(١) الموسوعات الثلاث (ابن سينا)
العرض هو تأليف في الوافد والذي تبلغ ذروته عند ابن سينا في نسق منطقي وعند إخوان
الصفا
في نسق شعبي، استمرارًا للعرض الجزئي خاصة عند الكندي والرازي، والعرض الكلي عند
الفارابي.
وهو عرض لأقسام الحكمة الثلاثة؛ المنطق والطبيعيات
والإلهيات عند ابن سينا في موسوعتَي الشفاء والنجاة أو الأربعة عند إخوان الصفا بإضافة
جزء
رابع في العلوم الإلهية الناموسية والشرعية أو عند ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات»
بزيادة
جزء عن المقامات والأحوال.
والتأليف في الوافد له عدة أشكال: تمثل الكندي إلى عرض الفارابي إلى تنظير ابن سينا
إلى
تطهير ابن رشد وتصحيحه. تمثل الكندي وحسن فهمه للوافد مقدمة البداية عرض الفارابي له
بوضوح.
الكندي أخذ والفارابي أعطى. الكندي فهم والفارابي عبر. وكان من السهل على ابن سينا بعد
ذلك أن
ينظر الحكمة كلها ويجد لها بنية ثابتة ما زالت حتى الآن عبر التاريخ سواء في تاريخ الفلسفة
الإسلامية أو في تاريخ الفلسفة الغربية في العصر الوسيط. أما ابن رشد فعاد إلى الأصول
الأولى
يُعيد فهمها بعيدًا عن خلط المتفلسفِين، مسلمين ومسيحيِّين بين أرسطو وأفلاطون، بين الفلسفة
والتصوف كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية، فابن رشد هنا عقلي سلفي ظاهري أصولي.
بعدما فتَّت الفارابي الآخر، وأدخل الوافد في الموروث ركب ابن سينا الآخر وجعله هو
العلم والنسق.
١ الفارابي صاحب فهم وابن سينا صاحب موضوع أو مذهب.
٢ الفارابي تحليلي وابن سينا تركيبي. الفارابي معلم وشيخ وابن سينا تلميذ ومريد،
الفارابي عبقري وابن سينا ماهر.
٣ الفارابي عالم وابن سينا متعالم.
٤ وفي ذلك العصر لم يكن هناك تمييز بين العلم والمعلومات؛ فكل معلومات علم، وكل علم
معلومات نظرًا لأن مهمة الحكماء كانت احتواء الوافد داخل الموروث وإنشاء فكر عضوي إبداعي
جديد.
٥
وبالرغم من إمكانية إدخال الموسوعات الثلاث في
التأليف أيضًا ومعرفة مكوناتها، الوافد والموروث وآليات الإبداع إلا أنها نوع أدبي خاص؛
لأنها
عرض نسقي ومن ثمَّ استقلَّت عن التأليف الذي يغلب عليه نوع الرسائل القصيرة في موضوعات
متفرِّقة. ولا تدخل في العرض الجزئي أو الكلي لأنها لا تحمل عناوين الوافد كما يفعل الفارابي
في «أجزاء فلسفة أرسطوطاليس» أو «أجزاء فلسفة أفلاطون» أو «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون
الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» أو «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة» … إلخ.
وقد درس ابن سينا نفس موضوعات الشفاء في رسائل مستقلة هي أدخل في التأليف لأنها لا
تمثِّل
عرضًا نسقيًّا لعلوم الحكمة. له رسائل في المنطق صغيرة ورسالة واحدة طويلة. كما كتب عن
الشعر
في المجموع أو الحكمة العروضية. وله رسائل في الطبيعيات والإلهيات أدخل في التأليف منها
في
العرض. وله «منطق المشرقيين» في المنطق و«عيون الحكمة» في الطبيعيات. يمكن إلحاقها بالعرض
النسقي أو بالتأليف.
ويذكر ابن سينا في آخر «البرهان» أنه فرغ من الطبيعيات والإلهيات خلا كتابَي الحيوان
والنبات في عشرين يومًا من غير رجوع إلى كتاب وهذا هو أحدها في التأليف، الاعتماد على
النظر
والاجتهاد دون رجوع إلى المصادر.
٦
تمثل موسوعات ابن سينا الثلاث: الشفاء، والنجاة، والإشارات والتنبيهات التحول من العرض
الجزئي عند الكندي أو الكلي عند الفارابي إلى العرض الكلي النسقي عند ابن سينا وإخوان
الصفاء.
وتدلُّ أسماء موسوعات ابن سينا الثلاث على الغرض غير المعلَن، وتكشف عن المسكوت عنه.
فلفظ
«الشفاء» من لغة الطب، الشفاء من الأمراض، ولكنه يعني في الفلسفة شفاء النفس بعلوم الحكمة
كما
أن الطب هو شفاء الجسد بالدواء، وقد يعني اللفظ معنًى أعمق وهو نهاية التعلم من الوافد
وتكرار
الموروث، وبداية التحوُّل من النقل إلى الإبداع. كما يعني لفظ «النجاة» الانتقال من الطب
بمعنى نجاة البدن من الموت إلى الدين، نجاة النفس من الهلاك وإنقاذها بعد الموت ونيلها
الخلود. ولكنه قد يعني معنًى أعمق وهو التحول من القديم إلى الجديد، من التقابل بين الوافد
والموروث إلى استعمالها معًا كأداة للحكمة. فإذا كان الوافد أقرب إلى علوم الوسائل والموروث
أقرب إلى علوم الغايات فإن كليهما قد أصبحا عند ابن سينا علومًا للوسائل من أجل تأليف
مُستقل
هو علوم الغايات تحولًا من النقل من الأوائل أو من الأواخر إلى الإبداع حتى ولو كان في
صيغة
عرض نسقي. أما لفظا «الإشارات والتنبيهات» فهما لفظان صوفيان يكشفان عن تحول النسق العقلي
المنطقي المجرَّد إلى إبداع ذوقي صوفي خالص، وأن الوافد والموروث كليهما لهما مصدر واحد
في
القلب بالإضافة إلى مصدريهما في التاريخ.
فإذا كان الكندي والفارابي قد حوَّلا علم الكلام إلى الفلسفة فإن ابن سينا قد حول
الفلسفة
إلى تصوف والتصوف إلى فلسفة كما حول ابن رشد أصول الفقه إلى فلسفة، والقاضي إلى حكيم،
ومن ثم
تصبح الفلسفة هي الوعاء الذي تصبُّ فيه العلوم العقلية النقلية الأربعة.
وتُشبه الموسوعات الثلاث لابن سينا «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» شروح
ابن رشد الثلاثة: الأكبر والأوسط والأصغر، من حيث الكم. إنما الخلاف بينهما في العرض
والشرح.
فابن سينا يعرض مضمون الوافد وهو نوع من التأليف في حين أن ابن رشد يشرح نص الوافد. وقد
يقال
إن الأوسط يُعادل «الإشارات والتنبيهات» في حين أن الأصغر يعادل «النجاة» من حيث الكم.
والحقيقة أن النجاة مجرَّد تلخيص للشفاء في حين أن الإشارات والتنبيهات اتجاه نحو الموضوع
مباشرة مثل الجوامع.
والصلة بين الموسوعات الثلاث «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» ليست فقط
صِلة
كمية مثل شروح ابن رشد الثلاثة الأكبر والأوسط والأصغر بل هي علاقة كيفية تدلُّ على التحوُّل
من النقل إلى الإبداع. «الشفاء» أقرب إلى النقل نظرًا لظهور الوافد فيه، و«النجاة» أبعد
عن
النقل وأقرب إلى الإبداع نظرًا لاختفاء أسماء أعلام الوافد فيه.
٧ في حين أن «الإشارات والتنبيهات» أقرب إلى الإبداع؛ لأنها تنبع من الداخل أكثر من
صدورها من الخارج. تعتمد على الذوق أكثر مما تعتمد على النظر.
٨ وكان ابن سينا على وعي بعلمية التحول من النقل إلى الإبداع على ما يبدو من سيرته
الذاتية؛ فالعلم واحد ولكن الخلاف في المنهج، الحفظ والنقل أم التنظير والإبداع.
٩ لذلك كانت «الإشارات والتنبيهات» أقل الموسوعات الثلاث تجريدًا وأقربها إلى
الموروث وإفصاحًا عن الإشراق. أسلوبها إشارات وتنبيهات وحكايات مما يجعلها أقرب إلى الأدب
الفلسفي. يخاطب ابن سينا القارئ حتى يكون قريبًا منه. مصطلحاتها موروثة خاصة في الجزء
الرابع
عن المقامات والأحوال.
ويتضمَّن العرض النسقي المنطقي أو الشعبي مكوِّنات النص الثلاثة كما هو الحال في
الشرح،
التفسير والتلخيص والجوامع: الوافد والموروث وآليات الإبداع في الجمع بينهما في نوعٍ
أدبي
جديد هو العرض. العرض هو إعادة كتابة الوافد بعد أن امتزج عضويًّا بالموروث، وأصبح الموروث
هو
وعاؤه وصورته. وقد مهد لذلك الكندي والرازي والفارابي. ونتيجة لهذا المزج العضوي الجاد
أصبح
ظهور الوافد قليلًا باستثناء البنية والموضوع، كما أصبح حضور الموروث غير مباشر باستثناء
اللغة العربية، وتظهر آليات الإبداع المكون الثالث للنص بوضوح أكثر.
١٠
وفي العرض تغيب أفعال القول الموجودة في الشرح والتلخيص والجوامع؛ لأنَّ العرض لا
يبدأ
باللفظ كالتفسير أو بالمعنى كالتلخيص أو بالشيء ذاته كالجامع، بل يعني الموضوع ذاته كتصوُّر
كلي شامل. ومن ثم فإن إطلاق الحكم بأن الفلسفة الإسلامية مجرَّد شرح وتلخيص للفلسفة اليونانية
لا ينطبق في الظاهر إلا على نوع أدبي واحد هو الشرح وليس على كل الأنواع الأدبية الأخرى
مثل
العرض بأنواعه، النسقي والشعبي والأدبي والتأليف بكل أنواعه تمثل الوافد، وتمثل الوافد
وتنظير
الموروث، وتنظير الموروث والإبداع الخالص. ومن ثم تضيع الحُجة التي يعتمد عليها الحكم
بالأثر والتأثُّر.
١١
ويُمكن تحليل العرض النسقي المنطقي عند ابن سينا بعدة طرق كلها مُمكنة إنما الأمر
فيها هو
مجرَّد اختيار.
-
(١)
عرض المكونات الثلاثة في كل موسوعة من موسوعات ابن سينا الثلاث، «الشفاء» و«النجاة»
و«الإشارات والتنبيهات»، وفي كل موسوعة ابتداء من المنطق ثم الطبيعيات ثم الإلهيات. وفي
المنطق ابتداء من المقولات إلى العبارة … إلخ، حفاظًا على الوحدة الإبداعية لكل عمل.
وبالرغم مما قد يُوقع ذلك في بعض التكرار خاصة في آليات الإبداع إلا أن هذه الطريق تحافظ
على وحدة كل عمل كإبداع مُستقل على وجه التفصيل كتابًا كتابًا في كل علم.
-
(٢)
عرض المكونات الثلاثة، الوافد والموروث وآليات الإبداع في الأبنية الثلاثية للحكمة؛
المنطق، والطبيعيات، والإلهيات بصرف النظر عن أجزاء كل علم، فالمنطق كل واحد بلا أجزاء
خاصة، وأن هناك بعض كتبه لا يتوافر فيها العنصران الأولان الوافد أو الموروث وتعتمد على
الإبداع الخالص، وهي طريقة تجمع بين العموم والخصوص.
-
(٣)
عرض المكونات الثلاثة؛ الوافد والموروث وآليات الإبداع في كل موسوعة على حدة حفاظًا
على وحدة العمل بالرغم مما قد توقع هذه الطريقة في التكرار. إلا أن ميزتها معرفة مراحل
العرض وتحوله من النقل إلى الإبداع عند الفيلسوف الواحد عبر مراحل عمره وليس بين الفلاسفة
عبر التاريخ؛ فالتحول من النقل إلى الإبداع يتم في الوعي الفردي والوعي الجماعي.
-
(٤)
عرض المكوِّنات الثلاثة كروافد حضارية عامة، الوافد والموروث وآليات الإبداع بصرف
النظر عن وحدة الموسوعات وتمايزها وخصوصية كل منها لمعرفة مدى حضور الوافد والموروث
وتفاعلهما في الوعي الفردي والجماعي مع آليات الإبداع؛ فالمهم هي البواعث الحضارية العامة
وليس الأعمال الفردية، وهي أعم الطرق وأكثرها تجريدًا التي تُعطي التصوُّر الكُلي
الشامل.
ويُمكن الجمع بطريقة أو بأخرى بين هذه الطرق الأربعة من أجل إثبات
التحوُّل من النقل إلى الإبداع دون اختيار حاسم لطريقة دون أخرى حتى لا يَطغى المنهج
على
الموضوع، والآلة على الهدف.
ونظرًا للطابع النسَقي المجرَّد للموسوعات الثلاث وإخفاء مصادرها وعدم ظهور المكوِّنات
الثلاثة: الوافد والموروث وآليات الإبداع إلا في أقل القليل كان من الضروري الحديث عن
النصِّ
نفسه بين الترجمة والتعليق والانتحال والشرح والتلخيص والجامع وهي الأنواع الأدبية السابقة
على العرض والداخلة فيه خطوة نحو التأليف والتراكُم ثم الإبداع الخالص.
وتمَّ اعتبار «الشفاء» هي الموسوعة الأولى التي على أساسها يتمُّ التقسيم إلى منطق
وطبيعيات والإلهيات، و«النجاة» تعرض من داخلها لأنها مختصر لها. كما تمَّ تجميع «الإشارات
والتنبيهات» و«المجموع» و«عيون الحكمة» حولها. وتمَّ تخصيص الوافد في المنطقي والوافد
في
الرياضي والوافد في الإلهيات لندرة الوافد الطبيعي. وتمَّ تجميع الموروث كله معًا تفاديًا
للتكرار، تكرار اللغة العربية والبيئة المحلية والموضوعات الدينية خاصة وأن الشفاء عمل
واحد
بالرغم من تقسيمه إلى أجزاء. ولا يوجد حل أمثل لتقسيم العرض بأية طريقة كانت من الطرق
الأربعة.
١٢
(٢) الوافد في المنطق
تتفاوت موسوعات ابن سينا الثلاث بين العرض والتأليف والإبداع. والدليل على ذلك ظهور
المكونين الرئيسيين للتأليف، الوافد والموروث في بعض أجزاء الشفاء واختفاؤهما في البعض
الآخر،
مما يدلُّ على الإبداع الخالص اعتمادًا على العقل وحده. ولا يرجع السبب وحده إلى إخفاء
ابن سينا مصادره في «المقولات» و«السفسطة» و«الخطابة» من كتب المنطق بل ومن كتب الطبيعيات
كلها؛ لأنها تظهر في أجزاء أخرى. كما أن هذا الإخفاء لا يكون في كتب بأكملها حيث كان
من
الممكن ظهورها لارتباطها بالموروث مثل «السفسطة» لارتباط الجدل بعلم الكلام، و«الخطابة»
فالعرب خطباء أو في علوم بأكملها مثل كل أجزاء الطبيعيات، كما يُعاود المصدران، الوافد
والموروث الظهور في «الإلهيات». إنما يعني أن الموسوعة الواحدة أو مجموع الموسوعات الثلاث
تكشف عن مراحل التحوُّل من النقل إلى الإبداع من خلال العرض والتأليف.
كما يتفاوت ظهور الوافد والموروث في أجزاء الشفاء؛ ففي الرياضيات يكثر ذكر الوافد
ويقل
الموروث. وفي الإلهيات يكاد ينعدم الوافد ويَزيد الموروث. وهذا هو الذي دعا إلى قسمة
التزاوج
العضوي بين الوافد والموروث إلى ثلاثة أنواع: الأول تمثل الوافد قبل تنظير الموروث في
حالة
غلبة الوافد على الموروث، والثاني تمثل الدافع مع تنظير الموروث في حالة التعادل بينهما
في
الحضور، والثالث تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في حالة غلبة الموروث على الوافد.
ليس المقصود من كتاب «المقولات» توضيح فكر أرسطو أو شرح النص الموضوعي بعيدًا عن الشراح
بل عرض الموضوع نفسه بعد تزاوج الوافد والموروث لصالح الإبداع الخالص. ابن سينا لا يشرح
بل
يتمثَّل ويهضم ويخرج ويتحرَّك بما لديه من طاقة. بدأ الكندي والفارابي التقطيع والهضم،
وعند
ابن سينا حدث التمثُّل والإخراج. وعند ابن رشد تحول الغذاء الأول إلى غذاء نافع لصحة
البدن.
لم يسر ابن سينا مع نص أرسطو اختلافًا أو اتفاقًا لأن نص الشفاء عرض إبداعي خالص لا تمايز
فيه
بين وافد وموروث. بل يكشف النص عن الجدل الدائر حوله وعن بعض المسائل الأخرى التي تحدَّث
عنها
أرسطو بصورة عارضة. يغير ابن سينا القصد ويدخل في حوار مع كل ما قيل حتى يمكن إعادة بناء
الموضوع وتغيير بؤر الفكر ومستويات التحليل.
كما أن «السفسطة» إبداع خالص. وفي آخر فقرة يبدي فيها ابن سينا إعجابه بأرسطو الذي أتم
العلم وليس تعصبًا له أو عدم تعمق في دراسة أفلاطون بل مجرد تعبير عن دهشة عبر عنها العالم
كله، فأرسطو ختام الفلسفة اليونانية كلها كما أن الإسلام خاتم الرسالات. تقوم فلسفته
على
العقل والطبيعة كما يقوم إيداع المسلمين على العقل والطبيعة والوحي. ومن يدري فربما أرسطو
نبي
اليونان لم يذكرْه القرآن صراحة كما ذكر تلميذه ذا القرنين
وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ.
١٣
وبعد خلو «المقولات» من الوافد والموروث لأنه عمل إبداعي خالص يظهر الوافد في العبارة
في
اسم هوميروس ليس بشخصه بل مجرَّد ضرب مثل باسم علم مثل سقراط في اليونانية أو «زيد» و«عمر»
في
العربية بدلًا من «فلان»، وفي عبارة واحدة طويلة سقيمة، وفي مناسبة واحدة.
١٤ كما يذكر «المعلم الأول» لقب أرسطو وليس اسمه. والتحول من الاسم إلى اللقب بداية
التحوُّل من المؤلف إلى الرمز، ومن التاريخ إلى النمط. وعندما يذكر ابن سينا «المعلم
الأول»
فإنه يكون هو الشارح لابن سينا. كما كان أرسطو هو الشارح لابن رشد في التفسير والتلخيص
والجوامع ابن سينا هو الذي يقرر المعنى والمعلم الأول يوحي إليه. ابن سينا هو المبدع
والمعلم
الأول هو المقلد. وأحيانًا يصحح ابن سينا العلم الأول ويحكم عليه بالقبح أن يذكر من بسائط
الألفاظ الاسم والكلمة دون الأداة. كما يتحدَّث عنه باعتباره آخر تمايزًا بين الأنا والآخر،
يحكم عليه ويصف مسار فكره باعتباره موضوع علم وليس مصدر علم.
١٥
وفي منطق «النجاة» يذكر فورفوريوس والإسكندر وثاوفرسطس وإقليدس ثم نامسطيوس، والمعلم
الأول، ومن الكتب إيساغوجي وقاطيغورياس.
١٦ يتحدَّث ابن سينا عن الكليات الخمس، حد الجنس بما لا يشاركه فيه الفصل، وعدم
دوران الجنس على النوع وعدم الاهتمام بما يقوله فرفوريوس وهو واقع كتاب إيساغوجي في الكليات
الخمس. كما يذكر رأيَي ثاوفرسطس وثامسطيوس في المطلقة بل ورأي غيرهما مثل الإسكندر وغيره
من
المُحصِّلين. ولا يُفضِّل ابن سينا أيًّا من الرأيين ويُفضل رأي ثاوفرسطس. كما يَضرب
ابن سينا
المثل بالحد الرياضي للمثلَّث عند إقليدس للحد المنطقي، وأن النظر إلى الأبسط يُفيد في
معرفة
المبادئ كما يفيد العدد الهندسة كما هو الحال في العاشرة عند إقليدس.
١٧
ويذكر المعلم الأول تحولًا من الشخص إلى الفكرة واستشهادًا به على وجه المنفعة أن
للعقل
النظري الحكم الكُلي، وللعقل العملي الأفعال والتعقُّلات الجزئية. كما يضرب ابن سينا
المثل
بتقديم كتاب إيساغوجي وقاطيغورياس على باقي كتب المنطق. ولا يُشير ابن سينا في «النجاة»
إلى
الوافد كثيرًا على عكس الفارابي، ربما لبُعده عن فترة النقل وقرب الفارابي منها، فبينهما
قرن
من الزمان، وربما لأن الوافد تحوَّل إلى ثقافة شائعة ولم تعدْ ثقافة مُغايرة يُشار إليها
باعتبارها مغايرة لثقافة الأنا، الموروث، وربما لاستقرار المصطَلحات العربية حتى أصبحت
جزءًا
من الاستعمال اليومي، والسبب الحقيقي هو الصمت على المصادر من أجل العرض العقلي الخالص
لبِنية
الموضوع.
وفي «الإشارات والتنبيهات» يَنقد ابن سينا فرفوريوس الذي يُثني عليه المشَّاءون،
وهو سخف
وحشف كله. لا يفهمونه بل ولا يفهم المؤلِّف نفسه. نقده رجل من أهل زمانه دون أن يذكر
ابن سينا
اسمه إما تجاهلًا له أو لحرصه على الموضوع لا على الشخص ونقده فرفوريوس بطريقة أسقط منه.
١٨ كما يَنقد ابن سينا اتِّباع المشائين له فكيف يكون ابن سينا نفسه مشائيًّا
مقلِّدًا؟ ويذكر ابن سينا المعلم الأول وجالينوس وإقليدس ولم يَذكر أرسطو بشخصه أو أفلوطين
الشيخ اليوناني أو أفلاطون أو كليهما من أرباب الفيض والإشراق. يَضبط ابن سينا الحُجَج
المزيفة التي استحدثت بعد المعلم الأول والتي عرضها بالتفصيل في «الشفاء» مما يدلُّ على
أسبقية تدوينه على «الإشارات والتنبيهات». كما يضرب المثل بوجود جالينوس وإقليدس وغيرهم
على
التواتر مثل العلم بوجود مكة. ويذكر ابن سينا قصة «سلامان وأبسال» يضرب بهما المثل سلامان
للإنسان وأبسال لدرجته في المعرفة ويستخدم المثل اليوناني للتعبير من خلاله عن معنًى
إسلامي
قبل أن يُصبح للمعنى الإسلامي حاملًا مستقلًّا هو «حي بن يقطان». القصة اليونانية أداة
للتعبير أولًا قبل إبداع القصة الإسلامية. الوافد حامل أولًا للمعنى الموروث قبل أن يتحوَّل
الحامل والمحمول إلى الموروث دون الوافد.
ويبدو التمايز بين المنطقيين واللغويِّين وكأن المناطقة يُمثلون الوافد واللغويين
يُمثلون
الموروث في التقابل بين المنطق واللغة في المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبي سعيد
السيرافي. فالمنطق لغة اليونان واللغة منطق العرب.
١٩ وقد يكون الخلاف في الاسم. فما يُسميه المنطقيون كلية يسميه اللغويون الاسم
المفرد. والمنطق نفسه موضع نقاش. ولا يوجد علم معياري لا نقاش فيه. وهناك حجج وحجج مضادة
أكثر
من «الشفاء» و«النجاة». يسهو المنطقيون ويظنون وليس كل ما يقولونه يقينًا. بهم متخلِّفون
وأذكياء. وهناك معانٍ عرفية للألفاظ، وهناك عادة جرت في المنطق مما يُظهر البعد الاجتماعي
في
اللغة. وهناك تمايز بين المنطق وغيره من العلوم، وهناك معانٍ قديمة وحديثة بين القدماء
والمحدِّثين مما يظهر البعد التاريخي للغة. وما زال ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات»
يستعمل
بعض المصطلحات المعربة مثل أسطقس.
٢٠
وفي «منطق المشرقين» يحدد ابن سينا في المقدمة موقفه من اليونانيين في تقابل مع
المشرقيين. وتظهر ألفاظ اليونانيون ثم المشاءون ثم المشرقيون والأولون.
٢١ وسبب تأليف منطق المشرقيِّين هو جمع كلام فيما اختلف أهل البحث فيه دون التفات
إلى عصبية أو هوى أو عادة أو إلف، وعدم المبالاة بالاختلاف لما ألفه مُتعلِّمو كتب
اليونانيِّين من غفلة وقلَّة فهم، ولما كتبه من قبل للعامة من المتفلسِفة المشغوفين بالمشائين
الظانِّين أن الله لم يهدِ إلا سواهم؛ فابن سينا ينقد متعلمي كتب اليونانيين، ويريد أن
يكتب
مستقلًّا عنهم غير مبالٍ بالاختلاف معهم. وكان قد كتب من قبل موسوعاته الثلاث للعامة
المتفلسِفين المشغوفين بالمشائين لبيان أن الكتابة في علمهم سَهلة ميسورة. واليونانيون
ليسوا
وحدهم مصدر العلم بل قد يأتي العلم من غير اليونانيِّين. فإذا كان اليونانيون قد أعطوا
المنطق
فقد يكون للمشرقيِّين منطق سواء بنفس الاسم أو باسم غيره. لقد ألف ابن سينا طبقًا لعادة
المشتغلين باليونانيين المعتزين بهم لعدم مخالفة العادة والجمهور. انحاز إليهم بل ومتعصب
لهم
فهم أولى بالتعصب لهم من غيرهم ولكنه أكمل ما أرادوه وقصروا فيه وأغضى عن ما أغمضوا وتخبطوا
فيه أو وجد له مخرجًا. جاهر بمخالفتهم فيما لا سكوت عنه، وغطَّى ما بقي منه.
٢٢
وفي «القياس» يذكر أيضًا المعلم الأول وليس أرسطو تحولًا من الشخص إلى الرمز، ومن
التاريخ
إلى الفكر.
٢٣ كما يذكر التعليم الأول أي العلم وليس الشخص، والتحول من المعلم الأول إلى
التعليم الأول خطوة في التحوُّل من الشخص إلى الموضوع، ومن العالم إلى العلم، ومن المؤلِّف
إلى النص ومن الشخص إلى الموضوع، ومن الفرد إلى الشيء. المعلم الأول بالنسبة لأرسطو لا
مشخصًا
أولًا، وصاحب التعليم بالنسبة للمعلم الأول لا مشخصًا ثانيًا.
كل الصناعة مستفادة من المعلم الأول بالفعل لا بالقوة كما أن المسلمين أصحاب نبوة.
لديهم
خاتم الانبياء ونهاية الوحي. فأرسطو بالنسبة للمنطق مثل الرسول بالنسبة للوحي، كلاهما
منطق،
منطق العقل ومنطق الدين والمنطق المعياري الذي يرجع إليه كمقياس. ويعتمد ابن سينا على
هذا
الموقف ليَستنتِج المحالات من الرأي المخالف وعندما يكون له موقف نقدي من المنطق. والمعلِّم
الأول لا يعلم حال قياس الخلف إلا على سبيل التذكير والتجريد عن المادة واستعماله وقبوله
على
نحو طبيعي. وقد اتبعه جالينوس في ذلك. وغرض المعلم الأول أن يجعل الأوسط جزئيًّا لا عموم
له.
ولا يُبالي في الأمثلة أن تكون الحدود على كل ذلك التواطؤ. لابن سينا موقفه المنطقي.
وعلى
أساس هذا الموقف ينبغي فهم قول المعلم الأول. ابن سينا هو النص والمعلم الأول هو الشارح.
ابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن سينا هو المتبوع والمعلم الأول هو
التابع.
ابن سينا هو المُجتهد والمعلم الأول هو المقلِّد. ابن سينا خير من يعلم المعلِّم الأول،
ما
قاله وما لم يقلْه. يُصحِّح استشهاد الآخرين به، إيجابًا أم سلبًا. وعلى أكثر تقدير فهو
أرسطو
صاحب التعليم الأول وابن سينا الراوي الصادق عنه والمبرهن على صدق كلامه.
٢٤
ويأخذ جالينوس لقب الفاضل من المتأخِّرين وهو الأغلب أو الفاضل فقط وهو الأقل تحوُّلًا
من
الشخص إلى الرمز، ومن المؤلف إلى الموقف، ومن الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى الفعل،
ومن
العالم إلى السلطة العلمية أي من الزمان إلى الخلود. وأحيانًا تتغيَّر صياغة اللقب إلى
الفاضل
من المتأخِّرين؛ فاللقب لم يستقر بعد وإن استقر التحول من الشخص إلى اللاشخص. يحق للفاضل
المتأخر أن يمدح المنطق. ومع ذلك فللفاضل من المتأخرين سبيله الخاص وموقفه الخاص في المنطق
وليس بالضرورة موافقًا لمنطق أرسطو. ويبين بوجه حسن ما يعلنه المعلم الأول وهو حال قياس
الخلف
على سبيل التذكير والتجريد من المادة وبيان أن استعماله وقبوله طبيعي. كما أن ابن سينا
يرفض
قول فاضل المتأخرين من اعتبار المقدمات المستعملة في مناقضة مالسيس وبارمنيدس مقدمات
منطقية
لأن ذكر فيها الكم والتناهي، وأن التناهي للكم بذاته أو لغيره لأن النظر في الكم ولواحقه
ليس
نظرًا منطقيًّا. ويرفض تفسيره كما يرفض تفسير شيخ النصارى.
٢٥
ويذكر بقراط باسمه أو بلقبه، الطبيب الفاضل أو الفاضل تحولًا أيضًا من الشخص إلى
اللاشخص،
ومن الجزئي إلى الكُلي ومن الفرد إلى الدلالة. الطبيب منطقي ينظر إلى المنطق كأداة للاستدلال.
ليس الطب علمًا تجريبيًّا فقط، بل هو علم منطق وأخلاقي كذلك. والعجيب أن الفاضل يرى أن
المنطق
فضلًا على الطب كما يَظهر ذلك في الكتاب المنسوب إلى بقراط وهو الفصول. لذلك آثَر المسلمون
جالينوس الطبيب المنطقي على بقراط الطبيب الخاص. كان جالينوس أفضل المتأخِّرين في حين
كان
بقراط هو الفاضل فحسب، ومع ذلك يقرُّ الفاضل بما يقوله ابن سينا؛ فابن سينا هو المقروء،
والفاضل هو القارئ.
٢٦ ويحرص ابن سينا على ذكر لفظ «المنسوب» خشية الانتحال. وهو الذي ينتسب إلى حضارة
طالما اتهمت بخط النسبة مثل نسبة جزء من التاسوعات إلى أرسطو باسم أثولوجيا أرسطوطاليس.
٢٧
وذكر أفلاطون، تلميذ المعلم الأول. تعرض لنظرية المعرفة في أن العلم تذكر. وبدخول
أفلاطون
في المنطق تؤخَذ الأمثلة من الحياة والنفس وليس من أشكال القياس المجرَّدة. ويذكر سقراط
ومينون بمناسبة زوال شك مينون على سقراط في المعرفة. ويُشير إليهما ابن سينا على أنهما
رجل
يسمى مانون وفيلسوف يُسمى سقراط تحوَّلا من الخاص إلى العام، ومن التاريخ إلى الفكر.
ويضرب
ابن سينا المثل بأرشميدس الذي كان يُبرهِن على الرياضيات قبل صياغة المنطق مما يدلُّ
على أن
البرهان طبيعي، وأن المنطق ما هو إلا تجريد له. كما يذكر ابن سينا شيخ النصارى تحوُّلًا
كالعادة من الشخص إلى اللاشخص، ومن الفرد إلى المؤسسة. هل هو حنين بن إسحاق الذي يذكره
مع
فاضل المتأخِّرين؛ فكلاهما طبيب؟ هل هو يحيى بن عدي أم يوحنا النحوي؟ وفي كلتا الحالتَين
يخالفه ابن سينا في تفسيره ويستقلُّ عنه.
كما يُحال إلى بعض كتب المنطق معربة مثل قاطيغورياس وباري أرمنياس. يُحال إلى الأول
لمعرفة أن النظر في الكم ولواحقه ليس نظرًا منطقيًّا، وإلى الثاني لتسمية نوع من القول
قولًا
جازمًا وقضية. كما يحيل إلى كتاب البرهان وإلى الشكل الذي في كتاب أوقليدس وإلى كتاب
الفصول
لأبقراط إلى العمل وليس إلى الشخص.
٢٨ وما زالت بعض الأمثلة اليونانية باقية مما يدلُّ على محلية الوافد وتقابل
ابن سينا معه باعتباره آخر. فتذكر أثينية، أهل أثينا، أهل قونيا، أهل أثينية في أشكال
القضايا. بل إن مادة القضايا أيضًا محلِّية من تاريخ اليونان مثل قتال أهل أثينية لأهل
قونيا
وهو قتال مذموم.
٢٩
وفي «البرهان» يُحيل ابن سينا أيضًا إلى المعلِّم الأول دون ذكر أرسطو مرة واحدة؛
فقد
انتهى الشخص وبقي الفكر، وانتهى الفرد وبقي العالم.
٣٠ ويتوجَّه ابن سينا إلى تخليص المعلم الأول من براثن الشراح، ونقد من غرتهم قلَّة
العناية والنظر وعدم استقصاء كلامه حق الاستقصاء وتوضيح المقصود من الكلام، والحديث عن
الله
كموجود مُطلَق مثل وجود المثلَّث تبعًا لقول المعلم الأول. وقد ذكره ابن سينا دون تعديل
مما
يدل على أنه كذلك عنده الوجود الجزئي هو الموجود، والوجود الكلي هو الموجود على الإطلاق.
ويبدو التشابه بين التوحيد العقلي الوافد الأول والتوحيد الديني الموروث نظرًا لقيام
كلٍّ
منهما على العقل، وقيام الثاني على العقل وهو أساس النقل. كما يفترض ابن سينا أن يكون
المعلم
الأول قد كتب «البرهان» قبل باقي كتب المنطق؛ لأن الغرض الأفضل في البرهان وفي القياس
هو
الوصول إلى اليقين. والطرق البرهانية تأخذ مما هو أعرف في العقل إلى ما هو أعرف في الطبيعة
على ما صرَّح به المعلم الأول في الطبيعيات تأكيدًا لوحدة العقل والطبيعة، وهو ما يُوضِّحه
ابن سينا في «السماع الطبيعي». أما باقي الإحالات إلى المعلم الأول فإن الغرض منها الاستشهاد
على صحة تحليلات ابن سينا؛ فابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن سينا هو
الرائي
للشيء والمعلم الأول هو المثبت والمؤكد لهذه الرؤية. فإن حدث عدم تطابق بين الرؤيتَين
يتم
تأويل أقوال المعلم الأول بناءً على تحليل ابن سينا. ويدخل ابن سينا في مسار فكر المعلم
الأول
بداية ونهاية وعودًا على بدأ. ويصف أفعال الإيضاح في شعوره ومحللًا تشبيهاته ومجازاته،
ومقارنًا بينه وبين المعلم الأول في مواطن التشابه والاختلاف مثل التمييز بين الحد التام
والحد الذي هو مبدأ البرهان اختصارًا على المتعلم.
٣١
ويُحيل ابن سينا إلى أفلاطون رافضًا نظرية المثُل والتي يُسمِّيها الصور الأفلاطونية،
الصور المعقولة المفارقة الموجودة لكل معقول حتى الطبيعيات، مجرَّدة خارج المادة وطبيعية
في
المادة. وهي نظرية باطلة لأن الصور الطبيعية لا تَبقى كما هي إذا ما جُرِّدت عن المادة.
والصور الرياضية لا تقوم بلا مادَّة وإن كانت حدودها تستلزم المادة. وإبطال هذه النظرية
في
الفلسفة الأولى وليس في المنطق أو في أي علم آخر لأن الصور والمثل المفارقة لا تدخل في
صناعة
البراهين ولا في مبادئها. هناك فرق بين المنطق والميتافيزيقا. الصور الأفلاطونية جزء
من
الميتافيزيقا وليست جزءًا من المنطق. البرهان بالمحمولات، والصور توجد في الجوهر. الأولى
في
الذهن والثانية في الحقيقة. كما يُحيل ابن سينا إلى أفلاطون في جعل السبب في الاتحاد
جذب
المغناطيس والكهرباء بينما يجعله ابن سينا ضرورة الخلاء. كما يُحال إلى الشكل الرابع
في
البرهان إلى كتاب إقليدس؛ فإقليدس هنا عمل وليس شخصًا، مؤلَّف وليس مؤلِّفًا. كما يُحال
إلى
شعر هوميروش، الإلياذة، كمثال للقول المركَّب في الحدود؛ لأنه لا يُمكن أن يُسمَّى باسم
واحد
مفرد. شعر هوميروش هو المقصود وليس هوميروش كمثال في المنطق، ولو كان ابن رشد مكان ابن
سينا
لغيره إلى شعر عربي.
٣٢
ويُحال إلى سقراط في مُحاوَرة «مينون» لأفلاطون من أجل إثبات التعليم والتعليم ضد
شك مانن
في حضارة ترى أن الظن لا يُغني عن الحق شيئًا وأن بعض الظن إثم، وجعلت اليقين هدفًا للعلم.
ويَنقُد ابن سينا أفلاطون بأنه لم يقضِ نهائيًّا على شبهة الشك عند مينون. وعادة ما يقرن
سقراط بأفلاطون، الأستاذ بالتلميذ في حضارة تُقدِّر العلاقة بين الشيخ والمريد وتجعلها
طريقًا
للعلم. كما يُؤخذ سقراط مثالًا للموضوع الذي في حاجة إلى محمول. كما يؤخذ سقراط وأفلاطون
باعتبارهما نوعين لهما جنس واحد هو إنسان. فالتعيُّن سبب الفردية، والعموم سبب الكلية.
سقراط
متعين، وإنسان عام. وكل فرد له خاصية عامة مثل سقراط الفيلسوف والقبيادس الملك، وأخيلوس
الشجاع، وآيس كبير النفس، ولوسندروس الصالح. وهي الأمثلة التي أسقطها ابن رشد فيما بعد
ووضَع
مكانها أمثلة عربية كما هو الحال في تلخيصه الخطابة. وكلها أسماء أبطال من الأساطير اليونانية.
٣٣
ويُحيل ابن سينا إلى مجموع أجزاء «الشفاء» في المنطق خاصة في الطبيعيات عامة دون
الإلهيات، أو إلى مجموع كتب المعلم الأول فلا فرق بين الاثنين، الأول تأليف في الوافد
أو عرض
له والثاني هو الوافد. فكل كتاب من كتب المنطق له موضوعه المُستقل. وقد يُحال إلى اسم
الكتاب
مرتَين مثل الأسطقسات مرة وكتاب إقليدس مرة أخرى، وإلى الجدل مرة وإلى الحجج الجدلية
مرة
أخرى، وإلى القياس مرة وإلى أنالوطيقا الأولى مرة أخرى مما يدلُّ على عدم استقرار أسماء
كتب
أرسطو حتى عصر ابن سينا بين التعريب والنقل وربما حتى الآن. كما يستشهد ابن سينا بإحدى
محاوَرات أفلاطون، مينون، عن العلم والتعليم ومناقشة سقراط لمينون. كما أحال إليها من
قبل في
كتاب «القياس».
٣٤
ويُحال إلى «إيساغوجي» أو «المدخل» في موضوع الذاتي والمقدَّم في حين أنه في كتاب
البرهان
العلَّة. وقد جرت العادة باستعمال لفظ ذاتي كما ورد في إيساغوجي لا كما ورَد في البرهان.
ثم
تأتي مقارنة الضرورة في القياس والبرهان لأنَّ الكبرى الضرورية تكون على نحوين مختلفَين
في
القياس وفي البرهان. والخلط بين الكتابين وارد. ويُحيل ابن سينا إلى قياس الشفاء صراحةً
حيث
لخَّص فيه الموضوع من قبل. كما يُحيل أيضًا إلى كتاب «الجدل» مما يُبين وحدة موسوعة الشفاء.
الجدل لا يُثبتُ ولا يَنفي حقيقة بل اعتمادًا على تسليم الخصوم أو الرأي المشهور كمُقدِّمات.
الجدل لا يُعطي حدًّا حقيقيًّا إنما يُعطي فقط الحد حسب قانون الشهرة لا بحسب قانون الحقيقة.
ويحال إلى كتاب النفس لمعرفة الفرق بين القوة والعقل بالملَكة. وتظهر البيئة اليونانية
في
الأمثلة مثل أخذ أثينية كمثل للعلَّة الفاعلة.
٣٥
وفي «الجدل» يُحيل ابن سينا إلى التعليم الأول أكثر من الإحالة إلى المعلِّم الأول
للقضاء
نهائيًّا على الشخص من أجل الموضوع، وعلى العالم من أجل العلم. كما يَكشف هذا القول من
المعلم
إلى التعليم عن إحساس بتطوُّر العلم وبتجريد الآراء من الأوائل إلى الأواخر. وفي نفس
الوقت
يُعطي القدرة على نقد الشراح بالعودة إلى الأصول. ويُبيِّن ابن سينا الاشتباه في التعليم
الأول وإمكان تأويله على وجهَين مما يُبيح للشراح تأويلهم ولابن سينا تحقُّقاته من صدقهم.
البداية بالتعليم الأول، والنهاية بلا نهاية، تفسح المجال للشراح ولتاريخ العلم ولابن
سينا
ولباقي الحضارات والشعوب. ويُمكن لأي فيلسوف مراجعة التعليم الأول ثم تحقُّقات في التاريخ،
ويكون جزءًا من تاريخ العلم. يُمكن لابن سينا تغيير ترتيب التعليم الأول وإعادة النظام
إليه
ونقد النص الأول في ترتيبه تقديمًا وتأخيرًا، والفائدة في العودة إلى النص الأول كما
هو الحال
عند ابن رشد وكأن الحكماء هم سلفيون بالضرورة.
٣٦
ثم يذكر ابن سينا المعلم الأول وليس أرسطو تحولًا من الشخص إلى المعيار، ومن الفرد
إلى
الموقف. يُدافع ابن سينا عن المعلم الأول وعن دقة فهمه دون خلط بين حكمه الجزء على الكل
وحكمه
على الكل. كما يُصحِّح خطأ من يظن أن القياس الجدلي يصدر عن السائل وحده دون المجيب الذي
يقيس
من المشهورات كما يقيس السائل من المتسلِّمات. ويُصحح خطأ الظن بأن التصاريف صادرة عن
الشيء
كالوجع عن المرض، فهذا تأويل بعيد عن قول المعلم الأول. ويبدو ابن سينا هو الفيلسوف المبدع
والمعلم الأول هو الشارح والمؤيد. ابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن
سينا هو
المُؤوِّل والمعلم الأول هو المؤيد. فالأشياء المشهورة لا توضع موضع الجنس. وفي النهاية
يتَّفق كلاهما في المذهب.
٣٧
ويُقرُّ ابن سينا بوجود نسخ عديدة من التعليم الأول، ويفترض سقطًا في بعض منها هو
سبب سوء
تأويل الشراح في حضارة متَّهمة بالخلط بين الكتب ونسبتها إلى غير أصحابها. يَستوثِق ابن
سينا
من روايات الآخرين عن التعليم الأول ويُطابقها بروايته الخاصة وكأنَّنا في مناهج النقل
الكتابي عند الأصوليِّين، الإجازة والمناولة … إلخ. ويعتمد ابن سينا على السياق، الموضع
الذي
عليه الخلاف والوضع الذي قبله وبعده، وتَظهر بعض ألفاظ الأصوليِّين مثل الأخبار والحديث.
والمعنى هو الذي يجعل ابن سينا يتشكك في باقي الروايات، ويفترض وقوع السقط أو التحريف
أو
السهو. كما يفترض وقوع سوء التأويل من الآخرين وصحة تأويله اعتمادًا على السياق حتى يتسق
المعنى ويسترسل الخطاب.
٣٨
أما سقراط فإنه يضرب به المثل على المغالطة بينه وبين تراسوماخوس حين تجادَلا في
العدل
بعدما غالطه سقراط باسم مُشترَك فأفحمه مما ينفع السائل والمُجيب معًا. كما يضرب به المثل
كموضوع في قضية ثم في قياس مُغالطي. ويُحال إلى الصور الأفلاطونية لإثبات ضرورة مطابقة
المحدود للحد. فالإنسان صورة أفلاطونية لكنها لا تنطبق على الإنسان الفردي. الأولى أذلية
والثاني زائل. الأولى لا تفعل ولا تَنفعِل، والثاني يفعل وينفعل. كما يُضرب المثل بزينون
للجدل الامتحاني بقياسه على دفع الحركة على نقيض المشهور والمشهورات من مواد العلم عند
الأصوليِّين والقياسات التي تُوجب خلاف الظاهر وإن كان يُوجد فيها قياس يصعب حله مثل
قياسه
على إبطال الحركة. ومعلوم أنه مماحَكة وعُدول عن الحق. كما يضرب المثل بآراء بقراط في
الطب،
وفيثاغورس في الموسيقى، كل في صناعة أجمع عليها أهلها لجمعها والتنسيق بينها وصياغتها
في مذهب
كما فعل ابن سبعين. ويذكر بقراط كمثال للغلط في ترتيب الشكل كما غلط في ترتيب الشكل الهلالي.
٣٩
ويُحال إلى «البرهان» و«إيساغوجي» و«القياس» و«سوفسطيقا» و«أنالوطيقا» نظرًا لوحدة
الكتب
المنطقية ووحدة العرض.
٤٠ فيُحال إلى «البرهان» لمزيد من التفصيل في الموضوع مثل الحركة والإرادة والسكون
كأعراض ذاتية للحيوان، وكيفية إيجاد الحد، والفرق بينها وبين كيفية اعتبار حال الحد الموجود،
وقد تختلف تسمية موضوع من كتاب إلى كتاب في المنطق مثل تسمية الوضع في البرهان بطريقة
أي
الدعوى القائمة على البرهان، وفي الجدل بطريقة أخرى وهي الدعوى بلا برهان. ويحال إلى
«إيساغوجي» في موضوع الحد والرسم والخاصة والعرض مع التمييز بين العرض المنطقي والعرض
الطبيعي، كما يحال إلى «القياس» في موضوع تراكم الجزئيات التجريبية لإيقاع التصديق الكلي
وفي
موضوعات تفصيلية أخرى. وكذلك يحال إلى «سوفسطيقا» لإكمال الموضوع.
٤١
وبالرغم من أن «الجدل» أقل صورية من أشكال القياس وطرق البرهان وأقرب إلى السؤال
والجواب،
وصراع القوى بين المتخاصِمين واستعمال ابن سينا أسلوب مخاطبة النفس بصيغة المتكلِّم المفرد
ومخاطبة القارئ بصيغة المخاطب حتى يأنسا إليه إلا أن الطابع العام ما زال هو الطابع المجرَّد
الشكلي البعيد عن الجدل الفكري والجدل الاجتماعي، صحيح أن ابن سينا غير عنوان الكتاب
من
المواضع إلى الجدل، من الموضوع إلى المنهج، وهو تغيُّر جذري، ولكنه ما زال صوريًّا من
حيث
الشكل، تقليديًّا من حيث المضمون. ونظرًا لصمت ابن سينا عن مصادره فإن وصف الفلسفة تطوريًّا
من الخطابة إلى الجدل يشبه وصف الفارابي تطور العلوم الفلسفية حتى البرهان. والصمت عن
المصادر
اكتمال الفلسفة في عقل الفيلسوف.
٤٢
وكتاب الشعر كأحد أجزاء الشفاء ليس شرحًا أو تلخيصًا أو تأليفًا بل هو عرض الشرح
لإيضاح
الألفاظ، والتلخيص لبلوَرة المعاني والتأليف لدراسة الموضوع ذاته. فشعر الشفاء ينطبق
عليه ما
يَنطبق على منطق «الشفاء». ولم تكن هذه الأنواع الأدبية متميِّزة فيما بينها تمامًا.
فقد
يُسمي ابن سينا العرض التلخيص كما يُصرِّح في الفقرة الأخيرة أنه تلخيص صرف وهو في الحقيقة
عرض أي تأليف في الوافد يعتمد على العقل وحده وعلى بنية الموضوع. لم يلخص ابن سينا كتاب
«الشعر» في الشفاء بل عرض الموضوع مُتجاوِزًا نص الشعر إلى موضوع الشعر. لذلك لا يظهر
في نص
«الشعر» أي أثر للترجمة. عبارة ابن سينا أوضح من عبارة متى، منتقلًا من الغموض إلى الوضوح،
وأوجز من عبارة متى منتقلًا من الإسهاب إلى التركيز، وأحيانًا أطول من عبارة متى منتقلًا
من
الإجمال إلى التفصيل. عبارة ابن سينا على مستوى الألفاظ تتجاوز الشرح والتلخيص والجامع.
ويستعمل الأمثال والخرافات الشعرية بدلًا من الأسمار والأشعار في ترجمة متى تحسينًا للعبارة.
العرض تجاوز للشرح والتلخيص من أجل إيضاح المعنى والتغلب على صعوبة العبارة دون توفيق
بين
أفكاره وأفكار أرسطو وهو ما قد يحدث على مستوى المعنى في التلخيص. هو أشبه بالتداعي الحر
بين
المعاني. تتوحَّد الفكرة بين ابن سينا وأرسطو مما يؤدِّي إلى ترك جملة غامضة بأكملها
وزيادة
فقرات أخرى أكثر وضوحًا. ولا يهمُّ من أين استقى ابن سينا شروحه فالعرض يعتمد على طبيعة
العقل
والموضوع أي على بنية الفكر الداخلية وليس على مصادره الخارجية.
٤٣ كتاب الشعر إذن عما قائم بذاته وليس شرحًا أو تلخيصًا لأرسطو، ولا يعني ذلك أنه
ابتعد عن المقياس والنموذج الأمثل والحقيقة في النص الأرسطي بل يعني أنه تأليف مُستقلٌّ
يُمثِّل حتمية «الشفاء» مرحلة التحوُّل من النقل إلى الإبداع، أهم مساهمتَين فيه هما
المقارنة
بين خصائص الشعر العربي وخصائص الشعر اليوناني، دنية إبداع ابن سينا في الشعر المطلَق
حسب
الزمان.
وفي كتاب «الشعر» يذكر أوميروش بطبيعة الحال ثمَّ أنبذقليس ثم أيسخيلوس، ثم المعلم الأول
وسقراط وسوفوكليس وماني.
٤٤ ولم يذكر يوربيدس أو باقي الفلاسفة اليونان خاصة أفلاطون. ذكر أوميروش مع
أنباذقليس لبيان الفرق بين الشعر والنَّثر في الوزن. فكلام أنباذقليس في الطبيعيات ليس
فيه من
الشعر إلا الوزن، ولا يشارك هوميروش إلا في الوزن دون أن يكون شعراء. الشعر تخيُّل ووزن.
ويُحاكي هوميروش الفضائل في أكثر الأمر فقط. وهو أول من قام بذلك ولم يسبقه إليه شاعر
آخر،
وتقع المحاكاة للأخلاق. لذلك مدح أوميروش أخلاقية أخيلوس. وهو تصور إسلامي كما هو معروف
في
الآيات الشهيرة في آخر سورة الشعراء
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ. وفضيلة الفضائل هو واقع الناس ومطابقة القول بالفعل. ويستحقُّ هوميروش
المدح لأنه يعمل بما يعلم، لذلك يتبقى على الشاعر أن يقلَّ من الكلام الذي لا محاكاة
فيه دون
إطالة كما كان يفعل باقي الشعراء مع قلَّة المحاكاة. أما أوميروس فكان ينسب قليلًا، وهو
اللفظ
العربي، النسيب، ثم ينتقل إلى المحاكاة لامرأة أو لرجل أو لمثل أو العادة وإلا كان قبحًا
وعيبًا في الشعر، فهو أول من قال «طراغوديا» قولًا يعتدُّ به بل قال أيضًا «درامطريات».
وواضح
أن الألفاظ المعربة ما زالت مستعمَلة في عصر ابن سينا وكذلك لفظ إيفخانا ساوس الذي أحدثه
أنبذقليس. كما قال أوميروس بضرورة وحدة الغرض في الشعر حتى ولو تعدَّدت الحوادث على حين
كان
باقي الشعراء متعدِّدي الأغراض.
٤٥
ويأتي أنبادقليس في المرتبة الثانية بعد أوميروس لبيان الفرق بين الشعر والنثر في
الوزن.
وفي هذا الموضوع يدخل سقراط أي الكلام الموزون الذي ليس شعرًا. الشعر تخييل ووزن. والكلام
الذي وزنه أنباذقليس في الطبيعيات ليس شعرًا، وليس فيه من الشعر إلا الوزن، ولا يشارك
أوميروس
إلا في الوزن. الوزن في كلام أنباذقليس أقوال طبيعية وفي كلام أوميروس أقوال شعرية. كما
أحدث
أنباذقليس نوعًا من أنواع الشعر هو إيفخاناساسوس أما أسيخيلوس وسوفسكليس فقد أدخَلا الألحان
في الشعر على ما هو معروف في المسرح الشعرى.
٤٦ ويُحال إلى كتاب «الخطابة» مرتين؛ فهو أقرب كتب المنطق إلى الشعر والمقارنة
بينهما في موضوعات الاستعارة والشبه والتصديق.
٤٧
(٣) الوافد في الرياضي
ويضم الرياضي عند أرسطو الحساب والهندسة والهيئة والموسيقى. ولكن ابن سينا يُغيِّر
الترتيب إلى الهندسة والحساب والموسيقى والهيئة الأول بالثاني، والثالث بالرابع. جعل
اليونان
الحساب قبل الهندسة، والكم المنفصل قبل الكم المتصل، وهو أقرب إلى العقل. فالهندسة تقوم
على
الحساب. ولكن ابن سينا جعل الهندسة قبل الحساب نظرًا لأن الهندسة هو العلم الذي يجمع
بين الحس
والعقل، بين التجربة والبرهان. وجعل اليونان الهيئة قبل الموسيقى؛ لأن نظام الكون له
الأولوية
على نظام النفس في حين أعطى ابن سينا الأولوية للموسيقى على الهيئة؛ فالنغم في النفس
سابق على
النغم في الكون. ويتفق ابن سينا مع اليونان في أولوية الحساب والهندسة (اليونان) أو الموسيقى
والهيئة (ابن سينا). فالمباشر له الأولوية على غير المباشر، والتداخل والتمايز بين العلوم
استئناف لإحصاء العلوم عند الفارابي وأقسام العلوم العقلية عند ابن سينا نفسه.
وقسم أرسطو الحكمة إلى طبيعية ورياضية وإلهية. ثم أضاف المسلمون المنطق كجزء من الحكمة
بدلًا من كونه مجرد آلة. فأصبحت الحكمة منطقية وطبيعية وإلهية، ولم تذكر الرياضيات لصورتها
أو
لصعوبتها أو لأنها أدخل في العلم الخالص.
٤٨ ولأن المنطق مُوازٍ للهندسة في بنائه جعل ابن سينا الرياضيات مع المنطقيات.
فالمقولة هي النقطة، والعبارة الخط، والقياس الهندسة، والبرهان الموازيات لثالث متوازيات.
كما
يُمكن الربط بين الهندسة أو المنطق أكثر من ذلك؛ فالموازيان لثالث متوازيان قضية منطقية،
مقدمتان ونتيجة كما هو الحال في المنطق الغربي الحديث وإشكال أيهما يردُّ إلى الآخر،
المنطق
إلى الرياضة أو الرياضة إلى المنطق.
وأصول الهندسة لإقليدس خمس عشرة مقالة، أطولها العاشرة وأقصرها الخامسة عشرة. ثم
تتفاوَت
المقالات الأخرى بين الطول والقصر. وهي كذلك في رياضيات الشفاء. والمقالتان الأخيرتان
ليستا
من وضع إقليدس بل منتحَلة من اليونان أو من العرب. والانتحال تأليف فلسفي لإكمال الموضوع
بصرف
النظر عن المؤلف.
٤٩ والكتاب عمل جماعي في التاريخ داخل حضارته أو منتقلًا داخل الحضارات الأخرى، وفي
المقالة السابعة، الانتقال من الهندسة إلى الحساب، يضاف الحساب إلى العنوان عند الشراح
حتى
يطابق الموضوع العنوان. وعلم الهندسة يُسمى أيضًا علم الأول أي علم الأوليات. وهو مقدمة
لعلم
المساحة إلى علم الهندسة التطبيقي كما أن حروف المعجم مقدمة لعلم الكتابة.
وقد جمع إقليدس نفس الأصول أو المبادئ أو القضايا أو الأشكال التي توصل إليها السابقون
عليه. وأضاف إليها براهين من عنده وأعاد ترتيبها. فأصول إقليدس ليست خلقًا عبقريًّا على
غير
منوال بل تراكم تاريخي طويل مع القدرة على الاستيعاب والتنظير وتأسيس العلم والنقلة النوعية
في التاريخ. وهو منسوب إلى إقليدس احتراسًا من عدم صحة النسبة في حضارة تُتهم بالخلط
والانتحال. كما تذكر النسخة المعتمدة والزيادات عليها سواء في النص أو في الأشكال
والأرقام.
وهو من أوائل الكتب التي ترجمها المسلمون وقدروها أعظم تقدير. واعتبروا إقليدس الرياضي
الأول وأرسطو المنطقي الأول وجالينوس الطبيب الأول في حضارة تقوم على خاتم النبوة ونهاية
التاريخ. كما كانت تَعتبر أرشميدس رائدًا في الهندسة المساحية والميكانيكية وأبوللونيوس
للقطاعات المخروطية. وقد سمَّى الصوري إدراكًا لجوهر علم الهندسة وتحويلًا للشخص إلى
مذهب.
والكتاب ليس ترجمة. فالعرض مرحلة تالية للترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والجوامع.
٥٠ وليس اختصارًا بالرغم من استعمال ابن سينا والجوزجاني اللفظ؛ لأن ابن سينا يذكر
أنه لم يقتصر على الاختصار بل تجاوَزَه إلى حل بعض مشكلاته؛ فالاختصار يعني التركيز،
وحل
المشكلات يعني دراسة الموضوعات بالرجوع إلى الأشياء ذاتها. يعني الاختصار اختصار براهين
الكتاب وعباراته لا مقالاته وأشكاله. الاختصار هو الإبقاء على الحدس دون البرهان، ثم
الاستدلال على الحدس من جديد ببراهين أبسط وأوضح. وما سماه. ابن سينا «تحرير» هو تأليف
عارض
أي إعادة الكتابة. ويختلف عن الأنواع الأدبية السابقة، الترجمة والتعليق والانتحال والشرح
والتلخيص والجوامع. فالمحرِّر لا يورد النص ثم يعلق عليه بتفسير أو زيادة أو بيان إشكال
بل
يتصرَّف في النص نفسه بما يوجب إصلاحه وإكماله. التحرير تقويم أي إعادة كتابة النص ووضعه
في
صورة أتم مما يستلزم الحذف أو الزيادة أو إعادة الترتيب أي تأليف غير مباشر، يقوم على
الإيجاز
غير المخل والاستقصاء غير الممل؛ أي التركيز والتشويق ثم زيادة المادة من مصادر أخرى
من نفس
العلم سواء من مصادر خارجية أو ما استنبطه ابن سينا من قريحته. وقد استمر هذا النوع بعد
ابن سينا.
٥١ لا يهمُّ اتفاق ابن سينا مع الأصل أو مع الشراح؛ فابن سينا مؤلِّف عارض يُعيد
كتابة النص من جديد بصرف النظر عن المطابقة.
٥٢ ليس نصُّ ابن سينا مجرَّد تكرار لإقليدس بل إضافة بحوث لا مقابل لها في المؤلفات
الأرسطية أو غير الأرسطية. فما يهم هو العلم لا العالم، والموضوع وليس الشخص، والنص وليس
المؤلِّف. وبتحليل للأزمات الرياضية يقوم ابن سينا بمتابعة براهين إقليدس ويراجعها ويتحقَّق
من صدقها وإلا كان خلفًا، وهي اللازمة الأكثر ترددًا، وهو المطلوب إثباته؛ وذلك ما أردنا
أن
نُبينه، وذلك ما أردنا أن نعمل.
٥٣
والإشارات إلى اليونان قليلة. وبطبيعة الحال تتمُّ الإحالة إلى إقليدس، في ذكر اسم
الكتاب
كله في أوائل المقالات وليس استشهادًا به، وفي نسبة المقالات الحادية عشرة حتى الخامسة
عشرة
إليه. كما يذكر أنسقلاوس لنسبة المقالتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة إليه.
٥٤
و«الحساب» كتاب مكوَّن من أربع مقالات، أطولها الأولى وأقصرها الرابعة، ويتناقص الكم
تدريجيًّا من الأولى حتى الرابعة.
٥٥ ويتعلَّق الحساب بالفلسفة بناءً على تقسيم العلوم الفلسفية الذي يَرجع في بدايته
إلى أرسطو. كما يَرتبط بالمنطق؛ إذ تم التعرض له في كتاب «المقولات» نظرًا لإمكانية قيام
علم
واحد، الاستدلال في الحساب أو البرهان في المنطق. لذلك يُحال في «الحساب» إلى كتاب
«الأسطقسات» وإلى كتاب قاطيغورياس، مما يدلُّ على أن «الحساب» قد كتب بعدهما.
٥٦ لقد عرف المسلمون الصلة بين الحساب والهندسة ولاءَموا بين الحساب الهندي والحساب
اليوناني، بين الشرق والغرب، واعتبروا الجبر والمقابلة فرعًا للحساب، وعرفوا الأعداد
الصحيحة
والكسور العشرية، والجذور التربيعية والتكعيبية. وإن تحويل الهندسة إلى حساب أو الحساب
إلى
هندسة ليدلُّ على العقلية التوحيدية التي تضم العلوم كلها في علم واحد.
٥٧
وقد قام ابن سينا بالاختصار كالعادة. ويعني الاختصار هنا حذف المادة الخارجة على
الصناعة
ولها بديل في علم الحساب مثل الاستعمال والاستخراج بديلًا عن الجبر والمقابلة، والجمع
والتفريق الهندي. وهذا المحذوف يدخل في الفروع وليس في الأصول، كما هو الحال في التفرقة
بين
الأصول والفروع في الفقه.
٥٨ غايته إعطاء الحالة الراهنة لعلم الحساب طبقًا لعادة العلماء في عصره دون تحديد
للتيارات التي ينقدها. يكفيه الإشارة إلى قوم رغبة في إخفاء المصادر وبناء النسق. وهو
تأليف
عارض في علم الحساب لإعطاء صورة للحالة الراهنة للعلم في عصره للطلاب، على عكس الرسائل
التي
تكشف عن قدر كبير من الإبداع والاجتهاد.
٥٩
لذلك يبدو ابن سينا بلا تجربة خاصة، متعالِمًا، جامعًا للعلم، يخفي مصادره، منقطع
الصلة
بين السابق واللاحق لصالح النسق. لم يذكر السابقين عليه، الكندي والرازي وإخوان الصفا
والفارابي وكأن التراكم الفلسفي لم يحدث لديه إلا من الوافد مباشرة دون الموروث، من القدماء
مباشرةً دون المُحدَثين، من الأوائل مباشرةً دون الأواخر؛ مما أوقعه في الصورية. ظهر
علم
الحساب علمًا صوريًّا خالصًا لا يميز حضارة عن أخرى، خالٍ من الخصوصية إلا القدرة على
استعمال
العقل المجرد والثقة به. يبحث عن القانون مع الخصائص الذاتية التي يدركها العقل في العدد.
٦٠ هو علم نظري خالص بل أكثر نظرية من الهندسة؛ لأنها تتعلَّق بالمكان، لا دلالة
حضارية فيه.
٦١ هو أقرب إلى التمرينات العقلية وإثبات الاتساق العقلي وقدرة العقل على التنظير
والتنسيق والاستدلال والبرهان. وعندما وصل التجريد إلى هذا الحد سبب رد فعل الفقهاء وطابعهم
العملي الحسي. فلا فائدة في الحساب إلا في حساب أوقات الصلاة والمواريث ومساحات الأراضي
ومقادير الخراج وموازين السوق ومعاملاته. ولم تشفع مخاطبة القارئ من أجل الدخول في علاقة
صحيحة معه أو بعض التحليلات الشعورية للمؤلف وبيان أن العلم تجربة معاشة في التقليل من
طابع
«الحساب» الصوري.
٦٢
ولم يذكر في الحساب أي اسم علم يوناني. وذكر الفيثاغوريون مرة واحدة والمتكلمون في
صناعة
العدد، ولا يقصد بهم المتكلمون بالمعنى الاصطلاحي أي علماء الكلام بل المشتغلون بصناعة
العدد
أي علم الحساب. وهم المتطفِّلون على العلم الذين يستعملون أقاويل خطابية وشعرية دون
البرهانية. كما يذكر القدماء مرة واحدة ارتباطًا بالوعي التاريخي، فالحساب عمل جماعي
عبر
العصور والأجيال. وتظهر بعض المصطلحات اليونانية المعربة مثل الأسطقسات، كتاب إقليدس
في أصول
الهندسة، وقاطيغورياس والأرتماطيقي، مما يدلُّ على استمرار التعريب حتى عصر ابن سينا.
٦٣ وإذا كان محوَر الهندسة إقليدس، ومحور الهيئة بطليموس فلماذا لم يُظهر ديوفانطس
محورًا للحساب، وفيثاغورس محورًا للموسيقى؟
وأين كتاب «الموسيقى» في الشفاء الذي قد يُعادل كتاب «الموسيقى الكبير» للفارابي
أو رسائل
الكندي في الموسيقى؟ أين الأصل اليوناني أو التأليف العربي؟ لماذا لم يكتب ابن سينا جزءًا
في
الموسيقى ضمه إلى موسوعة «الشفاء» اعتمد فيها على الوافد أي مثل فيثاغورس أو الموروث
كما فعل
إخوان الصفا في الرسائل؟ هل أبدع الكندي والفارابي في الموسيقى ولم يجد ابن سينا موسيقيًّا
وافدًا أو موروثًا يتمثله ويعرض ويؤلف فيه ويصمت عنه؟ وبالرغم من أن الموسيقى علم مستقل
ضمن
العلوم الرياضية، الهندسة والحساب والهيئة (الفلك) إلا أنه متَّصل بعلم الحساب. وينبه
ابن سينا فيه على وجود تأليف في الموسيقى؛ فالحساب والموسيقى كلاهما تأليف يقوم على النسبة.
وإذا كانت الموسيقى حسابًا فهل هذا يفسر غياب جزء عن الموسيقى؟ وإذا كان الحساب موسيقى
فلماذا
حضر الحساب وغابت الموسيقى؟ وإذا كان ابن سينا قد كتب جزءًا في الموسيقى، فهل ضاع أو
سقط بفعل
تقادم الزمن؟
٦٤
وكتاب «الهيئة» هو أكبر كتب الرياضي في الشفاء وأكثرها دلالة على حضور الوافد والموروث.
٦٥ ويبدو أنه كان من الصعب إخفاء المصادر، كتاب المجسطي لبطليموس أو إبراز الإبداع
الخالص لابن سينا وتأجيله إلى كتاب كان ابن سينا يود الإبداع في علم الهيئة وأعلن عن
كتاب
«اللواحق» ولكن لم يطلْ به العمر. ويبدو من اسمه نبرة التعظيم والإجلال. فهو حرفيًّا
«الكتاب
العظيم» فالمبالغة شيمة القدماء مثل المحدثين، والأوائل مثل الأواخر.
وهو كتاب في علم الفلك. وله أسماء عديدة مثل الهيئة والنجوم والتعليم. وهو علم يجمع
بين
الطبيعيات والرياضيات. لذلك وضع القدماء الرياضيات بعد الطبيعيات وقبل الإلهيات في حين
وضعها
المسلمون بعد المنطق وقبل الطبيعيات. عند اليونان إمكانية قيام طبيعيات رياضية وعند المسلمين
إمكانية قيام منطق رياضي.
هو كتاب في التعليم مما يدلُّ على الربط بين الفلك والرياضيات بين التعليم والتعاليم،
والتباعد بينه وبين التنجيم أو علم أحكام النجوم الذي يُعتبر من الدراسات الفرعية في
الطبيعيات كالفراشة وتعبير الرؤيا.
٦٦ لذلك ينتقل ابن سينا من الفلك إلى الهندسة؛ لأن الفلك في النهاية علم رياضي.
والحقيقة أن علم الهيئة يضم الجغرافيا والفلك. كما يضم الرياضة مثل الحساب والهندسة بالرغم
من
إمكانية تصنيف كتاب آخر في الجغرافيا مستقلًّا عن كتاب الهيئة. ويدخل التاريخ ضمن علم
الفلك،
التاريخ الطبيعي، تاريخ اجتماع الكواكب، تاريخ حركات الأفلاك، حوادث الافتراق والاتفاق.
٦٧
وبالرغم من تصريح ابن سينا في آخر كتاب «الهيئة» بأنه اختصر كتاب المجسطي كما لخَّص
من
قبل كتاب «الهندسة» لإقليدس، إلا أن الاختصار هنا يعني التأليف في الموضوع بعد مراجعته
على
واقع فلَكي آخر في زمن آخر وفي مكان آخر، ويصرح بذلك في آخر الكتاب بل وفي آخر المقال
أو في
أوله. وهو تصريح يؤكِّده الناسخ أيضًا في النهاية. وفي نفس الوقت يُصرِّح ابن سينا أن
غايته
هي معرفة مدى تطابق ما في المجسطي وبين المعقول في العلم الطبيعي ومعرفة كيفية وقوع هذه
الحركات وأن يورد الفوائد بعد المجسطي في الزمان اللاحق ومطابقته مع زمان المجسطي بتجارب
فلكية أخرى بعده تطويرًا للعلم القديم وإكمالًا للرصد القديم بالرصد الجديد. ولا يزعم
ابن سينا أنه فلَكي متخصِّص ولكنه رياضي دقيق.
٦٨ ويَعترف ابن سينا منذ البداية في العنوان أنه تلخيص كتاب بطليموس. ويقرُّ الناسخ
بأن ما حرَّره الشيخ مجرد جمع وتلخيص. ويتَّضح من مقدمة الكتاب ذكر اسم المجسطي صراحة
وبأمانة
بالرغم من صمت ابن سينا عن مصادره من أجل التحول من النقل إلى الإبداع، كبداية وليس كنهاية،
كمقدمة وليس كنتيجة، انتقالًا من الجوامع والعرض إلى التأليف والإبداع خاصة وأن لفظ جوامع
وارد في نص «الهيئة» مما يدل على اتصال النوعين الأدبيين: الجوامع والعرض. يقتدي ابن
سينا
بالمجسطي دون إبداع جديد إلا في أشياء قليلة حرصًا على التحول الطبيعي من النقل إلى الإبداع،
واحترامًا لسنة القدماء وتواصلًا معها دون تعالم أو قطيعة. الجديد تمامًا هو كتاب «اللواحق»
الذي أعلن عنه ابن سينا دون أن يُمهله العمر لإتمامه. «الهيئة» إذن عرض في الفلك واللواحق
إبداع فيه. وغرض ابن سينا هو تقريب المعاني إلى الأفهام، وهي إحدى غايات العرض ابتداءً
من
المادة كلها وليس النص المحدد والتأليف في مادة الوافد وتجاوز ترجمة نصوصه والتعليق عليها
والانتحال فيها ثم شرحها وتلخيصها وجمعها. العرض ابتداءً من المادة والتأليف ابتداءً
من
الذهن. ويترك ابن سينا الحسابات في الأشكال وترَك ذكر تاريخ الأرصاد وتحاشى التكرار في
الأشكال أي الرسوم التوضيحية. يكفي وضوح الفكرة دون ذكر الأمثلة والشواهد التي لا يعرفها
إلا المتخصِّصون.
٦٩
ويُمكن لإنسان آخر إثبات هذه الجداول على نحو مطوَّل أو مختصر. فالعلم عمل جماعي
بين
العلماء، واحد للفكرة والثاني للشواهد. الأول لقراءة الجداول والثاني لصنعها كما هو الحال
في
الدراسات الميدانية الحديثة. إلا أن التحليل النظري في الهيئة سابق على الجداول والإحصاءات
والأشكال والرسوم، ولا يَعني الاختصار مجرَّد حذف من المادة بل قد يكون زيادة عليها من
أجل
حسن العرض واكتمال التأليف والربط بين الأجزاء. بل قد يعني إعطاء تفصيلات لتقديم أجزائه
وتقوية روابطه. بل إن إضافة الهيئة لبطليموس على أعمال أرسطو هو إكمال للوافد كله بصرف
النظر
عن المؤلف، وكذلك إدخال أصول الهندسة لإقليدس، والغريب نقص الفلك والرياضيات من أعمال
أرسطو.
٧٠
كان ابن سينا على وعي بنوعه الأدبي وما يُسمِّيه الاقتصار أي بداية التأليف بعد الترجمة
والتعليق والانتحال والشرح والتلخيص والجوامع، العرض في الوافد تأليف نَسَقي يعتمد على
الوافد
أكثر مما يعتمد على الموروث في حين أن التأليف والتراكم تأليف إبداعي يبدأ بتمثل الوافد
ثم
تمثل الوافد قبل تنظير الموروث ثم تمثل الوافد مع تنظير الموروث. ثم يحدث التراكم في
تمثل
الوافد بعد تنظير الموروث ثم تنظير الموروث وأخيرًا الإبداع الخالص الذي عادةً ما يكون
في
الرسائل الصغيرة، وبطبيعة الحال يكون الإبداع صغير الحجم عظيم القدر، في حين تكون المراحل
السابقة عظيمة الحجم كما هو الحال في شروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه، وعروض الفارابي
الجزئية
والكلية. التأليف يتجاوز العرض أولًا في العنوان، إنه ليس إعلانًا للعرض، وفيه المؤلف
جزء من
القصد. وثانيًا في تزايد حضور نسبة الإبداع من خلال زيادة نسبة الموروث بجوار الوافد
في حين
أن حضور الوافد في العرض أكثر، وقد يتفاوت الكتاب الواحد في نسبة العرض والتأليف. إذ
يضم
ابن سينا المقالات التاسعة والعاشرة والحادية عشرة في واحدة تجاوزًا للعرض إلى التأليف
عن
طريق الاقتصار. كما تتفاوت المقالات داخل الكتاب الواحد بين العرض والتأليف. فإذا كانت
الأولى
أقرب إلى التلخيص كما يُعلن ابن سينا فإن باقي المقالات الثلاث المدمجة مع باقي المقالات
أقرب
إلى التأليف.
٧١ التأليف العارض هنا أقرب إلى عرض الحالة الراهنة للعلم.
٧٢
التأليف العارض قد يَعني هنا الأمالي والتجميع، إملاءَ مادة وتجميع معلومات دون جهد
في
إبداعها. «الشفاء» كله مكتوب بهذه الطريقة. وقد سبق الفارابي استعمال هذه الطريقة في
الموسيقى
الكبير، تجميع موسيقى القدماء في مذهب متَّسق وكأنه يُعطي الحالة الراهنة للعلم. لذلك
يبدو
ابن سينا في «الهيئة» بل وفي مجموع «الشفاء» ناقلًا للعلم جامعًا له دون دراسة للموضوعات
ذاتها ودون تحويل له من النظر إلى العمل، بل ودون تمثل وبالتالي دون إبداع ظاهر. وهذا
هو الذي
دفعه إلى اختصاره في «النجاة». فبان «الشفاء» شبيهًا بالشرح الأكبر عند أرسطو أو التفسير
و«النجاة» شبيهًا بالشرح الأصغر أي الجوامع، وظل «النجاة» أيضًا مثل «الشفاء» علمًا نظريًّا
خالصًا، اتفاقًا في الكيف واختلافًا في الكم، فأعاد كتابته مرة ثانية في «الإشارات
والتنبيهات» مضيفًا قسمًا رابعًا في المقالات والأحوال ومعتمدًا على التجارب الذوقية،
من
الداخل دون الاكتفاء من الخارج، التأويل مع التنزيل، منتقلًا من الحكمة إلى التصوف، ومن
الوافد إلى الموروث. لذلك أتت «الإشارات والتنبيهات» تعادل الشرح الأوسط عند ابن رشد
أي
التلاخيص، بصرف النظر عن زمان الكتابة اكتفاء بالنوع الأدبي.
وكثيرًا ما يتحدث ابن سينا بحياد عن الآخر دون أخذ موقف حضاري ظاهر منه. الشفاء تأليف
في
الظاهر ونقل في الحقيقة عن طريق العرض عكس الترجمة التي هي نقل في الظاهر وتأليف إبداعي
في
الحقيقة. ولكنها خطوة ضرورية قبل التأليف في الوافد وتفاعله مع الموروث وهو الإبداع.
لا توجد
«أنا» حاضر في ابن سينا بل مجرد تمثل للآخر وإغراق في الوافد من أجل تقديمه في مذهب حتى
يسهل
بعد ذلك تفاعله مع الموروث. بدأ ابن سينا منعزلًا حضاريًّا، تابعًا للوافد أو بلغة عصرنا
في
قمة التغريب مما سبب رد فعل الفقهاء عليه. «الشفاء» بطرق عصرنا يبدو مجرد «قص ولزق» مثل
الطالب المبتدئ، أو الجامع لكل شيء.
٧٣
العرض عند ابن سينا أقرب إلى العلم الخالص، دائرة
مُنغلِقة منقسمة على عكس الكندي والرازي والفارابي في العروض الجزئية والكلية في مرحلة
ما قبل
العرض النسقي دون معرفة كيفية نشأة العلم وليس فقط نتيجة العلم. هو فكر مذهبي جاهز، غير
تساؤلي ولا علِّي. لا توجد له بداية ولا وسط ولا نهاية، لا سؤال ولا جواب، لا قضية ولا
موضوع،
لا إشكال ولا حل. يضع الحقائق ولا يَبحث عنها. فكر بلا موقف ولا قضية ولا سياق. العرض
هنا
يعني المذهبية وعدم إظهار الوافد بالموروث كخطوة نحو الإبداع. العرض تركيب مُصطَنع في
حين أن
الإبداع تركيب طبيعي، العرض تركيب ثابت في حين أن الإبداع تركيب عضوي متحرِّك. للعرض
حدود
جعلته ينتقل إلى مرحلة أخرى هو الإبداع. في العرض لا توجد مشكلة ولا قضية، ولا يوجد استدلال
ولا برهان، ولا يوجد تفلسُف ولا تأمل، ولا يوجد فكر أو حكمة، مجرد عرض معلومات من الآخرين
مع
حسن العرض. لا يعيش العرض فكرًا ولا يتأزَّم في موقف، ولا يقدم جديدًا إلا الأسلوب والعرض
والبناء وتقديم الوافد بطريق غير مباشر مع استعمال الموروث أحيانًا كأداة للتوضيح ووسيلة
للشرح. لذلك لا يقرأ «الهيئة» إلا مرة واحدة كفلسفة وبعد ذلك يدخل في تاريخ العلم، وفي
هذه
الحالة لا يكون ابن سينا حكيمًا بل مفكرًا موسوعيًّا نظم الحكمة الوافدة كلها وربطها
بالموروث
كأداة للشرح في بيئة ثقافية مغايرة. ويكون «إخوان الصفا» أكثر توفيقًا لأن فكرهم به إشكال
وقضية، ويعتمد أكثر على الموروث وأقل صورية وتجريدًا، وأكثر إنسانية وشعبية.
٧٤ ابن سينا وإخوان الصفا بالرغم من أنهما يُمثِّلان معًا العرض النسقي إلا أن
ابن سينا يقدم العرض المنطقي وإخوان الصفا العرض الشعبي. كلاهما على طرفَي نقيض من حيث
عمليات
التمثُّل، والموقف من الأنا، إثباتها عند الإخوان ونفْيها عند ابن سينا، النقل عند الإخوان
والعقل عند ابن سينا. وإذا كان الإخوان قبل ابن سينا تاريخيًّا فإن ابن سينا يكون رد
فعل
عليهم، انتقالًا من النقل إلى العقل، ومن الجزء إلى الكل، ومن الرسائل المتفرِّقة إلى
«الشفاء» الجامع. وإذا كان السؤال لدى ابن سينا في «الشفاء» وفي «النجاة» وفي «الإشارات
والتنبيهات»؟ يكون الرد: ابن سينا العارض في موسوعاته الثلاث، وابن سينا المؤلِّف المبدع
في
رسائله الصغيرة وفي النفس والنبوة والمعاد، وفي موضوعات الموروث في «تسع رسائل في الحكمة
والطبيعيات». موسوعات ابن سينا تأليف عارض ورسائله تأليف إبداعي.
٧٥
ويظهر الوافد كثيرًا في الهيئة، بطليموس وأبرخس يأتيان في المقدمة على الإطلاق ثم
طيموفارس ثم أرسطولوس ثم إقليدس، أنطستنانس، ماطن، أنطيمن، أرشميدس، طيموريلوس، أنطونيوس،
أبولونيوس.
٧٦ يتحدَّث ابن سينا عن بطليموس أو أبرخس باعتبارهما آخر متميزًا عن الأنا خاصة فيما
يتعلَّق بالعصر والزمان. ويتحدَّث عن بطليموس بضمير الغائب ويشير إليه باعتباره هو ويصف
فعله
باعتباره آخر. والتمايز ليس فقط بين أفراد، ابن سينا وبطليموس بل أيضًا بين حضارات، نحن
وهم.
ومع ذلك فالموضوع هو العنصر المشترك بين الأنا والآخر، بين النحن والهم.
٧٧
لذلك يدرس ابن سينا الموضوع في مواجهة الشعور عند بطليموس ثم يُعيد الموقف نفسه واضعًا
نفسه مكان بطليموس حتى تتحدَّد التجربتان في تجربة مشترَكة. كما يُتابع الأسباب التي
جعلت
بطليموس يقول بهذا القول أو بذلك. فالعلم هو العلم بالأسباب ويُدرك ابن سينا تصحيح بطليموس
لأبرخس مما يُبين معرفة ابن سينا بالموضوع وتاريخه وبما قيل فيه من خطأ وصواب، ورؤية
ابن سينا الخاصة.
٧٨
وابن سينا يُقيم الوافد ولا يصف فقط. يدرس الموضوع نفسه ثم يراجع الوافد. على الموضوع
المدروس مما يُبيح له رؤية المسافة بين الاثنين فيقوم بالنقد والتصحيح بعد المراجعة والتدقيق.
ثم يكمل القول ويعيد إليه اتزانه. فبطليموس يزيف أحيانًا. ويَحكم ابن سينا عليه ويكون
رأيه
الخاص فيه لأن بطليموس لا يتحدث عن نفسه. يدرس ما يدرسه بطليموس، ويعرف ماذا اختار وماذا
ترك
مثل الفارابي مع أرسطو. يبدأ ابن سينا بالشيء ذاته دون قيل وقال. ويذكر حقائق دون وجهات
نظر،
ويُعبر عنها بصيغ احتمالية وهو أسلوب العلم، وأحيانًا تكون البداية بالقول إن كان فيه
شك
واحتمال الصدق والكذب. الموضوع أولًا، والقول ثانيًا. وأحيانًا يكون الربط بينهما خارجيًّا
مفتعلًا بحروف العطف مثل «ثم».
٧٩ يدرس ابن سينا الموضوع ثم يُراجع ما قاله بطليموس فيه بمصطلَحاته. يعرف ابن سينا
المسمَّى وقد تختلف الأسماء بينه وبين بطليموس. ويُعطي استدلالات جديدة، ويراجع البراهين
القديمة، ويسخف بعض الآراء ويقبل البعض الآخر. ويُحدد المكان والزمان، والزمان بالمكان.
يقيس
المسافة بالوقت، ويقيس الوقت بالمسافة. ويحكم على بطليموس بما يعلم وبما لا يعلم، ويتحقَّق
من
علمه يقينًا أم ظنًّا في الهيئة أو الجغرافيا. هناك حدود إذن لكتاب «المجسطي» الذي ألفه
بطليموس، ولم يُحِط علمًا على نحوٍ يقيني ببعض موضوعاته. ثم استدرك بطليموس نفسه وعاد
إلى
الموضوع على نحو يقيني في «الجغرافيا». وابن سينا يدرك مجموع كتابات بطليموس وحدود كل
كتاب.
٨٠
ومع الكتاب المدَّون هناك تجارب الرصد. فالكتاب وحده ليس مصدرًا للعلم بل الواقع
والتجربة. ويراجع ابن سينا المصدرين، المدون على التجربة. التجربة مصدر التحقق. وقد تكون
المراجعة لآلات الرصد عند بطليموس. وحين المراجعة يسهل على ابن سينا ما عسر على الآخرين.
ويُشير ابن سينا إلى باقي الأرصاد فكانت المراصد موجودة في العالم الإسلامي، ويتحدَّث
عن عدة
آلات مثل الشاقول والأسطرلاب مما يدلُّ على أن الفلك علم تجريبي. ويَجمع بين القياس الكمي
والقياس الكيفي، بين التجربة والنظر. وقد كان الفلك مختلطًا بالتنجيم في البداية حتى
تطور
العلم وتحوَّل إلى علم دقيق. ويُسمى التنجيم «علم أحكام النجوم». نقده الكندي والفارابي
وابن
سينا وابن حزم وابن طفيل.
٨١
ومع ذلك يَعرض ابن سينا للغرض العام والقصد الكلي للمجسطى أو لأصول إقليدس دون شرح
أو
تلخيص عبارة عبارة أو فقرة فقرة أو مقالًا مقالًا كما هو الحال في الجوامع عند ابن رشد.
قد
يكون للكتاب أكثر من غرض تتَساوى فيما بينها أو غرض بالقصد الأول وغرض آخر بالقصد الثاني
وكأننا في مرحلة الفارابي في العرض، تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة.
٨٢
وبالرغم من أن ابن سينا يبدأ الفقرة أو الفصل دون عبارة تمهيدية لوضع الشيء أو بيان
المقصود منه، مجرَّد فقرة «أسمنتية» تؤخذ أو ترفض مما يجعل العرض أقرب إلى المذهب منه
إلى
المنهج، إلا أن هناك عبارات أخرى تكشف عن مسار فكر ابن سينا، بداية ووسطًا ونهاية. فابن
سينا
يقدم موضوعه بداية، ثم يستمر في عرضه ثم يبين استنتاجاته، مستدركًا على اللاحق بالسابق.
يوضِّح ابن سينا ويبين أنه يعالج الموضوع ولا ينقل القول أو يكرره. يشعر بالاستطراد وفتح
القوسين ثم يعود إلى الموضوع من جديد. ويقوم بالمراجعة والتصحيح وكأنه دارس مستقل وليس
عارض
بضاعة. ويسأل الأصدقاء العفو من الزلل، ويَعتذر عن الخطأ مما يدلُّ على التواضع بالرغم
من
الطابع النسقي المذهبي الكلي. فلا يستطيع الحكيم أن يكون متخصِّصًا في وعالمًا بكل شيء.
٨٣
كما يصف أفعال الشعور عند بطليموس محلِّلًا إياها وشارحًا أسباب تعجُّبه والحكم عليها
بل
ويزيد ابن سينا من درجة التعجب مثل ذكر، جعل، اختار، استرذل.
٨٤ كما يصف أفعال الإيضاح مثل أوضح، بين، أظهر، كشف. وإذا ما صحح بطليموس شيئًا فإن
ابن سينا يدرك فعل التصحيح؛ لأنه عالم بتاريخ الآراء في الموضوع.
٨٥ كما يصف ابن سينا مسار فكر بطليموس وخطواته، مقدماته ونتائجه، بداياته ونهاياته
وكأنه يفكر معه ويراجعه ويستأنف مسيرته، يتخيَّل العرض ويُصحِّح الخطأ مما يدلُّ على
وجود
مسافة بين الذات والموضوع.
٨٦ وتدل على أفعال البداية شرح، بدأ، ابتدأ، افتتح، وأفعال الوسط مثل فلما فرغ،
انتقل، أخذ، بين، وأفعال النهاية مثل انتهى، استنتج.
٨٧
وما يفعله ابن سينا مع بطليموس في وصف أفعال الشعور يفعله أيضًا مع أبرخس واصفًا
أفعال
الشعور لديه مثل: وجد، حدس، ذكر، عرف، علم، اختار. والهدف هي: الموضوعات المستقلَّة التي
يَصفها ابن سينا وليس قول أبرخس ويصف أفعال شعور أبرخس كأنماط للاعتقاد من شك وظن ويقين.
كما
يصف ابن سينا مسار فكر أبرخس كيف ابتدأ وإلى أيِّ شيء انتهى ويفعل نفس الشيء مع أرشميدس.
٨٨
وأحيانًا يقوم ابن سينا بوصف الشعور المزدوج لبطليموس وأبرخس ما فعله أبرخس وما أدركه
بطليموس. ثم يتحقَّق ابن سينا مما فعل بطليموس في أبرخس، ويَنتهي إلى حكم مثل القاضي
وكما
يفعل ابن رشد بين المتخاصمين؛ الفلاسفة والغزالي، المعتزلة والأشاعرة. ابن سينا هو الذي
يمتلك
الكل، وبطليموس وأبرخس كل منهما يَمتلك جزءًا. ابن سينا مثل الفارابي في «الجمع بين رأيَي
الحكيمين» وهو الحديث المركب: ابن سينا يتحدث عن بطليموس الذي يتحدَّث عن أبرخس كما هو
الحال
في منهج الرواية عند المسلمين مُتجاوزًا الرواية بمعنى النقل إلى الرواية بمعنى التحقق
من صدق
المروي وتدلُّ هذه الرواية على الوعي العلمي الجمعي وعلى انتقال العلم من اليونان إلى
المسلمين، من أبرخس إلى بطليموس إلى ابن سينا. لذلك يتحدَّث ابن سينا في ضمير المتكلم
الجمع
تأكيدًا على جماعة العلماء دون تمييز بين الحضارتَين اليونانية والإسلامية. قد يتَّفق
الاثنان، بطليموس وأبرخس وقد يختلفان. وقد يتَّفق ابن سينا معهما وقد يَختلف. وقد يختلف
الاثنان ويتَّفق ابن سينا مع أحدهما ضد الآخر. ومن ثم تكون الاحتمالات كالآتي:
٨٩
- (١)
في حالة اتفاق بطليموس مع أبرخس يكون أمام ابن سينا:
- (أ)
الاتفاق مع كليهما.
- (ب)
الاختلاف مع كليهما.
- (٢)
في حالة اختلاف بطليموس مع أبرخس يكون أمام ابن سينا:
وتذكر المؤلفات السابقة؛ فالتأليف الجديد استئناف للتأليف القديم فيذكر المجسطي لبطليموس،
وكتاب اللواحق وكتاب الأصول لإقليدس.
٩٠ التأليف وحدة واحدة، داخل الحضارة اليونانية، تراكم علمي واحد. فإذا ما عرض
ابن سينا للهيئة فإنه يذكر مؤلَّفاتها التكوينية كعلم مدون.
٩١
ويذكر ابن سينا الأوائل والمتقدِّمين الرياضيين كلًّا منهما مرة واحدة مما يَكشف
عن الوعي
العلمي التاريخي، فلا جديد دون قديم، ولا علم دون تعلم. ويُضيف على رصد المتقدمين رصد
أبرخس
ورصد المتأخِّرين ورصده هو. فالتراكم العلمي جزء من العلم. لذلك يتكلَّم ابن سينا بضمير
المتكلم الجمع دلالة على جماعة العلماء.
٩٢
ولم يُغير ابن سينا كثيرًا من أسماء الأماكن اليونانية كما فعل ابن رشد بعد ذلك سقط
الأمثلة اليونانية وواضعًا مكانها أمثلة عربية. يدركها ابن سينا كما هي ولا يَشرحها مثل
بلاد
بريطانيا الكبرى، وأحيانًا يكرر ابن سينا أسماء الجزر التي يذكرها بطليموس مثل جزيرة
رودس دون
أن يُغيرها إلى أسماء عربية لإعادة قياس الرصد ودون أن يراجع إمالتها أو يشرحها للقارئ
العربي
أو يرسم لها خريطة. ولا يُعدل ابن سينا أسماء الأماكن والمناطق والقياسات بحسب المنطقة
العربية. ويؤرِّخ بالتاريخ اليوناني دون تغييره كما فعل بطليموس.
٩٣
(٤) الوافد في الإلهيات
وفي الإلهيات لا يحضر الوافد حضوره في المنطق أو الرياضي. فالإلهيات هي خاصة الحضارة
الإسلامية. وفي نفس الوقت لا يحضر الموروث. ولا تذكر الشواهد القرآن أو الحديث. ولا تُؤخذ
المادة من العلوم الإسلامية. بل تعتمد الإلهيات على العقل الخالص إلا فيما ندر.
ففي الجزء الأول من الإلهيات لا تظهر أسماء أعلام الوافد إلا نادرًا. فلا تذكر إلا
الأفلاطونية، وسقراط، وأنسكاجوراس، وإقليدس.
٩٤ فالمثل الأفلاطونية لها وجود في الأذهان وفي الأعيان في حين أن التصورات، الأجناس
والأنواع أي الكليات الخمس لها وجود في الأذهان فقط دون الأعيان. ويذكر سقراط كموضوع
في قضية
«سقراط فيلسوف» لتعريف موضوع حادث كاسم مجرد وليس كمُسمى. وذكر أوقليدس بالنسبة إلى كتابه
«كتاب أوقليدس» وليس إلى شخصه كنموذج للبراهين الهندسية. وكل الحادثات لها مبدأ عام بين
بنفسه
مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. فأمور العلم قد تجد براهينها
في
علم آخر. ويذكر أنسكاجوراس ونظريته في الخليط لتفسير القديم أسوة بباقي النظريات التي
تجعله
الظلمة أو الهاوية أو اللامتناهي الذي لم يزل ساكنًا ثم حرك، ولا يتكرَّر اسم علم مرتين،
بل
مرة واحدة، مجرَّد إشارة، مجرد ارتباط بالتاريخ حتى لا تبدو الإلهيات بلا تاريخ معلقة
في الهواء.
٩٥
وفي الجزء الثاني من الإلهيات يأتي أفلاطون أولًا ثم سقراط.
٩٦ يذكر أفلاطون وسقراط في نظرية المثل ورفضها في المقالة السابعة في الفصل الثاني.
وصلة أفلاطون بسقراط صلة الشيخ بالمريد صلة إسلامية. كلاهما يقول بالمثل. فالإنسانية
معنًى
واحد يشترك فيه الأشخاص ولا يزول بزوالها. وليس هو المعنى المحسوس المتكثِّر الفاسد بل
المعنى
المعقول المفارق. هذه المعقولات إن كانت أجزاء ذات تكثرت كأعراض وإن كانت لواحق ذات فلا
تكون
واجب الوجود. وإن كانت أمورًا مفارقة أصبحت صورًا أفلاطونية. فلم يبقَ إلا أنها في العقل
وليست في الخارج، وكأننا مع حجج الفقهاء ضد التصورات في عالم الأعيان.
٩٧
وفي الجزء الثاني من الإلهيات، في المقالات الخمس
الأخيرة يظهر الوافد اليوناني بطريقة أوضح مع الموروث. فيذكر المعلم الأول، والتعليم
الأول،
ثم الفيثاغورية والفيثاغوريون ثم أفلاطون والصور الأفلاطونية وبطليموس وفاضل المتقدِّمين
والمجسطي.
٩٨ فبينما لم يظهر المعلم الأول أو التعليم الأول في الجزء الأول من الإلهيات على
الإطلاق فإن المعلم الأول يظهر في الجزء الثاني مع التعلم الأول دون أرسطو ومثل أفلاطون
وسقراط وبطليموس وأوقليدس. فأرسطو هو الوحيد الذي تحوَّل من الشخص إلى الرمز، ومن الفرد
إلى
المعيار، ومن العالم إلى العلم، ويُدافع ابن سينا عن الشكوك التي تُقال على المعلم الأول
ضد
تشويهات المشائين وشكوكهم يونان ومسلمين وكما سيفعل ابن رشد فيما بعد. فمن الشكوك أن
المعلم
الأول لم يستوفِ القسمة في كون الشيء من شيء آخر وترك من الأقسام ما كان استكمالًا مع
أن كلام
المعلم الأول ليس في الذي يكون لا محالة يتحرَّك بالفعل بل في الذي لو لم يكن عائق لطبيعته.
فابن سينا يُصحح مكان معنى كلام المعلم الأول، ويضبط قصده كما هو الحال في تحقيق المناط
عند
الأصوليين. كما يرد على الاعتراضات الموجهة إلى المعلم الأول وهو ألا يكون هناك معنى
غير
البعدية، وأنه يتكلم في مبادئ الجوهر مطلقًا، وأعرض عن العنصر الذي هو في قوام الجوهر.
ويرفع
ابن سينا التناقض بين حركة الفلك بالطبع أو بالنفس أو بالعشق؛ فجوهر الخير المعشوق واحد
حتى
ولو كان لكل كرة معشوقها ومحرك قريب يخصها على ما يرى المعلم الأول والمشاءون من بعده.
فإن
محرَّك الكل واحد. وإن حسن فهم عبارات المعلم الأول وتلخيصها حتى دون الغوص فيها ينتهي
إلى ما
انتهى إليه ابن سينا. وهو ما انتهى إليه أيضًا بعض الشراح مثل فاضل المتقدمين الإسكندر
هذه
المرة (وليس جالينوس) من أن محرك السماء واحد وليس كثيرًا. كما عبر عن ذلك في رسالته
التي في
مبادئ الكل. وهو أقرب تلاميذ المعلم من سواء السبيل بالرغم من أن على مذهب المعلم الأول
يوجد
قريبًا من خمسين من المفارقات آخرها العقل الفعال. بل إن فاضل المتقدِّمين افترض مبدأ
العناية
بالأمور الفاسدة تحت فلك القمر بالإضافة إلى أن حركات السماوات لا تكون إلا لذواتها لا
لمعلولاتها ثم الجمع بينهما عن طريق التشبه بالخير المحض والحركة بالعشق. ثم يتحوَّل
ابن سينا
من المعلم الأول إلى التعليم الأول تحولًا من الشخص إلى الموضوع، ومن العالم إلى العلم.
فالعلم لا صاحب له ومحيلًا إلى باقي أعماله من أجل توضيح الشكوك التي أثارها الشراح حوله.
٩٩
ويُذكر الفيثاغوريون والفيثاغورية كفرقة وليس كشخص أي كتيار ومذهب وليس كفرد نظرًا
لقيام
العرض ببناء الموضوع المستقل عن الشخص، وما الشخص إلا رمزٌ لأحد جوانبه، وكما يرفض ابن
سينا
نظرية المثل فإنه يرفض أيضًا النظرية الفيثاغورية وهي شبيهة بها ولكن على نحو رياضي؛
فالعدد
يتألف من وحدة وجوهر. والوحدة لا تقوم وحدها والمحل جوهر. فيلزم التركيب والكثرة. وقد
جعل
الفيثاغوريون الوحدات غير المتجزئة مبادئ للمقادير وأن المقادير تتجزَّأ إلى ما لا نهاية.
وهو
نوع من القول بنظرية المثل الرياضية. ولكن أكثرهم يرون أن العدد التعليمي هو المبدأ ولكنه
غير
مفارق؛ ومن ثم ينزل درجة عن نظرية المثل. ومنهم من يجوز تركيب الصور الهندسية من الآحاد
فيمتنع تصنيف المقادير إلى أن المثل إنما هي تجريد للمحسوسات على نحو استقرائي، تجريد
الكليات
من الجزئيات. ومنهم من لا يرى غضاضة في جعل التعليميات مركبة من أعداد تنقسم إلى مالا
نهاية.
ومنهم من يُميز بين الصور العددية والصور الهندسية. وكلهم ضالون غالطون. ويعدد ابن سينا
أسباب
الخطأ والضلال في خمسة أسباب. وقد أفاض ابن سينا في نقد نظرية المثل ليس تعييةً للمعلم
الأول
بل لخطورتها على التوحيد. كما رفضها الفقهاء خاصة ابن تيمية لافتراضها وجود صور مفارقة
متعددة
ليس فقط في الأذهان بل أيضًا في الأعيان. وقد وقع بطليموس أيضًا في نظرية المثل على نحو
فلكي
في علم الهيئة؛ فقد كان العلم قبله يتصور أول المفارقات كرة الثوابت، وعند بطليموس كرة
خارجة
عنها محيطة بها غير مكوكية. والإشارة إلى «المجسطي» أيضًا في نفس الموضوع ولكن على نحو
طبيعي.
ففي «المجسطي» توجد حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة والسرعة والبطء. والإشارة
إلى
الكتاب وليس إلى الكاتب، إلى التأليف وليس إلى المؤلف تحوُّلًا من الشخص إلى الموضوع.
١٠٠ وما زالت المصطلحات عند ابن سينا لم تستقر بعد كما هو الحال عند الكندي؛ إذ
يستعمل الأيس والليس بمعنى الوجود واللاوجود أو الوجود والعدم اسمًا الأيس، وفعلًا أيس،
ومصدرًا تأييسًا. وما زال لفظ الأسطقسات معربًا ولم يتمَّ نقله إلى لفظ عربي.
١٠١
وواضح أن كل الفلاسفة اليونان المذكورين موضوعون موضع النقد مثل أفلاطون وسقراط لقولهم
بنظرية المثل، والفيثاغوريين لقولهم بنظرية الأعداد المفارقة وبطليموس لقوله بالكرات
الثوابت
خارج العالم فأين التبعية؟ بل إن ابن سينا يتمايز عنهم ويُسمي فلسفتهم الحكمة المشائية
وهم
علماء المشَّائين أو الشراح. يتَّضح الجانب النقدي عند ابن سينا في الداخل والخارج مثل
نقده
أحداث المتفلسفة الإسلاميِّين الذين شوشوا الفلسفة بعدم فهمهم غرض الأقدمين، ووقعوا في
تشبيه
الأجسام بعضها ببعض، الأقل كمالًا مع الأكثر كمالًا. ويَرفض الثنائية اليونانية التي
نشأت عبر
التاريخ من أجل ردِّ الاعتبار إلى عالم الحسِّ والواقع كما فعل الفقهاء خاصة ابن تيمية.
١٠٢ وللتخفيف من طابع التجريد يُخاطب ابن سينا القارئ المفكر ويلجأ إلى عاطفة التوحيد
لديه لنصرته ضد نظرية المثل الفلسفية عند سقراط وأفلاطون أو الرياضية عند
الفيثاغوريين.
وفي الجزء الثاني من الإلهيات يذكر الحكماء الأقدمون واليونانيون والأقدمون والقدماء
وعلماء المشائية وقوم من أحداث المتفلسفة الإسلامية لنقدهم ومراجعتهم وليس لتبعيتهم.
١٠٣ فمذهب الحكماء الأقدمين في المثُل ومبادئ التعليميات. والسبب الداعي إلى ذلك
مرفوض. ويُوضِّح ابن سينا الأسباب التي أدَّت إلى هذا الجهل. ويُحلِّل نظرية المثل تاريخيًّا.
فإن كل صناعة تنشأ نشأة فجة ثم تنضج شيئًا فشيئًا حتى تكتمل. لذلك كانت الفلسفة في البداية
خطايبة ثم أصبحت جدلية ثم اكتملت في البرهانية وهي أنواع الأقاويل الثلاثة عند ابن رشد.
وهي
ليست أنواعًا في الخطاب فحسب بل هي مراحل تاريخية من البداية إلى الوسط إلى النهاية،
من
الطفولة إلى الصبا إلى الرجولة كما هو الحال عند الفارابي في تطور العلوم الفلسفية إلى
البرهان ذروة المنطق، ما قبله ممهِّد له، وما بعده انهيار منه.
١٠٤ كما نشأت الطبيعيات عند الجمهور قبل التعليميات والإلهيات انتقالًا من المحسوس
إلى المعقول. وظن الناس أن القسمة توجب شيئين؛ حسيًّا وعقليًّا، ماديًّا ومفارقًا، زائلًا
وأزليًّا. وجعلوا لكل موجود حسي وزائل صورة مفارقة عقلية أبدية. وجعلوا العلوم والبراهين
تتَّجه نحو المعقولات الأزلية. هنا يشرح ابن سينا على نحو تاريخي نفسي نشأة نظرية المال
عن
طريق التوهُّم والعادة، وقد يقع البعض في التيار العكسي. فيتشوق الأجسام المادية وليس
المعقولات المفارقة نظرًا لتشبه الأجسام الأقل كمالًا بالأجسام الأكثر كمالًا كما فعل
أحداث
المتفلسفة الإسلاميين في تشويش الفلسفة عندما لم يفهموا غرض الأقدمين. فمن هم هؤلاء؟
هل
الفارابي أم الصوفية، وكلاهما مكونان للفلسفة الإشراقية عند ابن سينا؟
١٠٥
ويتعامل ابن سينا مع مذاهب عامة وكأنها بنيات عقلية وليست تيارات تاريخية. ويشير
إليها
بأصحاب الحقيقة، المذهب، المذهب الحق، الفرقة، القدماء، الفيلسوف المتقدم، الفلاسفة أو
مجرد
قوم دون تحقيق المناط لمعرفة من هم هؤلاء الأقوام والفرق وأصحاب المذاهب والقدماء والفلاسفة
على وجه التحديد، فأصحاب الحقيقة لا يشتغلون بأمثال هذه الأشياء أي الإلهيات البرهانية.
ربما
هم الصوفية الذين يدركونها عن طريق الذوق. أما مذهب الجزء الذي لا يتجزأ فهو مذهب المتكلمين.
أما القوم والقوم الآخرون، الفرقة الأولى والفرقة الثانية فيمثلون آراء واتجاهات في المعرفة.
فالإضافة عند قوم تحدث في النفس إذا عقلت الأشياء. وعند قوم آخرين تحدث الإضافة في الأعيان.
ولكل فريق حجج وحجج مضادة ضد الفريق الآخر. أما الفلاسفة فقد يعني بهم مجموع الحكماء
دون
أحدهم على التفصيل كنوع أدبي أو تيار فلسفي، والمذهب الحق هو مذهب ابن سينا الذي يرث
الوافد
كله والموروث أيضًا، والذي على أساسه يثبت الدائرة، ويستعمل ابن سينا أيضًا ألفاظ الحكماء
الأقدمين، القدماء، عامة القدماء، الفيلسوف المتقدم. يظهر تعبير «الحكماء الأقدمين» مرة
واحدة
في عنوان المقالة السابقة من الفصل الثاني، وتعبير القدماء مرة واحدة أيضًا. ويعرفهم
ابن سينا
بأفكارهم، التقابل بين العدم والملكة، وهو التضاد الأول، ووضع الصورة تحت الملكة. أما
عامة
القدماء فهم جمهور القدماء الذين يقولون بتقدم القوة على الفعل لا في الزمان وحده. البعض
جعل
وجود الهيولي قبل الصورة ثم ألبسها الفاعل الصورة بعد ذلك إما ابتداءً من نفسه أو لداع
ظنه
بعض الشارحين وهو لا يعنيه ولا يقوى على الخوض فيه. ويتحدَّث ابن سينا عن «الشارعون».
هل هم
المتكلمون أصحاب الشريعة والفقهاء وباعثهم الديني الذي يخرج عن إطار الإلهيات العقلية
أم هم
المشرعون اليونان؟ أما الفيلسوف المتقدم فيبدو أنه رياضي يجعل السنة مكونة من ثلاثة وثلاثة
أو
ستة مرة واحدة.
١٠٦
(٦) آليات العرض النَّسقي المنطقي
وهي نفس الآليات التي أمكن رصدها في تحليل الخطاب في الشرح والتلخيص والجوامع وتحليل
أفعال القول التي تؤدِّي إلى التوضيح وبيان مسار الفكر والقصد والأسباب ووسائل التحقُّق
من
صدق الفكر.
وتتعدَّد أفعال البيان والإيضاح والشرح وما يتطلَّبه من تركيز أو إسهاب، حذف أو إضافة.
والإيضاح والبيان في مقابل الغموض والإيهام. ويتكرَّر الإيضاح والبيان عدة مرات في الماضي
والحاضر والمستقبل.
١٨١
والعقل أداة الإيضاح، ما يوافق عليه وما يخالفه، ما يقابله وما يستنكره، وهو العقل
البديهي الذي لا يَحتاج إلى بيان. فمن الواضح أن واجب الوجود لا علة له. لذلك يردُّ ابن
سينا
الإلهيات إلى المنطق أي إلى طرق البرهان. فلا سفسطة ولا جدل كما هو الحال في علم الكلام.
ولا
خطابة ولا شعر كما هو الحال في التصوُّف، بل البرهان كما هو الحال في الفلسفة الأولى
وفي أصول
الفقه، وفي وسط «الإلهيات» يوجد فصل كامل عن المنطق، الفصل الثامن، المقالة الأولى «في
بيان
الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل في المقدمات الحقة.» وهو آخر الفصول عن منطق اللغة،
وتحليل الخطاب.
١٨٢ ويؤكِّد العقل على وجود الكليات في عالم الأذهان لا في عالم الأعيان، وأن افتراض
التطابق بينهما هو من عمل الوهم والخيال أو عن طريق التجريد للأشخاص. والعقل هو النفس
كما هو
الحال في الرياضيات، وكذلك كل المقولات الفلسفية كالصورة والعلة. لذلك تلجأ الرياضيات
إلى
الرسم التوضيح عالم الأذهان في عالم الأعيان. التأخُّر والتقدم، القدم والحدوث، الأول
والآخر
كلها في الأذهان. ويجوز أن يكون الشيء موجودًا في الذهن معدومًا في الأعيان مثل الخبر
عن شيء
موجود في الذهن، لذلك كان الصدق في النفس والحق في الخارج، وهو الحق مطلقًا، الحق بذاته
دائمًا واجب الوجود، وبالتالي يُشبه موقف الفلاسفة موقف الفقهاء في رفض تطابق العالمين،
ويكون
نقد الفقهاء للفلاسفة بأنهم يقولون بوجود الكليات في الخارج، وبالتالي القول بتعدد الصور
غير صحيح.
١٨٣
والهدف من الإيضاح والبيان إقامة النسق المنطقي على أكبر قدر من الاتساق والبرهان
الداخلي
بحيث يَمتنع فيه المحال والتناقض كما يتَّضح ذلك في عبارات مثل: وهذا مُحال، وهذا خلف،
وهذا
مستحيل، وهذا كاذب. فالمحال بيان فساده وكذبه. وقد يضع ابن سينا حجة افتراضية للعمل عليها
ثم
بيان فسادها. ويضع البنية العقلية التي يقوم عليها العرض حتى يبدو أكثر اتساقًا وأوسع
شمولًا.
١٨٤ ويَستعمل أسلوب المسلمين في استباق الاعتراض والرد عليه مسبقًا كما هو الحال في
علم الأصول في صيغة «فإن قال قائل … نقول» من أجل إكمال البِنية العقلية وتحليل التجربة
المشتركة بين المؤلِّف والقارئ قبل أن تقع. وقد يُصبح الاعتراض سخفًا وجدلًا ولجاجة لا
ينفي
التساؤل والمعرفة بل الإحراج والعناد.
١٨٥
والفهم اقتضاء يعبر عنه بألفاظ «يجب»، «ينبغي». فالحق ضرورة. والصواب يفرض نفسه في
يقين
داخلي ونسق فكري، وكأن اليقين حتمية قبلية من طبيعة الذهن ومسار الفكر قبل أن يكون بآلياته
وأشكال القضايا وترتيب المقدِّمات واستخلاص النتائج. مسار الفكر اقتضاء ذهني وطبيعي،
وتحليل
معاني الألفاظ لمعرفة معانيها وحذْف ما لا يدخل في الغرض اقتضاء منهجي.
١٨٦ لذلك يتمُّ استعمال فعل الأمر للمؤلِّف والقارئ على السواء بأفعال «اعلم»،
«اعرف»، «انظر» وكان المعرفة إلزام خلقي في تجربة مشتركة، عودًا على بدأ، ومسكًا بالخيط
من
أوله، العود إلى الرأس. وقد يكون الشخص الثالث الغائب في صيغة النَّدب وليس الأمر.
١٨٧
ولا يَعني هذا الاقتضاء الاعتماد على المعيار الداخلي وحده بل هو اقتضاء خارجي أيضًا
يقوم
على التعليل والبحث عن الأسباب. فإن كان الفكر منطقيًّا يقوم على استدلال صوري إلا أنه
أيضًا
يقوم على تحليل الأسباب جامعًا بين المنطقين الصوري والمادي، الرياضي والعلمي، العقلي
والتجريبي. والأسباب هي التي تُفسِّر أقوال الآخر وأقوال الأنا. فلا قول بلا علَّة كما
هو
الحال في علم أصول الفقه، لا حكم إلا بعلة بالرغم مما قد يُؤدِّي تحليل العلل إلى التطويل.
والعلَّة الغائية أقوى أنواع العلل وأولاها. فالغاية هي التي تُحدِّد مسار الفكر وتكشف
أصده.
هي النتيجة النهائية، المطلوب إثباته؛ ومن ثم كان أفضل فهم للقول يتم عن طريق معرفة العلة
الغائية.
١٨٨
ويصف ابن سينا مسار فكره، ما تمَّ في الماضي وما يتمُّ في الحاضر وما سيتم في المستقبل
في
مسار واحد متصل، له بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه في استدلال واحد مُستمِر يخلو
من
التناقض والقفزات. يعود على بدْء، ويذكر بما فات، ويعلن عما هو آت وبيان ما يحدث الآن.
ويتم
الربط أحيانًا بين الفقرات عن طريق استعمال هذه الأزمنة الثلاثة. وغالبًا ما يكون المسار
في
فعل من أفعال الإيضاح والإظهار والكشف، وأحيانًا يتم الإيحاء بشيء دون تفسير ثم يعاد
إلى
تفسيره وتفصيله. وذلك أظهر في «الشفاء» منه في «النجاة» أو «الإشارات والتنبيهات» نظرًا
للطابع المغلق للشفاء الذي يحتاج باستمرار إلى تذكير وتنبيه وبيان لمسار الفكر، وتقلُّ
هذه
الألفاظ الرابطة في الموضوعات المحلية، في تنظير الموروث، وتزيد في الوافد، تنبيها للقارئ
على
منطق الغريب. فتغيب مثلًا في المقالة العاشرة في «الإشارات والتنبيهات»، وتقلُّ في «النجاة»،
وتكثر في «الشفاء». تقلُّ في الاختصار، وتكثر في التطويل.
١٨٩ والغالب هو الفعل الماضي للتذكير بما سلف.
١٩٠ والمُضارع يبين الخطوة الحالية للقارئ.
١٩١ والغاية هو الحصر والاستقصاء الذي يسميه ابن سينا على سبيل الاقتصاص.
١٩٢ ويستعمل لفظ الهداية لإرشاد القارئ وتنبيهه على مسار الفكر. وأحيانًا يكون
الإعلان عن الشيء نفسه باسم الإشارة من أجل رؤيته بعد توضيحه.
١٩٣
والعود على ما بدأ يمنع من الاستطراد وفتح القوسين توضيحًا للمسار الكلي وتحقيقًا
للغرض،
حرصًا على الإيجاز ومنعًا من التطويل. العودة إلى الرأس أي العودة إلى الأصل والموضوع
بالرغم
من طول النطق والإسهاب خاصة في أشكال القياس، ولا يذكر ابن سينا كل الأمثلة في القياس
بل
يختار بعضها، وإيراد الجزئيات يطيل الكلام. ومن لا يصدق الكل لا يصدق الأجزاء خاصة لو
كان
الموضوع عن رؤية ومشاهدة ورواية عن الصادق، لا فرق في ذلك بين أرسطو والنَّبي والإمام.
وفي
نفس الوقت قد يحتاج ابن سينا إلى الشرح والزيادة للإيضاح. فالغاية النهائية قد القول
على
المعنى أو بتعبير البلغاء العرب، التعبير عن مقتضى الحال.
١٩٤
وعندما تظهر لحظات الفكر الثلاث يتَّضح مسار الفكر، مقدماته ونتائجه وطرق استدلاله.
فهو
ليس شرحًا للقول أو تلخيصًا له. وليس ترجمة له وتعليقًا عليه. بل هو تفكير في معاني القول
وإعادة النظر فيها وصبها من جديد في مسار فكري مستقل متَّسق الخطوات، كل خطوة لاحقة قائمة
على
الخطوة السابقة، قيام الفرع على الأصل، وهو انتقال طبيعي وذهني ومنطقي.
١٩٥ مثلًا فإن إثبات المبدأ الأول لا يتمُّ إلا عن طريق الاستدلال من المحسوسات كما
هو الحال في علم الكلام بل ومن الكليات كما هو الحال في الفلسفة، الأول طريق بعدي، والثاني
طريق قبلي.
١٩٦
ويُحيل الفكر إلى نفسه بالرغم من تقسيماته وتفصيلاته وخطواته. كل فن يُحيل إلى الفن
السابق أو اللاحق، وكل بداية تعقبها نهاية ثم تحيل إلى بداية أخرى، فالمسار الواحد يتعدَّد
إلى عدة مسارات على نحو لولبي تصاعدي حتى يتحقَّق المسار الكُلي وتظهر بنية النسق مما
يُخفِّف
من الطابع الصوري التركيبي للشفاء خاصة، هرم بلا قاعدة، وبناء بلا أساس. عالم مغلَق بلا
أبواب
أو نوافذ لا يكاد يخرج منه أو يدخل إليه أحد. يقدم ابن سينا ويؤخر الموضوعات طبقًا للنسق
والعادة؛ فبيان الحق وتبديد الشكوك والظنون والأوهام موزع في عدة فنون، والأقوال المشهورة
والأقوال العِلمية كل في مكانها. القياس له مكانه، والبرهان له مكان آخر. وكل كتاب من
كتب
المنطق له موضعه وغايته حيث تصبُّ كلها في البرهان.
١٩٧ ويُحال إلى باقي العلوم البيان ارتباط جوانب النسق الثلاثة، المنطق والطبيعيات
والإلهيات؛ لأنه يعبر عن بنية العقل، المنطق للذات، والطبيعة للموضوع، وما بعد الطبيعة
لعلاقة
الذات بالموضوع، الذات عندما تقترب، والموضوع عندما يتم تجاوزه.
١٩٨ وأكثر الإحالات إلى المنطق، وهو المرادف للمعلم الأول، مثالي النزعة. لذلك اتفق
مع الإلهيات. ويتَّضح ذلك خاصة في «النجاة» إذ يشار إلى المنطق باستمرار في الإلهيات
في حين
أنه لا يشار إلى الطبيعيات إلا نادرًا.
١٩٩ وتُحيل الإلهيات إلى طبيعيات، فالإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى كما تحيل
الطبيعيات إلى إلهيات؛ فالطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل. وكلاهما تصور مثالي للعالم
ينفي
الاتفاق والعبث ويثبت الغائية والقصد. كما يحال إلى التعليميات ولو على نحو أقل؛ لأنها
نموذج
المفارقات في الإلهيات. ويحال إلى النفس وقواها عندما يتم عرض العقل في الإلهيات في نظرية
الاتصال وتفصيل قوى النفس حتى القوى الناطقة.
٢٠٠ كما يُحيل ابن سينا إلى باقي كتبه ويحدِّد مسارها مما يدل على وحدة التأليف الفلسفي.
٢٠١ وقد تكون الإحالة إلى بعض الكتب الخاصة في المنطق مثل البرهان وأنالوطيقا أو إلى
مجرَّد علم آخر دون تحديد نظرًا لوحدة العلوم أو إلى مواضع أخرى في بعض الكتب. فالكل
في الذهن
قبل عرض الأجزاء، يُعطيها وحدته، وتعود إليه. الجزء يحيل إلى الجزء وكلاهما يحيل إلى
الكل.
٢٠٢
وبالرغم من أن ابن سينا يبدأ بمحاذاة التعليم الأول إلا أن إبداعات الجزئية المتناثرة
والمطمورة تحت النسق تمكِّن من رؤية الكُلي الذي يتجلَّى في التحقق من صدق النسق وتبديد
الشكوك حوله حتى يزداد عقلانية واتساقا. ويحاول تبديد هذه الشكوك في الإلهيات اعتمادًا
على
بيان المبادئ نفسها.
٢٠٣ وفي الفلسفة هناك معيار للصدق. هناك حق وباطل، صواب وخطأ، صدق وكذب ليس فقط من
ناحية شكل الفكر والمنطق الصوري ولكن أيضًا من حيث المضمون مثل القول بالغائية في مقابل
البخت
والاتفاق. ويتم الجدل مع الخصوم كما هو الحال في علم الكلام مثل إثبات الغائية والرد
على
منكريها كما تفعل المعتزلة ضد الأشاعرة ورفض المصادفة والاتفاق والعبث. فالغائية لا تَنفي
الحرية. هناك فرق بين الغائية والضرورة. لذلك كان للعلة الغائية الأولوية على باقي العِلَل.
يبدأ ابن سينا من التيارات الموجودة في عصره عند الحكماء أو المتكلِّمين أكثر مما يبدأ
من
اليونان بعد أن تحول الوافد إلى موروث فرعي بالإضافة إلى الموروث الأصيل. ويستعمل ابن
سينا كل
وسائل الجدل، التسليم افتراضًا بحجج الخصوم من أجل تفنيدها بعد ذلك. ويُحلِّل موقف السوفسطائي
الذي يقوم على الإنكار باللسان وهو العناد أو تعرض له شبهة أو تختلط فتسد عليه طرفي النقيض.
ومن ثم يتعامل مع الفيلسوف بأسلوب الجدل والحوار، قياسًا على قياس. ويضطر السوفسطائي
أحيانًا
إما إلى الإعراض والسكوت أو إلى التسليم. أما المتحيِّز فيتم التعامل معه بحل شبهته.
ومن ثم
يكون الفيلسوف هو صاحب البرهان.
٢٠٤
ويكشف المسار الفكري عن القدرة على المراجعة والتحقُّق من صدق ما يقال. فهو فكر يراجع
ويتحقَّق في إطار نظرية عامة من الصدق. ولا يعرض ابن سينا أي قول دون مراجعة وتحقيق وتصديق.
وفي إطار عملية التحقق يتم التخلُّص من الشبهات واكتشاف الغلط والفساد. ويطلق ابن سينا
على
هؤلاء المغفَّلين المتعصِّبين الذين لا يعجبه أقوالهم المليئة بالظنون والشفاعات والأخطاء
والتخليط وتأويلات غير مناسبة وضعيفة. والحق والإنصاف ما ينتهي إليه ابن سينا. وهو لا
يراجع
إلا ما يستحق المراجعة. أما الذي لا يستحقُّ ذلك فإنه يتركه. وهي في الغالب أقوال المتكلمين
التي هذَوا بها دون أن يُخصِّص لها، كما فعل الكندي وابن رشد، في البداية والنهاية، أعمالًا
خاصة لنقدها وتجاوزها.
٢٠٥ ويعرض حجج كل فريق ثم يقارن بين الموقعين مؤيدًا أحدهما على الآخر أو يتجاوز
إياهما لموقف ثالث متكامل ضامًّا الطرفين في مركب جدلي جديد. ويُبين مسار الفكر خطين
يميل
ابن سينا إلى أحدهما، ينصر رأيًا على رأي، ويرجح موقفًا على آخر دون تحديد لهويتهم وأسمائهم
حرصًا على الطابع النظري اللامشخص. فابن سينا يتعامل مع أفكار لا مع أشخاص، ومع آراء
لا مع
أفراد، ومع تأليف لا مع مؤلفين.
٢٠٦ ولا تعني المراجَعة والتحقق بالضرورة النقد بل قد تعني أيضًا الموافقة وألا كان
تعصبًا ورفضًا مبدئيًّا مذهبيًّا خاصة وأن ابن سينا صاحب نسق.
ويُحلِّل ابن سينا نشأة الخطأ عن التعصب والغفلة، وأحيانًا يرجع الأقوال الخاطئة
إلى
الإهمال، ويحذر من الألفاظ المغلطة المشتركة ويبين أهمية الاصطلاح، ويحلِّل الألفاظ كما
هو
الحال عند الأصوليِّين. وقد يرجع الخطأ إلى سوء التأويل. وأحيانًا يكتفي بأنه لا يعجبه
ما
يقال مستعملًا الاستحسان المباشر كما هو الحال عند الأصوليِّين. ويصرح أحيانًا بأنه لا
يفهم
ما يقال حق الفهم. ولعل غيره أقدر منه على الفهم تواضعًا أو تهكمًا.
٢٠٧ ويُراجع الإلهيات ويكتشف بطلان نظر الخصوم في موضوع هذا العلم، وتتمُّ مراجعة
الإلهيات بالعودة إلى الطبيعيات؛ فالإلهيات طبيعيات مقلوبة تقوم على قياس الغائب على
الشاهد.
كما يُبيِّن خطأ الخصوم وغلطهم وفساد أقوالهم وكذب ادِّعاءاتهم وفساد دعاويهم واستحالة
مواقفهم. بل يبحث عن أصول أسباب الغلط رادًّا الأغلاط إلى أسبابها الأولى، والغلط مثل
الخطأ
والكذب والفساد والاستحالة. ويعتمد على البر والتقسيم لتعديد الأقسام والتحقق من صحة
كل قسم،
صدقه أو كذبه حتى يَنتهي إلى صدق أحدها.
٢٠٨ كما يَنتهي ابن سينا إلى رفض المخالف للحق والمضاد والمناقِض له مثل نظرية الصور
أي المثل وهو مذهب الحكماء الأقدمين. ويستعمل لفظ «اقتصاص» أي تمحيص ومراجعة وفحص وبيان.
كما
يبحث عن السبب في القول بالمفارقات وعن أصل الجهل الذي كان سبب الضلال. فالفلسفة مقاومة
الخطأ
والكشف عن الضلال. وهو تمحيص من ابن سينا بالرغم من قيام أرسطو قبل ذلك في الفلسفة اليونانية.
ومهما حاول البعض التخلُّص من الأوهام فإنه يَعجز عن ذلك ويقوم ابن سينا بالمهمة بدلًا
عنه.
٢٠٩
ويستعمل ابن سينا مقولتي الظن والحق في النقد. فأقوال الشراح المناطقة ظنٌّ لا يَرتقي
إلى
مرتبة الحق الذي يبحث عنه. وهما مقولتان قرآنيتان على التقابُل. مهمَّته تبديد الظنون
كما بدد
الشكوك، والوصول إلى الحق كما وصل من قبل إلى اليقين. وقد يكون الحق من جانب الجمهور،
ويكون
سبب الخطأ هو تشبه البعض منهم بالفلاسفة عن جهل وعدم دراية بالعلل والأسباب تقليدًا منهم.
فأحد أسباب الخطأ الجهل بالأسباب، والانتساب إلى العلم من ليسوا أهلًا له وضعفاء التمييز
ومن
يستخفُّون بالأمور.
٢١٠ ويلجأ ابن سينا إلى حسنِ العدل والإنصاف عند الناس. ويَستدعي التجربة المشتركة
بينه وبينهم في جبهة واحدة ضد أخطاء الشراح والمفسِّرين. ويُعطي وصايا وتحذيرات مما يدلُّ
على
أنه يعرف الحق وينبه على الخطأ حتى في العناوين الجزئية للقياس بالرغم من الأشكال والمعادلات
النظرية المجرَّدة الغالبة عليه.
٢١١
(٧) المعتبر في الحكمة (أبو البركات البغدادي)
لم يكن ابن سينا والغزالي وحدهما صاحبَي العرض النسقي المنطقي بل شاركهما فيه أبو
البركات
البغدادي (٥٤٧ﻫ) في «المعتبر في الحكمة» الذي يُعادل «الشفاء». ولو أنه عرض لبناء الحكمة
لكان
أقرب إلى «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث»، وهو النوع الأدبي الثاني من التأليف نظرًا
لأولوية
الوافد فيه على الموروث.
٢١٢
لذلك يظهر النقد بين الحين والآخر للحالة الراهنة للمنطق. ويدل على ذلك عبارات مثل
«وهذا
كلام مدخول».
٢١٣ كما تظهر أفعال القول في ضمير المتكلِّم الجمع «قلنا» أو المفرد «نقول» أكثر من
«قال»؛ لأنَّ أبا البركات هو الذي يتحدَّث وليس أرسطو.
٢١٤
ويتوجَّه البغدادي أحيانًا إلى المخاطب وضرب الأمثلة له والتراسل معه، وتحليل التجارب
المشتركة.
٢١٥ مع الدعوة له بالبقاء، ويوجد تعليق بين الحين والآخر، من المؤلف أو الناسخ أو
القارئ. والغالب أنه من المؤلف.
٢١٦
وقد يذكر أبو البركات في آخر الفصل بإزالة اللبس الذي وقع في أذهان المناطقة مخالفةً
لأرسطو.
٢١٧ ويُدافع عن أرسطو ضد اتهام المتأخِّرين له بأنه أغفل وضع كتاب في القضايا
الشرطية. وربما صنفه ولم يُنقل إلى العربية.
٢١٨ وفي موضوعات العلوم ومطالبها ومسائلها ومبادئها ينقد أبو البركات تقليد المتأخرين
للنقول القديمة وجعلها ضرورية في العلم والتعليم فطولوا وتعدوا الواجب وما أوجبوه وامتلأت
تصانيفهم بالتخليط وإدخال مسائل علوم في علوم أخرى فاختلط التعليم بالتقليد، والتقليد
بالتعليم فخرجوا من زمرة الفلاسفة الذين يُرتِّبون بياناتهم على الترتيب المنطقي.
٢١٩
ويحذف أبو البركات كل إطالة وإسهاب لا لزوم له في موضوع أن لكل جسم حيِّزًا واحدًا
طبيعيًّا وأن فيه مبدأ حركة يسكنه فيه أو يُحركه فيه أو إليه.
٢٢٠ وقد يكون موضوع الفصل شرح أقوال فيه لمراجعتها والتحقُّق من صحتها مثل «في شرح
كلام من قال إن الله تعالى لا يُحيط علمه بالموجودات»، «في اعتبار الحجج المنقولة عن
أرسطوطاليس»، «في مناقضة الاحتجاج المنقول عن ابن سينا»، «في ذكر رأي أرسطو وشيعته في
بداية
الخلق»، «في إعادة النظر فيما قد قيل في النفوس والعقول المفارقة»، «في تتبُّع ما قيل
في
بداية الخلق من العقول المفارقة ونفوس الأفلاك وأجرامها»، «كلام في الحركة وما يشبهها».
٢٢١
ومن الوافد يتصدَّر أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط ثم إقليدس ثم تراسوماخوس ثم مانن وجالينوس
وبقراط.
٢٢٢ ويذكر الحكيم بدلًا من أرسطو، ويشفع لقب الإمام أمام أفلاطون. وواضحٌ أن أرسطو هو
واضع الحِكَم وبانيها ثم أفلاطون وسقراط، ويعترف أبو البركات بأنه حذا حذو أرسطو في كتبه
المنطقية والطبيعية والإلهية. وذكر في كل مسألة آراء المُعتبَرين من الحكماء. ثم أضاف
البراهين والحجج طبقًا لرجحان العقول وما يَثبُت بالدليل والبرهان. فقد راجع كتب أرسطو
على
العقل، وقبل ما اتفق معه وزاد عليه مزيدًا من التنظير، ونقد ما خالفه وأسقطه.
٢٢٣ ويشترك القارئ معه في التجربة والمراجعة. ويُقابل النسخة مع باقي النسخ
للاطمئنان. السماء والعالم والحيوان والنفس وقاطيغورياس السماع الطبيعي أولًا ثم الكون
والفساد والآثار العلوية والنبات وما بعد الطبيعة. ويذكر طيماوس لأفلاطون.
وتكثُر أسماء الفرق مما يشير إلى التعامل مع التيارات والمذاهب. ويتصدر القدماء ثم
المتأخِّرون والمتقدمون ثم الأقدمون ثم الحكماء الأولون، والحكماء الأقدمون، والحكماء
المتقدمون والمتأخرون، والقدماء الأقدمون مما يدل على وعي تاريخي حاد من القدماء إلى
المحدثين. ثم يذكر الفرق كمذاهب خارج التاريخ مثل الفلاسفة، الشارحون الطبيعيون، الدهرية
أو
المشرحون أي أطباء التشريح.
٢٢٤
وكان هذا التمايز بين القدماء والمُحدَثين والأوائل والأواخر هو سبب تأليف الكتاب.
إذ نقل
الأوائل العلوم شفاهًا. فاضطر المتأخِّرون لتدوينها. وكان القدماء كثيري العدد طويلي
الأعمار.
ولم يكن هناك خوف من اندثار العلم. فلما قل عدد العلماء ونقصت الأعمار اضطر المتأخرون
للتدوين
حفاظًا على العلم. وإذا كان الأوائل قد وضعوا العلوم ثم أصبحت غامضة مُستغلقة عبر الأجيال
تكون مهمة المتأخِّرين الشرح والإيضاح «ببسط وتفصيل وتكرار وتطويل» حتى يختلط كلام العلماء
بكلام الجهال. فيأتي المعتبر ليعيد الأمور إلى نصابها، التعبير عن العلم بلغة سهلة، نظرًا
لصعوبة نقله من لغة إلى لغة. لذلك سمى «المعتبر» أي المدون الذي أتي بعد طول تأمل ونظر.
٢٢٥
ويذكر القدميون ثم الحدثيون أي أنصار القول بقِدَم العالم وبحُدوث العالم.
٢٢٦ ويشار إلى بعض الأقوام على العموم دون تحديد لهم إبقاء على استقلال الموضوع عن
حوامله التاريخية مثل «قوم»، «بعض أهل النظر»، «بعض أشخاص من الناس».
٢٢٧
وكان أبو البركات على وعيٍ بتميُّزه عن القدماء واستئنافه التراث المنطقي القديم
مع حذف
الزائد وزيادة الناقص، وإعادة الترتيب ونظرًا لتداخُل موضوعات المنطق مثل تداخل الحدود
أي
مباحث المقولات في البرهان والجدل.
٢٢٨ ويُشير في الأقاويل الشعرية إلى «زماننا ولغتنا». ويضرب المثل بالشعر العربي.
٢٢٩
وهي أول محاولة لإحياء الحكمة بعد الغزالي. ومع ذلك يظل المعتبر كتابًا تقليديًّا
في علوم
الحكمة كما عرضها «الشفاء» بالرغم من نقده الجزئي له وخروجه أحيانًا عليه وعودًا إلى
عرف
الناس وعادات الحديث. فالمنطق تجريد لخطاب الناس وطرق تفكيرهم في الحياة اليومية.
٢٣٠
كما يظهر التمايز بين اليونانيين أو اليونان والعرب كقوم ولغة. فيذكر اليونانيون
أكثر من
العرب كقوم. ولكن تتصدر اللغة العربية اللغة اليونانية. ثم تتساوى اللغة اليونانية مع
الفارسية. ويتساوى العرب والعبرانيون والسريانيون والعربي والعجمي.
٢٣١
ويستعمل بعض الألفاظ المعربة قبل المنقولة أو بعدها في المنطق في عناوين المقالات
مثل
الخامة «طوبيقا» وهو علم الجدل، والسادسة في الأقاويل السوفسطقية وهي قياس المُغالطين،
والسابعة القياسات الخطابية وهي التي تُسمى باليونانية ريطوريقا، والثامنة في القياسات
والأقاويل الشعرية وهي التي تُسمى باليونانية ينطوريقي.
٢٣٢ كما يظهر لفظ الأسطقسات المعرب، وكيموس.
٢٣٣ وتوجد بعض الألفاظ الفارسية المعربة مثل السكنجبين والشادنج.
٢٣٤
ويظهر التقابُل بين اللغتين العربية واليونانية في معاني العقل. فالعقل في اللغة
العربية
هو العقل العمَلي، واشتقاقًا من المنع والعقال للناقة، وكذلك العقل العملي يعقل النفس
ويمنعها. وفي اللغة اليونانية العلم النظري والرأي العملي. ولما كان هذا المعنى في حاجة
إلى
لفظ يُؤدِّيه اختار له القدماء الملك والرب وهو معنًى يُحاذي معنى الإله في اللغة العربية.
لذلك سمَّى كتاب أرسطو الإلهيات.
٢٣٥ وهو ما يَكشف عن ظاهرة التشكُّل الكاذب، جدل المعنى واللفظ بين حضارتَين.
ومن الموروث يتصدَّر بطبيعة الحال ابن سينا ولقبه الشيخ الرئيس في الإلهيات ثم القاضي
إبراهيم المكي والمتنبِّي، إذ يذكر الجهشياري في تاريخه واقعة محلية ظهور كوكب كبير على
صورة
إنسان أيام الموفق بالله والجهشياري ومن الفرق والشيعة.
٢٣٦ ومن الأنبياء سليمان وحده، ومن القصص أهل الكهف كدليل على أن الزمان شعوري.
ويَظهر الوعي التاريخي في الإشارة إلى السلف والخلف، اقتداء الخلف بالسلف في تصنيف الحكمة
إلى
منطقية وطبيعية وإلهية، ويستعمل الأسلوب العربي، زيد وعمر كناية عن المجهول، وكذلك «اللهم».
٢٣٧ كما أن الأمثلة التوضيحية عربية خالصة، تلقائية مثل تأبط شرًّا وعبد الله للأسماء المركبة.
٢٣٨ ويَظهر الشعر العربي، شعر المتنبِّي، في موضوع اشتراك الحيوانات واختلافها في
الخلق والأخلاق في صفات الحيوان. ويَستشهد ببيت على وجود الجن والشياطين عن طريق القسمة.
٢٣٩ وتستعمل ألفاظ عربية أصلية، مثل «أضغاث» «للدلالة على الأحلام غير
الصادقة».
ويَخلو المعتبر من الآيات والأحاديث. كما يخلو من أي إشارة إلى العلوم الإسلامية
الأخرى،
غارقًا في علوم الحكمة وحدها. إنما يظهر القرآن الحر مرة في ضرب المثل بسؤال القرية والمقصود
به أهل القرية في فصل التبكيت والمغالَطات من مقالة السوفسطيقا.
٢٤٠
ويَضرب أبو البركات المثل بصديقه القاضي إبراهيم المكي رحمه الله المعروف بالصدق
وكثرة
العلم وعزة النفس والزهد. فقد انتهت رياضته ومجاهدته إلى أن تعرف بالهمة وكان نموذج النفس
الطاهرة مما يدلُّ على تمايُز النفس والبدن.
٢٤١
والمرة الوحيدة التي ذكر فيها ابن سينا لنقده في إنكار علم الله بالموجودات المتغيِّرة
استشهادًا بنصٍّ له عن عدم جواز أن يعقل واجب الموجود الأشياء من الأشياء حتى لا تتقوَّم
ذاته
بها، والله أشرف من مخلوقاته. بل يُصبح «في مناقضة الاحتجاج عن ابن سينا» عنوانًا للفصل
السادس عشر من المقالة الأولى في العلم الإلهية.
٢٤٢ ويَنفي الشيعة القياس من صناعة المنطق.
ويتضمَّن «المعتبر» أقسام الحكمة الثلاثة: المنطق والطبيعيات والإلهيات بطريقة ابن
سينا
في موسوعاته الثلاث. الطبيعيات أكبرها، والإلهيات أصغرها مما يدلُّ على أن الطبيعيات
هي
الأساس النظري للإلهيات قبل الاغتراب.
٢٤٣ الطبيعيات والإلهيات علوم وجودية لأنها تتعرَّض لموجودات، الطبيعة والله. والمنطق
مقدمة لها، آلة للعلم، قوانين الأنظار وعروض الأفكار.
٢٤٤
ويضمُّ المنطق ثمان مقالات طبقًا لعدد كتب المنطق. أكبرها القياس وأصغرها السفسطة
والخطابة.
٢٤٥ فالقياس قلب المنطق، منطق اليقين، والسفسطة والخطابة والشعر أطرافه، منطق الظن.
والمقولات والعبارة مقدِّمات للقياس، والجدل والبرهان تطبيقات له. ولا يتجاوَز حجم منطق
الظن
الخمس من مجموع المنطق.
وتتغيَّر بعض أسماء كتب المنطق تجاوُزًا للأسماء الأرسطية. فالمقالة الأولى في المعارف
وتصوُّر المعاني بالحدود والرسوم إشارة إلى المقولات، وتجاوزًا للمقولات العشرة من مستوى
الألفاظ إلى مستوى التصورات والمفاهيم وعلاقة عالم الأذهان بعالم الأعيان بعالم اللسان،
وتأسيس العلوم والتحقق من صدقها.
٢٤٦
ويُستعان بالخطابة في الدعوة إلى العقائد الإلهية والطبيعية والخلقية بحسب السامِعين
وفي
تمكين الانفعالات النفسانية في الأنفس؛ فالدين والأخلاق انفعالات.
٢٤٧
والمقالة الثانية في العلوم وما له وما به يكون التصديق والتكذيب إشارة إلى العبارة
ونظرية التحقُّق من صدق القضايات وكذبها.
٢٤٨
ويتعرَّض الفصل الأول لمنفعة المنطق وغرضه وموضوعه ومطالبه كعادة التأليف في العلوم.
ويتمُّ نقل المنطق من مستوى الألفاظ إلى مستوى الشعور بتحليل النفس الإنسانية وطباعها،
وكما
أضاف أبو البركات في أول مقالة في المنطق عن غرضه وموضوعه ومنفعتِه كذلك يفعل في أول
مقالة
«في العلم الطبيعي»، «في تعليم العلوم وتعلمها» أسوة بطرق التأليف في العلوم الإسلامية.
٢٤٩ وكذلك يبدأ الفصل الأول من المقالة الأولى في العلم الإلهي بتحديد غرض العلم
وموضوعه وما يختصُّ به نظره ومنفعته.
وبالرغم من قسمة الحكمة إلى ثلاثة أقسام، وكل منها إلى مقالات إلا أن الموضوع واحد.
وتأكيدًا على وحدة الموضوع يُحيل السابق إلى اللاحق كما يستدرك اللاحق السابق.
٢٥٠ ويكتب المنطق في صيغة معادَلات وكأنها شعر منثور.
٢٥١ وقد تتحوَّل الأبيات وتصبح منطق رمزيًّا بعد تحويل الألفاظ إلى حروف. فالمنطق نسق
هندسي مثل الإيقاع الشعري. ومع ذلك يتم اللجوء إلى الفطرة والذوق لإعادة تأسيس المنطق
على
أساس طبيعي وجداني.
٢٥٢
ولا يَنفصل علم المنطق عن علم النفس والعلم الإلهي. فالألفاظ والتصورات والمفاهيم
هي
بداية العلوم بما في ذلك العلم الإلهي. فالعلم بُعدٌ نفسي وبناء شعوري.
٢٥٣ وفي فصل «في اشتراك القضايا وتباينها وتقابلها وتضادها وتناقضها» تظهر الموضوعات
الكلامية. فالسابق في قدر الله وقضائه سابق بأسبابه والإرادة والقصد من جملة الأسباب
المسببة.
فالمريد لإرادته سبب موجب لا يكون عن الإرادة وإلا كان لإرادته الثانية سبب إما معلوم
مثل
الجوع للطعام أو غير معلوم، ومن يعتقد أن الإرادة غير مسبَّبة بأسباب قد يعلمها الإنسان
وقد
لا يعلمها لم يحسن العلم بالقضاء والقدر، وهو اتجاه أشعري يجعل الله مسبب الأسباب. وذلك
كل
بمناسبة قول أرسطو لولا المُمكن لبطلت الرؤية. إذ يتوقَّف وجود الممكن على أسباب. وفي
فصل
«تحليل القياسات الداخلة في الكلام المتَّصل إلى الأشكال الثلاثة» يَضرب المثل بقضايا
الله
فيها موضوع مثل الله وقت، والله ليس في زمان يحتاج إليه، فليس كل وقت بزمان. فالله وقتٌ
يُراد
به أنه مالك للوقت. وفي ترتيب العلوم الحكمية، ما تَشترك فيه وما تتفق تبتدأ الموجودات
في
العلم الإلهي من مبدأ واحد هو المبدأ الأول، وتتوسَّط الرياضيات بين الطبيعيات
والإلهيات.
وفي فصل «استعمال المقاييس والتدبير في تأليفها أو منعها في الجدل وكيف يقع في الشيء
الواحد علمٌ وظنٌّ متقابلات» تظهر المادة الفقهية الموروثة ولو على نحو مجرَّد كما هو
الحال
في تلخيص الخطابة لابن رشد؛ فالفقهيات منها ضمائر ومقالات مأخوذة من الأقوال المنقولة
عن
الأصل الذي إليه الإسناد في تلك الشريعة. يتبيَّن فيها الحكم بحسب الأصول. فتكون كلية
بالذات
وجزئية بالعرض. كما يتمُّ التعرض إلى الفراسة ولكنها أدخل في العلم الطبيعي في صفات الحيوان.
وتظهر المتواتِرات في علم البرهان كعلم ضروري لا يَناله الشك، وهي في القضايا المقبولة
ممن
يثق به المسلم ولا يعرض كلامه للشك والطوائف المختلفة ممن يَعتقدون فيه العلم والنبوة
ويشتهر
عندهم بالمعرفة والأمانة والعلم والديانة.
٢٥٤
«وتشمل الطبيعيات ستة أجزاء تتأرجح عناوينها بين أسماء الموضوعات وعناوين كتب أرسطو.
الجزء الأول في المطالب التي تكلم فيها أرسطوطاليس في كتابه المعروف بالسماع الطبيعي
وتحقيق
القول فيها». والثاني «يشتمل على المعاني والأعراض التي تكلم فيها أرسطوطاليس وتضمنها
كتاب
السماء والعالم وتحقيق النظر فيها». والثالث «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمَّنها
كتاب
أرسطوطاليس في الكون والفساد وتحقيق النظر فيها». والرابع يشمل «المعاني والأعراض التي
تضمنها
كتاب أرسطو في الآثار العلوية والمعادن». والخامس «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمنها
كتاب أرسطو في الحيوان والنبات». والسادس «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمنها كتاب
«النفس».» وتختفي الطبيعيات الصغرى باستثناء إضافة فصل عن النوم والرؤيا في الجزء السادس
عن النفس.
٢٥٥ وأكبرها الجزء الأول عن السماع الطبيعي، وأصغرها الرابع عن الآثار العلوية والمعادن.
٢٥٦ وبعض الأجزاء تشير إلى فصولها على العموم مثل الثاني، والبعض الآخر يُحدِّد
عددها، أحد عشر فصلًا في الثالث، وثلاثون في السادس، والبعض الآخر لا يذكر الفصول لا
على
العموم ولا على الخصوص مثل الأول والرابع والخامس.
والعرض للمعاني والأعراض في الأجزاء الأخيرة التي تُحيل إلى أسماء كتب أرسطو، المعاني
أي
الموضوعات الرئيسية والأعراض أي الظواهر الفرعية. ليس العرض شرحًا أو تلخيصًا أو تعليقًا
على
الأقوال بل تناولًا للموضوعات ذاتها، الرئيسية منها والفرعية. الجزء الأول عن السماع
الطبيعي
يتحدث عن «المطالب» أي الموضوعات.
ولا يعني العرض مجرد وصف أو تقرير، بل يعني أيضًا المراجعة والتحقق من صدق المواد
المعروضة. لذلك يظهر في عناوين الأجزاء الأول، «وتحقيق القول فيها»، والثاني والثالث
والرابع
والخامس «وتحقيق النظر فيها» باستثناء السادس عن النفس لإكمال المادة وإدخال بعد جديد
فيها،
نظرية الاتصال.
٢٥٧
ويَبرز البعد الإلهي في السماع الطبيعي في النهاية واللانهاية المقولين في المكان
والزمان
وغيرهما. فقد عظم بعض القدماء اللانهاية وقال إنه هو الله تعالى والمبدأ الأول. وفي مبحث
الزمان يذكر قول البعض إنَّ الدهر هو الله ونسبته إلى متبدِّلات خلقه هو الزمان، وقول
آخرين
إن الزمان هو أول ما خلق الله في الأزل، وهو صانعه وفاعله ولا يتقدَّم عليه إلا بالذات
لا
بالزمان. ولا يُعارض أبو البركات القول بأن الله هو الدهر في التسمية الوضعية الذاتية
والنسبية؛ إذ لا معارضة في الأسماء. وتختلف صفات الناس وأفعالهم على درجات؛ فمنها ما
ينحط إلى
درجة الحيوان ومنها ما يرتفع إلى درجة الملائكة مثل الأنبياء والأولياء والزهاد والعلماء،
ولهم عجائب الصنائع ووثائقها وغرائب التدابير ومحاسنها. وفي النفس، في موضوع وحدة النفوس
الإنسانية أو كثرتها بالشخص أو بالنوع يظهر موضوع النبوة التي اعتبرها الحكماء خاصية
لنفس
شريفة. وفي فصل «في خواص النفوس الشريفة من النفوس الإنسانية ونوادر أحوالها» يَضرب المثل
بنفوس الأنبياء أصحاب الهداية والرواية، والرسل بين الله وخلقه مبشرين ومنذرين، معلمين
ومبصرين، مجرين المعجزات بقدرة الله التي يخص بها الأرواح والملائكة، ومعهم كتاب أو صحيفة
من
صحائف الوجود، وأم الكتاب يضم علم الله المسبق يقرؤها ذوو الأبصار باللسان والقلب والعين،
لا
غلط فيه. شواهدها صادقة. وحذر سليمان من الكتب المصنوعة من الخواطر وأمالي الأوهام والصناعات
الإنسانية طويلة العمر قصير كما قال بقراط.
٢٥٨
ويُضيف أبو البركات مادة جديدة في المقالة الخامسة عن الحيوان والنبات فصلًا أخيرًا،
الفصل الثاني عشر في الجن والأرواح معترفًا بنهاية كتابَي أرسطو وإضافة هذا الجزء بناءً
على
سؤال «رفيقي أيده الله» نظرًا لأن القائلين بهم أدخلوهم في زمرة الحيوان، ورأوهم نوعًا
مقابلًا لنوع الإنسان وجوَّزوا ذلك بالنظر الحكمة بينما نفاه الآخرون وبالتأمل الحكمي
الصادق
وشواهد التجارب والاعتبارات من الآثار والأخبار فافترق الناس فيه بين الإثبات والنَّفي
والتجويز.
ويُجيب أبو البركات الصديق السائل بداية بتحليل مصادر المعرفة. الأول الوحي والنبوة
المخبرة بوجودهم على ألسنة الأنبياء والحكماء والمرويات في الكتب والأخبار. فقد أخبر
الأنبياء
بوجود أشخاص لا تدركهم الأبصار تتشكَّل على ألوان يَجوبون الفضاء والأرض ظاهرها وباطنها،
يفهمون ويتكلمون ويَتناجون ويُخبرون ويتذرون يبشرون ويحذرون، يؤمنون ويكفرون. والثاني
الحكماء
والنظار مثل أفلاطون وشيعته عن طريق القسمة العقلية وكأنَّ القسمة الذهنية تتطلب بالضرورة
الوجود الواقعي؛ فالحيوان إما ناطق غير مائت وهم الملائكة وسكان السموات، وإما ناطق مائت
وهو
الإنسان، وإما مائت غير ناطق وهو الحيوان، السباع والبهائم، وناطق غير مائت وهم الجن.
والثالث
المشاهدة والرؤية والأخبار الموثوق بها، وتنتهي إلى مثل ما يقول به الأنبياء بالإضافة
إلى
أنهم يدخلون في أبدان الناس ويتصرفون فيها تصرف الأرواح التي خلقت لها، ويُخبرون أرواحها
الخاصة بها، ويُخبرونها ويَنفعونها، ويُمرضون الأبدان ويشفونها ويُعطِّلونها. قال ذلك
بعض
الحكماء الذين يقولون بالعزائم والرقيِّ والتنجيم والرؤيا.
٢٥٩
ويتحقَّق أبو البركات من صدق هذه الآراء الثلاثة. ويقبل الرأي الأول الذي يقوم على
الوحي
والنبوة. وهو رأي بعض الحكماء أيضًا دون تأويل حتى ولو أشكلَ الجواز والتعليل، ويُناقش
كلام
الحكماء، أفلاطون وشيعته، يتأمَّله ويعارضه ويسأل عن جوازه وامتناعه أو وجوبه وعن كيفيتِه
ولميته. وهو لا يختلف عن الرأيَين الأول والثالث إلا في طريق الإثبات، القسمة التي تُوجب
تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان.
وإذا كان عَيب العرض غياب الدلالات والاكتفاء بإعادة بناء العلم الوافد من وجهة نظر
الموروث اعتمادًا على العقل الخالص مع نوع من البرودة والحياد والخالي من التجارب الشخصية
فإن
هذه الدلالات تكثر في العلم الإلهي مكان التعشيق بين الوافد والموروث. ويتكون الجزء الثالث
«العلم الإلهي» من مقالتَين بلا عناوين وتتضمَّن كلٌّ منهما عدة فصول. ويضم أيضًا علم
الطب
والأخلاق أي البدن والنفس لما كان موضوع النفس هو الحلقة المتوسِّطة بين العلم الطبيعة
والعلم
الإلهي. ويُسمَّى أيضًا إلهيات، من إله وليس من الله.
٢٦٠ والعلم الإلهي هو العلم بالموجود بما هو موجود. ويُسمى الفلسفة الأولى. وموضوعه
الله وملائكته، صفاته وأفعاله وأسماؤه وكأننا في علم الكلام. وهو نفس مفهوم العلم الطبيعي،
الزمان والمكان، والجوهر والعرض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول مما يدلُّ على أن
العلمين
علم واحد كما لاحَظ الفارابي في إحصاء العلوم واضعًا العلم الطبيعي والعلم الإلهي في
نفس
العلم. وأهم موضوع فيه قدم العالم وحدوثه، الموضوع الشهير بين المتكلِّمين والفلاسفة
والصراع
بين القدميين أنصار القِدَم والحدثيِّين أنصار الحدوث. القدميون هم الدهرية الذين سموا
الحدثيِّين معطِّلة لتعطيل الله عن وجوده.
٢٦١
وكالعادة يبدأ «المعتبر» بالبسملة، والله ولي التوفيق. ويُضيف الناسخ بعد اسمه «رضي
الله
عنه»، وبالحمدلة والشكر على الأفضال والآلاء. بل ويبدأ كل مقال بها بالإضافة إلى أن التوفيق
من الله وعليه التوكل وبه الاستعانة وإليه الإنابة.
٢٦٢ وتظهر العبارات الإيمانية في آخر كل مقالة مثل الحمدلة والصلاة على محمد النبي
وآله الأكرمين وسلم تسليمًا، وهو حسبي وعليه أتوكَّل. والله أعلم بالصواب مع الشكر للنعماء،
بالإضافة إلى الناسخ وخطه وتاريخ النسخ الأول والثاني.
٢٦٣
ويتمُّ الانتقال بسهولة ويسر من مدح الله إلى مدح السلطان سواء من المؤلِّف أو من
الناسخ.
٢٦٤
(٨) مقاصد الفلاسفة (الغزالي)
وهو نوع من العرض الكُلي من أحد خصوم الفلاسفة وهو الغزالي (٥٠٥ﻫ) قبل أن يكتب «تهافت
الفلاسفة». فالعرض الموضوعي يَسبق النقد؛ فإلى أي حد يُمكن للناقد أن يعرض عرضًا موضوعيًّا
أم
أن كل عرض قراءة؟ لذلك يخرج الغزالي عن القاعدة، ولا يَنتظر نقد الفلاسفة في «التهافت»
ويُبيِّن في الطبيعيات فساد استنباطهم.
٢٦٥ وهو من حيث «التحوُّل» يكون في التراكم، تنظير الموروث قبل تمثُّل الوافد، نظرًا
لأولوية الاستشهاد بالحديث والقرآن وباللغة العربية والفقه والكلام على الاستشهاد بأرسطو.
٢٦٦ صحيحٌ أنه ما زالت تظهر بعض الألفاظ المعربة مثل إيساغوجي، السكنجين، الكروبيون،
يونانية وفارسية وعبرية دون ميزة خاصة لليونانية، وهو عرض وجيز وواضح. فمن يبغي النقد
عليه أن
يكون قادرًا على العرض لمقاصد الفلاسفة أكثر من الفلاسفة أنفسهم.
بل إنه يَستخدم الجداول لبيان ضرورة الشكل الأول منتجها وعقيمها، ويكشف العنوان «مقاصد
الفلاسفة» عن النوايا والبواعث والأهداف وليس الآراء والمُعتدات والمذاهب فالفلسفة مقاصد
الشريعة. وكل ما سواها تطويل وحشوٌ وزوائد على سبيل الاقتصاص والحكاية.
٢٦٧
ويَشمل العرض أقسام الحكمة الثلاثة؛ المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولكن الغزالي يُقدم
الإلهيات على الطبيعيات ويبرر ذلك بأهمية الإلهيات وكثرة الخلاف فيها ولأنها غاية العلوم
ومقصدها. وتؤخَّر لغموضها وعسر الوقوف عليها قبل الوقوف على الطبيعيات.
٢٦٨ ومن حيث الكم تأتي الإلهيات أولًا ثم الطبيعيات ثم المنطق.
٢٦٩ وتغيب الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات. وليس في الرياضيات، الحساب
والهندسة ما يخالف العقل وبالتالي لا يُمكن إنكارها أو جحدها. ولا سبيل إلى الرد عليها.
والمنطقيات أكثرها على منهج الصواب والخطأ نادر فيها. إنما يُخالف الفلاسفة أهل الحق
فقط في
المصطَلحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد. غايتها تهذيب طرق الاستدلالات، وهو ما يُشارك
فيه النظار جميعًا. والطبيعيات الحق فيها مشوب بالباطل، والصواب فيها مُشتبه بالخطأ.
ليس فيها
غالب ولا مغلوب. أما الإلهيات فأكثر عقائدها على خلاف الحق، والصواب نادِر فيها. هناك
إذن
تدرج من الصواب المطلق في الرياضيات إلى الصواب الغالب في المنطقيات إلى الصواب المشوب
بالخطأ
في الطبيعيات إلى الصواب الأقل في الإلهيات. على نحو نازل ابتداءً من الصواب، ومن الخطأ
الغالب في الإلهيات إلى الخطأ المشوب بالصواب في الطبيعيات إلى الخطأ الأقل في المنطق
إلى
غياب الخطأ المطلَق في الرياضيات ابتداءً من الخطأ على نحو صاعد وهو أقرب إلى المنطق
التقليدي
باستثناء بعض الإشارات إلى اللغة العربية وأساليبها في الحديث والفرق بينها وبين الأعجمية
والبيئة الجغرافية العربية وبعض الأمثلة الفقهية والكلامية كمادة شارحة للمنطق.
٢٧٠
في المنطق تظهر الأمثلة المحلية اللغوية كعادة العرب في الحديث عن زيد وعمرو وعبد
الله.
٢٧١ كما يبدو التقابُل بين اللغة العربية واللغة الفارسية أو الأعجمية.
٢٧٢ إذ يَفترق السالب والموجب في القضايا بين العربية والفارسية. كما يظهر التقابل
أيضًا في الإلهيات في معنى الألفاظ مثل الوجود. كما تظهر الجغرافيا المحلية من البيئة
العربية، الحجاز والعراق. ويضرب المثل بالمُتواتِرات العلم بوجود مصر ومكة.
٢٧٣
ويظهر الموروث الفقهي والكلامي كمادة جديدة للمنطق. ويصحُّ الاعتماد على الاستقراء
في
الفقهيات في اليقينيات. وفي الفقهيات كلما كان الاستقراء أشد استقصاءً وأقرب إلى الاستيفاء
كان أقرب إلى اليقين وأبعد عن الظن. ويُسمي الفقهاء والمتكلِّمون المثال قياسًا، قياس
الجزئي
على الجزئي، ويستعمل الغزالي بعض مصطلحات علم أصول الفقه مثل السبر والتقسيم وهو من مباحث
العِلَل، مما يدلُّ على استحالة عرض المنطق موضوعيًّا دون إعادة قراءة الوافد من خلال
الموروث. ويضرب المثل بالتصديق بالمعجزات على المتواتِرات، وعلى المشهورات بقدرة الله
على كل
أمر صادق؛ لأن إنكار ذلك مستقبح وليس بصادق فإنه ليس قادرًا على أن يخلق مثل نفسه، بل
يُقال
هو قادر على كل أمر مُمكن في نفسه. هو عالم بكل شيء ولا يقال عالِمًا بوجود مثل له، ويضرب
المثل بسؤال «هل الله موجود؟» على مطلب هل.
٢٧٤ ويظهر الله كفكرة محدَّدة في المنطق. فالسلب يصحُّ على المعدوم، مثال ذلك شريك
الله ليس بصيرًا ولا يُقال شريك الله غير بصير.
٢٧٥
والإلهيات أيضًا أقرب إلى الإلهيات التقليدية.
٢٧٦ فالله هو سبب الوجود كله. موضوعها بريء عن المادة، أعم الأمور العامة وهو الوجود
المطلق. ويُسمَّى العلم الإلهي وعلم الربوبية. ومبحث الجوهر والأعراض والصورة والمادة
والعلة
والمعلول، والزمان والمكان، والكم والكيف والحركة والسكون مباحث مشتركة بين الطبيعيات
والإلهيات، مرة بلغة النِّسبي ومرة بلغة المطلق. والباري غير منقسم كالنقطة لا بالقوة
ولا
بالفعل لأن واحدًا غير مُتكثِّر يعلم الأجناس والأنواع والمُمكنات الحادثة. لا يجوز أن
يعلم
الجزئيات علمًا يدخل تحت الماضي والمستقبل والآن. بيده الخير والهداية
الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى،
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وهو منزَّه عن كل نقص «أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي
ثناء عليك.»
٢٧٧ ويتمُّ الاستشهاد بأرسطو من منظور إسلامي، مثل إنَّ الله يدرك جمال ذاته كما ندرك
جمال ذواتنا. كما تعرف الملائكة أنفسها. والناس عاجزون عن إدراكه «والعجز عن درك الإدراك
إدراك.»
٢٧٨
ويصعب فصل الإلهيات عن الطبيعيات. فالطبيعيات تُحيل إلى الإلهيات في مراتب الكون،
صعودًا
من المعادن إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان إلى الملائكة والجن والشياطين، بالرغم
من
التَّفرقة بين العلمين. الملائكة جواهر، وجودها غير ماهيتها، الله وحده وجود بلا ماهية
زائدة،
وجود محْض.
٢٧٩
وتظهر أمور المعاد في الإلهيات وهو ما يغيب عند أرسطو، وينال الإنسان السعادة الأبدية
في
الآخرة ويَلحق بالملأ الأعلى ويكون رفيق الملائكة في القرب من الأول الحق بالصفة لا بالمكان.
وتتحرَّك النفوس بالعشق وتكون كالملائكة السماوية وهي العقول المبرَّأة عن المادة. وهذا
هو سر
القدر، وظهر الموضوع من جديد في الطبيعيات في القسم الخاص بالنفس، وفي آخر الطبيعيات
في النفس
تظهر أيضًا بعض السمعيات مثل النبوات والكرامات، وتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والعلماء
في
مراتب القرب من الله.
٢٨٠
كما تَرتبِط الإلهيات بالعلوم الشرعية والعلوم السياسية المذكورة في تدبير المدن
وترتيب
أهلها وعلم تدبير المنزل علم الأخلاق. فكما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى فإنها
أيضًا
أساس الإنسانيات. وتقوم المدينة على العلم «أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه
الله
بعلمه.» وهو العلم النافع والعلم الهادي والموافق للصواب «من ازداد علمًا ولم يَزدَد
هدى لم
يزدد من الله إلا بعدًا.» ويضرب المثل على التقدم بالشرف بتقدم أبي بكر على عمر وسائر
الصحابة.
٢٨١
أما الطبيعيات فهي أيضًا أقرب إلى الطبيعيات التقليدية.
٢٨٢ وتُنكر موضوعات الإلهيات نظرًا لارتباط العلم. ويذكر أرسطو في تعريف المكان وفي
كيفية الإدراك.
٢٨٣ وهي أقل أجزاء «المقاصد» دلالة.
العرض إذن كلي؛ لأنه شامل لأقسام الحكمة الثلاثة ولكنه بقلم غير فلسفي، من الخارج
وليس من
الداخل، عرضًا لمقاصد الفلاسفة وليس تعبيرًا عنهم بقلم فيلسوف.