتونوف في إحدى الأبرشيات، ثم استكمل الدراسة في أحد معاهد المدينة. وقضى خدمته العسكرية إبَّان سنوات الحرب الوطنية في الجيش الأحمر باعتباره مساعدًا لسائق قطار (كان مساعدًا لوالده نفسه)، ثم اشترك بعد ذلك في المعارك في الوحدات الخاصة.
الْتحق أ. ب. بلاتونوف بالمعهد الصناعي بفورونيج بقسم الكهرباء (تخرَّج فيه في عام ١٩٢٤م). عمل طويلًا في إصلاح الأراضي وإدخال الكهرباء إلى القرى في محافظة فورونيج.
بدأ بلاتونوف الكتابة في سنوات الحرب الأهلية، فجرَّب كتابة الشعر والمقال والقصص القصيرة في صحف ومجلات الأقاليم. وكان أول كتاب منشور له هو «دخول الكهرباء» (١٩٢١م)، ديوان «العمق الأزرق» (١٩٢٢م)، أمَّا أول نثر ناضج له فكان بعنوان «بوابات هويس يبيفان» (١٩٢٧م).
أقام أ. ب. بلاتونوف في موسكو بدءًا من عام ١٩٢٦م، ومنذ ذلك الوقت بدأ في كتابة أفضل أعماله عملًا وراء الآخر: «مدينة المدن» (١٩٢٦م)، «تشفينجور» (١٩٢٩م)، «ماكار ينتابه الشك» (١٩٢٩م) وغيرها. تعرَّض أ. ب. بلاتونوف لاضطهاد من الحركة النقدية في فترة «الانعطافة الكبرى» بسبب روايته «ماكار ينتابه الشك»، ثم جاءت روايته «للصالح العام» (١٩٣١م) لتثير رد فعل عدوانيًّا من جانب ستالين. وكانت روايته «تشفينجور» قد قوبلت بالرفض من جانب الناشرين، ولم يكن من الممكن على الإطلاق نشر روايته «الحفرة» (١٩٣٠م).
كان الطريق الإبداعي لبلاتونوف في الثلاثينيات مملوءًا بالمخاطر والشك فيما يكتب، فضلًا عن سياط التوبيخ، ومن ثم وُوجهت أعماله بالرفض. وعندما لم تُتَح أمامه أي فرصة لطبع أعماله، فقد راح يكتب من حين لآخر مقالات نقديةً واجتماعية (باسم مستعار هو ف. تشيلوفيكوف)، وقد جرى جمع هذه الأعمال فيما بعدُ في كتاب «تأمُّلات قارئ». ولم تظهر له بعد ذلك أي كتب إلا في عام ١٩٣٧م، عندما نُشرت قصصه القصيرة الجديدة في كتاب بعنوان «نهر بوتودان». وعلى مدى هذه السنوات من عمره اتخذت لغته الفنية سمات جديدةً فتخلَّصت من الكم الكبير من المجاز، وأصبحت أكثر بساطة. ومن أعماله الأدبية في تلك الفترة: «الابن الثالث»، «جان»، «فرو»، «الأراضي القِفار»، «عاصفة يوليو»، وقد اكتسبت جميعها صفات الأدب الكلاسيكي بوضوحه ونقائه.
ما إن اندلعت الحرب، حتى بدأ بلاتونوف، في أكتوبر ١٩٤٢م، عمله مراسلًا عسكريًّا على الجبهة لدى صحيفة «كراسنايا زفيوزدا» (النجم الأحمر). وقد أصدر في هذه الفترة عددًا من الكتيبات عن الحرب، قدَّم من خلالها رؤيته للحياة والموت.
تعرَّض بلاتونوف في السنوات الأخيرة من حياته مرةً أخرى إلى عاصفة من النقد، وخاصةً بعد أن نشر روايته «عائلة إيفانوف (العودة)» ١٩٤٦م.
وفي هذه السنوات لم ينشر شيئًا تقريبًا، فلم تصدر له اللهم إلا بعض المختارات القصيرة لحكايات شعبية روسية، قام بإعدادها للأطفال (قام ميخائيل شولوخوف بتحرير واحدة منها).
جاء الميلاد الثاني لبلاتونوف في السبعينيات والثمانينيات، عندما توالى نشر أعماله غير المعروفة من قصص قصيرة وطويلة وروايات ومسرحيات، وخاصةً أدبه المكتوب على تخوم العشرينيات والثلاثينيات.
أعمال أ. ب. بلاتونوف
البحر اليافع (الحفرة، تشفينجور) قصص، روايات، موسكو، ١٩٨٨م.
تشفينجور (الحفرة، الصالح العام، البحر اليافع)، موسكو، ١٩٨٩م؛ ساكن حكومي، نثر، الأعمال الأولى، الخطابات، مدينة مينسك، ١٩٩٠م.
أناس ملهَمون، قصص عن الحرب، موسكو، ١٩٨٦م.
تأمُّلات قارئ (بلاتونوف عن الأدب)، موسكو، ١٩٨٠م.
العودة (المقالات الاجتماعية والنقدية الأولى، ملاحظات على الأدب)، موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن أ. ب. بلاتونوف
شوبين ل، البحث عن الوجود الفردي والعام، عن أندريه بلاتونوف، أعمال ظهرت في سنوات مختلفة، موسكو، ١٩٨٧م.
(١-٤٠) يوري كارلوفيتش أوليشا
(١٩ فبراير/٣ مارس ١٨٩٩م، يليسافيتجراد بمحافظة خيرسون – ١٠ مايو ١٩٦٠م، موسكو).
وُلد ي. ك. أوليشا في عائلة نبيل بولندي فقدت ثروتها، عمل والده محصلًا للضرائب. أقام في مدينة أوديسا منذ الثالثة من عمره، وهناك درس في ثانوية ريشيل لينهي الدراسة بها في عام ١٩١٧م. درس بعض الوقت في جامعة نوفوروسيسك بكلية الحقوق (أوديسا). وفي عام ١٩١٩م، تطوَّع في الجيش الأحمر ليعمل عامل تليفونات في قوات الدفاع على البحر الأسود.
بدأ ي. ك. أوليشا نشاطه الأدبي في عام ١٩١٦م، نشر عددًا من القصائد العاطفية في صحيفة «أوديسيسكي ليستوك». وبعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، سعى للاندماج في الواقع الجديد، مثله مثل العديد من الأدباء المعاصرين، الذين كان من بينهم إيلف وبتروف وكاتاييف وبابل وباجرينسكي، وقد تم اختياره ليعمل في النشاط الدعائي في صحف أوديسا، في تلك الفترة التي عُرفت باسم «الشيوعية العسكرية»، وفي وكالة يوجروستا (وكالة أنباء جنوب روسيا)، وهلم جرًّا. وقد كتب ي. ك. أوليشا في مذكراته يقول: «كتبتُ أيضًا مسرحيات وكتيبات ذات طابع دعائي لمواكبة الحملات التي كانت تظهر في هذه الفترة.» وفي عام ١٩٢٢م قام بنفس العمل في خاركوف، وفي عام ١٩٢٣م، وصل للإقامة في موسكو.
استمرَّ ي. ك. أوليشا في العمل لعدة سنوات في صحيفة السكك الحديدية «جودوك» (الصافرة) مستخدمًا اسمًا مستعارًا هو «زوبيلا» (المحولجي) في توقيعه على أشعاره ذات الطابع النقدي الهجائي للأوضاع الراهنة (صدرت مجموعة المقالات الهجائية «المحولجي» في عام ١٩٢٤م). وقد بلغ عدد المقالات التي كتبها أوليشا في العشرينيات وحدها ما يزيد على ألف قصيدة دعائية وهجائية (نُشرت في مجلات «كروكوديل»، «سيمخاتش»، «تشوداك» وغيرها). لم يكن هذا الجهد الأدبي اليومي المضني يشتبك في أي جانب من جوانب القضية الرئيسية التي كان يتبنَّاها ي. ك. أوليشا؛ فقد كان أوليشا يعمل بشكل موازٍ في كتابة عمل أدبي حقيقي.
في عامَي ١٩٢٣ و١٩٢٤م يكتب ي. ك. أوليشا قصة «ثلاثة رجال سمان» (صدرت في طبعة واحدة في عام ١٩٢٨م)، وفي عام ١٩٢٧م، ينشر روايته الشهيرة «الحسد»، وهي الرواية التي وضعته في الصف الأول من كتَّاب هذا العصر.
وتُعد رواية «الحسد» روايةً تراجيدية تتناول تعوُّد النفس على بيئة غريبة تحيطها، وتقدِّم إنتلجنسيا أخذت في التأقلم مع عالم لم يعد في حاجة إليها. إن هذه الرواية تُذهل القارئ بما فيها من مجاز واضح ودقة مدهشة عندما تتعامل مع جمال الأشياء وتعرض الأحداث والمواقف، وبالإضافة إلى ذلك فهي رواية عبقرية مُفعَمة بالمرارة. إنها تتحدَّث عن عدم جدوى الموهبة، وعن أن المشاعر الرقيقة المركَّبة لم يعد لها مكان وإنما حل محلها «الحسد تجاه الآلة». هي رواية عن الموهبة التي تفتقر إلى الحماية والتي يسهل طعنها وإيذاؤها. إنها تتحدث باختصار عن استسلام الموهبة. في الحقيقة فإن «الحسد» كان تعبيرًا عن الموضوع الرئيسي الداخلي لإبداع ي. ك. أوليشا، وقد تناوله في أعماله التي تفرَّعت عن هذا الموضوع (مسرحيتي: «مؤامرة المشاعر» (١٩٢٩م)، و«قائمة أعمال البر» (١٩٣١م))، وفي أعماله الأخرى التي كتبها في تلك السنوات (القصص العاطفية المباشرة: «نواة حبة الكرز»، «ليومبا» وغيرها، وفي سيناريو فيلم «الشاب الصارم» ١٩٣٥م). وقد انتقل هذا الموضوع من أعمال ي. ك. أوليشا ليؤدِّي دوره في مصيره هو ذاته. لقد ظل الكاتب يقاوم على مدى عدة سنوات القوالب الدعائية للأدب، والتي راحت القيادة تزرعها «من أعلى» بحماس متصاعد، ولكنه أصبح منذ الثلاثينيات «كاتبًا سوفييتيًّا» عاديًّا.
وفي تلك الفترة كان أوليشا يكتب بالطلب سيناريوهات أفلام «الجاسوسية»، والأفلام «المعادية للفاشية» («غلطة المهندس كوتشين»، و«جنود المستنقعات»)، وقد بذل أوليشا الكثير من الجهد في العمل اليومي المضني في الصحف والمجلات.
وفي الأعوام الأخيرة من حياته راح ي. ك. أوليشا يعمل في كتابة رواية بعنوان «سطر جديد كل يوم»، وقد نُشرت بعد وفاته، في عام ١٩٦٥م.
أعمال ي. ك. أوليشا
المختارات (تقديم: ف. شكلوفسكي، تعليق: ف. باديكوف)، موسكو، دار نشر «برافدا»، ١٩٨٧م؛ كل يوم سطر جديد، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٦٥م.
أعمال عن ي. ك. أوليشا
ذكريات عن يوري أوليشا (إعداد: أ. سووك-أوليشا، وإ. بيلسون). موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٥م؛ تشوداكوفا م. أ، حول إبداع يوري أوليشا، موسكو، دار نشر «ناءوكا» (العلم)، ١٩٧٢م.
(١-٤١) قنسطنطين قنسطنطينوفيتش فاجينوف
(٤ / ١٦ أبريل ١٨٩٩م، بطرسبورج – ٢٦ أبريل ١٩٣٤م، ليننجراد).
والده قنسطنطين أدولفوفيتش فاجينجايم، ينحدر من عائلة ألمانية تروَّست منذ زمن بعيد، وعاشت في بطرسبورج منذ القرن الثامن عشر. ومع بداية الحرب مع ألمانيا قام بتغيير كنيته الألمانية إلى كنية روسية. أمَّا والدته، ليوبوف ألكسيفنا فهي، وفقًا لأحد المصادر، ابنة مالك أراضٍ سيبيري واسع الثراء، ووفقًا لمصدر آخر، كان والدها رجل أعمال سيبيريًّا غنيًّا يعمل في صناعة الذهب، وكان عمدةً لمدينة ينيسيسك.
تلقَّى ق. ق. فاجينوف تعليمه في ثانوية ي. جوريفيتش، التي كانت تتمتَّع بجو ديمقراطي (درس فيها في الفترة من ١٩٠٨م وحتى ١٩١٧م). الْتحق بكلية الحقوق بجامعة بتروجراد، وفي فترة الحرب الأهلية تم تجنيده في الجيش الأحمر، حارب على الجبهة البولندية وفيما وراء الأورال. وفي مطلع العشرينيات عاد إلى بتروجراد، لكن الجامعة لم تقبله؛ لأنه ينحدر من أصول بروليتارية، فاتجه للدراسة في معهد تاريخ الفنون.
بدأ في كتابة الشعر وهو لا يزال طالبًا في الثانوية بتأثير ديوان «أزهار الشر»، للشاعر الفرنسي شارل بودلير. تُمثِّل بطرسبورج أحد أهم موضوعاته الإبداعية، وقد ظل عاشقًا لهذه المدينة على مدى حياته كلها («الأمر بالنسبة لي سيان، أن يكون نصيبي من الخبز كل يوم أوقيتين/مدينتي أحبُّ إليَّ من نفسي/أحبُّ إليَّ من النجاة»). كان ق. ق. فاجينوف أديبًا واسع الثقافة، عليمًا باللغات الأوروبية القديم منها والجديد، أولع منذ طفولته بالدراسات القديمة، وكان جامعًا للعملات.
كان ق. ق. فاجينوف يتمتَّع بحب وتقدير معاصريه. وقد بذل جهدًا كبيرًا لكي يخرج من عزلته، فانضمَّ إلى العمل الجماعي في الاتجاه الذي كان مكسيم جوركي يدعمه وهو كتابة «تاريخ المصانع والورش»، وفي عام ١٩٠٥م، بدأ في كتابة رواية جديدة لكنه لم يُكملها. تمَّت مصادرة مخطوطات ق. ق. فاجينوف عند اعتقال والدته (وكان أمر الاعتقال يشمل أيضًا اعتقال الكاتب، وقد لقي حتفه نتيجة إصابته إصابةً مميتة في أثناء القبض عليه).
يُعتبر المنتخب الأخير من أشعاره: «خبرة الربط بين الكلمات بواسطة الإيقاع» (١٩٣١م) ديوانًا تجريبيًّا، وقد ذاعت فكرة رواية «جامع الكلمات» على نطاق كبير.
ظل اسم ق. ق. فاجينوف وأعماله مُصادرًا من عالم الأدب لِما يزيد على نصف قرن. كان فنانًا فريدًا، عكس على طريقته تراث «العصر الفضي»، عمل بشجاعة وعلى نحو مثير للاهتمام في سياق طموحات الأدب الروسي والأوروبي في العشرينيات والثلاثينيات، وهو من الشخصيات الجذابة التي لا تتكرَّر، وظاهرة بارزة في الأدب الروسي في عصره.
أعمال ق. ق. فاجينوف
أغنية الجدي: روايات إعداد أ. إ. فاجينوفا وف. إ. إيدل، المقال الافتتاحي: ت. ل. نيكولسكايا، الملاحظات والتعليقات: ت. ل. نيكولسكايا، وف. إ. إيرل، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك»، ١٩٩١م.
أعمال عن ق. ق. فاجينوف
نيكولسكايا ت. قنسطنطين فاجينوف، زمنه وأعماله، في كتاب فاجينوف ك، أغنية الجدي، روايات، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك»، ١٩٩١م.
تشوكوفسكي ن. قنسطنطين فاجينوف، في كتاب تشوكوفسكي ن، ذكريات أدبية، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٩م.
(١-٤٢) فلاديمير فلاديميروفيتش نابوكوف
(١٠ / ٢٢ أبريل ١٨٩٩م، سان بطرسبورج – ٢ يوليو ١٩٧٧م، مونتري، سويسرا).
وُلد ف. ف. نابوكوف في سان بطرسبورج في عائلة ف. د. نابوكوف، أحد المشاهير في حزب الكاديت (الحزب الديمقراطي الدستوري) وعضو مجلس الدوما، وظل نابوكوف يطبع أعماله حتى عام ١٩٤٠م باسم مستعار هو فلاديمير سيرين. وعائلة نابوكوف من أصول أرستقراطية نبيلة واسعة الثراء، إنجليزية «الهوى»، وقد أجاد ف. ف. نابوكوف اللغات الروسية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة وبالجودة نفسها. تلقَّى نابوكوف تعليمه في معهد تينيشيفسك.
نُشرت مختارات ف. ف. نابوكوف الشعرية الأولى في عام ١٩١٦م ثم في عام ١٩١٨م. وقد هاجر بصحبة والديه بعد قيام الثورة. وقد طافت العائلة في بداية الأمر بالقارة الأوروبية، ثم استقر ف. ف. نابوكوف في إنجلترا، حيث التحق للدراسة بجامعة كمبردج ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٢م، يعود بعدها إلى القارة الأوروبية فيعيش في ألمانيا، في برلين، وفي عام ١٩٣٧م يهاجر من ألمانيا النازية إلى فرنسا ليستقر في باريس.
عقد ونصف العقد — من منتصف العشرينيات وحتى الأربعينيات — كان نابوكوف خلالها واحدًا من أكثر كتَّاب المهجر الروسي شهرة. نُشرت مختاراته الشعرية («العقود»، «الطريق الجبلي» وغيرها)، وفي هذه السنوات راحت رواياته تُنشر واحدةً تلو الأخرى («ماشينكا» ١٩٢٦م، «الشايب، البنت، الولد» ١٩٢٨م، «دفاع لوجين» ١٩٣٠م، «الغرفة المظلمة» ١٩٢٣م، «الهدية» ١٩٣٧م، «دعوة للإعدام» ١٩٣٨م)، مختارات قصصية بعنوان «عودة تشورب».
في عام ١٩٤٠م، اضطُر إلى الهجرة مرةً أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الاحتلال الألماني لفرنسا، وهناك قام بتدريس الأدب الروسي في الكليات الأمريكية والجامعات، إلى جانب ممارسته للكتابة، كما راح يدرس علم الحشرات في هارفارد. أما سنواته الأخيرة فقد قضاها في سويسرا.
وفي عام ١٩٤٠م، اختفى الكاتب المعروف باسم فلاديمير سيرين ليظهر الكاتب الأنجلو أمريكي فلاديمير نابوكوف. لم يكتب نابوكوف باللغة الروسية تقريبًا، ولكن علاقته بأدبه ولغته الأم لم تنقطع، سواء وهو مدرس، أو وهو باحث في الأدب الروسي الكلاسيكي للقرن التاسع عشر، أو بوصفه مترجمًا موهوبًا غزير الإنتاج، يُترجم إلى الإنجليزية أعمال الكلاسيكيين الروس (جوجول، بوشكين، ليرمونتوف).
ربما يكون ف. نابوكوف، سيرين، هو الوحيد في الأدب الروسي الذي يمكن اعتباره نموذجًا للفنان الضاربة جذوره في الثقافة الأجنبية. لقد أصبح مبدعًا بارزًا للأدب سواء الروسي أو الإنجليزي. لقد كتب بالإنجليزية رواية «لوليتا» التي جلبت له شهرةً عالمية (١٩٥٥م)، وكذلك روايات «حياة سباسيتان نايت» (١٩٤١م)، «آدا، أو الرغبة» (١٩٦٩م) و«بنين» (١٩٥٧م). وتُعد مذكراته التي تحمل اسم «الضفاف الأخرى» (١٩٥٤م) واحدةً من أفضل كتب السيرة الذاتية في القرن العشرين.
لا شك أن ف. ف. نابوكوف، الفنان الشديد النقاء، الساحر الكلمة، صاحب الأسلوب الأنيق، كان ابنًا للثقافة الفنية الرفيعة لبطرسبورج، وقد طوَّر تقاليدها في المهجر. إن له شخصيةً فريدة بين كبار الأدباء في الأدب الروسي في عصرنا.
أعمال ف. ف. نابوكوف.
ماشينكا، دفاع لوجين، دعوة للإعدام، الضفاف الأخرى، موسكو، ١٩٨٨م؛ الأسرة (شعر، ترجمة، قصص قصيرة) ١٩٩٠م.
قصص قصيرة، ذكريات (عودة تشورب، الجاسوس، ربيع في فيالتا، الضفاف الأخرى)، موسكو، ١٩٩١م.
الضفاف الأخرى (المأثرة، قصص قصيرة)، ليننجراد، ١٩٩١م.
شعر، قصص، ليننجراد، ١٩٩١م.
أعمال عن ف. ف. نابوكوف
شاخوفسكايا ز. البحث عن نابوكوف، انعكاسات، موسكو، ١٩٩١م.
يروفييف ف. نابوكوف يبحث عن الفردوس المفقود، في كتاب نابوكوف ف، الضفاف الأخرى، ليننجراد، ١٩٩١م.
موليارتشيك أ، في أثر نابوكوف، في كتاب نابوكوف ف، قصص، ذكريات، موسكو، ١٩٩١م.
بيتوف أ، وضوح الخلود (ذكريات لم تُنشر)، في كتاب نابوكوف ف، الدائرة، ١٩٩٠م.
(١-٤٣) ليونيد مكسيموفيتش ليونوف
(١٩ / ٣١ مايو ١٨٩٩م، موسكو – ٨ أغسطس ١٩٩٤م، موسكو).
وُلد ل. م. ليونوف لعائلة فلاح من كالوجا يُدعى م. ل. ليونوف. كان والده شاعرًا علَّم نفسه بنفسه ليعمل في الصحافة. أمَّا الابن ل. م. ليونوف فقد أنهى ثانوية موسكو الثالثة بتفوُّق ليحصل على الميدالية الفضية. كان أول ظهور أدبي له على صفحات جريدة «الصباح الشمالي» التي تصدر في إقليم أرخانجلسك (١٩١٥م)، وقد نشرت له الجريدة أشعارًا وتعليقات، وكان أبوه، الذي طلب إليه المجيء لإصدار كتيب ذي مضمون ثوري، هو نفسه الذي قام على تحريرها.
إبَّان سنوات الحرب الأهلية دأب ل. م. ليونوف على نشر أعماله في هذه الجريدة نفسها، ثم اتجه للعمل بعد ذلك في الصحف التي كان يُصدرها الجيش الأحمر.
لا شك أن مصير ل. م. ليونوف يحمل في طياته مأساةً روحية؛ فهو واحد من أكثر أدباء العشرينيات موهبة، وكان ظهوره واعدًا بالكثير، ولعله لم يحقِّق كل ما كان منتظَرًا منه من إنجاز. لكن أفضل ما كتبه ليونوف وهو يتمتَّع بحريته، كانت رواياته ومسرحياته التي كتبها في العشرينيات. أمَّا نشاطه الإبداعي فهو منعطف العشرينيات والثلاثينيات فقد قاده إلى الحلول الوسط، والتي يمكن أن نستشعرها في رواية «المحطة». لقد تركت القوالب الأيديولوجية الستالينية، التي سادت «الجبهة بأسرها» في الثلاثينيات، أثرًا ملحوظًا على أعماله. وقد عكست روايات ومسرحيات تلك السنوات على نحو جاد نماذج: «الضارون» و«الجواسيس» و«المخربون»، الذين امتلأت بهم حدائق الحياة السوفييتية الآخذة في الازدهار آنذاك (وقد انعكس ذلك على وجه الخصوص في رواية «سكوتاريفسكي» وفي مسرحيتَي: «حدائق بولوفتشانسك» و«الذئب»). وفي مسرحية «العاصفة الثلجية» نلمس بعض التحرُّر من الدعاية الباطلة. وقد كفَّر الكاتب عن كثير من أخطائه في مسرحية «الغزو»، التي انتصر فيها على كثير من الأوهام السائدة. وقد استمرَّ ل. م. ليونوف في رؤيته الاستشرافية أيضًا في رواية «الغابة الروسية»، وإن لم يسلَم من تأثير القصة البوليسية «الأيديولوجية»، وقد مزج فيها بين الفلسفة والإيحاء البوليسي.
ظل ل. م. ليونوف وحيدًا يحيطه الغموض في الحياة الأدبية للقرن العشرين، أما تأثيره وشهرته فلم يكونا بنفس قدر ما وهبته الطبيعة من موهبة وما اكتسبه من خبرة، بما في ذلك تلك الخبرات المريرة التي امتلأ بها تاريخه الأدبي.
أعمال ل. م. ليونوف
صدرت أعماله الكاملة في عدة طبعات كان آخرها «الأعمال الكاملة في عشرة أجزاء»، موسكو، ١٩٨١–١٩٨٤م. وقد صدرت كثير من مؤلفاته الأساسية في طبعات مستقلة عدة مرات. جدير بالذكر أن ليونوف أعاد كتابة بعض أعماله في الخمسينيات («اللص» وغيرها).
أعمال عن ل. م. ليونوف
بوجوسلافسكايا ز. ليونيد ليونوف، موسكو، ١٩٦٠م.
الأهمية العالمية لإبداع ليونيد ليونوف، موسكو، ١٩٨١م.
ميخايلوف أ، وجهة نظر تجاه ليونوف، موسكو، ١٩٨٩م.
(١-٤٤) ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف
وُلد م. أ. شولوخوف في عائلة «نازحة» من محافظة ريازان. الوالد تاجر ماشية، الأم، أوكرانية، كانت أرملة قوزاقي، وهذا هو زواجها الثاني. تلقَّى م. أ. شولوخوف تعليمه في مدرسة تابعة لإحدى الأبرشيات، ثم في مدارس ثانوية (في موسكو وبوجوتشار وفيشينسكايا) حتى عام ١٩١٨م. عمل إبَّان سنوات الحرب الأهلية في منطقة نهر الدون في القواعد الحزبية السوفييتية المحلية، في وحدات التموين، مفتشًا للتموين في مدينة روستوف على نهر الدون.
في عام ١٩٢٢م، سافر إلى موسكو لكنه لم يستقرَّ بها طويلًا. تنقَّل بين أعمال شتى (حمَّال، عامل في محجر، محاسب وهلم جرًّا). بدأ في نشر أعماله في صحف الشباب، ولكنه عاد إلى الدون مرةً أخرى في عام ١٩٢٤م، حيث أقام هناك منذ هذا التاريخ بصفة دائمة في الأماكن التي كانت قريبةً إلى قلبه. انضمَّ إلى الحزب الشيوعي في عام ١٩٣٢م، ثم اختير بعد ذلك في التنظيمات الحزبية العليا؛ أصبح عضوًا في اللجنة المركزية، موفدًا إلى مؤتمرات الحزب كافةً منذ عام ١٩٣٩م، وظل لسنوات طويلة واحدًا من قيادات اتحاد كتَّاب الاتحاد السوفييتي، كما حصل على الدكتوراه الفخرية في العلوم من جامعتَي روستوف وليبتسيج. مُنح لقب بطل العمل الاشتراكي، وجائزة ستالين (١٩٤١م)، وجائزة لينين (١٩٦٠م)، ثم جائزة نوبل (١٩٦٥م).
كان أول كتاب صدر لميخائيل شولوخوف هو «قصص عن الدون» (١٩٢٥م)، وفي العام نفسه صدرت له مجموعة قصصية بعنوان «براري لازوريف». عمل في كتابة رواية «الدون الهادئ» لمدة خمسة عشر عامًا (نُشرت في الفترة من ١٩٢٨م إلى ١٩٤٠م)؛ أمَّا روايته الثانية: «الأرض البكر» فاستغرقت كتابتها ثلاثين عامًا (ظهر الجزء الأول منها في عام ١٩٣٢م، والجزء الثاني في عام ١٩٦٠م). عمل العقيد شولوخوف مراسلًا لصحيفة «البرافدا» إبَّان الحرب الوطنية العظمى، وفي هذه الفترة كتب قصةً قصيرة بعنوان «درس الكراهية» (١٩٤٢م)، ثم بدأ في كتابة روايته «كانوا يحاربون من أجل الوطن».
وفي سنوات «ذوبان الجليد» (وكان شولوخوف يستهجن الاتجاهات الليبرالية آنذاك)، نشر قصةً بعنوان «مصير إنسان» (١٩٥٦م)، كانت نقطة تحوُّل في أدب الحرب.
وعلى ما يبدو فقد تعرَّضت القوة الإبداعية للكاتب للانحسار في الربع الأخير من القرن العشرين.
هناك حلقات مفقودة في السيرة الأدبية لميخائيل شولوخوف، وهناك الكثير في هذه السيرة مزدوج؛ فتارةً هو أديب عظيم، وتارةً متحيِّز، وفي كثير من الأحيان أحادي النظرة، كاتب مسيَّس. فأمَّا شولوخوف الفنان الأديب، فقد صوَّر لوحاتٍ مدهشةً مفعمة بالصدق للتراجيديا القومية الهائلة، التي دمَّرت نمط الحياة الشعبية بأسرها. وأحرقت عائلة ميليخوف في نيران الحرب الأهلية، التي كانت تمثِّل قلب العالم القازاقي. أمَّا «عاصفة القوة غير المرئية» الأخرى للحرب فقد أطاحت من فوق ظهر الأرض ببيت أندريه سوكولوف. كلتا الحربين، من وجهة نظر شولوخوف، ناهيك عن الاقتصاد الزراعي الجماعي، كانا أمرًا موضوعيًّا! إنه الانهيار العنيف المستمر لأسس الوجود الشعبي والروح الإنسانية التي أُقيمت على مدى القرون. لقد أتاح لنا شولوخوف الفنان، في الحقيقة، أن نرى بأم أعيننا عدوانية الحياة الشعبية ذاتها في خضم مسيرة ذلك التاريخ، الذي كانت الطوباوية البلشفية هي التي توجِّه مساره. وإذا ما غضضنا الطرف عن بعض الصفحات غير الموفَّقة في رواية «كانوا يحاربون من أجل الوطن»، والجزء الثاني من رواية «الأرض البكر»، فإن النصوص والشخصيات، التي أبدعها شولوخوف الفنان فيهما، سوف تكون مقبولةً ومبرَّرة على نحو قطعي.
لا يمكن للمرء ألَّا يلاحظ في هذا السياق أن الجدل يشتعل من وقت لآخر (حتى منذ نهاية العقد الثاني من القرن العشرين) حول هُوية مؤلف «الدون الهادئ». ولعل أكثر من تمسَّك بإصرار بهذه الفرضية، التي أيَّدها ألكسندر سولجينسين هي إ. ن. توماشيفسكايا في كتابها «رِكاب» «الدون الهادئ». على أنه قد ثبت بعد البحوث التي أجراها في السنوات الأخيرة علماء من السويد (ج. خيتسو، س. جوستافسون، ب. بيكمان، س. جيل، حول «من كتب «الدون الهادئ»؟»)، وكذلك إلى جانب المتخصِّصين الروس (انظر مجلة «العالم الجديد»، ١٩٣٣م، الأعداد: ٥، ٦، ١١) فقد زالت الشكوك تمامًا حول هذا الأمر.
وباعتباره فنانًا أصيلًا فقد سعى م. أ. شولوخوف أن يتصرَّف من الناحية الأدبية بأن يقف في مواجهة النظام البيروقراطي؛ فاتخذ من قرية فيشينسكايا، البعيدة عن «السلطة»، مستقرًّا ومقامًا، متجنِّبًا بذلك الأباطيل السياسية اليومية. ولكنه ظل خاضعًا في أحيان كثيرة للدوجمات الأيدلوجية، التي تركت أثرها على آرائه، بوصفه كاتبًا حزبيًّا. وفي الثلاثينيات، عندما اتخذ شولوخوف موقفًا مؤيدًا لحملة توحيد لغة الأدب، قَبِل آنذاك الاضطهاد الذي مُورس ضد «أعداء الشعب» (رغم أنه من المعروف أن «الأجهزة» اتخذت في نهاية الثلاثينيات إجراءات ضد الكاتب نفسه، لولا لجوء الكاتب إلى أعلى الجهات في البلاد وإلغاء العملية). وأخيرًا، فقد شارك الكاتب في الستينيات والسبعينيات في الحملات التي نُظِّمت ضد سولجينتسين وغيرهم من «المخالفين في الفكر».
إن مصير ميخائيل شولوخوف نفسه أصبح يمثِّل، على نحو ما، دراما الاختلاف بين الموهبة الكبرى والنظام الشمولي، ويمثِّل دليلًا مريرًا على قدرة الأخير على إيذاء الفنان، الذي لا حول له ولا قوة في مواجهة عنف الكذب السياسي، ومن ثم اضطرار الفنان للتضحية بجوانب ما من شخصيته من أجل الحفاظ على إمكانية الإبداع الفني.
أعمال م. أ. شولوخوف
صدرت أعمال م. شولوخوف مراتٍ عديدةً بأعداد كبيرة.
أعمال عن م. أ. شولوخوف
ياكمينكو ل، إبداع م. أ. شولوخوف، الطبعة الثانية، موسكو، ١٩٧٠م؛ بالييفسكي ب، الأهمية العالمية لشولوخوف، في كتاب بالييفسكي ب، الأدب والنظرية، الطبعة الثانية مزيدة، موسكو، ١٩٧٨م.
بيريوكوف ف، الكشوف الفنية لميخائيل شولوخوف، موسكو، ١٩٨٠م.
(١-٤٥) ألكسندر ألكسندروفيتش فادييف
(١١ / ٢٤ ديسمبر ١٩٠١م، كيمري بمحافظة تفير – ١٣ مايو ١٩٥٦م، ضاحية بيريديلكينو بالقرب من موسكو، دُفن في مقبرة نوفوديفيتشي).
وُلد أ. أ. فادييف في أسرة مدرس يعمل في الريف، ينحدر من عائلة من فلاحي تفير. تشتَّت مبكرًا؛ فقد ترعرع مدرس المستقبل في بيت زوج والدته في الجانب الآخر من روسيا، في الشرق الأقصى. في الفترة من عام ١٩١٢م وحتى عام ١٩١٩م درس في المعهد التجاري في مدينة فلاديفوستوك. كان الابن مولعًا منذ شبابه بالحركة الثورية (انضمَّ إلى البلاشفة وأصبح عضوًا في الحزب في عام ١٩١٨م، ثم شارك في الحرب الأهلية وعمل في التنظيمات السرية في الشرق الأقصى وكان اسمه الحزبي الحركي: بوليجا). سافر إلى موسكو عام ١٩٢١م ليدرس في أكاديمية موسكو للتعدين، ولكنه لم يكمل الدراسة بها بعد أن قضى عدة سنوات. اشتغل بالصحافة الحزبية في كراسنودار ورستوف على نهر الدون، ثم أصبح ناشطًا في الجمعية الروسية للكتَّاب البروليتاريين (راب) منذ منتصف العشرينيات، وهو واحد من قياداتها الأساسيين. وفي هذه الفترة اجتاز مدرسة «القيادة الحزبية» للأدب.
وبعد التصفية الإدارية للجماعات الأدبية كافةً وإنشاء اتحاد واحد ووحيد للكتَّاب السوفييت أصبح واحدًا من قياداته. وفي الفترة من ١٩٣٩م وحتى ١٩٤٤م كان أمينًا لاتحاد كتَّاب الاتحاد السوفييتي، وفي الفترة من ١٩٤٦م وحتى ١٩٥٤م (حتى انعقاد المؤتمر الثاني للكتاب)، شغل منصب الأمين العام ورئيس مجلس إدارة اتحاد الكتَّاب، ثم في الفترة من ١٩٥٤م وحتى ١٩٥٦م أمينًا لمجلس الإدارة. ولسنوات عديدة (١٩٣٩–١٩٥٦م) كان عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفييتي (البلاشفة)؛ الحزب الشيوعي السوفييتي. وإلى جانب نشاطه القيادي في اتحاد الكتَّاب، ومن قبله رئاسة الجمعية العامة للكتَّاب البروليتاريين (راب) سعى أ. أ. فادييف أن يضم إلى عمله هذا العمل الأدبي الإبداعي.
ظلَّت هذه الرواية على مدى نصف قرن هي «كتاب الحياة» النموذجي، والإلزامي أيضًا، لعديد من أجيال التلاميذ السوفييت. وإلى جانب رواية «الهزيمة» لعبت روايته الأخرى «الحرس الفتي» الدَّور نفسه في حياة الناس، ولكن بعد أن وضعت الحرب الوطنية العظمى أوزارها (كُتبت الرواية عام ١٩٤٥م، وصدرت طبعتها الثانية في عام ١٩٥١م). وقد كتب فادييف هذه الرواية وهو مفعم بالآمال، عازم على تمجيد ما أظهره الشباب السوفييتي من مقاومة في ظروف الاحتلال الفاشي. وقدَّم فادييف في هذه الرواية الأحداث والناس بأسلوبه وعلى نحو مثالي الأحداث والبشر المشاركين فيها، مستندًا، ظاهريًّا فقط، على الوثائق. وقد حظيت الرواية بنجاح بين القراء، فضلًا عن منحها جائزة ستالين عام ١٩٤٦م، على أنها أثارت بعد ذلك بعام واحد فقط سخطًا شديدًا لدى القيادات السياسية بزعم أنها أظهرت الشباب موجَّهًا في كل خطوة يخطوها بالتعليمات الحزبية اليومية التي تُصدرها هذه القيادة. وأن أ. أ. فادييف، الكاتب الحزبي الملتزم، قد أدخل تعديلات جوهريةً على الرواية تمشيًا مع هذه التعليمات.
شغل فادييف مناصب رفيعةً في عالم الأدب، وفي الحزب أيضًا، وكان يمتلك سلطات واسعةً أتاحت له التأثير على الكتَّاب ومصائرهم، وظل له هذا التأثير على سير العملية الأدبية ذاتها. ولأنه كان قائمًا على أمر «إدارة» ما يُعرف ﺑ «التوجُّه الحزبي»، على الرغم من النوايا الذاتية للكاتب، فقد أدَّى الأمر إلى قمع الفكر الصادق وحرية الإبداع وإلى تخريب القانون الداخلي للحركة الأدبية. لم يكن من الممكن ألَّا يعاني فادييف من أزمة حادة بعد وفاة ستالين وظهور بعض «الميول الليبرالية» في الحياة الاجتماعية والأدبية، فانتهى أمره بالانتحار في ١٣ مايو ١٩٥٦م.
وفي خطابه «إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي»، على وجه التحديد، كتب فادييف يقول: «لم يعد استمراري في الحياة ممكنًا؛ فالفن الذي وهبته حياتي، قد ملك أمره قيادة حزبية جاهلة مغرورة، والآن أصبح إصلاح الأمر مستحيلًا. إن حياتي، بوصفي كاتبًا، قد فقدت كل معنًى لها. وها أنا بكل رضًا، وكنوع من الخلاص من هذا الوجود الشائن، أُغادر هذه الحياة، التي ينقَض فيها الناس عليك بكل وقاحة وكذب وافتراء.»
وقد وصف الكاتب ك. أ. تشوكوفسكي بدقة وإيجاز شخصية فادييف، عندما كتب في «يومياته» في نفس يوم انتحاره يقول: «يمكنك أن تشعر، بعد أن تُزيح كل هذا الركام، بهذا العصامي الروسي، هذا الرجل العظيم، يا إلهي! يا له من ركام! كل أكاذيب ستالين ووحشيتها البلهاء، كل هذه البيروقراطية البشعة، كل هذا الفساد المستشري في أجهزة الدولة، كلها وجدت في هذا الكاتب أداتها الطيِّعة. لقد كان رجلًا طيبًا في جوهره، فيَّاضًا بالمشاعر الإنسانية، محبًّا للأدب «مرهف الإحساس به». كان عليه أن يقود سفينة الأدب في طريق الأهوال والخزي، محاولًا الجمع بين ما هو إنساني في هذا الأدب وبين تعليمات لجنة أمن الدولة. من هنا كان سلوكه المختل، ومن هنا أيضًا كان ضميره معذَّبًا في الأعوام الأخيرة.»
وفي عصر بريجنيف بدأت الدولة في إعادة الاعتبار لشخصية أ. أ. فادييف، وفي عام ١٩٧٤م تم تأسيس الجائزة التقديرية للأدب التي تحمل اسمه.
أعمال أ. أ. فادييف
الأعمال الكاملة في سبعة أجزاء، موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٦٩–١٩٧١م.
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، «برافدا»، ١٩٨٧م.
عن الأدب، مجموعة مقالات، موسكو، «سوفريمينيك»، ١٩٨٢م.
أعمال عن أ. أ. فادييف
أوزيروف ف، ألكسندر فادييف، موسكو، ١٩٧٠م.
بوبوريكين ف. ج، ألكسندر فادييف، مصير كاتب، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٨٨٩م؛ شيشكوف س. أ. فادييف، سيرة حياة وإبداع الطبعة الثانية، موسكو، ١٩٧٣م؛ جوكوف إ. إ. يد القدر، الحقيقة والكذب حول ميخائيل شولوخوف وألكسندر فادييف، موسكو، ١٩٩٤م؛ فادييف، موسكو، «مولودايا جفارديا»، ١٩٨٩م.
(١-٤٦) نيكولاي ألكسيفيتش زابولوتسكي
(٢٤ أبريل/٧ مايو ١٩٠٣م، كازان – ١٤ أكتوبر ١٩٥٨م، موسكو).
تعود أصوله إلى فلاحي منطقة فياتسكايا. كان والده أول من تلقَّى تعليمًا في عائلته، فعمل مهندسًا زراعيًّا، وفي العام الذي وُلد فيه ابنه نيكولاي تولَّى إدارة الشركة الزراعية بالإقليم. كان يرى في ابنه وريثه في تخصُّصه، فراح يُعلِّمه أسرار الطبيعة. عاش نيكولاي ألكسيفيتش زابولوتسكي في قرية سيرنور من سن السابعة وحتى الرابعة عشرة، وقد كتب عنها فيما بعدُ قائلًا: «لم تغب عن قلبي مطلقًا الطبيعة الرائعة لسيرنور وانعكست صورها في الكثير من أشعاري.»
كان ن. أ. زابولوتسكي مولعًا بالتجريب الفني في بداية طريقه الإبداعي. خاض تجربة الإعجاب بالرمزية، ثم اشتغل بالشعر الطليعي (ف. خليبنيكوف) وجذبته رسوم ب. فيلونوف، وب. بريجيل، وكان واحدًا من مؤسسي جماعة أوبيريو (جماعة الفن الحقيقي). أما في سنوات النضج الفني فقد اكتشف لنفسه قيمًا أخرى؛ ففي كتابه الرائع الأول «الأعمدة» (١٩٢٩م) جمع فيه موضوعات تبدو غايةً في التضاد، من الشخصيات الروسية القديمة إلى الأساليب السوريالية والعبثية. وفي سياق تيار الإبداع التركيبي كتب قصائد «انتصار الفلاحة» (١٩٢٩-١٩٣٠م)، «الذئب المجنون» وغيرها. وفي فترة «الانعطافة الكبرى» أثارت أشعاره اهتمامًا كبيرًا، فضلًا عن إثارتها أيضًا للنقد بعد أن تحوَّل غموض أعماله هدفًا للشك الأيديولوجي والاتهامات السياسية. وقد مُنعت قصيدته «انتصار الفلاحة» من النشر في مجلة «زفيوزدا» (النجم) بعد جمعها، لتعود مرةً أخرى إلى الرقابة، أُعيد بعدها طبع العدد. وكانت القصيدة قد اعتُبرت هجاءً لنظام المزارع الجماعية. وعند إعدادها للنشر في عام ١٩٣٣م، صدر قرار بمنعها.
في منتصف الثلاثينيات تعرَّضت الرؤية الجمالية عند ن. أ. زابولوتسكي إلى تغييرات جادة؛ ففي أشعاره ذات النزعة الفلسفية الطبيعية نقابل لديه موضوعاتٍ تكشف عن العلاقات الدرامية بين الإنسان والطبيعة «الخطرة»، والثقة غير المبرَّرة في «وحشية» هذه الطبيعة، ثم التحديات المطلوبة «لترويضها». وفي الوقت نفسه نجد الشاعر يتحدَّث بشجَن بالغ عن قسوة «التحوُّلات» كافة. أمَّا أشعار زابولوتسكي في هذه الفترة، فقد يكون من الممكن، أن نصفها بأنها كانت قريبةً للغاية من التفكير المميَّز للأدب السوفييتي.
لم يصدر ديوان ن. أ. زابولوتسكي الشعري الجديد سوى في عام ١٩٣٧م، وفي مارس عام ١٩٣٨م تم اعتقاله، وبعد تحقيقات قاسية تمَّت دون محاكمة، حُكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام (أُضيف إليها ثلاثة أخرى بسبب الحرب)، قضاها زابولوتسكي في منطقة الشرق الأقصى، في إقليم كومسومولسكا على نهر آمور، في بناء خط للسكك الحديدية. ثم تبع ذلك النفي إلى ألتاي وكاراجاندا. وفي يناير من عام ١٩٤٦م فقط يعود الشاعر إلى الأدب، في البداية باعتباره مترجمًا (بالمناسبة فقد كان زابولوتسكي في الثلاثينيات يكتسب قوت يومه من العمل بترجمة أدب الأطفال: «تيل أولينشبيجل» لشارل كوستير، «جارجانتيوا وبانتاجرويل» لفرانسوا رابليه، «الفارس في جلد النمر» لشوتا روستافيلي). وقد بدأ في سنوات ما قبل الحرب في ترجمة «قصة فيلق إيجورييف» لينتهي من ترجمتها في عام ١٩٤٦م.
في عام ١٩٤٨م صدر له ديوانه الثالث «أشعار». وفي فترة «ذوبان الجليد» فقط أُتيحت الفرصة أمام ن. أ. زابولوتسكي لنشر أشعاره الأساسية. وكان ديوان «أشعار» هو ختام أعماله وصدر في عام ١٩٥٧م.
تركت خبرة الحياة وصدمة السجن ومعسكرات الاعتقال وغيرها من «الفظائع» في عالم البشر أثرًا كبيرًا على رؤية ن. أ. زابولوتسكي للطبيعة؛ ففي أشعاره الأخيرة تظهر الطبيعة الفلسفية المتأخرة وقد تميَّزت بالوضوح والحزن والمثالية والتعاطف والإحساس بالسر العظيم للوجود. تراجعت المفردات العاصفة التي ميَّزت الشعر العاطفي المبكِّر أمام الانسجام والتأمل، وتراجع الآلهة السابقون أمام ديرجافين وبوشكين وتيوتشيف وباراتينسكي، وماندلشتام الذي كان قريبًا منه. ولكن حتى أشعار زابولوتسكي الأخيرة خلت من الصفح والغفران؛ لم يتصالح الشاعر مطلقًا مع «نظام» الحياة التي خبرها هو ورفاقه في معترك الأدب («في مكان ما بالقرب من «ساحة ماجادان»، «وداع الأصدقاء» وغيرها»).
أعمال ن. أ. زابولوتسكي
الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء، موسكو، ١٩٨٣-١٩٨٤م.
مختارات في جزأين، موسكو، ١٩٧٢م.
قصائد وأشعار، موسكو، ليننجراد، ١٩٦٥م.
(مكتبة الشاعر) أعمال مختارة، موسكو، ١٩٩١م.
أعمال عن ن. أ. زابولوتسكي
روستوفتسيفا ن، نيكولاي زابولوتسكي، خبرة الوعي الفني، موسكو، ١٩٨٤م؛ ماكيدونوف أ، نيكولاي زابولوتسكي، حياته وإبداعه وتحولاته، ليننجراد، ١٩٨٧م؛ ذكريات عن ن. زابولوتسكي، موسكو، ١٩٨٤م.
(١-٤٧) أركادي بتروفيتش جايدار
(٩ / ٢٢ يناير ١٩٠٤م، لجوف بمحافظة كورسك – ٢٦ أكتوبر ١٩٤١م، قرية ليبليافا بالقرب من كانيف، جمهورية أوكرانيا السوفييتية، نُقل رفاته فيما بعدُ إلى كانيف).
وُلد أ. ب. جايدار (الاسم الحقيقي لعائلته جوليكوف) في عائلة مدرس في الأرياف. وكانت أمه أيضًا مدرِّسة، عملت بعد ذلك قابلة. كان الولدان ينتميان إلى الأنتلجنسيا البلشفية ذات النزعة الديمقراطية، كلاهما كان منذ اندلاع الثورة عضوًا في الحزب، وكان الوالد قوميسارًا (وزيرًا) في أثناء الحرب الأهلية. في طفولته كان أركادي جايدار شديد الارتباط بوالديه، ثم انفصل عن الأسرة بعد ذلك.
دأب على التنقُّل بصحبة الأسرة من مدينة إلى أخرى من مدن نهر الفولجا (فاريخا، نيجني نوفجورود، أرزاماس). تلقَّى منذ عام ١٩١٤م تعليمه في معهد أرزاماس. وفي عام ١٩١٧م أخذته دُوامة أحداث الثورة، فأقام علاقات مع البلاشفة وشارك في أعمال الدوريات، التي كانت تقوم بها الوحدات الخاصة، وتسلَّم، ولم يكن عمره يتجاوز الثالثة عشرة بعد، سلاحًا قتاليًّا في يديه، وشارك في تبادل إطلاق النار. وفي ديسمبر عام ١٩١٨م تطوَّع أركادي جايدار، صاحب البنية القوية والطول الفارع، الذي لم يكمل من العمر خمسة عشر عامًا في صفوف الجيش الأحمر. ومنذ هذه اللحظة وعلى مدى ثلاثة أعوام ونصف راح أركادي جايدار ينتقل من جبهة إلى أخرى إبَّان الحرب الأهلية. وبعد أن أنهى عدة دورات قيادية قصيرة في كييف، ثم في موسكو (في تخصُّص «إطلاق النار») شغل مواقع قياديةً متنوِّعة حتى وصل إلى رتبة قائد فوج ليتولَّى قيادة إخماد انتفاضة الفلاحين بقيادة أنطونوف، والتي نشبت في محافظة تامبوف، ليُصبح قائدًا للمنطقة العسكرية على الحدود مع منغوليا. أتاحت له هذه المناصب أن يكون مسئولًا عن حياة أو موت أناس آخرين. لم تكن معاناة الحروب تمر دون أن تترك آثارها؛ فها هو جايدار يكتشف إصابته ﺑ «التهاب الأعصاب»، فحصل على إجازة مرضية طويلة في نهاية عام ١٩٢٢م، وبعد عام ونصف أُحيل إلى التقاعد.
في الأعوام من ١٩٢٢م إلى ١٩٢٤م كتب أ. ب. جايدار أول قصة له بعنوان «في أيام الهزائم والانتصارات» (صدرت في عام ١٩٢٥م). عمل بعد ذلك عدة سنوات صحفيًّا في مدينة بيرم، ومنها سافر في مهمة صحفية إلى آسيا الوسطى. في ١٩٢٧-١٩٢٨م عاش في موسكو وعمل في صحيفة «المقاتل السوفييتي» العسكرية، سافر بعدها لمدة عام إلى أرخانجلسك، وهناك عمل بالصحافة أيضًا، وفي نهاية الأمر، استقرَّ به المقام ليعيش في موسكو منذ عام ١٩٣٠م.
في عام ١٩٣٠م، اكتشف أ. ب. جايدار طريقه في الأدب، عندما كتب رواية «المدرسة» صدر منها على الفور عدة طبعات بأعداد كبيرة. وقد دعمها النقد المؤثر بشكل حيوي (مقالة أ. فادييف في «الصحيفة الأدبية»، وفي المقالة الافتتاحية لصحيفة «البرافدا»، وفي صحف ومجلات أخرى). ومنذ هذه اللحظة أصبح أ. ب. جايدار أكثر كتَّاب الأطفال شهرةً وشعبية. وظهرت مؤلفاته الجديدة في أوسع الصحف والمجلات انتشارًا، وتم طبعها في إصدارات مستقلة مرات عديدة («السر العسكري» ١٩٣٥م، «الكأس الزرقاء» ١٩٣٦م، «مصير عازف الطبل»، «تشوك وجيك» ١٩٣٩م، «تيمور وفريقه» ١٩٤٠م وغيرها).
ومنذ الثلاثينيات وعلى مدى نصف قرن تقريبًا ظل أ. ب. جايدار أكثر الكتَّاب تأثيرًا في الأطفال، فضلًا عن كونه كاتبهم المفضل (ناهيك عن الكبار الذين يرَون أن «ظلام الحقائق الدنيئة أعز لديهم من الخداع السامي»). كان «الخداع السامي» ضروريًّا لجايدار نفسه. لقد كان للعصبية الهائلة والحمولة النفسية الزائدة، التي عاشها الكاتب في سنوات المراهَقة والشباب، والتي عاناها من خلال الثورة والحرب الأهلية، اللتين أحاطتا به من كل جانب بدمائهما وبما فيهما من عنف، ثم تجربة امتلاكه في سن مبكرة لسلطة تسمح له بالتحكُّم في حياة وموت آخرين، وضرورة المخاطرة بحياته ذاتها، كل ذلك كان له أثره الهائل على روحه. كان جايدار يستطيع أن يخلق في أدبه موضوعاتٍ مليئةً بالتوتر، هو نفسه أدَّى أكثر من مرة دَور البطل الكاتب؛ الصديق، القائد، الكاتب-المقاتل، المواطن-الشجاع، الطيب، صاحب الروح السامية، الذي يؤدِّي واجبه بإخلاص.
وتكشف الكلمة التي ألقاها جايدار أمام اللجنة المركزية للكومسومول عن كثير ممَّا يجيش في صدره: «يومًا ما سيأتي أناس يقولون، لقد عاش هناك هؤلاء الناس الذين كانوا يسمُّونهم بدهاء كتابًا للأطفال، وفي واقع الأمر فهؤلاء الكتَّاب هم الذين أعدوا لنا حرس النجمة الحمراء القوي.»
الأمر، لحسن الحظ، ليس تمامًا على هذا النحو. إن الشحنة الروحية لديه لم تكن «براجماتية» على نحو قاسٍ وخطير، ومن ثم كان من الضروري التخفيف من أثر الانطباع الصادم الناتج عن الصراعات الاجتماعية والأخلاقية للعصر، عن الصراع مع «الأعداء الطبقيين»، عن «الجواسيس» («مصير عازف الطبل»)، عن المعارك القادمة مع «البرجوازيين» («السر العسكري»)، عن «غزاة الطبيعة» («تشوك وجيك»)، عن المآسي العائلية («الكأس الزرقاء») وهلم جرًّا.
كان باستطاعة أ. ب. جايدار الكتابة، بحيث تظهر الأحداث والأبطال داخل هالة الصراع بين الخير والشر، بينما يتلقَّى القارئ شحنة من الشرف والكرامة، ويتعلَّم كيف يُصبح شديد المراس وأن يضحِّي بنفسه في سبيل القضية العادلة إلى آخره.
لقد بذل أ. ب. جايدار كل ما في وسعه لكي يغلق عيني القارئ عن الواقع الشرير، الذي كان سائدًا في تلك الفترة، فخلق بلدًا يعيش فيه الناس وفقًا لقانون الخير والواجب وتبادل المنفعة. إن شخصية «الإنسان السوفييتي» في أفضل صفاتها وتجلياتها مدينة بالتأكيد لأستاذية جايدار الأخلاقية والعاطفية. أمَّا الضربات القاصمة، التي عانت منها روحه والمصائر المأساوية، والعواطف الداخلية، التي عاشها الكاتب، فسوف تظل مختفيةً في الأعماق السرية لسيرة حياته.
أعمال أ. ب. جايدار
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، دار نشر «دييتسكايا ليتيراتورا» (أدب الطفل)، ١٩٦٤-١٩٦٥م.
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، «دييتسكايا ليتيراتورا»، ١٩٧١–١٩٧٣م، وفي طبعات أخرى كثيرة.
أعمال عن أ. ب. جايدار
أركادي جايدار، حياته وإبداعه (إعداد: ن. إ. ريباكوف)، موسكو، دار نشر «بروسفيشينيا» (التنوير)، ١٩٩١م.
جايدار ت. أ. جوليكوف، أركادي من أرزاماس، موسكو، دار نشر «بوليتيزدات»، ١٩٨٨م.
(١-٤٨) دانييل خارمس
(١٧ / ٣٠ ديسمبر ١٩٠٥م، بطرسبورج – ٢ فبراير ١٩٤٢م، في السجن).
الاسم الأصلي للكاتب هو يوفاتشيف. والده، إيفان بافلوفيتش يوفاتشيف، نبيل، ضابط بحري، شارك في شبابه في حركة نارودنايا فوليا (الإرادة الشعبية)، قضى عقوبة الحبس في قلعتَي بتروبافلوفسك وشليسيلبورج، وتم نفيه بعد ذلك إلى جزيرة ساخالين، أعلن عن توبته عن ذنوبه ﻟ «ميوله الثورية»، كانت بينه وبين ليف تولستوي خطابات متبادلة، تحوَّل في نهاية حياته إلى أرثوذوكسي شديد التدين. أطلق على ابنه اسم دانييل تيمنًا باسم النبي دانييل.
الاسم الأدبي الأساسي للكاتب هو «د. خارمس»، وكانت لديه، فضلًا عن ذلك، عدة أسماء مستعارة: د. شاردام، داندان، إيفان توبوريشكين، وأسماء أخرى، وهي أسماء عكسَ تنوُّعها وغموضها الطابع الجروتسكي «المبهم» في إبداع د. خارمس.
الْتحق في عام ١٩١٥م بأحد المعاهد، التي كانت جزءًا من مدرسة سان بيتر الألمانية، ولكنه أنهى دراسته الثانوية في الفترة السوفييتية (١٩٢٤م) في مدرسة ديتسكو الصناعية، والتي كانت عمته ن. إ. كاليوباكينا، مدرِّسة الأدب الروسي، مديرًا لها. وفي العام نفسه الْتحق بمعهد ليننجراد للكهرباء (لم يُكمل الدراسة به)، وفي عام ١٩٢٦م الْتحق بالدورات الحكومية التي كان ينظِّمها معهد تاريخ الفنون (ولم يُكمل الدراسة به أيضًا).
وفي تلك السنوات شعر د. خارمس بشكل محدَّد تمامًا أنه خُلق ليكون شاعرًا، فراح ينظِّم العديد من القصائد (تعود إحدى أوائل قصائده الباقية حتى الآن إلى عام ١٩٢٢م). في عام ١٩٢٥م تقدَّم د. خارمس بطلب انضمام إلى اتحاد شعراء عموم روسيا فرع ليننجراد (بعد أن ترك للاتحاد كُراستين ضمَّتا أشعارًا لم تُنشر). وقد قُبل طلبه في مارس ١٩٢٦م. وتعوَّد معرفته بالكتَّاب الحداثيين (ن. كليويف وغيره) إلى هذه الفترة؛ حيث توطَّدت صِلاته الودية بالأدباء الشباب الذين كانوا ينهجون نهجه الإبداعي نفسه (أ. فيينسكي، ك. فاجينوف، ن. زابولوتسكي، أ. توفانوف وغيرهم).
في عام ١٩٢٦م، ظهرت جماعة شعراء «تشينار» (من الصعب أيضًا تفسير هذا الاسم، الذي يحمل ربما، طابعًا هزليًّا غريبًا). وفي هذا العام بدأت الجماعة في تقديم عروضها الأدبية المسرحية المشتركة. وقد أصبحت هذه الجماعة نواةً لإبداع طليعي بروح جماعة أوبيريو (جماعة الفن الحقيقي)، التي تشكَّلت مع مطلع عام ١٩٢٨م. بحلول هذه الفترة أصبح د. خارمس مؤلفًا للعديد من الأعمال التي لم تُنشر؛ قصائد شعرية، مسرحيتان: «يليزافيتا بام»، «كوميديا مدينة بطرسبورج» وغيرها.
أثارت العروض الجماعية لجماعة «أوبيريو» انتقادات عدوانيةً حادة في صحافة الكومسومول (الشبيبة الشيوعية) في تلك السنوات، الأمر الذي أدَّى على الفَور إلى استحالة وجود هذه الجماعة بشكل قانوني. كما أدَّى حظر الأشكال الحرة للتعبير الأدبي أيضًا إلى اضطرار د. خارمس ورفاقه إلى اللجوء للاشتغال بأدب الأطفال (ويعود الفضل في جذبهم إلى عالم أدب الأطفال بالدرجة الأولى إلى كلٍّ من س. ي. مارشاك وق. إ. تشوكوفسكي).
تعرَّض د. خارمس للملاحقة منذ بداية الثلاثينيات، فاعتُقل للمرة الأولى في ديسمبر ١٩٣١م (أطلق سراحه في يونيو ١٩٣٤م، ولكنه أُرسل للمنفى في كورسك ليعود منها في نوفمبر من العام نفسه).
في عام ١٩٣٤م تم قَبول د. خارمس في اتحاد الكتَّاب السوفييت. وقد استمرَّ في العمل على كتابة أعمال ذات مضمون عبثي، وظل على علاقة إبداعية وودية طيبة مع عدد محدود من الأصدقاء المقرَّبين له (ل. ليبافسكي، ي. دروسكين، أ. فيدينيسكي، ف. بيتروف، ن. أولينيكوف وغيرهم). وعلى مدى هذه السنوات ظل د. خارمس بعيدًا عن الصدام مع «الجهات الأمنية»، وإن ظل تحت الرقابة، ومن حين إلى آخر كانت هذه الجهات «تختبره»، وما إن اندلع أُوار الحرب حتى تم اعتقاله من جديد في أغسطس ١٩٤١م. ووفقًا لمعلومات غير مؤكدة تمامًا فقد استُدعي من ليننجراد ليموت في مستشفى السجن في الثاني من فبراير ١٩٤٢م.
دخل د. خارمس إلى عالم الأدب باعتباره كاتبًا تميَّزت مؤلفاته بالغرابة وانتفاء المنطق واستخدام المبالغة (الجروتسكية) للتعبير عن احتجاجه على انهيار النسيج الثقافي والمعيشي للحياة والانحطاط الروحي للناس، وهي أمور كان الكاتب شاهدًا عليها في العشرينيات والثلاثينيات. وفي مسرحيتي «يليزافيتا باك» و«كوميديا مدينة بطرسبورج» (كُتبتا عام ١٩٢٧م)، وفي قصة «العجوز» (١٩٣٩م)، وسلسلة «الوقائع» (١٩٣٦–١٩٣٩م) وغيرها، أصبح الجروتسيك (المبالغة) والعبث واللامعقول يمثِّلون الأسلوب الفني المعبِّر عن اغتراب شامل لا يُقهر لإنسان سقط في تبعية لا يمكنه تجاوزها لقوًى عدوانية مناوئة للحياة.
بعد إعادة الاعتبار للكاتب في الخمسينيات أُعيد نشر مؤلفاته (النصوص المكتوبة ﻟ «الأطفال» أولًا). وفي الأعوام الأخيرة الماضية تم نشر كل أعمال الكاتب التي اكتُشفت، وهي محل دراسة الباحثين في روسيا وفي الخارج أيضًا، بعد أن تم ترجمة العديد منها. يُعد د. خارمس واحدًا من مؤسسي أدب العبث الأوروبي الحديث. وفي الوقت نفسه فقد نال شهرةً واسعة وشعبية كبيرة باعتباره كاتبًا لامعًا للأطفال.
أعمال د. خارمس
الطيران إلى السماء، شعر، نثر، دراما، خطابات (المقال الافتتاحي، إعداد النص والتعليقات: أ. أ. ألكسندروف)، ليننجراد، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٨م.
حمَّام أرشميدس، قنسطنطين فاجينوف، نيكولاي زابولوتسكي، دانييل خارمس، نيكولاي أولينيكوف، ألكسندر فيدرينيسكي، إيجور باختيريف (إعداد النص، المقال الافتتاحي والتعليقات: أ. أ. ألكسندروف)، ليننجراد، «خودجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩١م.
أعمال عن د. خارمس
شيشمان ي. ي. بعض الحكايات السعيدة والحزينة عن دانييل خارمس وأصدقائه، ليننجراد، ١٩٩١م؛ وكذلك مقالات لألكسندر ألكسندروف في الأعمال السابق ذكرها لدانييل خارمس.
(١-٤٩) فاسيلي سيميونوفيتش جروسمان
(٢٩ نوفمبر/١٢ ديسمبر ١٩٠٥م، بيرديتشيف – ١٤ سبتمبر ١٩٦٤م، موسكو).
وُلد ف. س. جروسمان (الاسم الحقيقي يوسيف سولومونوفيتش) في عائلة مهندس كيمياء، كانت والدته مدرِّسةً للغة الفرنسية. في عام ١٩٢١م التحق بمعهد كييف للتعليم الشعبي، انتقل في عام ١٩٢٣م إلى جامعة موسكو الأولى ليلتحق بكلية الفيزياء والرياضيات (قسم الكيمياء)، ليُنهي الدراسة بها في عام ١٩٢٩م. عمل في المناجم في منطقة الدونباس، ثم انتقل منها إلى موسكو في عام ١٩٣٢م لأسباب صحية. ومنذ هذا التاريخ بدأ ف. س. جروسمان نشاطه الأدبي. وقد لفت إليه الانتباه بعد صدور قصته القصيرة «في مدينة بيرديتشيف»، ثم قصته «منجم»، «كليوكاوف» (العملان ظهرا عام ١٩٣٤م). واصل ف. ي. جروسمان عمله متناولًا موضوع «الطبقة العاملة والثورية» في رواية «ستيبان كالتشوجين» (١٩٣٧–١٩٤٠م). وفي الوقت نفسه فقد بدأت خبرته الذاتية في الظهور في الأدب الجديد الحر، فكتب قُبيل الحرب مسرحية «إذا كنت تؤمن باتباع فيثاغورس»، طرح فيها موضوعات التكرار القدري للأحداث العالمية (نُشرت عام ١٩٤٦م، وقد قوبلت باستهجان حاد من دوائر النقد الرسمي).
جاءت الحرب لتُصبح هي المرحلة المهمة في مصير ف. س. جروسمان الإبداعي والروحي. كانت رواية «الشعب هو الخالد» (١٩٤٢م) واحدةً من أفضل الأعمال التي كُتبت عن الحرب في تلك الفترة، ثم تبعها بعدد من المقالات تحت عنوان «سنوات الحرب»، التي أصبحت بمثابة المسوَّدات والمخزون الأول لمؤلفاته الأساسية التي وضعها بعد ذلك.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بدأ ف. س. جروسمان في كتابة روايته الأولى «من أجل القضية العادلة» (١٩٥٢م). وقد خلقت هذه الرواية جوًّا من الإثارة الأدبية نظرًا لِما احتوت عليه من أفكار هائلة عن الحرب، ومع ذلك فقد استقبلها النقد الرسمي بشيء من الشك، وبعد إدخال بعض التعديلات عليها أُعيد نشرها في عام ١٩٥٤م.
وفي سنوات «ذوبان الجليد» بدأ ف. س. جروسمان العمل في الجزء الثاني من حكايته لأحداث الحرب برواية «الحياة والقدر» لينتهي منها عام ١٩٦١م، وعندما قدَّمها إلى مجلة «زناميا» (الراية) رفضت رئاسة المجلة نشرها لأسباب أيديولوجية. وسرعان ما صادرت لجنة الأمن القومي (كي. جي. بي) الرواية، أمَّا قيادات الحزب (وعلى رأسهم ميخائيل سوسلوف) فقد أعلنت أن الرواية «معادية للشعب السوفييتي»، وأنها لن تُنشر أبدًا. على أن مسوَّدة الرواية كُتب لها النجاة، ممَّا أتاح الاحتفاظ بها وإعادتها للحياة.
كان للصدمة الكبيرة التي تلقَّاها الكاتب بسبب مصير روايته، أثر كبير على تدهور صحته، فأُصيب بالسرطان ليقضي نحبه وهو في التاسعة والخمسين من العمر.
كان ف. س. جروسمان يعمل، في الوقت نفسه الذي كتب فيه روايته «الحياة والقدر»، في قصة «كل شيء يمضي»، التي بدأها في عام ١٩٥٥م، وهو عمل «هجين» يجمع بين النثر الاجتماعي والفلسفي، سعى الكاتب من خلاله، وكما قدَّم من قبل في رواية «الحياة والقدر»، أن يفهم تاريخ روسيا، وما وقع فيه من أحداث طوال سنوات السلطة السوفييتية.
وقد ظلَّت هذه المؤلفات، شأنها في ذلك شأن مؤلفات «الساميزدات» لسنوات طويلة تمثِّل حقائق أدبيةً سرية «خفية». وعندما صرَّح بنشرها أثارت جدلًا حادًّا.
أعمال ف. س. جروسمان
الحياة والقدر، رواية، موسكو، ١٩٨٨م.
بضعة أيام حزينة، قصص طويلة وقصيرة، موسكو، ١٩٨٩م.
الحياة والقدر، مدينة تالين، ١٩٩٠م (أكثر الطبعات اكتمالًا).
أعمال عن ف. س. جروسمان
بوتشاروف أ. فاسيلي جروسمان، حياته وإبداعه ومصيره، موسكو، ١٩٩٠م؛ «حياة وقدر» فاسيلي جروسمان، موسكو، ١٩٩١م (من وجهات نظر متعدِّدة).
(١-٥٠) دانييل ليونيدوفيتش أندرييف
(٢ نوفمبر ١٩٠٦م، برلين – ٣٠ مارس ١٩٥٩م، موسكو).
تلقَّى د. ل. أندرييف تعليمه في المنزل أولًا على يد مدرِّس جرت دعوته لهذا الغرض، ثم في مدرسة خاصة تمتلكها الأخوات ريبمان. أنهى تعليمه الثانوي في العشرينيات في مدرسة عمالية سوفييتية مشتركة. لم تقبله جامعة موسكو بسبب انتمائه «لطبقة اجتماعية أخرى». أنهى دورات الدراسات الأدبية العليا. كان أندرييف يكسب عيشه من خلال عمله في صف حروف الطباعة. لم ينشر د. ل. أندرييف في حياته عملًا واحدًا نثرًا أو شعرًا، على الرغم من أنه نظم في الثلاثينيات عددًا كبيرًا من المؤلفات الشعرية، كما بدأ آنذاك العمل في كتابة رواية «جوَّالو الليل»، حكى فيها عن زمنه، وعن الحياة الشخصية لبطله وعن الناس المحيطين به.
شارك في الحرب الوطنية العظمى جنديًّا غير محارب، دخل إلى ليننجراد المحرَّرة مع الفرقة ١١٩ مشاة (قصيدة «سفر الرؤيا الليننجرادي»، ١٩٤٩–١٩٥٣م، التي عكست انطباعاته عن هذا الزمن).
أقام في موسكو بعد الحرب مدةً قصيرة، وكان قد تزوَّج في عام ١٩٤٥م من أللا ألكسندروفنا بورجي، ابنة عالم الفسيولوجيا الموسكوفي (وكانا قد تعارفا في عام ١٩٣٧م). اعتُقل في عام ١٩٤٧م نتيجة وشاية، وُجهت إليه تهمة الإعداد لاغتيال ستالين وغيره، وحُكم عليه بالعقوبة القصوى؛ السجن لمدة خمسة وعشرين عامًا (صدر هذا الحكم في تلك الفترة القصيرة، التي أُلغي فيها حكم الإعدام). وقد حُكم أيضًا على أللا ألكسندروفنا أندرييفا بالسجن خمسةً وعشرين عامًا في معسكرات موردوفسك.
وقد قضى الكاتب الجزء الأكبر من العقوبة في سجن فلاديميرسك المركزي.
أُطلق سراح د. ل. أندرييف وزوجته بعد قضاء عشر سنوات في السجون، عندما بدأت موجة إعادة الاعتبار للذين جرى اعتقالهم دون سند قانوني. وبعد إطلاق سراحه عاش ثلاثةً وعشرين شهرًا في ظروف بالغة الصعوبة كتب خلالها بحثه المسمَّى «زهرة العالم» جمع فيه أشعاره وقصائده التي فقدت أو أصابها التلف. قضى د. ل. أندرييف نحبه بعد معاناة مرضية شديدة، نتيجة تفاقم مرض انسداد شرايين القلب، الذي أُصيب به في أثناء وجوده في السجن عام ١٩٥٥م.
ارتبط إبداع د. ل. أندرييف بتقاليد ثقافة «العصر الفضي» الدينية والفلسفية. وتُعد «الثلاثية» هي عمله الرئيسي، وهي مكوَّنة من بحثه «زهرة العالم»، وقصيدة «الغموض الحديدي»، والمجموعة الشعرية «الآلهة الروسية»، وتبلغ مجموعة القصائد بها ما يزيد على عشر قصائد، إلى جانب العديد من الأشعار العاطفية والملحمية (ما وراء التاريخية، إن شئنا الدقة).
تعرَّضت رواية «جوَّالو الليل» مبكِّرًا للتدمير وهي لا تزال مخطوطةً في أثناء اعتقاله، ولم يكن من الممكن إحياؤها. ويقع الذنب فيما حدث لهذه الرواية إلى د. ل. أندرييف نفسه؛ فقد أتاح قراءتها لعدد محدود من الناس، وكان هذا سببًا كافيًا لأن توجَّه للكاتب وللذين استمعوا للقراءة كافةً اتهامات سياسية أدَّت إلى صدور أحكام قاسية بشأنهم.
نُشرت كل أعمال د. ل. أندرييف بعد وفاته، ويرجع الفضل في ذلك إلى زوجته أ. أ. أندرييفا، التي احتفظت بنصوص زوجها وأعادت تجديدها وأتاحتها للنشر. وقد صدرت حديثًا «الأعمال الكاملة» لدانييل أندرييف في ثلاثة أجزاء، تتضمَّن شعره ونثره، فضلًا عن خطاباته ويومياته.
يُعتبر إبداع د. ل. أندرييف، شعره ونثره، سبيكةً مبتكرة للفكر الفني والفلسفي والدراسة الروحية. إن هذا الإبداع هو ثمرة موهبة مبشِّرة تسمح بالنفاذ إلى «السامي والعميق»، وإلى إدراك الأبعاد ما وراء التاريخية للوجود.
أعمال د. ل. أندرييف
الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء، الآلهة الروسية، المجموعة الشعرية، إعداد النص والمقال الافتتاحي والتعليقات: أ. أ. أندرييفا، المقال الختامي: ب. م. رومانوف، موسكو، دار نشر «موسكوفسكي رابوتشي» (العامل الموسكوفي)، وشركة أليس، ١٩٩٣–١٩٩٥م.
زهرة العالم، ما بعد فلسفة التاريخ (المقال الختامي: ف. جروشيتسكي)، موسكو، دار نشر «بروميتيه» (بروميثيوس)، ١٩٩١م (ودُور نشر أخرى).
«الغموض الحديدي»، قصيدة (المقال الافتتاحي والتعليقات: ف. جروشيتسكي)، موسكو، دار نشر «مولودايا جفارديا» (الحرس الفتي)، ١٩٩٠م؛ بلوتارك الحديث، قاموس بيوجرافي مصور، موسكو، بالاشتراك مع ف. ف. بارين، ول. ل. راكوف، موسكو، «موسكوفسكي رابوتشي»، ١٩٩١م.
أعمال عن د. ل. أندرييف
أندرييف أ، حياة دانييل أندرييف كما حكتها زوجته، مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، العدد ٧؛ بيجين ل، الألم من أجل زهرة … مجلة «زنانيا»، ١٩٩٤م، العدد ٣.
(١-٥١) فارلام تيخونوفيتش شالاموف
(١٨ يونيو/١ يوليو ١٩٠٧م، فولوجدا – ١٧ يناير ١٩٨٢م، موسكو).
في عام ١٩٢٩م، تم القبض عليه بتهمة توزيع «وصية» لينين، وكذلك «خطابه للمؤتمر». وعن ملحمة السجن الأول في بوتيريسك ثم في سجن فيشيرا، حيث قضى ثلاث سنوات في شمال الأورال، حكى ف. ت. شالاموف في كتابه «فيشيرا» (١٩٧٣م).
يسافر ف. ت. شالاموف بعد وفاة ستالين في نهاية عام ١٩٥٣م إلى موسكو، لكن إقامته بها لم تستمرَّ طويلًا؛ إذ كان ممنوعًا من المعيشة في موسكو، فذهب إلى العمل في محافظة كالينين، حيث اشتغل بأعمال البناء وغيرها. وبعد إعادة الاعتبار إليه عاد إلى موسكو ليعمل في مجلة «موسكفا» (موسكو) بوصفه مراسلًا حرًّا، وتعود مراسلاته مع بوريس باسترناك إلى الفترة من ١٩٥٢م وحتى ١٩٥٦م.
ومنذ هذا التاريخ بدأ ف. ت. شالاموف عمله الدءوب، الذي استمرَّ لعدة سنوات في «قصص من كوليما» (١٩٥٤–١٩٧٣م)، وهي قصص لم ترَ النور إبَّان حياة الكاتب في وطنه (لكنها نُشرت وعلى نطاق كبير في الخارج في الستينيات والسبعينيات). ولم تجد سبيلها إلى القارئ في بلده سوى أشعاره («الزناد» ١٩٦١م، «حفيف الأوراق» ١٩٦٤م، «طرق ومصائر» ١٩٦٧م، «سُحب موسكوفية» ١٩٧٢م، «نقطة الغليان» ١٩٧٧م). وفي مطلع الستينيات كتب شالاموف مسرحيةً استلهمها من حياة المعسكرات بعنوان «أنَّا إيفانوفنا»، بينما بقيت هناك عدة مسرحيات أخرى لم تُستكمل.
إن هذا الأدب الذي كتبه شالاموف يقدِّم على نحو ملحمي عنيف وبصدق شديد القسوة، بانوراما لمعاداة الحياة، التي عاشتها بلادنا وشعبها في القرن العشرين. إن هذه الملحمة القومية الجديدة التي لا نظير لها في هذا القرن تمثِّل نظرة الشعب والإنسان لذاته، هذا المستوى من الوعي بالذات، الذي يجب أن يدخل في الثقافة القومية وأن يندمج فيها، لكي يصبح من الممكن بعثه روحيًّا.
يُعد ف. ت. شالاموف واحدًا من الفنانين القلائل، الذين استندوا في إبداعهم على معرفة شخصية، شديدة الخصوصية، معرفة مرعبة بالحياة (يقول شالاموف: «هناك الكثير ممَّا لا يجب على الإنسان أن يعرفه، ألَّا يراه، فإذا ما رأى، فالأفضل أن يموت.»)، ومن هنا جاءت هذه المعرفة التي استوعبها بداخله ليجسِّدها في أدبه. وكان محقًّا على طريقته، لقد وقف ف. ت. شالاموف، الفنان و«المعتقل» في مواجهة «استغلال» الأدب في الصراع السياسي، كما أخذ موقفًا سلبيًّا من الأدب الإرشادي ومن تدخُّل الأدب في الدفع بالتغيرات. كان الكاتب مؤمنًا بأن تدمير المسار الطبيعي للحياة سيؤدِّي حتمًا إلى جحيم كوليما.
أعمال ف. ت. شالاموف
الطبعات الأجنبية: قصص من كوليما، لندن، ١٩٧٨م.
بعث شجر الأرز، باريس، ١٩٩٥م؛ الطبعات الوطنية: فيسشيرا، لا رواية، موسكو، ١٩٨٩م، «روسيسكي ليتوبيسيتس» (مدوِّن التواريخ الروسي)؛ بعث شجرة الأرز، قصص قصيرة، موسكو، ١٩٨٩م.
الضفة اليسرى، قصص قصيرة، موسكو، ١٩٨٩م.
فيسشيرا، سجن بوتيرسك، القفاز أو ك ب-٢، موسكو، ١٩٩٠م.
قصص من كوليما، في جزأين، موسكو، ١٩٩٢م.
أعمال عن ف. ت. شالاموف
شكلوفسكي ي، فارلام شالاموف، موسكو، ١٩٩١م.
(١-٥٢) يوري أوسيبوفيتش دومبروفسكي
(١٢ / ٢٥ مايو ١٩٠٩م، موسكو – ٢٩ مايو ١٩٧٨م، موسكو).
في عام ١٩٥٦م، عاد ي. أ. دومبروفسكي ليعيش في موسكو، وهنا قضى سنوات طويلةً في كتابة روايته الكبرى المكوَّنة من جزأين: «كلية الأشياء غير الضرورية»، صدر الجزء الأول منها في عام ١٩٦٤م، في مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد) التي يرأسها تفاردوفسكي. وصدر الجزء الثاني في وطن الكاتب، بعد سنوات طويلة، في عام ١٩٨٨م. كما كتب دومبروفسكي أيضًا قصةً طويلة عن شكسبير بعنوان «السيدة السمراء» (١٩٦٩م) وبعض الأعمال الأخرى.
كان ي. أ. دومبروفسكي، الكاتب والإنسان، في منأًى دائمًا عن البيروقراطية الأدبية، كان عنيدًا، مستقيمًا، وهو ما صعَّب عليه أمور النشر. لم يكن مرتبطًا بأي قيود عائلية، وكان شديد الحساسية ثقافيًّا، سواء فيما يخص إبداعه أو حياته الشخصية. كان مؤرخًا، «حارسًا للتراث»، مفكرًا موسوعيًّا وفنانًا، خاض تجربته المريرة هو وآخرون، لكنه حكى معاناته بطريقته. تفيض روايات دومبروفسكي وقصصه وأشعاره (وكان كثيرًا ما ينظم الشعر) بإحساس قوي بالحياة واستمراريتها، بالشمس الساطعة والهواء العليل، لكنه كان يمتلك أيضًا رصيدًا هائلًا من المعرفة المرعبة بأجواء غُرف التحقيق المعتمة وأقبية السجون المظلمة. كان الكاتب شديد الاهتمام بشكسبير وديرجافين، بالرُّحل البدائيين وبالمسيح، بعمارة مدية ألما-أطا، وبعلم الأجناس، بحفريات القبور القديمة وبالفلسفة العنصرية لدى الفاشيست. لكن أكثر ما شغله واستنفر كل قواه وحِنكته تمثَّل في استخدامه الكلمة في تجسيد عصور «الإرهاب الكبير». إن الصورة التي رسمها دومبروفسكي في رواية «كلية الأشياء غير الضرورية»، وهو عمل يُعد في الوقت نفسها ملحمةً ومهزلة ومأساة اجتماعية وحكاية فلسفية واجتماعية ومغامرة.
أعمال ي. أ. دومبروفسكي
الطبعات الأجنبية: حارس التراث، الطبعة الكاملة، باريس، ١٩٧٨م.
كلية الأشياء غير الضرورية، باريس، ١٩٧٨م.
الطبعات الوطنية: السيدة السمراء، قصة، رواية (ديرجافين، القرد ينتصر على جمجمته) وثلاث قصص طويلة عن شيكسبير، موسكو، ١٩٨٥م.
كلية الأشياء غير الضرورية، رواية في جزأين، موسكو، ١٩٨٩م.
أعمال عن ي. أ. دومبروفسكي
دافيدوف ي، «لنتحدث عن أيام القوقاز العاصفة …» مقدمة لكتاب السيدة السمراء، موسكو، ١٩٨٥م.
إسكندر ف، «الوثائق لا تحترق، عندما تطبع …» أنيسيموف ج، يمتسيف م، هذا الرجل حارس التراث، في كتاب كلية الأشياء غير الضرورية، موسكو، ١٩٨٩م.
(١-٥٣) ألكسندر تريفونوفيتش تفاردوفسكي
(٨ / ٢١ يونيو ١٩١٠م، قرية زاجوري بمحافظة سمولينسك – ١٨ ديسمبر ١٩٧١م، كراسنايا باخرا بالقرب من موسكو، دُفن في مقبرة نوفوديفيتشي).
وُلد أ. ت. تفاردوفسكي لأب فلاح، انتُزعت أملاكه منه في أعوام تعميم النظام التعاوني في الزراعة، وقد تم نفي العائلة على أثر ذلك إلى سيبيريا. استطاع الشاعر الهروب من المنفى ليعيش في سمولينسك ويواصل كتابة الشعر ونشره. وقد ظهرت أشعاره الأولى في صحف الأقاليم في منتصف العشرينيات. تلقَّى تفاردوفسكي تعليمه في معهد المعلمين بسمولينسك، ولكنه لم يُكمل الدراسة به. ومنذ منتصف الثلاثينيات استقرَّ أ. ت. تفاردوفسكي في مدينة موسكو، وفي عام ١٩٣٩م أنهى دراسته بمعهد موسكو للفلسفة والأدب والتاريخ.
دخل أ. ت. تفاردوفسكي إلى عالم الأدب في سنوات «الانعطافة الكبرى»، التي استوعبها الشاعر في كثير من جوانبها من خلال الأوهام الأيديولوجية التي كانت سائدةً آنذاك. راح تفاردوفسكي يكتب القصائد تلو الأخرى: «الطريق إلى الاشتراكية» (١٩٣١م)، «الدخول» (١٩٣٣م) وغيرها من الأشعار والمقالات. صدر أول ديوان له عام ١٩٣٥م بعنوان «مجموعة أشعار». على أن الشاعر يرى أن البداية الحقيقية لمسيرته الشعرية كانت قصيدة «بلدة مورافيا» (١٩٣٦م).
على الرغم من أن أ. ت. تفاردوفسكي ظل لسنوات طويلة موصومًا بأنه «ابن الكولاك»، فإن موهبته ونشاطه الإبداعي ومزاجه الاجتماعي (وأمل النظام أن يجد فيه سندًا له) جعلوا مسيرته تبدو ظاهريًّا ناجحةً للغاية؛ فها هو يحوز على جائزة ستالين في عام ١٩٤١م، وكان قد حصل على جائزة لينين عام ١٩٣٩م، وعندئذٍ فُتح الطريق أمامه «إلى أعلى» (ومع ذلك لم يكن هذا الطريق ممهَّدًا ومفروشًا بالزهور، وإنما اكتنفه العديد من الصعاب بسبب نزوعه إلى الاستقلال والكرامة).
خاض أ. ت. تفاردوفسكي حربين؛ الحرب الفنلندية والحرب الوطنية العظمى. كان ذلك زمن ذروة الازدهار الروحي والإبداعي له، زمن قصيدة «فاسيلي تيوركين» (١٩٤٢–١٩٤٥م)، التي تُعد أفضل قصيدة روسية في زمن الحرب، بل أفضل قصيدة في القرن العشرين بأسره. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، كتب تفاردوفسكي قصيدته «بيت على الطريق» (١٩٤٦م). على الرغم من كل مظاهر الاعتراف الرسمي (جائزتَي ستالين على التوالي، عامَي ١٩٤٧ و١٩٤٨م) فقد عانى تفاردوفسكي من أزمة روحية حادة. وقد انعكس الصراع بينه وبين النظام الستاليني على نحو واضح في قصيدة «ما بعد البعد»، ١٩٥٠–١٩٦٠م (جائزتي لينين إبَّان سنوات «ذوبان الجليد» في عام ١٩٦١م).
بعد وفاة ستالين، شرع أ. ت. تفاردوفسكي، بعد أن أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، ينشر فيها مقالات وقصائد ونثرًا أكثر راديكالية، يشيع فيها روح «ذوبان الجليد». وفي عام ١٩٥٤م عُزل من منصبه في المجلة، فراح يكتب في العام نفسه قصيدته «تيوركين في العالم الآخر»، سخر فيها سخريةً لاذعة من جمود البيروقراطية «السوفييتية». ثم عاد من جديد ليرأس تحرير «نوفي مير» في الأعوام من ١٩٥٨م إلى ١٩٧٠م. ومنذ ذلك الزمن أصبحت المجلة مركزًا للأدب الكبير، مجلةً معارضة ﻟ «النزعة البريجنيفية». كما نجحت المجلة أيضًا في نشر قصة ألكسندر سولجينتسين «يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش».
ينتمي أ. ت. تفاردوفسكي كلية إلى كتَّاب الجيل السوفييتي. تعرَّض منذ طفولته، وعلى مدى عقود طويلة، إلى تأثير الدعاية من حوله (ثم إلى الضغط المباشر من قِبل البيروقراطية). وقد ظل الشاعر سنوات طويلةً يجاهد بمشقة للتخلُّص من آثار الأفكار الكاذبة التي وقع في أسرها.
بمرور السنين بدأ تفاردوفسكي يُدرك تمامًا مغبة الانفصال عن ماضي القرية والهجرة إلى المدينة وتطبيق «النظام الجماعي» المفزع، وقد أصبح هذا الموضوع بمثابة العصب الحساس في قصيدته الأخيرة «بحق الذاكرة». وطوال مسيرته الأدبية من «بلدة مورافيا» وحتى ديوانه «من الشعر العاطفي لتلك السنوات»، ظل تفاردوفسكي يسعى، في واقع الأمر، نحو اجتلاء الحقيقة، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: «وكان الحق صعبًا، بقدر ما كان مرًّا.»
وقد ظهر أ. ت. تفاردوفسكي في عمله، سواءً كشاعر أو كمحرِّر بوصفه مثالًا للصلابة الإنسانية والتطهُّر الروحي والسعي للتغيير والتحرُّر من الأكاذيب الأيديولوجية والطوباوية الاجتماعية.
أعمال أ. ت. تفاردوفسكي
نُشرت أعمال الشاعر أكثر من مرة وفي طبعات عديدة آخرها وأكثرها اكتمالًا هي «الأعمال الكاملة في ستة أجزاء»، صدرت في الفترة من ١٩٧٦م وحتى ١٩٨٣م.
أعمال عن أ. ت. تفاردوفسكي
كوندراتوفيتش أ. ألكسندر تفاردوفسكي، أشعاره وشخصيته، دروب وطرقات، موسكو، ١٩٨١م.
ذكريات عن أ. ت. تفاردوفسكي، ديوان شعر، موسكو، ١٩٨٢م.
كوندراتوفيتش أ، «تِرب لأي جيل»، قصة تسجيلية عن تفاردوفسكي، موسكو، ١٩٨٧م.
(١-٥٤) فيكتور بلاتونوفيتش نكراسوف
(٤ / ١٧ يونيو ١٩١١م، كييف – ٣ سبتمبر ١٩٨٧م، باريس).
«سيرة حياة» (بقلمه (المترجم)):
وُلدتُ في السابع عشر من يونيو عام ١٩١١م، في مدينة كييف (كانت جزءًا من روسيا آنذاك). عمل والدي — بلاتون فيدوسوييفيتش نكراسوف — موظفًا في أحد البنوك (١٨٧٨–١٩١٧م). والدتي — زينايدا نيكولايفنا نكراسوفا (موتوفيلوفا قبل الزواج) — طبيبة (١٨٧٩–١٩٧٠م).
قضيتُ طفولتي في لوزان (حيث أنهت والدتي كلية الطب بجامعة لوزان) وفي باريس (حيث عملت الأم في مستشفًى عسكري بها). وفي عام ١٩١٥م، عاد الجميع إلى روسيا، حيث استقرَّت الأسرة في مدينة كييف.
وبعد أن أنهيتُ دراستي في المدرسة، الْتحقت بمدرسة إنشاء السكك الحديدية الصناعية، ثم التحقتُ بعدها بمعهد البناء في كييف (وفيه أنهيتُ الدراسة في كلية العمارة في عام ١٩٣٦م)، كما الْتحقتُ باستوديو المسرح التابع لمسرح الدراما الروسي في كييف (تخرَّج فيه في عام ١٩٣٧م).
عملت معماريًّا لفترة قصيرة قُبيل اندلاع الحرب، ثم ممثلًا ورسامًا مسرحيًّا في مسارح كييف وفلاديفوستوك وكيروف (فياتكا سابقًا)، وفي روستوف نادونو (مدينة روستوف على نهر الدون).
التحقت بالخدمة في الجيش بدءًا من أغسطس عام ١٩٤١م. حاربت في ستالينجراد وفي أوكرانيا وبولندا. سُرِّحت من الخدمة في عام ١٩٤٤م، بعد أن تلقَّيت إصابةً ثانية، برتبة نقيب. حصلت على ميدالية «الشجاعة» وعلى وسام النجم الأحمر.
في الفترة من ١٩٤٥م وحتى ١٩٤٧م عملت صحفيًّا في صحيفة «الفن السوفييتي»، التي كانت تصدر في كييف. في عام ١٩٤٦م نشرت لي مجلة «زناميا» (الراية) (في مدينة موسكو، الأعداد ٨، ٩، ١٠) قصة «في خنادق ستالينجراد». وفي عام ١٩٤٧م، فازت القصة بجائزة ستالينجراد، وقد صدرت في الأعوام التالية عن معظم دُور النشر السوفييتية بأعداد كبيرة بلغت عدة ملايين من النسخ، وتمَّت ترجمتها إلى ست وعشرين لغة، بما فيها اللغة الفرنسية.
أقدِّم برامج في «راديو الحرية» بشكل منتظِم.
في عام ١٩٥٧م، قام استوديو ليننجراد السينمائي بتحويل روايتي «في خنادق ستالينجراد» إلى فيلم سينمائي باسم «الجنود» (تحمل النسخة الفرنسية منه اسم «أربعة من ستالينجراد»).
عضو نادي القلم الفرنسي.
عضو أكاديمية الفنون البافارية.
يناير ١٩٨٦م. «فيكتور نكراسوف».
لعل من الضروري هنا أن نُضيف بضعة أسطر على «سيرة حياة» نكراسوف الذاتية.
يعرض الكتاب الأساسي لفيكتور نكراسوف، «في خنادق ستالينجراد»، والذي يُعد معجزةً بكل المقاييس، وقد تمَّ نشره، ووجد في ذلك دعمًا كبيرًا، ثم أُعيد طبعه عدة مرات، يعرض الحقيقة الخالصة والخالدة عن الأحداث التي وقعت إبَّان الحرب، وهو يوجز ما كُتب عن الحرب كلها على مدى عقد كامل، ولم يكن هناك كتَّاب غيره حتى ظهر في النصف الثاني من الخمسينيات «مصير إنسان» لشولوخوف، ثم «إيفان» لبوجومولوف، وروايات كل من: ج. باكلانوف، ي. بونداريف، ك. فودوبيوف، ف. بيكوف، وف. كوروتشكين … ظلَّ ف. نكراسوف فيما تلا من سنوات على نهجه الأدبي والوطني، حرًّا مستقلًّا، متمسكًا في نثره المتعدِّد الأنواع في الخمسينيات والستينيات بما في الحياة من حقيقة وإخلاص، مُصرًّا على الحرية الداخلية للفنان، صُلبًا في مواجهة ضغط النظام وتوجيهاته، مبتعدًا عن الأوهام الساذجة التي سادت إبَّان فترة الركود. وهو ما لم يغفره له هذا النظام. وعندما وجد نفسه بلا دعم حقيقي (وخاصةً بعد وفاة أ. ت. تفاردوفسكي) مُبعدًا عن الحياة الأدبية، اضطُر للخروج إلى المنفى. وقد طوَّر إبداعه في سنوات المنفى: المذكرات، المقالات، التحقيقات الصحفية، أفضل الجوانب في أسلوبه الأدبي المتفرِّد.
أعمال ف. ب. نكراسوف
أعمال عن ف. ب. نكراسوف
لازاريف ل، بعض ممَّا أتذكره … موسكو، «برافدا»، ١٩٩٠م.
كونيتسكي ف، باريس بدون عيد، مجلة «نيفا»، ١٩٨٩م، العدد ١.
سوريس ب، جاري على الجبهة، «نيفا»، ١٩٩٠م، العدد ١٠.
(١-٥٥) قنسطنطين ميخايلوفيتش سيمونوف
(١٥ / ٢٨ نوفمبر ١٩١٥م، بتروجراد – ٢٨ أغسطس ١٩٧٩م، موسكو).
في سن مبكرة فقد قنسطنطين (كيريل) ميخايلوفيتش سيمونوف والده، الضابط بالجيش الروسي، المنحدر من أسرة نبيلة. أمَّا زوج أمه فقد خدم أيضًا في البداية في جيش القيصر، ثم في الجيش الأحمر بعد ذلك، كما عمل بالتدريس في المعهد العسكري، بينما كانت الأم تعمل عملًا إداريًّا. وهكذا قضى ق. م. سيمونوف طفولته في أجواء عسكرية في ريازان وساراتوف وفي غيرهما من المدن.
وفي عام ١٩٣٠م الْتحق ق. م. سيمونوف بأحد المصانع، بعد أن قضى في ساراتوف سبع سنوات، ليتعلَّم حرفة الخِراطة، ثم يستقر في موسكو بدءًا من خريف ١٩٣١م، بعد أن أصبح متخصِّصًا في الخِراطة (١٩٣٢م) ليعمل في البداية في مصنع للطائرات، ثم ينتقل إلى ورشة السينما «ميجراب بومفيلم». وفي هذه الفترة بدأ في نظم الشعر.
في السنوات الأولى لكتابته للشعر كانت موضوعات ق. م. سيمونوف مأخوذةً من مصادر أخرى.
وعندما أدرك سيمونوف ضعف هذا «الإبداع» وعدم تميُّزه، ذهب في مأمورية ليقضي بعض الوقت لمشاهدة مشروع إنشاء قناة البحر الأبيض، حيث رأى هناك ما أرادوا أن يراه فقط. وكانت قصيدته «بافل تشيورني» ثمرة ما حصل عليه من مواد في هذه الرحلة (١٩٣٨م).
نشر قنسطنطين سيمونوف أشعاره الأولى في عام ١٩٣٦م.
وفي الفترة نفسها تقريبًا بدأ في تعلُّم «كيف يكون كاتبًا». وفي عام ١٩٣٨م أنهى دراسته بمعهد جوركي للأدب، وفي خريف العام نفسه الْتحق بالدراسات العليا بمعهد التاريخ والفلسفة والأدب، ولكنه لم يؤدِّ سوى الامتحانات الأولى فقط، فسرعان ما ارتبطت حياته لسنوات طويلة بالعمل بوصفه مراسلًا عسكريًّا في البداية في منغوليا في خالخين-جولي، ثم ليلتحق بعدها في دورات إعداد المراسلين العسكريين في أكاديمية فرونزة العسكرية، وفي الأكاديمية السياسية العسكرية.
وقد عكست مسرحية «شباب من مدينتنا» (١٩٤١م) ميوله الاجتماعية في سنوات ما قبل الحرب. وفي الفترة من يونيو ١٩٤١م وحتى عام ١٩٤٦م عمل ق. م. سيمونوف مراسلًا عسكريًّا لعدد من الصحف (سواء العسكرية منها أو المركزية مثل «النجم الأحمر»).
وفي عام ١٩٤١م حاصر العدو الوحدة التي يخدم بها المراسل العسكري ق. م. سيمونوف حصارًا محكمًا وأنزل بها خسائر فادحة. وكان هذا الحدث واحدًا من الأحداث التي تركت أثرًا عميقًا عند سيمونوف. وعلى العموم فقد كان العمل الأدبي في سنوات الحرب هو الحدث الأهم في مسيرة الكاتب الإبداعية. وكانت أبرز أعماله في تلك السنوات هي قصة «أيام وليالٍ» (١٩٤٣م)، ومسرحية «الروس» (١٩٤٢م)، وديوان شعر «معكِ وبدونك» (١٩٤٢م).
وفي سنوات ما بعد الحرب، سافر ق. م. سيمونوف لِمَا يزيد على ثلاث سنوات، في ظروف بالغة الصعوبة، في مأموريات خارج البلاد (كان أغلبها إلى الصين والولايات المتحدة الأمريكية واليابان). وفي العشر–الخمس عشرة سنةً التي تلت الحرب شغل على فترات عددًا من الوظائف القيادية في اتحاد كتَّاب الاتحاد السوفييتي (أمينًا ثم نائبًا للأمين العام لرئاسة اتحاد الكتَّاب السوفييت، ثم عمل رئيسًا لتحرير مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد) في الأعوام من ١٩٤٦م إلى ١٩٥٠م، ثم من ١٩٥٤م إلى ١٩٥٨م، ورئيسًا لتحرير «ليتيراتورنايا جازيتا» («الصحيفة الأدبية» في الأعوام من ١٩٥٠م إلى ١٩٥٣م)). وفي هذه السنوات تحديدًا كان من أنشط الشخصيات العامة السوفييتية، حيث أصبح نائبًا في مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي وجمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية، ومرشحًا لعضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي وما إلى ذلك من وظائف، فضلًا عن كونه عضوًا في لجنة جوائز ستالين. وطوال شغله لهذه المناصب ظل واحدًا من أكبر أنصار السياسة العامة الأدبية الرسمية وناشطًا بارزًا في الحملات الأيديولوجية كافةً التي تمت في السنوات العشر التالية للحرب. ونظرًا لأدائه النموذجي لهذه المهام أُنعم عليه بالعديد من الجوائز؛ ففي عام ١٩٧٤م حاز على لقب بطل العمل الاشتراكي، وفي العام كافة حاز على جائزة لينين على ثلاثيته «الأحياء والأموات».
يُعد النشاط الأدبي لسيمونوف أحد أكثر الأمثلة البارزة على تكيُّف الموهبة الفذة مع الأيديولوجيا المهيمِنة ومع البنية الدعائية الحكومية، وهو ما كان له أثر مدمِّر، كبر أم صغر، على الصدق التاريخي والفني لأعماله.
إن مؤلفات ق. م. سيمونوف، مع بعض الاستثناءات القليلة، الروايات: «رفاق السلاح» (١٩٥٢م)، «الأحياء والأموات» (١٩٦٠م)، «لا أحد يولد جنديًّا» (١٩٦٤م)، «الصيف الأخير» (١٩٧١م) (وجميعها تمثِّل ثلاثية «الأحياء والأموات»)؛ والمسرحيات: «فتًى من مدينتنا» ١٩٤١م، «الروس» ١٩٤٢م، «المسألة الروسية» ١٩٤٦م، «الظل الآخر» ١٩٤٩م، «الرابع» ١٩٦١م؛ الدواوين الشعرية: «الأفاضل» ١٩٣٨م، «الأصدقاء والأعداء» ١٩٤٨م وغيرها، هي مؤلفات أملتها مطالب اجتماعية شمولية محدَّدة، عكست هذه أو تلك من الشعارات السائدة في زمنها، وقد أصبحت هذه المؤلفات، بمرور الوقت، مهمةً بشكل رئيسي لفهم الجوانب الاجتماعية الثقافية والتاريخية الأدبية لهذا الزمن. وفي الوقت نفسه نجد في الكثير من هذه المؤلفات صفحات تكشف عن موهبة عظيمة وعن أمور حياتية محدَّدة كُتبت بصدق حقيقي، وخاصةً في تلك الأعمال التي تناولت فترتَي الحرب و«الركود»؛ ففي أشعاره العاطفية عبَّر سيمونوف بصدق غير معهود في هذا الزمن عن معاناة الإنسان في وقت الحرب (هل تذكر يا أليوشا، «الطرقات في سمولينشني …»، «انتظريني، وسوف أعود …»، وبعض القصائد الأخرى من ديوان «معك وبدونك»، ١٩٤٢م). وقد أصبحت ثلاثية «الأحياء والأموات»، وخاصة جزأيها الأول والثاني، ضمن إنجازاته المميزة.
وفي السنوات الأخيرة من حياته أصدر سيمونوف يومياته في الحرب بعنوان «أيام مختلفة من أيام الحرب». وقد عمل الكاتب كثيرًا في مجال السينما وإعداد الأفلام التسجيلية (كتب موضوعات ذات صبغة عسكرية في الأغلب). وقد صدرت بعد وفاته مذكراته التي حملت عنوان «العالم بعيون واحد من جيلي»، بالإضافة إلى بعض الأعمال الأخرى.
وقد أوصى ق. م. سيمونوف بأن ينثر رماده في الأماكن التي وقعت فيها المعارك الحربية إبَّان حصار ١٩٤١م.
أعمال ق. م. سيمونوف
الأعمال الكاملة في عشرة أجزاء (مع سيرة ذاتية للكاتب)، المقال الافتتاحي: ل. لازاريف، التعليقات والملاحظات: أ. ألكسندروفا، موسكو (خودوجستفينايا ليتيراتورا) ١٩٧٩–١٩٨٥م.
العالم بعيون واحد من جيلي (الإعداد والمقال الافتتاحي: ل. لازاريف)، موسكو، «نوفوستي» (الأبناء)، ١٩٨٨م.
أعمال عن ق. م. سيمونوف
لازاريف ل، أدب الحرب عند قنسطنطين سيمونوف، موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٧٤م.
ل. فينك، قنسطنطين سيمونوف في مذكرات معاصريه، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٤م.
(١-٥٦) ألكسندر إيسايفيتش سولجينيتسين
(١١ ديسمبر ١٩١٨م، كيسلوفودسك – ٣ أغسطس ٢٠٠٨م، موسكو).
وُلد أ. إ. سولجينيتسين في عائلة مُلاك أراضٍ ميسورين، تعود أصولهم إلى فلاحي منطقة فورونيج، الذين أُبعدوا إلى براري ستافروبول ليستقروا فيها بعدما أعلنوا تمرُّدهم. تنتمي والدته إلى عائلة من مُزارعي كوبان في أوكرانيا، تلقَّت تعليمها في فصول بيستوجيف في بطرسبورج. تُوفِّي والده نتيجة حادث مؤسف في أثناء قيامه بالصيد، وذلك قبل أن يولد الابن.
عاش أ. إ. سولجينيتسين بدءًا من عام ١٩٢٤م في روستوف-نا-دانو (رستوف على نهر الدون)، تعلَّم في مدرستها، ثم الْتحق بكلية الفيزياء والرياضيات بجامعة روستوف ليتخرَّج فيها عام ١٩٤١م. وفي الوقت نفسه كان منتسبًا للدراسة في معهد موسكو للفلسفة والأدب والتاريخ. الْتحق جنديًّا بالجيش في أكتوبر ١٩٤١م، ثم أصبح طالبًا في معهد المدفعية في مدينة كوستروم. شارك في المعارك الدائرة على الجبهة بدءًا من نهاية ١٩٤٢م. حاز على عدد من الأوسمة، تم اعتقاله في فبراير ١٩٤٥م، وهو برتبة النقيب بتهمة «التشهير» بكلٍّ من لينين وستالين في مراسلاته الخاصة. وقد أُودع سولجينيتسين في سِجنَي لوبيانكا وبوتيرسكايا قبل أن يستقر في سجن مارفين بالقرب من موسكو، حيث عمل في أحد معامل علم الصوتيات. وفي هذه الفترة تحديدًا بدأ في ممارسة الكتابة. وفي الفترة من ١٩٤٩م إلى ١٩٥٣م تم نقله إلى معسكري إبكيبيستاوز وكينجير (كازاخستان).
انتهت مدة عقوبته في ربيع عام ١٩٥٣م، ليبدأ حياته في المنفى (كوت-تيريك)، وعندما أُصيب بالمرض أُرسل للعلاج في طشقند (١٩٥٥م).
في عام ١٩٥٦م، تم العفو عن أ. إ. سولجينيتسين، فاستقرَّ بالقرب من ريازان ثم لينتقل إليها، حيث عمل مدرسًا في إحدى مدارسها.
وفضلًا عن الأعمال السابق ذكرها، فقد وضع سولجينيتسين عددًا من المسرحيات والدواوين الشعرية والعديد من المقالات الصحفية.
يُعد الموقف الأدبي السياسي الذي اتخذه سولجينيتسين في مواجهة النظام الشمولي في بلاده، موقفًا غير مسبوق في تاريخ النضال من أجل حقوق الإنسان في روسيا. وقد فُصل من اتحاد الكتَّاب عام ١٩٦٩م، بعد نشره أعماله الكبرى في الخارج، ثم أُجبر على مغادرة الوطن في فبراير عام ١٩٧٤م، فذهب في البداية للإقامة في زيوريخ، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧٦م، ليستقرَّ في ولاية فيرمونت بالقرب من كافيندريش. وبعد المنفى كتب سولجينيتسين كتابًا يحكي فيه عن كفاحه الأدبي والسياسي بعنوان «الجدي يناطح شجرة البلوط» (١٩٧٥م)، وفي الوقت نفسه واصل عمله بهمة بوصفه كاتبًا للمقال ومراقبًا للأحداث في روسيا («كيف نعيد بناء روسيا» وغيرها)، وكذلك قاد حملةً كبيرة لجمع وثائق الحياة الاجتماعية في روسيا في القرن العشرين. وفي عام ١٩٩٠م، أُعيدت ﻟ «سولجينيتسين» الجنسية، وأُرسلت إليه دعوة للعودة إلى الوطن، وقد عاد نهائيًّا إليه في نهاية صيف عام ١٩٩٤م.
يتلخَّص المغزى التاريخي والأدبي لشخصية أ. إ. سولجينيتسين بالدرجة الأولى في أن ملامح الأدب الروسي قد تغيَّرت، شئنا أم أبينا، بعد ظهوره الأدبي في عام ١٩٦٢م. وقد راح هذا الأدب يتطوَّر «في سياق سولجينيتسين»، ويرجع السبب في ذلك في إعادته لقضية كرامة الكاتب والتشديد على مغزى حريته السياسية له، فضلًا عن حريته الشخصية، باعتبارهما الشرطين الأساسيين لإبداع الفنان.
كان ظهور سولجينيتسين يعني أيضًا نهاية فترة «الركود»، التي مثَّلت نظامًا لوجهات نظر محدَّدة أو، إن شئنا الدقة، كانت بمثابة نظام للأساطير حول الاشتراكية والشيوعية باعتبارهما قيمةً حقيقية. وقد بدأ انهيار النموذج السوفييتي في الأدب على نحو متسارع، منذ لحظة انهيار النموذج السوفييتي في الأيديولوجيا. وعلى الرغم من أن أوان تقييم إبداع أ. إ. سولجينيتسين لا يزال مرهونًا بالمستقبل إلى حد كبير، فإن ما مضى من أحداث يسمح بطرح مسألة الحقبة «السولجينيتسينية» في الأدب الروسي باعتبارها، على أقل تقدير، ظاهرةً سولجينيتسينية في الأدب.
أعمال أ. إ. سولجينيتسين
كيف نبني روسيا، ليننجراد، ١٩٩٩م وغيرها.
أعمال عن أ. إ. سولجينيتسين
بالامارتشوك ب. ألكسندر سولجينيتسين: دليل، موسكو، ١٩٩١م.
نيفاج، سولجينيتسين. لندن، ١٩٨٤م.
جيلير م. ألكسندر سولجينيتسين، بمناسبة سبعين عامًا على ميلاده، لندن، ١٩٨٩م.
تشلمايف ف. أ. ألكسندر سولجينيتسين، حياته وإبداعه، كتاب مدرسي، موسكو، دار نشر «بروسفيشينيه» (التنوير)، ١٩٩٤م.
(١-٥٧) فيودور ألكسندروفيتش أبراموف
(٢٩ فبراير ١٩٢٠م، قرية فيركولا بمحافظة أرخانجلسك – ١٤ مايو ١٩٨٣م، ليننجراد، دُفن في فيركول).
عكف الكاتب في سنواته الأخيرة على تأليف «الكتاب النظيف»، استنادًا إلى تاريخ مسقط رأسه إبَّان سنوات الحروب والثورات الحاسمة. وهنا أصبح أبراموف كاتب مقالات يتميَّز بالاستقلالية والحماس، ومفكِّرًا اجتماعيًّا قوي الحجة.
يُعد ف. أ. أبراموف واحدًا من أبرز كتَّاب «الأدب الريفي»، عمل على التحليل القوي والعميق لمصائر الفلاحين، عندما صوَّر في رواياته وقصصه الشخصيات المهمة وأبرز الصراعات الدرامية الحادة، التي طرحت العديد من الأسئلة، التي توقَّفت الإجابة عليها على مصير القرية الروسية.
أعمال ف. أ. أبراموف
المختارات في جزأين، موسكو، ١٩٧٥م.
الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء، موسكو، ١٩٨٠–١٩٨٢م.
الأعمال الكاملة في خمسة أجزاء، ليننجراد، ١٩٨٩م.
على أي شيء تعيش وبماذا تقتات؟ مقالات، دراسات، مذكرات، صور أدبية، ملاحظات، تأملات، محاورات، أحاديث صحفية، آراء، ليننجراد، ١٩٨٦م.
حشائش وأعشاب، كان-لم يكن، سان بطرسبورج، ١٩٩٣م.
أعمال عن ف. أ. أبراموف
زولوتوسكي إ، فيودور أبراموف، شخصيته، كتبه، مصيره، موسكو، ١٩٨٦م؛ كروتيكوفا ل، بيت في فيركول (رواية تسجيلية)، ليننجراد، ١٩٨٨م.
أرض فيودور أبراموف (مختارات)، موسكو، ١٩٨٦م.
(١-٥٨) فيكتور بتروفيتش أسطافييف
(الأول من مايو ١٩٢٤م، قرية أوفسيانكا بالقرب من كراسنويارسك – ٢٩ نوفمبر ٢٠٠١م، كراسنويارسك).
ينحدر من عائلة فلاحين من سيبيريا تعيش على ضفاف نهر ينيسي. عاش طفولةً صعبة؛ في البداية في كنف عائلة جدته، محرومًا من رعاية الأب، الذي كان يقضي عقوبة السجن، ومن حنان الأم، التي غرقت في نهر ينيسي. ثم ذهب بعد ذلك ليعيش في دار للأيتام في إيجاركا الواقعة على نهر ينيسي. وبعد أن أنهى الفصل الدراسي السادس الْتحق بإحدى المدارس الفنية في تخصُّص السكك الحديدية ليبدأ في العمل منذ عام ١٩٤٢م في تجميع القطارات، وفي خريف العام نفسه تطوَّع في الجيش، وهناك درس لمدة بضعة أشهر في فوج للمشاة بالقرب من نوفوسيبيرسك، وبدءًا من ربيع ١٩٤٣م انتقل للخدمة على الخطوط الأمامية. حارب في أوكرانيا وفي بولندا. أُصيب إصابةً بالغة ليُعفى من الخدمة في نهاية ١٩٤٥م.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها استقرَّ ف. ب. أسطافييف في إقليم تشوسوفي بالقرب من مدينة بيرم، وهناك عمل لعدة سنوات صانعًا للأقفال وحمَّالًا وعاملًا في مصنعٍ للحوم، وفي غيرها من الأعمال.
نشر ف. ب. أسطافييف أول قصصه في صحيفة «تشوسوفسكي رابوتشي» المحلية في عام ١٩٥١م، وسرعان ما أصبح موظفًا أدبيًّا في هذه الصحيفة ليستمرَّ بالعمل بها حتى عام ١٩٥٥م. وقد صدرت مجموعته القصصية الأولى «حتى الربيع القادم» في عام ١٩٥٣م. وفي الفترة من عام ١٩٥٩م وحتى ١٩٦١م الْتحق أسطافييف بالدورات الأدبية العليا بمعهد جوركي للأدب. وفي النصف الثاني من الخمسينيات ازدادت أعماله المنشورة في المجلات المحلية وفي المجلات التي تصدر في موسكو («ناش سوفريمينيك»، «مولودايا جفارديا»، «نوفي مير»). وقد تحدَّد الموضوع الرئيسي في أعمال أسطافييف في الخمسينيات في السعي نحو إدراك مصير الإنسان المعاصر، الذي انعكس في مصير بطله القادم من أوساط الفلاحين. وتتميَّز أعمال أسطافييف الرئيسية، من بين العديد من الأعمال النثرية التي أبدعها، بتطوُّر هذا الموضوع على نحو أوضح، بعد أن نضجت تجربته جزئيًّا في الأعمال الأولى: «التحية الأخيرة»، «السمكة القيصر»، «العلامات». وقد أنفق ف. ب. أسطافييف سنوات طويلة في كلٍّ من هذه الأعمال وواصل عمله، إبَّان نشره لها على أجزاء، على إنجازها منذ الستينيات. وترتبط أعماله الأحدث أيضًا بمصائر أبطاله القادمين من الريف، مثل رواية «المفتش الحزين» (١٩٨٦م)، وقصة «ليودوتشكا» (١٩٨٩م) وغيرها.
أمَّا الموضوع الرئيسي الثاني، الذي انشغل به ف. ب. أسطافييف بشكل خاص في السنوات الأخيرة، فهو تجربة الحرب المأساوية («الراعي والراعية»، الطبعة الأولى، ١٩٧١م)، ثم رواية «ملعونون ومقتولون»، التي نشرها في التسعينيات.
وقد كتب ف. ب. أسطافييف أيضًا روايةً قريبة في نوعها من السيرة الذاتية بعنوان «العكاز البصير» (كُتبت في الفترة من ١٩٧٨م وحتى ١٩٨٢م، ونُشرت في عام ١٩٨٨م)، كما ألَّف أيضًا عددًا من المسرحيات.
عاش ف. ب. أسطافييف في الفترة من ١٩٦٩م وحتى ١٩٧٩م في مدينة فولوجدا، وفي عام ١٩٨٠م، يعود إلى مسقط رأسه في كراسنويارسك.
يُعد ف. ب. أسطافييف واحدًا من أبرز أدباء «القرية» المعاصرين. وقد انطلقت مسيرته الأدبية من أعماق الطبيعة الروسية والحياة الروسية الشعبية، وقد عاشها بإخلاص وصدق كبيرَين، وسعى على مدارها أن يصفها ككاتب بكل ما تكشَّف له فيها من حقائق مريرة تخص أرضه وشعبه. لا يتوقَّف مغزى كتبه وعظمتها على الموضوعات التي تناولها فقط، إذا جاز التعبير، وإنما على المعالجة الفنية لها. وفي الواقع فلعل من الصعب أن يكون هناك في الأدب الروسي المعاصر من يمكن مقارنته بفيكتور أسطافييف من حيث المعرفة باللغة والإحساس بها، ومن حيث طزاجة النص وخلوه من الاصطناع والتكلُّف. وأخيرًا، فإن أسطافييف كاتب مستقل، مستقيم فيما يتعلَّق بالجدل الاجتماعي والأدبي المحترم.
كان ف. ب. أسطافييف نائبًا في البرلمان السوفييتي لفترة قصيرة (١٩٨٩–١٩٩١م)، كما شغل منصب نائب رئيس اتحاد كتَّاب «المنتدى الأوروبي»، وحاز على لقب بطل العمل الاشتراكي، وحاز على جائزة الدولة في الاتحاد السوفييتي وفي روسيا الاتحادية.
أعمال ف. ب. أسطافييف
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، ١٩٧٩–١٩٨١م.
سقوط الورقة، رواية (المفتش الحزين)، القصص القصيرة، المقالات، موسكو، ١٩٨٨م.
العكاز البصير، كتاب النثر (العكاز البصير، العلامات)، موسكو، ١٩٨٨م.
أعمال عن ف. ب. أسطافييف
ماكاروف ف، في أعماق روسيا، مقال نقدي بيوجرافي، بيرم، ١٩٦٩م؛ كورباتوف ف. فيكتور أسطافييف، نوفوسيبيرسك، ١٩٧٧م.
هو ذاته، اللحظة والأبدية، تأملات في إبداع فيكتور أسطافييف كراسنويارسك، ١٩٨٣م.
لانشيكوف أ. فيكتور أسطافييف، موسكو، ١٩٩٢م (كتاب لتلاميذ المدارس عن الكتَّاب السوفييت المعاصرين).
(١-٥٩) يوري فالينتينوفيتش تريفونوف
(٢٨ أغسطس ١٩٢٥م، موسكو – ٢٨ مارس ١٩٨١م، موسكو).
ي. ف. تريفونوف هو ابن لواحد من قدامى البلاشفة، الذين شاركوا في ثورتين وفي الحرب الأهلية، وتعرَّض للاضطهاد والملاحقة في عام ١٩٣٧م (وترتبط العديد من المؤلفات الأخيرة ليوري تريفونوف: «وهج الشعلة» ١٩٦٥م، «منزل على الكورنيش» ١٩٧٦م، «العجوز» ١٩٧٨م، وغيرها بالمصائر الدرامية التي تعرَّض لها جيل الأب ودائرة معارفه).
كان ي. ف. تريفونوف ضمن الذين جرى تهجيرهم إبَّان سنوات الحرب ليعيش في طشقند، وبعد أن أنهى المدرسة الثانوية عمل في مصنع للطائرات، في طشقند في البداية، ثم في موسكو، حيث درس في المعهد الأدبي (١٩٤٤–١٩٤٩م).
نُشرت أول أعمال تريفونوف في الصحافة الشبابية في موسكو (١٩٤٧م). كما نشر روايته «الطلاب» في مجلة «نوفي مير» (١٩٥٠م)، التي رأس تحريرها تفاردوفسكي، وقد كتبها بحماس بالغ وفقًا لتقاليد «الواقعية الاشتراكية» التي كانت مُتَّبعةً في تلك السنوات. وقد فازت هذه الرواية بجائزة ستالين من الطبقة الثالثة. وبعد عام كتب مسرحية «ضمان النجاح». على أنه سرعان ما بدأ ي. ف. تريفونوف الدخول في مرحلة الأزمة القاسية التي استمرَّت ما يزيد على عشر سنوات؛ ففي سنوات «ذوبان الجليد» بدأ تريفونوف على نحو تدريجي في إعادة النظر في كل القيم والتصوُّرات السابقة، وكانت هذه الفترة عقيمةً تمامًا من الناحية الإبداعية، وكانت رواية «إطفاء الظمأ» هي عمل نموذجي تمامًا بالنسبة لزمن «ذوبان الجليد» (١٩٦٣م)، وتتناول الرواية حياة البنَّائين الذين شاركوا في إنشاء قناة كاراكوم في تركمانيا، الذين عُرفوا باسم «غزاة الطبيعة». وفي هذه الرواية يربط الكاتب بين تحديث المجتمع وبين «ترسيخ المعايير الاشتراكية في الحياة». لم يعد ي. ف. تريفونوف إلى موضوعه الرئيسي إلا في نهاية الستينيات؛ ففي الفترة من ١٩٦٩م إلى ١٩٧٥م كتب تريفونوف سلسلةً من الأعمال الأدبية أطلق عليها اسم قصص موسكو: «المقارنة»، «النتائج المبدئية»، «الفراق الطويل»، «الحياة الأخرى»، وجميعها أصبحت بداية توجُّه كامل نحو ما عُرف باسم «أدب المدينة».
لقد تطلَّب فهم منطق التطوُّر الروحي أن يكون الكاتب ملمًّا إلمامًا تامًّا بالتربة التاريخية، التي أتاحت فوقها الحياة الصعبة الرديئة التي عاشها أبطاله؛ أبناء المدن. لقد تناولت الروايات المذكورة المصائر المحطَّمة لهؤلاء الذين شاركوا في الثورة وفي الحرب الأهلية، بينما جاءت رواية «نفاد الصبر» (١٩٧٣م) لتتحدَّث عن الإرهابيين من جماعة إرادة الشعب الذين سعَوا «لدفع» عجلة التاريخ قدمًا مهما كان الثمن.
نُشرت رواية «الزمان والمكان» (١٩٨١م) بعد وفاة الكاتب، وقد ألقى الكاتب فيها بالضوء على واقع حياة المدينة إبَّان سنوات «الركود»، ثم تلتها في الظهور رواية «الاختفاء» (١٩٨٧م)، التي تعود إلى أحداث عام ١٩٣٧م.
إن خبرة ي. ف. تريفونوف في الحياة وفي الإبداع، والتحوُّلات الحادة في مسيرته الأدبية تعكس العملية الشاقة التي مرَّت بها بصيرة الكاتب، تحرِّره من الكثير من الدوجمات والخرافات؛ الخبرات التي خرج بها من العائلة الثورية الحزبية، وصياغتها في تقاليد الحياة الاجتماعية من العشرينيات وحتى السبعينيات.
أعمال ي. ف. تريفونوف
الأعمال الكاملة في أربعة أجزاء، موسكو، ١٩٨٤–١٩٨٦م.
الأعمال المختارة في جزأين، موسكو، ١٩٧٨م.
الموضوعات الخالدة: روايات (العجوز، الزمان والمكان)، قصص (الحياة الأخرى، البيت المقلوب)، موسكو، ١٩٨٤م.
لهيب الشعلة، الاختفاء، رواية تسجيلية، رواية، موسكو، ١٩٨٨م.
كيف يكون لكلامنا تأثير … (مقال صحفي)، موسكو، ١٩٨٥م.
يوميات جار (عن أ. ت. تفاردوفسكي)، مجلة «دروجبا نارودوف» (صداقة الشعوب)، ١٩٨٩م، العدد ١٠.
أعمال عن ي. ف. تريفونوف
إيفانوفا ن، أدب يوري تريفونوف، موسكو، ١٩٨٤م.
(١-٦٠) أركادي ناتانوفيتش ستروجاتسكي
(٢٨ أغسطس ١٩٢٥م، باطومي – ١٢ أكتوبر ١٩٩١م، موسكو).
(١-٦١) بوريس ناتانوفيتش ستروجاتسكي
(١٥ أبريل ١٩٣٣م، ليننجراد – ١٩ نوفمبر ٢٠١٢م، بطرسبورج).
وُلد الأخوان ستروجاتسكي في عائلة مثقفين؛ فوالدهما متخصِّص في الفن، وأمهما مدرسة.
عاش الأخ الأكبر أ. ن. ستروجاتسكي بصفة أساسية في موسكو، وهناك أنهى في عام ١٩٤٩م المعهد العسكري للغات الأجنبية (في تخصُّص الدراسات «اليابانية»)، وقد عمل في هذا التخصُّص حتى عام ١٩٢٥م في الجيش السوفييتي، ثم في المعاهد العلمية في موسكو. ألَّف كتابه الأول «رماد بيكيني» (١٩٥٨م) بالاشتراك مع ل. س. بتروف؛ أمَّا كتبه الأخرى فألَّفها بالاشتراك مع أخيه الأصغر ب. ستروجاتسكي، الذي كان يعيش معظم الوقت في ليننجراد-بطرسبورج. أنهى بوريس ستروجاتسكي كلية الميكانيكا والرياضيات بجامعة ليننجراد في عام ١٩٥٥م، عمل معيدًا في الفترة من ١٩٥٥م إلى ١٩٥٨م، وفي الفترة من ١٩٥٨م إلى ١٩٦٤م باحثًا علميًّا في مرصد بولكوفسكي.
دخل أركادي وبوريس ستروجاتسكي عالم الأدب في الخمسينيات ليعملا ضمن جيل «الستينيات». كتبا قصصهما الأولى («بلاد السحب الأرجوانية» ١٩٥٩م، «ستة أعواد ثقاب» ١٩٦٠م، «الطريق إلى أمالتيا» ١٩٦٠م وغيرها)، ومن وجهة النظر التقليدية المتماشية مع النموذج الاجتماعي المتفائل لمدرسة الخيال العلمي السوفييتي. وفحواها أن البشرية ينتظرها في المستقبل مستقبل شيوعي باهر، وأن بلادنا الاشتراكية هي المثال على هذا المستقبل. تميَّز النثر المبكِّر لأركادي وبوريس ستروجاتسكي بسعيه نحو تجاوز القوالب التقنية والموضوعات المطروقة عند تقديم التفاصيل الواقعية الحية لنماذج الأبطال، وفي السخرية، التي تصوِّر كيفية إدراك الشباب للعالم في تلك السنوات. وفي هذه السنوات ذاتها استخدم الكاتبان مبدأً جديدًا أسمياه بمبدأ «التدوير»، عندما نجحا في بناء «عالم» الأخوين ستروجاتسكي، المكوَّن من مشاهد بانورامية استخدما في تصويرها مقاطع من أعمالهما، من بعض الحكايات والقصص، التي ترتبط جميعها بوجود صفات وشخصيات مشتركة.
انتهت الفترة المبكرة من المسيرة الإبداعية للأخوين ستروجاتسكي بحلول منتصف الستينيات، عندما تبيَّن أن عالَم المُثل الدعائية، الواضح والمنتصر، والذي جرى إعادة النظر فيه بشكل جوهري، لم يكن يدعو إطلاقًا إلى هذا القدر من التفاؤل. وبعد روايتهما «المتدرِّبون»، حيث كانت الشخصيات القريبة فيها من الكاتبَين هم «المتدربون»، إن جاز التعبير، على الكفاح من أجل مستقبل رائع، الباحثون عن مكان لهم وسط الذين وجدوا مكانهم بالفعل، يعود أركادي وبوريس ستروجاتسكي لإعادة النظر في المفاهيم الساذجة التي كان «الستينيون» يعتنقونها.
ومنذ هذه الفترة راحت الفانتازيا عند أركادي وبوريس ستروجاتسكي تتشبَّع أكثر فأكثر في مضمونها بروح واقعية واجتماعية فلسفية، لتتحوَّل الفانتازيا إلى وسيلة لتشخيص العمليات الواقعية للحياة والتنبؤ بها. عانى الأخوان ستروجاتسكي من الإحباط الشديد بسبب الخطط الطوباوية لحركة العملية التاريخية العالمية، فضلًا عن اكتشافهما للتناقضات الصارمة في الدوجمات التي ملأت «الطريق المضيء نحو المستقبل»، وهنا وجدا نفسيهما أمام موضوعات جديدة تنفصل الأهداف الأخلاقية فيها عن الوسائل المتاحة، ويضل فيها الأشخاص داخل واقع معقَّد غير متوقع. وقد أصبحت أعمال الأخوين ستروجاتسكي التي كتباها في الستينيات: «محاولة للهروب» ١٩٦٢م، «قوس قزح البعيد» ١٩٦٣م، «من الصعب أن تكون إلهًا» ١٩٦٤م، «يوم الإثنين يبدأ من يوم السبت» ١٩٦٤م، «بشاعات القرن» ١٩٦٤م، «قوقعة على المنحدر» ١٩٦٥م، «البجع القبيح» (بداية السبعينيات)، «الظهور الثاني لمارس» ١٩٦٧م وغيرها؛ أعمالًا انتقالية نحو خلق نموذج جديد للعالم. وقد أدَّى انغماس الكاتبَين في تناقضات النفوس البشرية وفي مشكلات الواقع الأخلاقية إلى تصاعد نزعة الشك لديهما بشكل حاد فيما يتعلَّق بتقييم اتجاهات تطوُّر العالم، وقادتهما نحو أزمة الثقة في «المستقبل الباهر». يحذِّر الأخوان تروجاتسكي من مخاطر نموذج «الشعب الاستهلاكي» الذي أطلقته الديماجوجية الاجتماعية من إسار الوعي الذاتي، وهو ما يظهر عبر كل مؤلفاتهما في تلك السنوات. يقول أحد أبطال قصة «بشاعات القرن» إن «الفقر يمكن أن يكون غنيًّا»، وعلاوةً على ذلك فإن المجتمع الاستهلاكي عمومًا يجعل من الناس «أشياء زائدة»، غير ضروريين لأنفسهم أو للآخرين.
وفي هذا السياق طرح أركادي وبوريس ستروجاتسكي قضية دَور الفنان في المجتمع. إن قيمة الفنان — في رأيهما — تكمن في كونه مستقلًّا عن الوعي الجماهيري النمطي، ومن ثم فإنه بإمكانه أن يقف حائلًا أمام إدارة الدولة للناس ولوعيهم. ولهذا السبب تتعرَّض الموهبة للضغط الهائل من جانب أيديولوجية الدولة («القدر الأعرج» ١٩٨٦م، «الأمواج تُخمد الريح» ١٩٨٤م وغيرها).
وفي نثرهما تتعرَّض فكرة «التقدُّم» الأثيرة لديهما إلى التطوُّر، بل إلى التغيُّر المفاجئ في بعض جوانبها. يرى الكاتبان أن التطوُّر المقنَّن والتأثير الموجَّه لتغيير مسار التاريخ يمكن أن يؤدِّي إلى نتائج سلبية مضاعفة. هنا تظهر المشكلة الأكثر حدةً والمتعلِّقة بخطورة قهر الشعب والإنسان ودفع عجلة التحضُّر بإقحام نظم ما وتغيير نمط الحياة. وفي أعمالهما الأخيرة يعبِّر الأخوان ستروجاتسكي أكثر فأكثر عن التناقض الحاد بين القهر الاستبدادي وبين الحرية الداخلية، بين العالم ككل وبين الإنسان الفرد، ويؤكِّدان أن القيمة الإنسانية الكبرى إنما تكمن في هذه الحرية. أمَّا في نثر نهاية السبعينيات والثمانينات فتظهر الفوضى والانحلال الروحي الباطني لعالم يبدو منظمًا وخيِّرًا على نحو عقلاني، وفي هذا العالم كثيرًا ما يُصبح من الصعب، بل من المستحيل أحيانًا، أن تعثر على نقطة ارتكاز. إن الكثير من المجاز والمفارقات والمواقف الفانتازية الموجودة في أعمالهما الأخيرة إنما يمثِّل ترجمةً بلغة أدب الغرائب والمفارقات لمشكلات الحياة الواقعية للقرن العشرين.
في عام ١٩٨٩م كتب الأخوان أركادي وبوريس ستروجاتسكي أيضًا مسرحيةً باسم «يهود مدينة بطرس».
أعمال أ. ن. وب. ن. ستروجاتسكي
الأعمال الكاملة في عشرة أجزاء، موسكو، دار نشر «تكست»، ١٩٩١–١٩٩٣م.
مختارات في جزأين، سان بطرسبورج، إبداعات مجلة «نيفا»، ١٩٩٢م وطبعات أخرى.
أعمال عن أ. ن. وب. ن. ستروجاتسكي
شيستوبالوف أ، المقال الختامي في كتاب: ستروجاتسكي أ، ستروجاتسكي ب، القدر الأعرج، موسكو، دار نشر «كنيجا» (الكتاب)، ١٩٩٠م.
الأخوان ستروجاتسكي يتحدَّثان عن نفسيهما وعن الأدب والأسطورة، أومسك، ١٩٩١م.
(١-٦٢) فلاديمير أوسيبوفيتش بوجومولوف
(٣ يوليو ١٩٢٤م، قرية كيريلوفكا، محافظة موسكو – ٣ ديسمبر ٢٠٠٣م، موسكو).
وُلد ف. أ. بوجومولوف في ضواحي موسكو، في عائلة غالبها من الفلاحين. والده من أبناء المدينة، بينما كانت أمه فلاحة. هجر الأب أسرته مبكرًا ليلقى حتفه إبَّان حصار ليننجراد. عاش بوجومولوف طفولته في كنف أمه وجدته في الريف، حيث تعلَّم أعمال الزراعة، وقُبيل الحرب انتقلت الأسرة إلى موسكو.
في خريف عام ١٩٤١م، ترك الفتى صاحب الخمسة عشر ربيعًا مدرسته ليدخل في غمار الحرب ويصبح في رعاية أحد الأفواج العسكرية ويخوض أول معركة حقيقية له في أكتوبر عام ١٩٤١م. وفي مارس من عام ١٩٤٢م يحصل على أول رتبة عسكرية ولم يبلغ بعدُ السابعة عشرة من عمره. خدم بوجومولوف في المخابرات العسكرية، وشارك في العمليات التي تمَّت بالاشتراك بين المخابرات العسكرية وفرقة سميرش (مكافحة التجسُّس). أُصيب إصابةً بالغة، واستمرَّ في الخدمة في الجيش حتى عام ١٩٥١م، عمل على جبهات كل من بودموسكوفي وكالينينشنيا وشمال القوقاز وأوكرانيا وبيلاروس وبولندا وألمانيا، ليصل إلى الشرق الأقصى حيث منشوريا، ثم يتجه إلى كامتشاكا … وفي عام ١٩٥١م، يُحال إلى التقاعد بسبب ظروفه الصحية.
تُعد الانطباعات التي خرج بها نتيجة خدمته في الجيش على مدى عشر سنين هي أساس الأعمال الأدبية التي أبدعها كافةً ف. أ. بوجومولوف، وقد سخَّر الكاتب قلمه ليكشف تلك الحرب التي تم تصويرها على نحو سطحي وزائف. وفي عام ١٩٥٧م نشر أول قصة له بعنوان «إيفان»، أبرز من خلالها حقيقة مصير الأطفال التي جرى عرضها باستهانة وتبسيط شديدَين في أدب ما بعد الحرب. وقد أصبحت تراجيديا الطفولة ودراما الشباب وصدام الإنسان الطبيعي الكامل، الواضح، المستقيم، الشريف بالتشويه الأخلاقي الذي تحمله الحرب في أحشائها، هي الموضوع الرئيسي تقريبًا في كل إبداعه. وقد جلبت رواية «إيفان» الشهرة لكاتبها، وتُرجمت إلى عشرات اللغات، وتحوَّلت إلى عمل سينمائي باسم «طفولة إيفان» نال شهرةً عريضة أيضًا.
وفي الروايات والقصص التي كتبها بوجومولوف في الستينيات («زوسيا»، «الحب الأول»، «مقبرة بالقرب من بيلوستوك»، «الألم يعتصر قلبي» وغيرها) وجَّه الكاتب بصره إلى ما في الحرب من أهوال ليُصبح الموضوع الرئيسي في أعماله هو الصدام الذي يقع بين الشباب الغض، البريء، الطيب، المفتقر إلى الحماية والأمن، وبين هذه الحرب الغاشمة التي أرغمت أبطاله على قَبول قواعد مختلفة للحياة، فإذا ما رفضوا قَبولها على هذا النحو، ولم يضعوا «قناعًا» على وجوههم، ولم يمثِّلوا (كما يحدث دائمًا، وهو ما يقدِّمه الكاتب في روايته «لحظة صدق» (١٩٧٤م) على نحو مأساوي بالغ التأثير)، فإن الإنسان لا يصبح أمامه إلا أن يهلك أو ينكسر. وعلاوةً على ذلك فربما يكون ف. أ. بوجومولوف هو الوحيد من بين الذين كتبوا عن الحرب، الذي يجعل القارئ يشعر بأن الحرب تدمِّر المبادئ الفكرية والروحية، وتشوِّه الثقافة القومية التي ترسَّخت لدى الإنسان على مدى القرون.
إن «لحظة صدق» هي رواية تتحدَّث في جانب من جوانبها عن الانهيار القاسي للقيم الأخلاقية، الذي يحدث دون أن يلحظه الناس، وعن دمار «المخزون» الروحي للإنسان بدعوى الدفاع عن «القضية»، أو من أجل إنجاز «الهدف». إن المشاركين في الحرب، عند بوجومولوف، يندفعون، سواء أكانوا من «جنودنا» أو من جنود العدو، من هذا الجانب أو ذاك، يندفعون بغية إنجاز «مهمتهم»، من أجل تحقيق «النتيجة»، منتهكين كل ما هو «محرَّم» أخلاقيًّا. هنا كان النموذج التقليدي للإنسان الروسي، الذي شكَّلته الثقافة العريقة هو الضحية (والذي مات على النحو الذي مات به أنيكوشين في «لحظة صدق»)، والذي جاء بدلًا منه هؤلاء «المحترمون»، الذين لا يقف في طريقهم أي «محرَّم» (في «لحظة صدق» سنجد هذا الموضوع الداخلي للمأساة الروحية يدور في عمق السرد «البوليسي» المثير. إننا في هذه الرواية أمام شخصيتين: ستالين وميشينكو، «قطبين سياسيين» يكادان أن يتطابقا من الناحية الروحية. إنهما المحركان، من هذه الناحية، لكل ما هو «محرَّم»، وهما اللذان يحدِّدان عملية الانهيار الخلقي، الذي يمكن أن يضمن لهما وحده انتصار قضيتهما).
لا تزال «لحظة صدق» هي الرواية المركزية للكاتب؛ فبعد هذه الرواية، ظل ف. أ. بوجومولوف يعمل لسنوات طويلة على كتابة رواية كبرى عن حياة الجيش بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وقد نشر جزءًا من هذه الرواية في عام ١٩٩٣م.
وبوصفه فنانًا، يتميَّز ف. أ. بوجومولوف بالوضوح والاستقامة وبالنزعة العاطفية العميقة غير المباشرة. كان بوجومولوف يسعى إلى الصدق الكامل للمشاهد التي يرسمها (فقد درس، على سبيل المثال، آلاف الوثائق من أرشيف مكافحة الجاسوسية العسكرية إبَّان عمله في كتابة «لحظة صدق»). أمَّا بالنسبة لسلوكه المدني فتميَّز بالاستقلال والحرية الداخلية. كان كاتبًا عالميًّا ذائع الصيت، رفض الانضمام إلى عضوية اتحاد الكتَّاب السوفييت، وهو لقب فيه إطراء كان معظم الكتَّاب المحترفين يسعَون إليه، كما اعتذر أيضًا عن قَبول وسام منحه إياه اتحاد الكتَّاب السوفييت بمناسبة يوبيل هذا الاتحاد.
أعمال ف. أ. بوجومولوف
رواية، قصص (المقال الختامي: ف. أكيموف)، ليننجراد، لينزدات، ١٩٨١م؛ لحظة صدق، رواية، قصص (المقال الختامي: إ. ديدكوف)، موسكو، دار نشر «إيزفيستيا»، ١٩٨٤م.
في أغسطس من العام الحادي والأربعين (لحظة صدق) (المقال الختامي: ل. لازارييف)، موسكو، «إيزفيستيا»، ١٩٧٧م.
أعمال عن ف. أ. بوجومولوف
مقالات بقلم ف. أكيموف، وإ. ديدكوف، ل. لازارييف في الطبعات المشار إليها سابقًا.
(١-٦٣) يوري بافلوفيتش كازاكوف
(٨ أغسطس ١٩٢٧م، موسكو – ٢٩ نوفمبر ١٩٨٢م، ضاحية أبرامتسوفو بالقرب من موسكو).
في واحدة من سِيره الذاتية المبكِّرة كتب ي. ب. كازاكوف عن نفسه قائلًا: «وُلدت في موسكو في عام ١٩٢٧م في عائلة عامل. كان والدي ووالدتي في السابق فلاحَين من محافظة سمولينسك. لم يكن هناك، على حد علمي، متعلِّم واحد في أسرتنا، وإن كانت تضم بين أفرادها العديد من الموهوبين. وهكذا أصبحت الأول من بين أقاربي الذي اتخذ من الأدب حرفةً له.
وقد أصبحت كاتبًا في سن متأخرة …»
شغف ي. ب. كازاكوف في سنوات المدرسة بالموسيقى، فالتحق بالمدرسة الموسيقية ليُنهي دراسته بها، إلى جانب استمراره في التعليم العام. ثم الْتحق بمعهد الموسيقى في موسكو، ليعمل بعد ذلك لعدة سنوات عازفًا على آلتَي التشيلو والكونترباص في الفرق السيمفونية وفرق الجاز. وبالتدريج تغلَّبت عليه نزعته للكتابة. وفي بداية الخمسينيات راح يجرِّب قواه في الكتابة النثرية. يقول ي. ب. كازاكوف: «في عام ١٩٥٣م نجحت في نشر بعض المقالات القصيرة في صحيفة «سوفيتسكي سبورت» (الرياضة السوفييتية)، وفي العام نفسه تم قَبولي في المعهد الأدبي». وقد أنهى كازاكوف الدراسة به في عام ١٩٥٨م.
كان كازاكوف من مواليد مدينة موسكو، ولكنه لم يُحب الحياة في مثل هذه المدينة الكبرى. قضى حياته الأدبية القصيرة كلها في التجوال؛ معظمها قضاه في منطقة بيلومور، وكثيرًا ما تنقَّل على ضفاف نهر أوكا (في جنوب شرق سيبيريا) وشواطئ بحيرة فالداي، ومارس الصيد في غابات فولوجدا. وفي أبرامتسيفو، القريبة إلى قلبه، حيث كتب معظم قصصه. وكانت هذه الرحلات التي قام بها ي. ب. كازاكوف، وخاصةً إلى الشمال، هي مصدر قصصه الأولى. ومنذ طفولته كان كازاكوف مضطرًّا لسنوات طويلة للافتراق عن والده، الذي كان يعيش في الشمال، ومن ثم أصبحت انطباعاته عن «الشمال»، على ما يبدو، نوعًا من التعبير عن حنينه إلى الأسرة وإلى بيت دافئ. كان لقاء كازاكوف بالشمال بغاباته الشاسعة وبحره، بالتوندرا وبالعمال البسطاء، بصيادي الوحوش وصيادي الأسماك، بفلاحي ضفاف البحيرات، بمثابة «المتنفَّس» الذي وجد فيه حريته، المكان الذي يمكنه فيه البحث واكتشاف عالم جديد، بعيدًا عن حياة المدينة «المصطنعة»، «المروَّضة». لقد رأى الكاتب أنه سيجد في هذه «البراري النائية»، في هذه النواحي «الموحشة» في «الأطراف»، الحياة وهي تسير على طبيعتها، والمشاعر الإنسانية على فطرتها وصدقها، الحقيقة البسيطة للحياة. إن ما جذب كوزاكوف إلى أناس الشمال هو حركة الروح لديهم بأريحيتها وصراحتها («سر نيكيشكين»، «كلب الصيد أركتور»، «يوميات الشمال»، «نستور وكير»، والعديد من القصص الأخرى).
كان ي. ب. كازاكوف كاتبًا صيادًا، بالمعنى الحرفي للكلمة، فضلًا عن المعنى المجازي لها بشكل أساسي. لقد كان في حقيقة الأمر متمكنًا من اصطياد أماكن جديدة ولقاءات متنوعة ومعارف جدد. لم يكن ليستقر في مكان واحد مدةً طويلة. وكانت لقاءاته ومعارفه ولحظات فراقه أمورًا عابرة؛ ولهذا السبب نفسه فقد عاشها بشكل حاد وطازج على وجه الخصوص. وبوصفه أديبًا، لم يكن كازاكوف ليتحمَّل القوالب والأنماط الجامدة، كان يقدِّر المعرفة المباشرة الأولى تقديرًا رفيعًا، ولم يكن يملُّ من البحث عن شخصيات ومصائر جديدة. كان الإحساس بالحياة، بوصفها معجزة، من أهم ما يميِّزه، حين يراها تتدفَّق بشكل طبيعي كل مرة من خلال أي عمل عادي بسيط يقوم به أبطاله «الجيولوجيون، الحطَّابون، العُمال، الصيادون وسائقو الجرارات. إن الكاتب يجلس في مركب الصيد مع البحارة، أو يذهب مع بعثة الاستكشاف عبر التايجا، أو يحلِّق بصحبة طياري سلاح الجو القطبي، أو يقود السفن في طريق الشمال العظيم» (عن شجاعة الكاتب).
إن نقطة الارتكاز الروحية الأساسية في نثر ي. ب. كازاكوف تتمثَّل في العلاقة المتوترة التي لا انفصام لها بين الإنسان وعالم الطبيعة، هذه العلاقة المعقودة على مدى آلاف السنين وما ينشأ عنها من أحداث درامية سواء في أوقات صيد الوحوش أو الأسماك، وفي الوقت نفسه يتحدَّث كازاكوف عن «الولع الشديد بالقتل»، الذي يجذب إليه الإنسان، هنا كل كائن حي له الحق في تقرير مصيره، وتحديد مكانه في هذا الكون. وفي مؤلفات ي. ب. كازاكوف كلها تتردَّد نغمة الإحساس بالذنب والندم والتكفير عن ذنب الصيد والقنص، عن أشكال العنف كافةً تجاه المسيرة العظيمة والحرة للطبيعة الحية. وفي واقع الأمر فإن كازاكوف يذكِّرنا دائمًا من خلال نثره أنه إلى جانب الحياة «الاجتماعية» التي نعيشها، وهموم الحياة البشرية، فهناك الحياة الأساسية وهي الحياة الطبيعية الخالدة، الموجودة خارج التاريخ، وأن الإنسان مسئول عن هذه الحياة.
لقد كُتب القليل عن مؤلفات ي. ب. كازاكوف إبَّان حياته؛ فقد كان النقاد يعتبرونه «على حافة» العملية الأدبية التي تلقى تشجيعًا رسميًّا، وأن هذه المؤلفات بعيدة عن الموضوعات والمشكلات «المهمة» و«المعاصرة». كان كازاكوف بعيدًا للغاية دائمًا عن «السياسة»؛ ولهذا ظل مقبولًا فقط ضمن القيم اللاأدبية للمنظومة الأدبية في إطار التراتبية الأدبية السوفييتية.
على أن هذه «المنظومة» بمرور السنين أصبحت من الماضي، وبقي نثر ي. ب. كازاكوف وعالمه الفني خالدًا.
أعمال ي. ب. كازاكوف
الأزرق والأخضر، قصص قصيرة، مقال، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»؛ اثنان في ديسمبر، موسكو، دار نشر «مولودايا جفارديا»، ١٩٦٦م.
أعمال عن ي. ب. كازاكوف
إ. كوزميتشيف، يوري كازاكوف، خبرة الصورة، ليننجراد، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٥م.
(١-٦٤) فاسيلي ماكاروفيتش شوكشين
(٢٥ يوليو ١٩٢٩م، قرية سروستكي على نهر ألطاي – ٢ أكتوبر ١٩٧٤م، محطة كليتسكايا، محافظة فولجوجراد، دُفن في مقبرة نوفوديفيتشي).
نشر ف. م. شوكشين أول قصة له في عام ١٩٥٨م، ثم نشر أول مجموعة قصصية في عام ١٩٦٣م بعنوان «أهل الريف». وعلى مدى الأعوام العشرة التالية كتب شوكشين ونشر بضع عشرات من القصص وروايتَي («ليوبافيني»، الجزء الأول في عام ١٩٦٣م، والثاني في عام ١٩٨٧م)، ثم روايتي عن ستيبان رازين: «جئت لأعطيكم الإرادة …» عام ١٩٧١م، وبعدها كتب عددًا من القصص الطويلة، وسيناريوهات سينمائية وحكايات وما إلى ذلك («ثمرة الكالينا الحمراء»، «حتى الديك الثالث»، «وجهة نظر»، «أناس متحمسون» وغيرها). كان ف. م. شوكشين موهوبًا بشدة في المهن التي مارسها كافة؛ كممثل ومخرج وأديب. على أنه اعتبر الأدب عمله الرئيسي، وكان ينتوي أن يتفرَّغ له كلية، بعد أن يترك مجال العمل في السينما.
غادر ف. م. شوكشين الحياة مبكرًا؛ فقد تُوفي على أثر أزمة قلبية في أثناء تصوير فيلم «كانوا يحاربون من أجل الوطن». في ختام قصته «كلياوزا»، التي نشرها إبَّان حياته طرح شوكشين سؤالًا: «ما الذي يحدث لنا؟» وهذا هو السؤال الذي أخذ مكانه إلى جانب الأسئلة «الملعونة» في الأدب الروسي: «من المذنب؟» و«ما العمل؟»
مُنح بعد وفاته جائزة لينين.
أعمال ف. م. شوكشين
الأعمال المختارة في جزأين، موسكو، ١٩٧٥م.
الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء، موسكو، ١٩٨٤-١٩٨٥م؛ الأخلاق هي الحقيقة (مقال)، موسكو، ١٩٧٩م.
أسئلة إلى نفسي (مقال)، موسكو، ١٩٨١م.
أعمال عن ف. م. شوكشين
يميليانوف ل. فاسيلي شوكشين، دراسة في إبداعه، موسكو، ١٩٨٣م، تشيرنوسفيتوف ي، العبور إلى الحافة، فاسيلي شوكشين، أفكار عن الحياة والموت والخلود، موسكو، ١٩٨٩م.
فاسيلي ماكاروفيتش شوكشين، لحظة حياة، مجموعة قصصية، موسكو، ١٩٨٩م.
(١-٦٥) جيورجي نيكولايفيتش فلاديموف
(١٩ فبراير ١٩٣١م، خاركوف – ١٩ أكتوبر ٢٠٠٣م، فرانكفورت، ألمانيا).
الاسم الحقيقي لعائلة ج. ن. فلاديموف هو فولوسيفيتش. وُلد في عائلة تعمل بالتدريس. تخرَّج في كلية الحقوق بجامعة ليننجراد عام ١٩٥٣م، وعلى الفور سافر إلى موسكو، حيث عمل بمجلة «نوفي مير». بدأ حياته العملية بوصفه ناقدًا أدبيًّا للاتجاه المسمى آنذاك «نوفوميروفسكي»، وهو اتجاه يهتم بالدرجة الأولى بالنقد الجاد والشجاع عند طرح المشكلات الاجتماعية، والواقعية في تصوير الصراعات المحتدمة في الحياة، وإلقاء الضوء على الاتجاهات الشعبية.
دخل ج. ن. فلاديموف عالم الأدب في الفترة التي عُرفت ﺑ «ذوبان الجليد»، وقد تأثَّر فلاديموف بالمزاج العام لهذا العصر بقوة وشغف.
بدأ ج. ن. فلاديموف مسيرته الأدبية بقصة «الخام الكبير» (١٩٦١م)، والتي انعكست فيها كل جوانب القوة والضعف في أدب «ذوبان الجليد». أمَّا بطل روايته، السائق فيكتور برونياكن، فيتميَّز بحبه الشديد للعمل وإجادته له في الوقت نفسه، وهو مؤمن بقضيته متحمِّس لها، كما أنه أكثر الجميع إيمانًا بضرورة استخراج «الخام الكبير» الذي طال انتظاره، وهو يموت وهو يقود شاحنته حاملًا على ظهرها هذا الخام. في الواقع، فإن عنوان الرواية هو عنوان مجازي بطبيعة الحال؛ فهذا «الخام» الغني، الكبير، يعني الطموحات والآمال الإنسانية، التي ينبغي صهرها وسبكها بالكفاح واجتراح المآثر، وتجاوز ما في نفوس الناس من أمور تافهة عرضية من أجل تحقيق عالم صادق وحر، خالص من الكذب والغرض، اللذين اتسمت بهما اشتراكية ستالين الزائفة.
كان موضوع الإحباط الاجتماعي، بل الأخلاقي والتخلُّص من الأوهام يعني خطوةً جديدة من الكاتب باتجاه خلق مزاج عام وتقييم معارض لنظام بريجنيف. وقد قوبلت الرواية باستحسان شديد من جانب الدوائر الديمقراطية في المجتمع، بينما استقبلها النقد شبه الرسمي بصورة سلبية حادة.
عاش ج. ن. فلاديموف في المهجر لأكثر من عشر سنوات، قضى معظمها في جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) على وجه الخصوص. وقد أصبح في الغرب واحدًا من أبرز كتَّاب ما عُرف باسم «الموجة الثالثة» من أدب المهجر الروسي. عمل فلاديموف بضع سنين محرِّرًا في مجلة «جراني» (الحدود)، وهي إحدى مجلات المهجر الروسي الشهيرة، وقد أصبح بإمكانه العودة إلى الوطن في نهاية الثمانينيات فقط.
مثَّلت روايتاه «روسلان المخلص» و«الجنرال وجيشه» الخطوة الثالثة في مسيرته على طريق خلق أسلوبه الخاص في الحياة بوجه عام، وفي وضعنا التاريخي بشكل خاص.
«روسلان المخلص» (١٩٧٥م) رواية تعطي تفسيرًا جديدًا ومبتكرًا لموضوع «معسكرات» الاعتقال. هي حكاية كلب حراسة يتعرَّض مصيره وروحه لتشويه مُهلك لا يمكن إصلاحه. يعيش هذا الكلب في أحد المعسكرات التي يسود كلَّ شيء فيها جوٌّ من الرعب والكراهية والشك المتبادل. هنا يرسم الكاتب صورةً لتوابع الكارثة، التي يعيشها العالَم السوفييتي، والتي بات عليهم، بعد أن عانَوا من «مصل» الجولاج، أن يعتصروا لزمن طويل «نقطة وراء نقطة» هذا السم من وعيهم ومن لا وعيهم، أن يُخرجوه من مصيرهم بأكمله.
يُطور ج. ن. فلاديموف موضوع الحبس الجماعي والحياة «تحت الحراسة» بشكل جوهري في روايته «الجنرال وجيشه» (نُشرت في مجلة «زناميا»، «الراية»، عام ١٩٩٤م)، حيث يتضح لنا أن الجنرال السوفييتي المحظوظ فوتيسي كوبريسوف هو نفسه مسجون بطريقته، وفي نظام الاعتقال نفسه الذي يُديره هو نفسه، وحتى على الجبهة فقد كان الجنرال محاصَرًا بحراسته المفروضة عليه، وربما بالقدر نفسه من الرقابة النوعية الموجودة بشكل ما (نتذكَّر هنا الرائد سفيتلووكوف، الذي راح يغزل شبكةً من الوشايات حول الجنرال).
على مدى ثلاثين عامًا ظل الموضوع الوحيد، الذي راح يتطوَّر داخليًّا في نثر ج. ن. فلاديموف هو تجاوز أوهام عصر «ذوبان الجليد»، الذي ارتبط به الضحية فيكتور برونياكين في رواية «الخام الكبير»، كما سار في طريق البحث عن الحقيقة الخالصة في رواية «ثلاث دقائق صمت»، ومنه توجه إلى اكتشاف الواقع القاسي الباعث على التشاؤم الشديد لواقع «التاريخ المشوَّه»، الذي حوَّل الحياة إلى ما يشبه «المنطقة» المشاع، والذي لا يسمح بالأمل في الشفاء السريع والتخلُّص من الصدمة الرئيسية للعصر.
أعمال ج. ن. فلاديموف
الخام الكبير، موسكو، ١٩٦٢م، ١٩٧١م.
ثلاث دقائق صمت، مجلة «نوفي مير»، ١٩٦٩م، الأعداد ٧، ٨، ٩، طبعة مستقلة، موسكو، ١٩٧٦م.
روسلان المخلص، مجلة «زناميا»، ١٩٨٩م، العدد الثاني.
الجنرال وجيشه، «زناميا»، ١٩٩٤م، الأعداد: ٤، ٥.
أعمال عن ج. ن. فلاديموف
أنينسكي ل، إنقاذ روسيا بما تستحقه روسيا … مجلة «نوفي مير»، ١٩٩٤م، العدد العاشر؛ بوموجولوف ف. اذكروا محاسن الأحياء والموتى وروسيا … («رؤية جديدة للحرب»، «فهم جديد» أم أسطورة جديدة)، مجلة «كنيجنوي أوبوزرينيه» (استعراض الكتب)، ١٩٩٥م، العدد ١٩، ٩ مايو.
(١-٦٦) فاسيلي إيفانوفيتش بيلوف
(٢٣ أكتوبر ١٩٣٢م، قرية تيمونيخ بمنطقة خاركوف، محافظة فولوجدا).
وُلد ف. إ. بيلوف في عائلة فلاحين. كان والده مزارعًا في أحد الكولخوزات، وكانت أمه تعمل في كولخوز أيضًا. تلقَّى ف. إ. بيلوف تعليمه بالمدرسة الزراعية لمدة سبع سنين، عمل بعدها في الكولخوز في الفترة من عام ١٩٤٥م وحتى عام ١٩٤٩م. أنهى في عام ١٩٥٠م المدرسة الصناعية في مدينة سوكول، ليعمل نجارًا وميكانيكيًّا في محطة كهرباء متنقلة لوحدة لقطع الأخشاب، ثم عمل كهربائيًّا في أحد المصانع في مدينة ياروسلاف؛ خدم بعدها في الجيش (١٩٥٢–١٩٥٥م)، ثم يعود ليعمل لفترة قصيرة نجارًا في أحد المصانع في مدينة بيرم.
في الفترة من عام ١٩٥٦م إلى ١٩٥٨م التحق بالعمل محرِّرًا في صحيفة «كومونار» (بمدينة جريازوفيتش بمحافظة فولوجدا)، وقد تمَّ اختياره سكرتيرًا أولًا للجنة المحلية لمدينة جريازوفيتش، على أنه سافر إلى موسكو في عام ١٩٥٦م للدراسة في معهد جوركي للأدب (تخرَّج فيه في عام ١٩٦٤م). وقد قُبل عضوًا في اتحاد الكتَّاب السوفييت قبل أن يتخرَّج في المعهد (١٩٦٣م).
دخل ف. ب. بيلوف إلى عالم الأدب في البداية باعتباره شاعرًا. نُشرت أشعاره الأولى في عام ١٩٥٦م في الصحف الشبابية التي كانت تصدر في فولوجدا، وقد حمل ديوانه الأول والوحيد اسم «قريتي غابة صغيرة» (١٩٦١م)، وفي الوقت نفسه تقريبًا صدر كتابه النثري الأول «قرية بيرديايكا» (١٩٦١م)، ويضم مجموعةً من القصص القصيرة.
تحوَّلت روايته «عمل معتاد» (١٩٦٦م) إلى حدث بارز في الأدب الروسي الجديد. ومنذ ذلك الوقت انضمَّ ف. إ. بيلوف إلى صفوف أساتذة «الأدب الريفي». وينتسب نثره الذي ظهر مع نهاية الستينيات إلى هذا الأدب تحديدًا («مطاردة الذئاب الثلاثة» ١٩٦٨م، «حكايات النجارين»، وقد نُشرت للمرة الأولى في مجلة «نوفي مير» عام ١٩٦٩م وغيرها).
يومًا بعد الآخر بدأت في الظهور على نحو متنامٍ أعمال أخرى متميزة كتبها ف. إ. بيلوف، عكست رؤيته إلى الفلاح وإلى أسلوب حياته وثقافته، باعتبارهما قيمةً قومية روحية وجمالية هائلة. إن فكرة التراجع عن هذه القيمة وتمزيقها، من وجهة نظر ف. إ. بيلوف، تؤدِّي إلى تشويه الإنسان وروحه في ظروف تحوُّل الريف إلى حَضر فاقد للهُوية والملامح. وتركِّز أعمال ف. إ. بيلوف كافةً في السبعينيات والثمانينيات على هذه المشكلة (سواء منها التي تستلهم التاريخ، في روايات «العشية»، ١٩٧٢–١٩٧٦–١٩٨٧م، و«عام الانعطافة الكبرى» ١٩٨٩م، أو التي تتناول الفضاء الثقافي للريف الغابر، في مقالاته البحثية عن جماليات الحياة الريفية)، وقد انعكست في رواية «الوفاق» ١٩٧٩–١٩٨١م، أو تتناول الفضاء الثقافي الحاضر في رواية «التربية على طريقة دكتور سبوك» ١٩٧٨م، ثم في رواية «إلى الأمام جميعًا» (١٩٨٦م)، والتي أثارت جدلًا حادًّا. إن الكاتب في كل ذلك يُدافع عن الهُوية القومية وأصالة التراث الروحي للفلاحين في مواجهة القوى الأخرى، التي تسعى لتدمير هذه المبادئ.
وفي هذا الدفاع، الذي يقوم به ف. إ. بيلوف، يتحدَّد موقفه على نحو أكثر وضوحًا باعتباره فنانًا يمتلك إحساسًا شاعريًّا مرهفًا، جدليًّا ومتحمِّسًا إلى حد كبير يؤدي إلى التوتر.
في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات انشغل ف. إ. بيلوف بالعمل الاجتماعي والسياسي على حساب نشاطه الأدبي (كان عضوًا بمجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي في الفترة من ١٩٩٠م وحتى ١٩٩١م، نائبًا شعبيًّا للاتحاد السوفييتي من عام ١٩٨٩م وحتى عام ١٩٩٢م، وعضوًا باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي (١٩٩٠-١٩٩١م)، وعضوًا باللجنة التنظيمية لجبهة الإنقاذ القومي).
ف. إ. بيلوف حاصل على جائزة الدولة وجائزة ليف تولستوي.
أعمال ف. إ. بيلوف
الأعمال المختارة في ثلاثة أجزاء، موسكو، ١٩٨٣-١٩٨٤م.
الأعمال الكاملة في خمسة أجزاء، موسكو، ١٩٩١م.
أعمال عن ف. إ. بيلوف
سيليزنيف ي. فاسيلي بيلوف.
تأملات في المصير الإبداعي للكاتب، موسكو، ١٩٨٣م.
(١-٦٧) نيكولاي ميخايلوفيتش روبتسوف
(٣ يناير ١٩٣٦م، قرية يميتسك، محافظة أرخانجلسك – ١٩ يناير ١٩٧١م، فولوجدا).
وُلد ن. م. روبتسوف في أسرة كثيرة الأطفال. ينتسب والداه إلى قرية من قُرى فولوجدا. كان والده يعمل موظَّفًا بسيطًا في شبكة تجارية محلية، تارةً في أرخانجلسك، وتارةً في محافظة فولوجدا. انتقلت الأسرة في عام ١٩٤١م لتستقرَّ في فولولجدا. ذاق ن. م. روبتسوف مرارة الحرمان مبكرًا، فقد تُوفيت والدته في عام ١٩٤٢م، وبعد فترة قصيرة من موتها يذهب الأب إلى الجبهة. وهنا يبدأ الابن في التنقُّل لعدة سنوات بين الملاجئ، ثم يستقر في النهاية في ملجأ نيكولسكي في ضاحية توتيما من أعمال فولوجدا، يلتحق بعد ذلك في معهد صناعي آخر لدراسة النجارة وتصنيع الأخشاب، ولكنه لم يُكمل الدراسة به أيضًا. قضى ن. م. روبتسوف خدمته العسكرية في أسطول الشمال. وبعد تسريحه من الجيش عمل وقَّادًا على ظهر سفينة الصيد «سيفريبا» («كنت مغطًّى دائمًا بالمازوت، غارقًا في الشحم؛ فقد كنت أعمل في أسطول الصيد»). وبعد أن ترك العمل على السفينة، عاش ن. م. روبتسوف بدءًا من عام ١٩٥٩م في ليننجراد، مع تحديد إقامته بها. وهناك عمل في مصنع كيروف. وفي هذا المصنع أنهى مدرسة العُمال الشباب. في منتصف الخمسينيات بدأ روبتسوف في كتابة الشعر بشكل منتظم. وفي ليننجراد وجد لنفسه المكان الأول ليعمل فيه أديبًا محترفًا بمجلة «نارفسكايا زاستافا»، حيث بدأ في نشر أشعاره. وفي صيف عام ١٩٦٢م ظهر ديوانه الأول «أمواج وصخور» مخطوطًا.
وفي العام نفسه نجح ن. م. روبتسوف في اجتياز الامتحانات المؤهِّلة للالتحاق بمعهد جوركي للأدب. لكن القدر لم يمهله البقاء كثيرًا بين جدران هذا المعهد؛ فقد تعلَّلت إدارة المعهد «بسلوك الطالب غير المنضبط»، فقرَّرت فصله من المعهد (لم يعد ف. ن. روبتسوف إلى المعهد إلا بعد بذل الكثير من الجهد، وباعتباره طالبًا منتسبًا). تخرَّج روبتسوف في عام ١٩٦٩م. وفي أرخانجلسك صدر ديوانه الأول «أشعار غنائية» في عام ١٩٦٥م، أما الديوان الأول له في موسكو فحمل اسم «نجمة الأرض» وصدر في عام ١٩٦٧م.
نشأ ف. م. روبتسوف وتكوَّنت شخصيته كشاعر موهوب، ليكتسب يومًا وراء الآخر انطباعات شديدة التأثير عن واقع الحياة الروسية، تحطَّمت جميعها تقريبًا على مدار القرن العشرين بسبب الأحداث التاريخية التي وقعت خلاله، وخصوصًا أحداث الحقبة السوفييتية والمجاعة، إضافةً إلى سوء المصير. ومن الجدير بالملاحظة أن هذا الشاعر الواعد قضى طفولته وشبابه في أقصى الشمال، في منطقة تنتشر فيها أو بالقرب منها «معسكرات الاعتقال». فضلًا عن ذلك فقد حرمته الظروف من دفء المشاعر الأسرية؛ فعاش بلا أب، وحتى عندما عاد هذا الأب من الحرب، فإنه لم يولِ أطفاله أي قدر من الرعاية والاهتمام.
وهكذا استمرَّ شعور التشرد والضياع، بكل ما تعنيه الكلمة من معنًى، هو الشعور الذي اعتاد عليه ن. م. روبتسوف منذ طفولته (حصل روبتسوف على غرفته المتواضعة الأولى في فولوجدا قبل عام واحد فقط من وفاته). حتى الرابعة والثلاثين من عمره ظل الشاعر يتنقَّل من مسكن جماعي إلى مسكن آخر، ومن شقة مشتركة إلى شقة مشتركة أخرى، ليعيش طوال الوقت مع أناس غرباء. كما أنه لم يمتلك في أي يوم من الأيام عائلةً خاصة به. وفي أشعاره، كان نيكولاي روبتسوف يعبِّر عن إحساسه بالتشرُّد باعتباره إحساسًا بفقدان الوطن.
أصبح التنقُّل عبر روسيا بقُراها ومُدنها وضواحيها، وحتمية الاستسلام ﺑ «تحديد الإقامة» وما يترتَّب عليه من ظروف معيشية، هو أسلوب خاص لحياة يعيشها الملايين ممن كانوا فلاحين روسًا في يوم من الأيام. وفضلًا عن ذلك، فقد وجد الشاعر، في هذه التركيبة من المعاناة تحديدًا، في هذه التجربة الخاصة والعامة في الوقت نفسه، مصدر التعبير الذاتي عن إبداعه، هذا الإبداع الذي أصبح، في واقع الأمر، تعبيرًا عن مصير العديد والعديد من معاصريه. إن الجهد العظيم الذي بذلته روح ن. م. روبتسوف بعث في عالمه الغني إحساسًا عميقًا بالطبيعة العزيزة وبالأرض الغالية، وبالعلاقات الحميمة مع مصائر مواطنيه؛ وهذا ما جعل من تجاوز الإحساس باليتم لدى البطل الغنائي للشاعر أمرًا ممكنًا.
أصبحت أشعار ن. م. روبتسوف اندفاعًا عاطفيًّا تجاه البيت الآمن الخالد، نحو روسيا، نحو القرية والبيت الريفي، اندفاعًا نحو التوحُّد مع التاريخ القومي وأشكال الحياة اليومية الشعبية المتعاقبة كافةً يومًا وراء الآخر، ونحو الحركة الفطرية الأبدية («مع كل بيت ريفي وكل غيمة/مع الرعد الموشك على السقوط/أشعر بالرابطة المتأجِّجة، وبالعلاقة بالموت في أشد صورهما تجليًا»). يُعد ن. م. روبتسوف واحدًا من أبرز المبدعين فيما عُرف في الستينيات باسم الشعر «الريفي»، ومن بين الشعراء الذي جمعتهم به علاقات ودية وطيدة في هذا المجال: ج. جوربوفسكي، أ. بيريدرييف، أ. براسولوف وغيرهم.
أعمال ن. م. روبتسوف
ضجيج أشجار الصنوبر. موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٠م، زهور خضراء، موسكو، دار نشر «سوفيتسكايا راسيا»، ١٩٧١م.
السفينة الأخيرة، موسكو، دار نشر «سوفريمينيك»، ١٩٧٣م.
مزامير الرعاة (الإعداد والمقال الافتتاحي: ف. كوروتايف)، موسكو، دار نشر «مولودايا جفارديا»، ١٩٧٥م.
رؤية على التل، أشعار، ترجمات، نثر، خطابات (الإعداد والمقال الافتتاحي: ف. ف. كوروتايف)، موسكو، دار نشر «سوفيتسكايا راسيا»، ١٩٩٠م.
أعمال عن ن. م. روبتسوف
كوجينوف ف. نيكولاي روبتسوروف، موسكو، دار نشر «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٥م؛ كونيايف ن، عابر سبيل في آخر الأرض (قصة عن نيكولاي روبتسوف)، مجلة «سيفير» (الشمال)، ١٩٩٢م، العددان ١-٢ (صدرت هذه الرواية لكونيايف في مجلة «رومان- جازيتا»).
(١-٦٨) فلاديمير سيميونوفيتش ماكانين
(١٣ مارس ١٩٣٧م، مدينة أورسك، محافظة أورينبورج).
عاش ف. س. ماكانين السنوات الأولى من حياته في بلدة صناعية بالأورال، وهو ابن لأبوين ينحدران من أصول اجتماعية مختلطة، إذا جاز التعبير، الأمر الذي حدَّد الكثير من الانطباعات الأولى في مستقبل الكاتب. قضى طفولته في زمن الحرب ليعاني من الجوع والفقد، وقد تركت هذه المشاعر أثرًا طويلًا وبخاصة على إبداعه (قصتا «الحياة بلا أب» ١٩٧١م، «الأحمر والأزرق» وغيرهما). سافر إلى موسكو للدراسة بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في مدينة أورسك، وفي عام ١٩٦٠م، تخرَّج في كلية الميكانيكا والرياضيات بجامعة موسكو. عمل بعض الوقت في مجال الرياضيات. في عام ١٩٦٥م، نشر روايته الأولى «الخط المستقيم» في مجلة «موسكفا» (موسكو)، وتتناول حياة العلماء الشبان، الذين اختاروا طريقهم في الحياة، وهي رواية تحمل طابع السيرة الذاتية (نُشرت بعد ذلك في طبعة مستقلة عام ١٩٦٧م).
أنهى الدورات العليا للمخرجين وكتَّاب السيناريو في معهد السينما. انعكست انطباعاته عن معارفه في الوسط السينمائي في رواية «صورة وجه وما حوله» (١٩٧٨م). في الحقيقة فإن ف. س. ماكانين لم يترك أثرًا يُذكر، على ما يبدو، في مجال السينما. وقد تركت الإصابة البالغة التي تعرَّض لها على أثر حادث سيارة أثرًا كبيرًا في منعه في هذه السنوات من ممارسة نشاطه الأدبي. وبعد عودته إلى الأدب في منتصف السبعينيات أصبح ف. س. ماكانين واحدًا من أبرز كتَّاب الموجة «الجديدة» المؤثرين، الذين ساهموا بعالمهم الفني، وخبرتهم الحياتية، وتجرِبتهم الروحية في تغيير الصورة التي تكوَّنت للأدب «السوفييتي» في تلك الفترة، وكانوا وراء التحديث الذي لحق بهذا الأدب.
ينتمي ف. س. ماكانين إلى جيل «المفكرين الواعين» من الكتَّاب الروس في نهاية القرن العشرين، هؤلاء الذين جاءوا للحياة وللأدب دون أن يحملوا الأوهام والآمال التي ميَّزت مَن سبقهم من كتَّاب. وهذا الجيل (الذي يُعد ف. س. ماكانين أحد فنانيه البارزين) ظهر على أطلال أسطورة الازدهار والمميزات التي ستجلبها «الاشتراكية المتطوِّرة»، كما أن هذا الجيل لم يربط مصيره بآفاق «المستقبل الباهر».
يختلف نثر ف. س. ماكانين من ناحية بنيته الفنية وموضوعاته الأساسية عن العديد من الدلائل على الحياة الواقعية التي لا تشبه إلا في القليل تلك الصور الدعائية والمعيارية ﻟ «الواقعية الاشتراكية» في زمن الركود.
تعكس الأحداث والشخصيات في نثر ف. س. ماكانين نتائج الانهيار العميق والشامل للعالم الروسي التقليدي، الذي وصل إلى ذروة انهياره في المجتمع «السوفييتي» المتدهور. لقد ظلَّت روسيا موجودةً عند أبطاله فقط في انطباعاتهم الطفولية المشوَّشة عنها، روسيا الغابرة «بأجدادها وجداتها»، والتي عاشت ظروفًا صعبة تتفق والحياة في تلك الأزمان الغابرة، التي غابت الآن عن ذاكرتهم. روسيا التي ضمَّت بين جنباتها شخصيات متنوعةً ولكنها قوية، مفعمة بالطاقة الروحية (في قصة «الأحمر والأزرق» وفي بعض أجزاء من قصة «الرائد»، و«حيث الْتقت السماء بالتلال»).
ونتيجةً لانهيار الحياة الروسية الخالدة يظهر أمام جيل ف. س. ماكانين وأبطاله عالم «الأكواخ الخشبية» و«قرى الإيواء» المشوَّهين، حيث يعيش الناس في ظروف بات التنقل فيها من مكان إلى آخر أمرًا معتادًا، إعادةً للانسحاق، ابتعادًا عن نمط الحياة الطبيعية. إن نضالهم من أجل الحياة ينفي الفردية الواضحة، بدلًا من إبداء المرونة والتأقلم مع الظروف والاستجابة لكل التغيرات التي تطرأ على الوسط الذي يعيشون فيه. لقد أصبحت «الأكواخ الخشبية» واقعًا يمثِّل «الملاذ» لكثير من شخصيات ف. س. ماكانين التي راحت تسعى، مع ذلك، بكل قوتها لأن تتخلَّص منها، وأن تدفع ثمن ذلك من كرامتها الشخصية.
يقدِّم لنا ف. س. ماكانين على أي نحو يتم محو شخصية الإنسان وكيف «تجرف» مسيرة الحياة، يومًا بعد الآخر، القدرة على الإبداع من التربة الشعبية نفسها، وتمتص ثراء القوى الحيوية وما فيها من نزوع نحو الفن لتقتل بذلك كل إحساس فني (قصة «حيث الْتقت السماء بالتلال»، «١٩٨٤م»).
يُولي ف. س. ماكانين اهتمامًا خاصًّا بإبراز الإنسان المعاصر صاحب الوجوه العديدة الشديدة التباين، ويرى أن أكثر ما يميِّز هذا الإنسان أهميةً هو قدرته على الانسحاب إلى الهامش، والتعوُّد على استبدال الأقنعة والتأقلم وعدم الثبات على المبدأ فيما يتعلق بحزمة الصفات، التي تضمن له البقاء حيًّا بأي ثمن. يقول أحد أبطاله: «إن المرونة هي الأمر الرئيسي في وعي كل إنسان» («المواطن الهارب»، «رجل الحاشية»، «المخرج» وغيرها). وفي الوقت نفسه فإن شخصياته باتوا يتحوَّلون هم أنفسهم إلى ضحايا هذا الأسلوب من أساليب الحياة، فراحوا يتخبَّطون في الأفكار والقيم الوهمية المراوغة، التي صنعوها بأنفسهم وهم يدافعون عن الحياة الحقيقية («عدو القائد»، «رجل وحيد وامرأة وحيدة»، «مائدة مغطاة بالجوخ عليها دورق في وسطها» وغيرها). السخط والغضب والإحساس بالإهانة، هذه هي الحالات المعتادة لأبطاله، وهكذا فإن فقدان الوجه الحقيقي ينتقم لنفسه.
ومن بين الأبطال الجدد لدى الكاتب، نجد ياكوشكين، بطل قصته «الرائد» (١٩٨٢م)، الساحر-الشافي؛ فهذا البطل يبدو خارج إطار شخصيات ماكانين المعتادة، وهم سكان المدن المهمَّشون من أبناء الجيل الأول، الذين أقلموا روحهم مع الحياة والذين فقدوا وجههم الحقيقي. ياكوشكين، على العكس من هؤلاء، وجد وجهه الحقيقي. لقد خلق الكاتب شخصيةً متعددة الطبقات، تغذَّت على جذور الروحانية والعاطفية، التي فتحت أمامهم بُعدًا جديدًا للمصائر الشعبية في عصر انهيار «القيم» الشمولية السابقة.
لقد أصبحت الطوباوية (أو «نقيض الطوباوية») هي رد الفعل على الطفرات الكارثية في الحياة الروسية-السوفييتية على تخوم الثمانينيات والتسعينيات. قصة «الفتحة» (١٩٩٠م)، حيث طرحت واحدةً من رؤى مصائرنا في ظروف الصدمة الاجتماعية والروحية.
ويتميَّز ف. س. ماكانين، بوصفه فنانًا، بالاهتمام التحليلي المُرهف للإنسان، الذي «يتخبَّط» في تيار الحياة، وهو يمتلك القدرة على تصوير بيئة المدينة المعاصرة بكل ما فيها من اضطراب على كل المستويات، ويعرض تعدُّدية وجوه الأشخاص النمطيين؛ من المواطن «البروليتاري الرث» وحتى الصفوة من المثقفين والفنانين، كل ذلك من خلال قطاع من هذه البيئة.
أعمال ف. س. ماكانين
مختارات: قصص قصيرة ورواية (مقدمة: ل. أنينسكي)، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨٧م.
في المدينة الكبيرة، قصص، موسكو، «سوفريمينيك»، ١٩٨٠م؛ الفتحة (قصص)، موسكو، ١٩٩١م.
أعمال عن ف. س. ماكانين
أنينسكي ل، بنية المتاهة، مجلة «زناميا»، ١٩٨٦م، العدد ١٢.
رودنيانسكايا إ، معارف مجهولون، مجلة «نوفي مير»، ١٩٨٦م، العدد ٨، ومقالات أخرى في الأعمال السابقة لفلاديمير سيميونوفيتش ماكانين.
(١-٦٩) فالنتين جريجوريفيتش راسبوتين
(١٥ مارس ١٩٣٧م، أوست أودا، محافظة إيركوتسك).
وُلد ف. ج. راسبوتين في عائلة فلاحين، فقد والده مبكرًا (اعتُقل واختفى في السجن في نهاية الأربعينيات). وقد وصف راسبوتين طفولته الفقيرة والدرامية في تلك السنوات، والنقية من وجهة نظري، في سيرته الذاتية التي ضمَّنها قصته القصيرة «دروس الفرنسية» (١٩٧٣م). في منتصف الخمسينيات عمل راسبوتين، الطالب بكلية الصحافة بجامعة إيركوتسك، عدة سنوات بالصحافة في سيبيريا (تخرَّج في الجامعة عام ١٩٥٩م).
نشر أول مجموعة قصصية له في عام ١٩٦١م بعنوان «نسيت أن أسأل ليوشكا». وفي عام ١٩٦٥م صدرت له مؤلفات أخرى. أما في عام ١٩٦٧م، فقد نُشرت روايته «نقود من أجل ماريا»، والتي كانت بدايةً لشهرته ككاتب. ارتبط اسم راسبوتين منذ منتصف الستينيات بمجلة «ناش سوفريمينيك» (معاصرنا)، التي نشرت له كل أعماله الرئيسية: قصص «الوعظ الأخير» (١٩٧٠م)، «عش وتذكر» (١٩٧٤م)، «وداعًا ماتيورا» (١٩٧٦م)، «الحريق» (١٩٨٥م).
شكَّلت هذه القصص سلسلةً خاصة ارتبطت بالمشكلة الاجتماعية الروحية المترابطة، التي تناولها الكاتب في سياق «الأدب الريفي» الكبير. تتميَّز هذه القصص بأنها تدور في سيبيريا وتصوِّر حياة الفلاحين فيها، وسيبيريا التي كتب عنها راسبوتين، هي البيئة التي خرج منها راسبوتين نفسه، وهو يصف تعاقب العصور الثقافية فيها، والغزو «المكثَّف» للمدينة فيها، وكيف راحت تُعاني من أقصى صور التشويه «الوحشي» في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تحديدًا. هذه الطفرة المدهشة فهمها الكاتب وأبطاله باعتبارها مصيبةً كبرى، سواء من الناحية الاجتماعية، أو المعنوية. يرسم راسبوتين في أعماله هذه المصيبة التي حلَّت بالناس، بدءًا من قصة «نقود من أجل ماريا»، التي تُطرح فيها الأحداث بصورة يومية نسبيًّا، وحتى قصة «وداعًا ماتيورا» ذات النزعة التراجيدية الفلسفية. وأخيرًا يصوِّر حالة اليأس التي حلَّت بالمجتمع في رواية «الحريق». وفي هذه القصص جميعًا ينفجر أمامنا ويحتدم سفر رؤيا «مصغَّر» ما يلبث أن يحطِّم هذا الكون الرائع والخالد للحياة الريفية التقليدية المكتفية بذاتها.
ف. ج. راسبوتين هو بطل العمل الاشتراكي عام ١٩٨٧م، وحاصل على جائزة الدولة السوفييتية مرتين.
أعمال ف. ج. راسبوتين
قصص، وداعًا ماتيورا، عش وتذكر، الموعد الأخير، نقود من أجل ماريا، موسكو، ١٩٧٦م.
روايات وقصص، موسكو، ١٩٨٥م.
الحريق (وداعًا ماتيورا)، قصص، موسكو، ١٩٩٠م.
أعمال عن ف. ج. راسبوتين
كوتينكو ن، فالنتين راسبوتين، مقال في إبداعه، موسكو، ١٩٨٨م.
سيميونوف س، فالنتين راسبوتين، موسكو، ١٩٨٧م.
(١-٧٠) ألكسندر فالينتينوفيتش فامبيلوف
(١٩ أغسطس ١٩٣٧م، قرية كوتوليك بمحافظة إيركوتسك – ١٧ أغسطس ١٩٧٢م، غرق في بحيرة بايكال بالقرب من قرية مولتشانوفسكايا باد عند منابع نهر أنجارا، دُفن في إيركوتسك).
مارس فامبيلوف التمثيل في سنوات المدرسة، وكوَّن فريقًا موسيقيًّا للآلات الشعبية، أحبَّ الرسم، وكان عازفًا ماهرًا على آلة الجيتار ومغنيًا. الْتحق في عام ١٩٥٤م، بعد أن أنهى الدراسة الثانوية في كوتوليك، بكلية الآداب جامعة إيركوتسك ليتخرَّج فيها عام ١٩٦٠م.
عمل أ. ف. فامبيلوف عدة سنوات في إحدى صحف الشباب في إيركوتسك. في هذا الوقت بدأ في اكتساب خبراته الأدبية الأولى. كتب عددًا من القصص القصيرة الفكاهية، نشرها في مجلة «أنجار»، وفي هذه الفترة كتب مسرحيتين من ذات الفصل الواحد («سعادة كاتيا كوزلوفا» ١٩٨٩م، و«الخور الهادئ» ١٩٦٠م). وفي عام ١٩٦١م صدرت له أول مجموعة قصصية «اتفاق الأحوال» (باسم مستعار هو أ. سانين). وكان عضوًا في جماعة «ستينكا» (الحائط) الأدبية في إيركوتسك.
دخل فامبيلوف، باعتباره فنانًا صاحب إبداع متميز فريد في الوقت نفسه، إلى أدب «ما بعد الستينات» الصعب المتعدِّد الجوانب، وهو الأدب الذي ينتمي إليه: ف. راسبوتين، ن. روبتسوف، ف. شوكشين، ف. بيلوف، ف. فيسوتسكي، ج. جوربوفسكي … لقد جاء الكاتب المسرحي معه بالخبرة المركَّبة، «المفعمة» بالحياة المعاصرة، وخاصةً خبرة الحياة الريفية، المليئة بالقضايا والارتباك اللذين يمثِّلان عبئًا كبيرًا على النفس البشرية. وينتمي غالبية أبطال أ. ف. فامبيلوف إلى فئة الشباب، الذين أضناهم البحث عن ذواتهم في عالم القيم المُهدرة، وقد عجزوا عن الوقوف في مواجهة كارثة الانزلاق إلى الانهيار الروحي والأخلاقي. إن الكاتب، بوصفه فنانًا يعبِّر عن جيله، يتميَّز بالأداء العميق وبشجاعة الاعتراف، بالصراحة التامة والتأمل المحايد للذات، كل ذلك على نحو درامي مؤثر.
وقد استحقَّت مسرحيات أ. ف. فامبيلوف أن تُصبح ظاهرةً بارزة في الدراما الروسية في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين.
أعمال أ. ف. فامبيلوف
الأعمال الكاملة في جزأين (المقال الافتتاحي ف. كورباتوف)، إيركوتسك، ١٩٨٧-١٩٨٨م.
مختارات، الطبعة الثانية، مزيدة، موسكو، دار نشر «إيسكوستفو» (الفن)، ١٩٨٤م؛ وداع في يونيو، مسرحيات، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٧٧م؛ المدن البيضاء، قصص، مقالات، ١٩٧٩م.
«منزل تُطل نوافذه على الحقل» (المقدمة بقلم ف. لاكشين، المقال الختامي: ن. تينديتنيك)، إيركوتسك، ١٩٨١م.
حديقة الغربان، النجاح، في كتاب: «المسرح المعاصر» ١٩٨٦م، الكتاب الأول.
أعمال عن أ. ف. فامبيلوف
جوشانسكايا ي. م. ألكسندر فامبيلوف، دراسة في إبداعه، ليننجراد، مجلة «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٩٠م؛ ب. ألكسندر فامبيلوف، موسكو، مجلة «سوفيتسكايا راسيا»، ١٩٨٩م.
(١-٧١) فلاديمير سيميوفيتش فيسوتسكي
(٢٥ يناير ١٩٣٨م، موسكو – ٢٥ يوليو ١٩٨٠م، موسكو، دُفن بجبانة فانجوفسكي).
وُلد ف. س. فيسوتسكي في عائلة ضابط بالجيش، بينما عملت الأم مترجمةً في الجيش أيضًا للنصوص التقنية عن اللغة الألمانية. عاش مع والديه بعد انتهاء الحرب في جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية، في إيبرسفالد بالقرب من برلين). بعد أن أنهى دراسة الثانوية في موسكو، الْتحق ف. س. فيسوتسكي في الفترة من ١٩٥٦م وحتى ١٩٦٠م باستوديو مسرح موسكو الفني، ليعمل بعد ذلك ممثلًا في عدد من مسارح موسكو. وبدءًا من عام ١٩٦٤م وحتى نهاية حياته، قام بالتمثيل على خشبة مسرح تاجانكا الذي يديره المخرِج يوري ليوبيموف. ومن بين الأدوار الرئيسية التي أدَّاها: هاملت، دون جوان، وغيرها من الأدوار. ومنذ النصف الثاني من الستينيات شارك ف. س. فيسوتسكي في العديد من الأفلام السينمائية، وكثيرًا ما شارك بالغناء إبَّان عمله بالتمثيل في هذه الأفلام («الخط الرأسي» ١٩٦٧م، «رفيقان في الخدمة» ١٩٦٨م، «سيد التايجا» ١٩٦٩م، «لا يمكن تغيير مكان اللقاء»، ١٩٧٩م وغيرها).
زوجته هي الممثلة الفرنسية مارينا فلادي (مارينا فلاديميروفنا بولياكوفا، تحمل الجنسية الفرنسية)، وهو السبب في الرحلات العديدة التي قام بها ف. س. فيسوتسكي إلى فرنسا، بما في ذلك الرحلات الفنية. وفي عام ١٩٧٩م قام فيسوتسكي بجولة فنية كبيرة طاف فيها أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الوقت نفسه فإن وفاة ف. س. فيسوتسكي المبكرة، فضلًا عن طريقة الحياة التي عاش بها، والتي أودت به، لم توفِّرا له الفرصة ليعبِّر عن نفسه، في أشعاره بالدرجة الأولى، بصورة كاملة.
إن الدراما التي عاشها فيسوتسكي كشاعر، تمثَّلت في عجزه عن «النشر» إبَّان حياته؛ فهو على الرغم من كتابته لمئات القصائد وآلاف الأغاني، بالإضافة إلى تنويعاتها، لم يرَ أعماله تقريبًا بين دفتَي كتاب أو على صفحات المجلات. وقُبيل وفاته المفاجئة بفترة قصيرة نُشرت له في التقويم الأدبي «متروبول»، الذي كان يُطبع في «الساميزدات» خمسٌ وعشرون قصيدةً وأغنية، وبعد وفاته فقط ظهر أول ديوان له في عام ١٩٨١م بعنوان «العَصَب»، ضم مائةً وثلاثين قصيدة، قام على تحريرها بتصرُّف الشاعر ر. روجديستفينسكي. وكذلك نُشرت أعمال ف. س. فيسوتسكي في ثلاثة أجزاء في الخارج؛ في نيويورك في الفترة من ١٩٨١–١٩٨٧م بعنوان «أغنيات وأشعار» (قام على تحريرها ب. بيرست وأ. لفوف) ضمن حوالي ستمائة أغنية ومقتطفات من نثر ف. س. فيسوتسكي وأقواله في الإبداع.
من المعروف بدرجة أقل في الكتب والمنشورات الصحفية أن مجلة «نيفا» نشرت في نهاية الثمانينيات فقط عملًا لفيسوتسكي الأديب؛ «رواية عن الفتيات».
وعلى أي حال فإننا إذا ما قمنا بالتنقيب في الأعمال «الممنوعة من النشر» نجد أن صوت الشاعر الحي قد وصل إلى معاصريه. لا يمكن تصوُّر عالم الكلمة الروسية في الستينيات وحتى الثمانينيات دون فيسوتسكي، الكلمة المشتعلة صدقًا ومعاناة وشجاعة. وبهذه الكلمة دخل فيسوتسكي ليس إلى الأدب الروسي فحسب، وإنما إلى الحياة الروسية نهاية القرن العشرين.
أعمال ف. س. فيسوتسكي
الأعمال الكاملة في جزأين، سان بطرسبورج، دار نشر «تيخنيك»، روسيا، ١٩٩٣م؛ الأعمال الكاملة في جزأين (إعداد النص والتعليق: أ. ي. كريلوف. المقال الافتتاحي: س. ف. فيسوتسكي). موسكو، «خودوجستفينايا ليتيراتورا»، ١٩٩١م؛ العصب، موسكو (المقال الافتتاحي: ر. روجديستفينسكي)، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٨١م؛ أغنيات وأشعار في ثلاثة أجزاء، نيويورك، ١٩٨١–١٩٨٧م.
أعمال عن ف. س. فيسوتسكي
فلادي م. فلاديمير أو التحليق الذي توقف، موسكو، «سوفيتسكي بيساتل»، ١٩٩٠م؛ في ذكرى فلاديمير فيسوتسكي، موسكو، «سوفيتسكايا روسيا»، ١٩٨٩م، نوفيكوف ف، لم يُقبل في اتحاد الكتَّاب … موسكو، سان بطرسبورج «إنتربرنت»، ١٩٩١م.
(١-٧٢) لودميلا ستيفانوفنا بتروشيفسكايا
(٢٦ مايو ١٩٣٨م، موسكو).
وُلدت س. ل. بتروشيفسكايا في عائلة موظفين (الفئة التي تضم بين جنباتها كل المهن، والتي لا ترتبط بأي عمل بدني، من الأكاديمي إلى المحاسب).
بدأت ل. س. بتروشيفسكايا مسيرتها الأدبية في منتصف الستينيات على أن أول ما نُشر لها من بعض القصص القصيرة يعود إلى مطلع السبعينيات (في مجلة «أفرورا» في الفترة من ١٩٧٢م إلى ١٩٧٤م)، وقد انتشر نثرها ومن بعده كتاباتها المسرحية عبر «الساميزدات». كانت «الحب» أول مسرحياتها (نُشرت في مجلة «تياتر»، ١٩٧٩م)، وقد دخلت هذه المسرحية إلى ريبيرتوار مسرح تاجانكا. وفي الثمانينيات عُرضت مسرحياتها: «دروس الموسيقى»، «بئر السلم»، «ثلاث فتيات يرتدين الأزرق» وغيرها على خشبات العديد من المسارح الأخرى، ومن بينها مسارح ذات احترافية رفيعة (مسرح «سوفريمينيك» (المعاصر)، «مخات» (مسرح موسكو الفني)). وبحلول نهاية الثمانينيات صدرت لها مجموعتان مسرحيتان: «أغاني القرن العشرين» (١٩٨٨م)، و«ثلاث فتيات يرتدين الأزرق» (١٩٨٩م). آنذاك صدرت لها أيضًا قصة «الحب الخالد»، ١٩٨٨م. وفي مطلع التسعينيات نشر العديد من المجلات، سواء في موسكو أو في بطرسبورج، قصصها القصيرة التي ظهرت على نطاق واسع بعد ذلك في طبعات مستقلة في ثلاثيتها: «التاريخ»، «مونولوج»، «حكايات»، وكذلك صدرت طبعات متعدِّدة من عملها «على طريق الإله إيروس» ١٩٩٣م وأعمال أخرى.
وفي مطلع التسعينيات أيضًا قامت ل. س. بتروشيفسكايا برحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ألقت هناك عددًا من المحاضرات عن الأدب الروسي المعاصر وعن إبداعها الشخصي. ويمكن أن ننسب قصص بتروشيفسكايا وأعمالها المسرحية إلى ما يُعرَف بالأدب النسائي، لكن هذا الأدب النسائي الجديد لم يكن يتميَّز بموضوعات الحب والعواطف، وإنما تميَّز بالعمق والنزعة الدرامية في البحث عن ومعايشة المصائر الحقيقية للنساء في ظروف نمط الحياة «السوفييتي» و«ما بعد السوفييتي». وتشكِّل كل أعمال ل. س. بتروشيفسكايا نوعًا خاصًّا من الإبداع يمكن أن نسمِّيه «الموسوعة الصغرى لحياة المرأة»، تظهر من خلالها الحياة التراجيكوميدية التي تعيشها المرأة. وترسم الكاتبة مصير المرأة في ظروف حياتها اليومية، التي تدور دائمًا في مدينة كبرى تضج بحياة مزدحمة سخيفة لا معنى لها، وقد استطاعت بتروشيفسكايا أن تنتزع من هذا الزحام، من هذه «الجماهير الغفيرة» «الأحداث» و«المصادفات» لتعرض نضال النساء اليائس من أجل إمكانية «تأسيس حياتهن»، وقد تحرَّرن من سيل «الاهتمامات العامة التي تشغل الجميع» (قصة «الحائط» وكثير غيرها). إن كل موضوعات قصص ل. س. بتروشيفسكايا القصيرة ومسرحياتها تشكِّل شبكةً لا نهاية لها من «الحكايات» و«المواقف العابرة» و«الأحداث»، التي تختلط فيها أقدار وحالات بعضها خاص وبعضها عام. إن البصيرة النفسية والاجتماعية النفاذة التي تكشف عنها مؤلفات ل. س. بتروشيفسكايا تُعد، بلا شك، نوعًا جديدًا من النثر الروسي المعاصر، كما أن الكاتبة تمتلك أذنًا حساسة تجاه الحديث الذي يدور في بيئة المدينة الحديثة؛ فهي تلتقط وتنقل نبرة الجماهير غير المشخصنة وقوالب الحديث، التي تأتي من خلال «عجن» الكلمات المشوَّهة في البوتقة اللغوية للمدينة الكبرى. إن شخصياتها جميعًا تعرَّضوا لهذا الإشعاع الذي فرضته هذه اللغة، والتي تم التعبير من خلالها أيضًا عن المصائر الإنسانية المطحونة، والتي لم يستطع أصحابها حتى مجرد التعبير بلغتهم الخاصة عن «أنفسهم». لقد ظهرت هذه «اللغة الجديدة»، لغة الحياة اليومية، ذات الدلالة المشتركة، والمتاحة للجميع من جرَّاء التشويه العام الذي جعل منها لغةً غير روسية وغير «سوفييتية». هكذا تحدَّثت ل. س. بتروشيفسكايا على هذا النحو من الأستاذية. وخلف هذه اللغة البطيئة اللزجة، المعادية للغة الحقيقية تنتصب مأساة أخرى ببطء وخمول على نحو معادٍ لحياة مواطني المدينة المعاصرة، وخاصةً المرأة المعاصرة، التي فقدت القدرة على أن تحقِّق ذاتها وأن تعيش وفق مطالب تفكيرها العميق «من أجل البيت والأسرة». لقد سقطت «وشائج» الأسرة الروسية، أما الفراغ الذي ظهر، فلم يملأه لا «عمل» النساء بالمعنى المجازي، ولا «العلاقات» الوهمية المرهقة؛ «قصص الحب» و«الجنس»، كما لم تملأه «تربية» الأطفال وهلم جرًّا.
وفي سياق «الأدب النسائي» الحديث، شغلت مؤلفات ل. س. بتروشيفسكايا مكانتها الفريدة اللائقة، بعد أن تم اعتبارها كلمة جديدة بشكل كبير، كلمة قوية، ذات ألوان صادقة في مواجهة الصور النقيضة للحياة المعاصرة على تخوم حضارتين، مدركةً خطورة الزمن المُعاش. على أي حال فقد رأت الكاتبة أن «الثقافة تنتصر».
أعمال ل. س. بتروشيفسكايا
الحب الخالد، قصص قصيرة (المقال الختامي: إ. بوريسوفا)، موسكو، مجلة «موسكوفسكي رابوتشي» (العامل الروسي)، ١٩٨٨م؛ أغاني القرن العشرين، موسكو، «إيسكوستفو»، ١٩٨٨م؛ ثلاث فتيات يرتدين الأزرق، مسرحيات، موسكو، «إيسكوستفو»، ١٩٨٩م؛ على طريق الإله إيروس، موسكو، أوليمب، ب ب ب، ١٩٩٣م.
«كتب نادي القلم الروسي»: علاج فاسيلي وحكايات أخرى، موسكو، «كينوتسنتر»، ١٩٩١م.
أعمال عن ل. س. بتروشيفسكايا
ل. بان، بدلًا من الحديث الصحفي، أو تجربة قراءة نثر لودميلا بتروشيفسكايا بعيدًا عن الحياة الأدبية في الوطن الأم، مجلة «زفيوزدا» (النجم)، ١٩٩٤م، العدد ٥ إلى جانب المقالات المنشورة في الطبعات المشار إليها.
(١-٧٣) فينيدكت فاسيلييفيتش يروفييف
(٢٦ أكتوبر ١٩٣٨م، محطة تشوبا لوخوسكي، محافظة كاريليا – ١١ مايو ١٩٩٠م، موسكو). ينحدر ف. ف. يروفييف من أسرة من فلاحي نهر الفولجا (محافظة سيمبيرسك). ولكي ينجوا من المجاعة، سافر الوالدان إلى الشمال، ولم يمضِ على زواجهما زمن طويل، حيث عمل الأب بالسكك الحديدية. كان في الأسرة خمسة أخوات وإخوة، وكان فينيدكت أصغرهم. في عام ١٩٤٦م ألقى القبض على الأب ووُجهت إليه تهمة الدعاية المناهضة للاتحاد السوفييتي. ولمَّا وجدت الأم نفسها وقد فقدت كل وسيلة للعيش، غير قادرة على إطعام أطفالها، اضطُرت للتخلي عن الأسرة حتى يتمكَّن الأطفال من أن يجدوا مكانًا لهم في ملجأ للأطفال. عاد الأب بعد خمس سنوات، بعد أن قضى فترة السجن كاملة؛ وعندئذٍ الْتأم شمل الأسرة من جديد، لكن الوئام القديم لم يعد.
انتقل ف. ف. يروفييف إلى موسكو بعد أن أنهى المدرسة الثانوية في عام ١٩٥٥م ليلتحق بكلية الآداب بجامعة موسكو، لكنه لم يستمرَّ بالدراسة بها سوى عام ونصف العام؛ فقد تم فصله بعد الدورة الشتائية من الفصل الدراسي الثاني لرفضه الحضور لسماع المحاضرات وأداء الامتحانات المقرَّرة. عاش في مسكن عام في سكرومينكا، وهناك، في الخمسينيات، بدأ في كتابة عمله الأدبي الأول: «مذكرات مريض نفسي» (لم يُعثر على المخطوط).
وعلى الرغم من أن ف. ف. يروفييف لم يستكمل دراسته في أيٍّ من المعاهد التي الْتحق بها، استنادًا إلى شهادات أصدقائه المقرَّبين؛ فقد كان ظاهرةً إنسانية موسوعية. كان رفضه للتعليم «الرسمي» فعلًا من أفعال الاستقلال المعنوي، أمَّا حياة الترحال التي خاض غمارها، بما في ذلك الْتحاقه بالمعاهد الدراسية العليا في الأقاليم، فكانت تعبيرًا عن اهتمامه بالناس وبالعالم من حوله، وتجسيدًا لهذا النوع من الحياة، الذي أعطاه إمكانية أن يعيش معيشةً روحية مستقلة تمامًا.
تميَّزت مسيرة ف. ف. يروفييف الإبداعية، منذ خطواته الأولى فيها، بالقطيعة التامة عن نظام الحياة الأدبية السائد، وانعكست هذه القطيعة في الخروج على «المعايير» الإبداعية، فضلًا عن تلك المعايير الخاصة بالسلوك الشخصي أيضًا، وذلك في إقبال الكاتب على إدمان الكحول، وهو ما اشتهر به على نطاق واسع هو وأبطاله أيضًا في قصيدته «موسكو-بيتوشكي». لم يكن الإفراط في الشراب «داءً» بالنسبة للكاتب، ولم يكن علامةً على انهيار في شخصيته، وإنما كان أسلوبًا جماعيًّا (لجأ إليه العديد من معاصريه، من بينهم أناس من خاصة معارفه) بهدف الوقوف في مواجهة عنف الخواء الروحي، وباعتباره من ضرورات التكيُّف مع الظروف المحيطة، بما فيها النفاق، الذي راحت الحياة الاجتماعية والخاصة، في عصر «الركود» تغوص فيها. إن اسم ف. ف. يروفييف وثيق الصلة بهذا الطابع «المركزي» «الحماسي» للحياة الأدبية.
لقد ظلَّت أجزاء عديدة من مؤلفات ف. ف. يروفييف، على مدى فترات زمنية مختلفة، مفقودةً وسط مخطوطاته، وهي أجزاء لم يخصِّصها الكاتب نفسه للنشر («مذكرات مريض نفسي»، «مختارات من أشعار عامل في مسكن عام»، «ديمتري شوستاكوفيتش» وغيرها). وإذا كان بعض من هذه الأجزاء قد نُشر بالفعل («فاسيلي روزانوف بعيون مهرج»، «ملحمتي اللينينية الصغيرة»، «ليلة فالبورجيف، أو خطوات الكوماندور»، وحتى «موسكو-بيتوشكي»)؛ فقد حدث ذلك دون أدنى مشاركة منه.
وقد نُشر بعض من هذه الأعمال للمرة الأولى خارج روسيا في مطبوعات «التاميزدات» (على سبيل المثال: «موسكو-بيتوشكي» صدرت في إسرائيل عام ١٩٧٣م، وفي باريس عام ١٩٧٧م، ولم تُنشر في موسكو سوى في عام ١٩٨٨م، في مجلة «تريزفوست إي كولتورا» (الوعي والثقافة)).
ظل العديد من أفكار ف. ف. يروفييف دون أن تكتمل.
وقد عكس يروفييف النموذج الجديد للكاتب الروسي في العصر السوفييتي، الكاتب البروتستنتي (المحتج) في أكثر صوره امتلاءً واكتمالًا، ومع ذلك فإنه لم يقف بأي شكل في مواجهة صريحة مع النظام، كما أنه لم يقبل، بصورة كاملة، ما يحدث في وطنه، ليُعلن أنه عاجز عن تغيير مصير هذا الوطن، كما أعلن عن ابتعاده عن التمسُّك بالقوالب المعروفة باسم «معايير» «أسلوب الحياة السوفييتي». لم يكن من الطبيعي ألَّا يلفت هذا الكاتب «المتشرد»، الكاتب «العائش على هامش المجتمع»، حتى وإن سقط ظاهريًّا عن حركة «النظام»؛ اهتمامَ «الأجهزة» المعنية، التي رصدت من أجله رقابةً دائمة، دون أن تلجأ، مع ذلك، إلى عقابه.
حتى الآن لم يتم جمع التراث الأدبي لفينيدكت يروفييف، وقد بدأت أعماله في الظهور لتوها. لكن قصيدة «موسكو-بيتوشكي»، التي تُعد أكثر أعمال الكاتب اكتمالًا، تُرجمت إلى العديد من اللغات، كما أنها أصبحت واحدةً من أبرز الوثائق الفنية السابقة لعصرها من الناحية الأدبية والاجتماعية؛ وقد كشفت هذه القصيدة عن جوانب جديدة للحياة، كما ألقت بالضوء، على نحو تراجيدي وجروتيسكي قدر الإنسان، الذي سقط في شرك المصير العبثي الذي نصب له. وتُعد «موسكو-بيتوشكي» الظاهرة الأضخم في السنوات الأخيرة في «الأدب الآخر»، الأدب «غير الرسمي»، أدب «الأندرجراوند».
وعلى الرغم من أن أعمال ف. ف. يروفييف، وكذلك شخصيته ومصيره ككاتب، أصبحت موضوعًا للبحث في السنوات الأخيرة فقط من حياته، فإن من المستحيل أن نتصوَّر الحياة الأدبية من الستينيات وحتى الثمانينيات دون هذه الشخصية الفريدة.
أعمال ف. ف. يروفييف
موسكو-بيتوشكي (المقدمة وإعداد النص: ف. س. مورافيوف. المقال الختامي: أ. فيليتشانسكي)، موسكو، دار نشر «بروميثي»، ١٩٨٩م.
فاسيلي روزانوف بعيون مهرج، دار نشر «زيركالا» (المرايا)، موسكو، ١٩٨٩م.
ليلة فالجورييف، أو خطوات الكوماندور، تراجيديا في خمسة فصول، مجلة «تياتر»، ١٩٨٩م، العدد ٤.
أعمال عن ف. ف. يروفييف
زورين أ، علامة مميزة، مجلة «تياتر»، ١٩٩١م، العدد ٩؛ فينيديكت يروفييف، ٢٦ أكتوبر ١٩٣٨م – ١١ مايو ١٩٨٠م.
بضع مونولوجات عن بينيدكت يروفييف (مذكرات أقارب الكاتب وأصدقائه: ن. يروفييفا، ل. لوبتشيكوفا، ج. يروفييفا، ف. مورافيوف، أ. ليونتوفيتش، أ. سيداكوفا، إ. أفدييف، أشعار ج. سابجير؛ مقتطفات من أحاديث ودفاتر يوميات الكاتب. مرفق بالنص صور فوتوغرافية ورسوم)، مجلة «تياتر»، ١٩٩١م، العدد ٩.
(١-٧٤) يوسف ألكسندروفيتش برودسكي
(٢٤ مايو ١٩٤٠م، ليننجراد – ٢٧ يناير ١٩٩٦م، نيويورك، دُفن في فينيسيا).
أمه ماريا مويسييفنا كانت محاسبة، أما والده ألكسندر إيفانوفيتش، فكان مصورًا صحفيًّا مشهورًا، عمل إبَّان الحرب مراسلًا على الجبهة.
الْتحق يوسف برودسكي بالعمل بأحد المصانع، بعد أن أتم الفصل الثامن بالمدرسة. في عام ١٩٦٣م كتب برودسكي قائلًا: «أعمل منذ بلغت الخامسة عشرة من عمري. أنا فراز محترف، فني جيوفيزيائي، وقَّاد على الآلات البخارية، بحار، ممرض، مصور فوتوغرافي. عملت مع البعثات الجيولوجية في ياكوتيا، وعلى شواطئ بيلومور، وفي تيان-شان، وفي كازاخستان. كل ذلك مثبت في بطاقة عملي.»
بدأ يوسف برودسكي كتابة الشعر في عام ١٩٥٧م، ومنذ مطلع الستينيات قام على ترجمة الشعر عن اللغات السلافية وعن الإنجليزية.
في عام ١٩٦٤م لُفقت للشاعر تهمة «العيش على نحو طفيلي»، نُفي بسببها إلى إقليم أرخانجلسك لمدة خمس سنوات مع «الأشغال الشاقة الجبرية».
وبعد مرور عام ونصف العام، أُطلق سراحه تحت ضغط الرأي العام الثقافي العالمي.
في الرابع من يونيو ١٩٧٢م اضطُر يوسف برونسكي إلى مغادرة روسيا.
في عام ١٩٨٧م أصبح خامس من يحصل على جائزة نوبل في الأدب الروسي.
عاش الشاعر في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام بالتدريس في الجامعة (المقتطف من كتاب: برودسكي ي، التلال، الأشعار والقصائد الكبرى، سان بطرسبورج، ١٩٩١م).
عن برودسكي: «يتميَّز برودسكي بقصائده الطويلة وتنوُّع مقاطعه الشعرية، وكذلك بالمظهر الخارجي لهذه المقاطع وطريقة رسمها، وبما تحمله من تفعيلات متنوعة وأبيات مكسورة، تأتي تعبيرًا عن هذا التحوُّل الذي دخل إلى القصيدة الروسية على يديه … يمر أمام أعيننا عالم ثري، مقاطع ضخمة مليئة بالأشياء والمفاهيم، وجميعها تخلق انطباعًا بأنك تقرأ قاموسًا موسوعيًّا مقفًّى، وهو إحساس ربما يكون مرهقًا للعقل أيضًا، إذا لم يسعفك الشاعر في البيت التالي برعشة الحزن الكئيب أو النبيل، أو الغضب البارد. وقد يصيبك هذا البيت بالسأم أو الاشمئزاز» (أ. كوشنر، يضع كلمات، من كتابه: يوسف برودسكي، طبق الأصل، تالين، ١٩٩٠م).
أعمال ي. أ. برودسكي
صرخة الصقر الخريفية، قصائد ١٩٦٢–١٩٨٩م، ليننجراد، ١٩٩٠م.
أجزاء الكلام، قصائد مختارة ١٩٦٢–١٩٨٩م، موسكو.
التلال، الأشعار والقصائد الكبرى، سان بطرسبورج، ١٩٩١م.
أعمال عن ي. أ. برودسكي
لوريه س، حرية الكلمة الأخيرة، في كتاب: برودسكي ي. التلال، سان بطرسبورج، ١٩٩١م؛ يوسف برودسكي، طبق الأصل، مجموعة مقالات بمناسبة الذكرى الخمسين على ميلاد ي. برودسكي، تالين، ١٩٩٠م (يضم الكتاب أيضًا عددًا من الأحاديث والذكريات والبحوث والأشعار مهداة إلى برودسكي بأقلام: أ. أرييف، أ. نيمان، أ. بيكاتش، ف. تيليجينسكي (أ. راستورجويف)، (ف. أوفلياند، ل. شتيرن)).