(ب) القرآن والحديث
وتكثُر الآيات القرآنية في رسائل الإخوان فتَتجاوَز الألف آية، نصفها في الجزء الرابع،
والنصف الآخر في الثاني ثم الأول ثم الثالث. وهو أكبر حشدٍ للآيات في مؤلف إسلامي يدلُّ
على
سيادة الموروث سيادة كاملة على الوافد بالرغم من الحكم الشائع على الإخوان بأنهم أتباع
اليونان يُوفقون الشريعة الإسلامية على الحكمة اليونانية مع أنهم يستخدمون الفلسفة لإثبات
العقائد.
وتهدف كثرة النصوص إلى توجيهها كحُجة سلطة إلى العقول العامة ونزع أسلحتها وملاحقتها
حتى تَستسلِم نهائيًّا كما تفعل الحركات السلفية القديمة والمعاصرة. فهما من الموروث
الأصيل
ولا يُمكن الاعتراض عليها أو مناقضتها بآيات أخرى وإلا لكان القرآن مُتناقضًا أو اللجوء
إلى
أسباب النزول التي لا تتحمَّلها المواقف الانفعالية وسرعة التصديق وأهمية التجنيد والعمل
المباشر.
٩٢
وتتكرَّر الآيات أكثر من مرة لأنها شحنة نفسية يتم تفسيرها في أكثر من موضع لتطابقِها
مع المضمون النفسي للقارئ. وتتوالى الاستِشهادات الآية تلوَ الأخرى كما هو الحال في خاتمة
رسالة العدد وبعد الإعلان عن المادة، بناء الرياضيات والطبيعيات والإلهيات داخل علم النفس.
تتكرَّر الآية كاللازمة في الموسيقى والشعر لإحداث الايقاع النَّفسي المطلوب، العود على
بدأ، والتنويع على اللحن الأول، البداية والنهاية من أجل الإيقاع.
٩٣
وأحيانًا لا يكون ذكر الآية مسبوقًا بقالَ تعالى، بل على لسان الأنبياء، وكأنَّ القرآن
حوار بين الأنبياء وجدل مع الخصوم وحُجج للإقناع. وتختلف أسماء السور مثل سورة يونس وسورة
بني إسرائيل. فما يهمُّ ليس السورة بل كيفية استخدامها.
٩٤
ويذكر الإخوان الآيات في فواتيح الخطاب حتى ولو كانت للحيوان كما يفعل خطيب المسجد
وشيخ
القرية ابتداءً من حجة السلطات وكضربات متلاحقة تجعل الشيخ قابلًا الدعوة مهيئًا للاستماع،
طيعًا للأوامر، سهلًا للتجنيد. وقد لا تكون الآيات مترابطة فيما بينها في موضوع واحد
تعطي
استدلالًا واحدًا بل مجرد ضربات متلاحقة مهمتها تسخين الموقف وتهيئة القارئ
للاستسلام.
وأحيانًا يذكر القرآن بمفرده دون وصفه وأحيانًا يوصف بأنه القرآن المبين، وأحيانًا
يُسمى الفرقان.
٩٥
ربما تكثر الإفاضة في بيان الموروث مثل القرآن والحديث كردِّ فعل على الاستِشراق الذي
يخرج القرآن باعتباره مَصدرًا للعلم من مركز الحضارة الإسلامية؛ لأنه ليس كذلك في وعيه،
بل
القرآن نفسه تاريخ، كما أنه خاضعٌ للنزعة التاريخية فكل شيء يأتي من التاريخ لتفريغ الحضارة
الإسلامية من مضمونها وإبداعها وجعلها مجرَّد نقلٍ من مصدرٍ خارجي مثل الحضارة الغربية.
فقد
نشأت العلوم الأوربية الحديثة ضد الوحي وليسَت منه.
وأحيانًا يكون القرآن مجرَّد استمرار يُثري العبارة وليس استِشهادًا كنَوع من القرآن
الحرِّ كي تكون العبارة أوقع في النفس، وكأن القرآن هو القادر على التعبير على الواقع
المشاهد، استمرارًا للنثر العربي. يستعمل القرآن الحر كبديل عن العبارة. فلا تُوجد عبارة
أبلغ وأوقع من الآية القرآنية. القرآن كتاب عربي بلسان عربي مبين. وهنا لا يبدو فرق بين
كلام الله وكلام الإنسان وكما فعل السهرودي في «الغربة الغريبة» حتى ولو تحوَّل إلى سحجٍ
ركيك على نقيضِ مُوسيقى القرآن. وأحيانًا يَختلط القرآن المباشر بالقرآن المُرسَل الأحداث
الأثر اللُّغوي النَّفسي المطلوب. ويكثر هذا الأسلوب في الرسالة الثانية عن الحيوان في
الطبيعيات.
٩٦ وقد تعلَّم الناسُ القرآن بلسانٍ فصيح بعد أن تلاهُ النبيُّ لأنَّ العربية أفصح
اللغات.
وتتحوَّل بعض الألفاظ القرآنية إلى صور فنية للإيحاء بالبيئة الإسلامية. وتظهر
المصطلحات القرآنية مثل البعث والنشور والقيامة والحساب والمعراج. كما تدخُل الآياتُ
كعناصر
فنية في بناء القصة. وتستعمل أسماء الجن المزيد من التصوير حتى ولو كان الموضوع خرافيًّا
مثل حسن طاعة الجن وتشمُّ الروح والريحان.
٩٧
وتجمع الآيات كلها حول موضوع واحد ممَّا يُؤشِّر على بدايات التفسير الموضوعي للقرآن
من
أجل معرفة بِنية الموضوع والانتقال من النص إلى العالم ومن الوحي إلى المجتمع مثل صفات
المؤمن وأهل الخير وأمة الآخرة وثواب الأخيار وصفات الكفار وأنفس الأسرار والأمثال.
٩٨
ويُستعمل لفظ «القرآن» أكثر من مائة مرة إما بمفردِه أو مقرونا بالتوراة والإنجيل
بلا
ترتيبِ النزول، مما يدلُّ على وحدة الأديان في بِنيتِها وليس فقط في تاريخها. وقد يذكر
القرآن وحده أو مع الانجيل أو مع التوراة. وقد يُخصص بعض كتب التوراة مثل ألحان داود
أو
الزبور. ومع ذلك فالقرآن مُهيمِن على باقي الكتب لأن الإسلام آخر الأديان والشريعة
الإسلامية آخر الشرائع، وتثبت الكتب المنزلة كلها حقائق واحدة مثل أن الطبيعة مخلوقة
للإنسان، ووصف الطبيعة والفلك والجنة والنار وحسن طاعة الجن لرؤسائها والاستعاذة بهم
بقراءة
آيات منها حتى لا يتعرَّضون للناس بالأذى، ومقاييس الخير والشر، وقراءتها في المساجد
والمعابد والصوامع وبيت الله. وقد كان لداود مُلحِّنين وقراء. كما تُعبِّر قراءات متعددة
للقرآن وتلاوته. ويستعمل لفظ الإنزال للقرآن وحدَه الذي أنزل على صاحب الشريعة.
٩٩
والقرآن حركة طبيعية يَستأنف عندما يَنقضي الدور دلالة على تطور الوحي وإعلانه على
مراحل في التاريخ.
١٠٠
وأحيانًا يكون القرآن مصدرًا للأخبار، أخبار الأنبياء مثل حوار موسى مع السحرة والخضر،
وهو أيضًا مصدر للعلم عن الطبيعة والتاريخ فالزمهرير رح عاد.
١٠١ ويكون مَصدرًا للعلم ببعض الموضوعات الدينية والكلامية مثل مُعجزات الأنبياء
ووجود الروحانيِّين مثل الجن والشياطين وخلق القرآن والسحر، والحث على طلب العلم.
وأحيانًا يكون النصُّ استِشهادًا على موضوع وتأكيدًا له نظرًا للتطابق بين الوحي
والواقع مثل الاستِشهاد بآيات الفلك على سبح الأفلاك ومنازل القمر. يتمُّ الحديث عن شيء
ثم
يذكر في القرآن تحقيقًا للمناط على نحوٍ عكسي، من الواقعِ إلى النص وليس من النص إلى
الواقع
مثل الرُّوح والريحان، والتزهيد في الدنيا وذمِّ الجدل، والاجتِماع على خير، وتأليف القلوب،
وتصفية الضَّمائر.
١٠٢
لذلك تتحوَّل آياتُ القرآن إلى وصف الطبيعة سواء كانت البداية من النص إلى الواقع
استنباطًا أو من الواقع إلى النص استقراءً، وقد ذكر المُفسِّرُون معانيَ الآيات، إنزال
القرآن مثل إنزالِ المطر مِن أجلِ التوحيد بينَ الطبيعة والشعور، اللغة والكون، العالم
الأصغر والعالم الأكبر. يؤدِّي تفسير القرآن إلى العلم بأسرار الكَون كما يُؤدِّي تفسير
الكون إلى العلم بأسرار القرآن. القرآن ليس حرفًا بل طبيعة، وليس شكلًا بل مضمونًا، اللغة
فيه تُحيل إلى العالم وكما يدلُّ على ذلك المعنى المزدوج للفظ «آية». الألوان في الطبيعة
رمز على تعدُّد البشر واختلاف الألسنة والألوان.
١٠٣
وأحيانًا لا تطابق الآية المعنى، بل توجد آياتٌ أخرى أكثر تطابُقًا. فليس المطلوب
معنى
الآية بل الاستشهاد بها لتُطابق الحالة النفسية والاجتماعية للقارئ.
ويبدو استعمال النص أحيانًا على نحوٍ شرعيٍّ فقهيٍّ يَشرع للناس. مع إطلاق الأحكام
دون
تقيُّدها، إثباتًا للعموم لا للخصوص، وتحويل الآيات إلى أحكام عقلية وفي نفس الوقت استحالة
الاختلاف بين الطبيعتَين، الدليل والحكم، اللغة والقضية. والأغلب أنَّ القرآن حوى كل
شيء
ولا حاجة إلى القياس الكاذب. فالموروث هنا ضدَّ الوافد الأرسطي وضد الموروث التسلُّطي،
قياس
الفقهاء.
والقرآن ليس مجرَّد أداة للعلم ومصدرٍ للخبر، بل له بُعدٌ باطني لا يُدرك إلا بالتأويل.
به سور طوال وأخرى قصار دلالة على سرِّ الرجال وسرِّ النساء والحروف المستعمَلة في أوائل
القرآن سرٌّ لا يعلمه إلا الله. ويدافع الإخوان عن التأويل دفاعًا عن التنزيه ضد التجسيم
والتشبيه. فالحكمة هو التأويل. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الحروف بين القسم أو أنَّ
لكلِّ حرف كلمة في حساب الجمل، أو أنها سر لا يعلمه إلا الله والراسخُون في العلم والخواص
من البشر وفد تظلُّ أسرارًا إلى يومِ الدين.
١٠٤
وتَظهر آيات الإيمان أكثر من آيات العقل، والنبوة أكثر من الحكمة، والغيب أكثر من
الشهادَة، واليقين أكثر من الشك. وتكثر الآيات في البعث والقيامة. فهيَ أسرع إقناعًا
وأوقع
نفسيًّا من الحُجة القولية على عكس الكندي والفارابي اللذَين استَطاعا صياغة خطاب عقلي
لا
نقلي قبل أن يركب ابن سينا كل ذلك عقلًا، فلكلِّ موضوع حُجة نقلية لدرجة غياب الحُجة
العَقلية حتى لا يترك شيء للمُعارضة العقلية أو الفهم الذي يؤدي إلى فهمٍ مُضادٍّ مع
إن
الحُجة النَّقلية يُمكن مناقضتها بحُجةٍ نَقليَّة أخرى. ويتمُّ تبادُل الحُجة العقلية
والنقلية بين الإنسان والحيوان فيَعترِض الحيوان على الإنسان بالعقل ويَعترض الإنسان
على
الحيوان بالنقل، سُخرية من الإنسان. النقلِ للاتهام، والعقل للدفاع، النقل للاستعباد
والنقل
للتحرُّر، النقل للظاهر، والعقل للمُؤَوَّل.
لذلك تستعمل آيات القرآن تملقًا لعواطفِ الناس، واستدعاء للسلطة النصية تحريرًا للنصِّ
من السلطة السياسية بعد زعزعة الولاء بها. وتَستعمِل كوسيلة لترقيق القلوب نظرًا لأثر
القرآن في النفس كما هو واضِح في رسالة الموسيقى من أجلِ تخليص النفسِ من الظلمات بالإضافة
إلى التأويل الإشراقي. فأسباب النزول عند الإخوانِ هو البناء النفسي للشعور. لم يجدِ
الإخوان في القرآن إلا التأويل صعودًا لا التنزيل هبوطًا. وكلها مواقف حسب الأهواء وكأنها
أسباب نزولٍ جديدة، وكأنَّ الآيات أنزلت على مطابَقة للأحوال النفسية للإخوان. وقد ساعدت
الآيات نفسها على هذا التفسير الشعوري لحديثِها عن الأفئدة والقلوب فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وبالرغم من نهْي النفس
عن الهوى إلا أنَّ اللفظ له موسيقاه.
وعيب ذلك كله هو كسر الاتِّساق العَقلي، وانقطاع البُرهان، واختيار الآيات التي توافق
الأهواء ونزعها من سياقها وأسباب نزولها وهو ما يُمكِن مُعارضته بآيات أقرب في سياق
آخر.
لذلك أكثر الله في القرآن مدح المؤمنين وذمِّ الكافِرِين وبيان الوعد والوعيد والفلك
وذمِّ المُريدين للدنيا ومدح المريدين للآخرة وبيان أوصاف أهل الجنة الرُّوحية لا الجسمية،
وسكان الجنان وهي ثمانية، وكذلك أوصاف أهل النار، وتَكثُر الآيات لبيان أن الديانات
والشرائع ووظائف العبادات طرُقٌ ومسالكُ إلى اللهِ كما أنَّ القرآن نفسه وسيلة للتقرب
إلى
الله مثل الصلاة والصوم والتسبيح والدعاء، والقرآن أخلاق الإخوان كما كان الرسول يتأوَّلُ
القُرآن بتهجُّده ليلًا، والإقرار به من علامات الإيمان وبما أتي مِن الغَيب، وهناك إحساس
بالنصر، تعويضًا عن الهزيمة كما هو الحال في جماعات الخلاص في تاريخ الأديان حتى الجماعات
الإسلامية المعاصرة.
١٠٥
ويتمُّ تأويل الآيات تأويلًا فلسفيًّا طبقًا لهرمس المثلَّث بالحكمة وهو إدريس النبي،
إبهامًا للعامة بالحقائق كنوع من الثقافة الشعبية الوجدانية لا العِلمية ولا العقلية.
وأحيانًا يتمُّ تقطيعُ الآيةِ عبارةً عبارةً، بل ولفظًا لفظًا حتى يسهل تأويلها جزءًا
جزءًا
قبل التأويل الكلي. فلكل شيء ظاهر وباطن.
١٠٦
ومُعظَم الآيات المُنتقاة آيات فردية نفسية أكثر منها آيات اجتماعية سياسية. متَّجهة
إلى أعلى خارج العالم أكثر منها متَّجهة إلى أسفل داخل العالم، تأويل أكثر منها تنزيل،
وتَجمع آيات النفس كلها بالمئات. هو تأويل إشراقي خارج أسباب النُّزول وكأنَّ الآيات
نزلت
على نفس القارئ مباشرة. لذلك يَختار الإخوان كل ألفاظ الصعود دون النزول. والإشراق من
الشمس، والقمر من الشمس والقمر من النفس الكلية، والنفس الكلية من العقل الكُلي، والعقل
الكلي فيض من الباري.
١٠٧
والتأويل في النفس وفي الواقع، في الداخل وفي الخارج؛ إذ لا تَعمى الأبصار ولكن تَعمى
القلوب التي في الصُّدور. العلم هو العلم بتأويل الأحاديث وتصديق الرؤية. فالعلم واقع.
١٠٨
والغاية من هذا التأويل الباطن الانسلاخ من الدنيا والانعراج نحو الآخرة، والقضاء
على
الاغتراب في الدنيا من أجل التوحُّد مع الآخرة. وفسرت الآيات كلها تفسيرًا رُوحيًّا بعيدًا
عن الحسنِ وكردِّ فعل على حياة البذخ والترف والانكِباب على الدنيا. يتَّضح ذلك في الرسالة
التاسِعة، أطول رسائل الجزء الأول. ظاهرها العلم وباطنها التصوُّف مثل نهايات «الإشارات
والتنبيهات» لابنِ سينا. لذلك تكثر آيات العروج، عروج أرواح النبيِّين والصديقين والشهداء
والصالحين المحقِّين المُستبصِرين، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحونَ.
١٠٩
ويقوم هذا الخَلاص على ثُنائية الخير والشر، الثواب العقاب، الوعد والوعيد، الجنة
والنار، الرُّوح والبدن كما هو الحال في ثنائيات الصوفية التي تعرب عن رغبة جماعات
الاضطِهاد في الخلاص. وتأخُذ الثنائيات أشكالًا اجتماعية مثل الغنى والفقر، القوة والضعف،
النُّبل والحقارة، القرب والبُعد، الجود والبخل، الحياء والصلف، المهابة والصنعة، السلامة
والسقم التي تَكشِف عن الصِّراع بين قوَّتَي العدلِ والظلم، المُضطهَدين ضدَّ المُضطهِدين،
الجماعة السرِّية ضد النظام القائم، مما أنتج أخلاق العزاء والأمل في عالمٍ أفضل، والعودة
إلى النفس لإنقاذها بعد أن استَعصى خلاص العالم. لذلك تمَّ تفسير الآيات على نحوٍ إشراقي
عن
العلم في النفس، والحِرمان والطرد ومُقاومة العدو والجزاء والعقاب. فتحوَّلَت العقائد
إلى
مأساة في الخلق والبعث. والآيات القُرآنية نفسها تسمح بهذا التفسير الإشراقي كما تَسمَح
بغيرِه من التفسيرات العَقلية والاجتِماعية والسياسية. فكل عصرٍ يقرأ نفسَه فيه. يَكشف
التفسير عن صورة العصر أكثر مما يَكشف عن مضمون القرآن. القرآن مجرَّد مرآةٍ عاكسة للعصر
من
خلال صورته في التفسير، تفسير الظاهر أو المقهور، الغني أو الفقير، القوي أو الضعيف،
السلطة
أم المعارَضة، الدولة أم الشعب.
(ﺟ) آيات النسق
ويصعب التمييز بين آيات المنطق والطبيعيات والإلهيات. فكلُّها آيات إشراقية، منطق
إشراقي، وطبيعيات إشراقية، وإلهيات إشراقية. تصبُّ الحكمة كلها في إشراق النفس. المنطق
ليس
أداة للعلم لأنَّ العلم إشراقي وأداته إشراقية. يأتي من الإسراء والمعراج كما فعل محمد
ومِن
الكلام مِن الله كما فعل موسى،
يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. المنطق علم إشراقي، علمٌ نظري
خالِص، نورٌ يهدي الإنسان، علم لدنُّيٌّ من السماء. شرطُه الزهد ومُقاوَمة متاع الدنيا
والتحذير من غُرورِها واللَّهو والزينة واللعب والنساء والبنين والذهب والفضَّة، هذا
الهشيم
الذي تذرُوه الرياح. الله نور السموات والأرض، نورُه كمشكاة فيها مصباح في زجاجة، كوكب
دري
يُضيء. الإشراق في النفس طبيعي لأنَّ الله نورُ الطبيعة على عكس النفس المظلمة التي تعيش
في
الظلمات. وقد كانَتِ النفس من قبل هُبوطِها إلى البدن في إشراقها ثم هبطت إلى العالم
وأصبحت
في جسد، فسادتْها الأهواءُ والعداوات. وهنا تنال النفوس المضيئة نعيمها، والنفوس المُظلِمة
عذابها بلا عمل صالح إلا مجاهدة النفس مكافأة على الإشراق.
١١٠
العلم إذن هو العِلم الربَّاني، شرح الله الصدر للإسلام، النور في المشكاة في المصباح
على عكسِ الكافر الذي يَسعى في الظلمات. والإيمان يورث العلم، الإيمان أولًا والعلم ثانيًا.
الإقرار فالتصديق فالعلم والعمل هو طريق الأنبياء والحكماء. الإقرار ثمَّ الإيمان ثمَّ
المعرفة الإسلام ثم التصديق ثم العقل. فالناس ثلاث طبقات؛ علم وإيمان، إيمان بلا علم،
علم
بلا إيمان. فالعلماء على درجات طبقًا لعلومهم، أعلاها علم الإيمان، والكتاب فضلٌ من الله،
وهو ثلاث درجات؛ ظلم النفس والاقتضاء ثمَّ السبق بالخيرات وهو علم متاع في الدنيا إلى
يوم
البعث. وهو العلم بالغيب مع أهل الاعتبار.
١١١
والعِلم في النفس، ويتمُّ عند البلوغ ونيل الحكمة، والعلم أول ما نزل من القرآن،
ولقد
خلقت السمع والأبصار والأفئدة والقلوب والأذان لمعرفة الظاهر والباطن. وقد خلق الإنسان
ولا
يعلم شيئًا من أجل تبرير الوحي والرسالة. ثم تبدأ المعرفة من الحواس ولكن فيها عِلم آخر
مُودَع فيها لم يأتِ من الحواس. هو علم التوحيد والربوبية يَكشف الله عنه لعباده عندما
يأتيهم اليقين. وهو علمُ تأويل الأحاديث الذي أعطاه الله ليُوسف. وهو أيضًا علم التَّنزيه
لأنه بعد الوصول لا يُمكن رؤية الله بالرغم من تشوُّق العلماء لرؤيته.
١١٢ ويتطوَّر العلم مع تطور النفس. لا يعلم الطفل شيئًا حتى يتمُّ اكتشاف العلم ثم
يصلُ إلى مرتبة العلم والحكمة، وعندما تكون على البصر غشاوةً ويُسود الهوى لا يحدث العلم.
١١٣
وقد يحدث العلم عن طريق الاستِدلال كما فعل إبراهيم وهو طريق النظر والاختصاص. أما
الجدل في الدين والخصومة في الحق فليس طريقًا إلى المعرفة. الخلافيات جزء من علم الأصول.
وتضاد الإشراق.
١١٤ وتتفاوَت العقول في المعرفة بالدليل الحسي والعقلي والنقلي طبقًا لدرجات
الإدراك والفهم والتأويل.
وكما أن التدوين واللغة والمنطق تعليم من الله كذلك السماع الطبيعي أيضًا تعليم من
الله. إذ تتجلَّى الحكمة الإلهية في الطبيعة، الليل والنهار، الشمس والقمر. فقد تمَّ
الخلق
بالحق، والحكمة شهد بها أولوا العلم والملائكة، والتوجُّه نحو الطبيعة في القرآن هو أساس
العلم الطبيعي وليس أرسطو. ولا فرق بين أن يكون القرآن مصدرًا للطبيعة وبين أن تكون الطبيعة
مصدرًا للقرآن نظرًا؛ لأن التنزيل والتأويل شيء واحد. والعالم مُحدَث مُبدَع مُخترَع
كائن
بعد أن لم يكن بأمرِ كُنْ، والأفلاك والجبال والطيور وكل ما في الخلق بتقديرِه. فالطبيعة
دليل إلى الله. وتمَّ خلقُ كل شيء بمقدار على قدرٍ مَوزُون. ولما كان الله هو المثل الأعلى
فقد خلق كل شيء على نحوٍ كامل.
١١٥
ويتمُّ الاستِشهادُ بآياتِ الكون والفلك والطبيعة تدعيمًا للطبيعيات. كل فلك يَسبح،
والقمرُ له مَنازل. وفي القرآن دعوة للتأمل في الكون؛ إذ لا يستوي العلم والجهل. وتذكر
آيات
الأفلاك في فصل تركيب الأفلاك وأطباق السموات في الرسالة الأولى عن الصورة والهيولي (السماع
الطبيعي) ولتأييد «الآثار العُلوية»، وتبيَّن الخطأ الشائع أن المطر نزل من بحرٍ من السماء
وأنَّ البرد يقع من الجبال. ويتمُّ تصحيح سوءِ تأويل القرآن ووضع التأويل الصحيح. فالغرض
ليس وافدًا من أرسطو في «الآثار العلوية» بل قصد محليٌّ صرف، هو تصحيح الأخطاء الشائعة
والتأويلات الخاطئة اعتمادًا على اللغة العربية والمعاني الاشتقاقية. فالسماء في لغة
العرب
ما يعلُو الرأس، والمطر ما نزل من السحاب، ويعني أيضًا السماء لارتفاعها. كما يظن الناس
خطأ
أن الشهب كواكب تسقط من السماء على الأرض، ويُسيئون تأويل القرآن. ويستعمل الإخوان اللغة
الشائعة للبرهنة على سوء التأويل؛ فالشهب تحدث في السماء بإشراق الكواكب. فالإشراق ليس
فقط
نفسيًّا بل طبيعيًّا.
١١٦
والطبيعة موضوع للتفكير، والطير له لغته التي فهمَها سليمان، عرف منه ما يُريد عن
سبأ
وملكها وسجود قومها لغير الله. وكل الحيوان والطير أمم مثل البشر. ومنها يتعلَّم الإنسان
التحصين والدفاع عن النفس، واللغة قد تكون منطق الطير ومنطق التدوين ومنطق الكشف كما
هو
الحال في الإسراء والمعراج وكلام موسى مع الله، ولغة الطبيعة في الخلق والبعث، ولغة الإقناع
في النشأة والعودة، ولغة التجربة والمشاهدة كما فعل إبراهيم مع قومه وتحطيمه الأصنام،
ولغة
الطبيعة في المعجزات، ولغة الحروف في أوائل السور، ولغة تسبيح الموجودات من الحكماء
والراسِخين في العلم.
١١٧
وللطبيعة نظامٌ بديع وثابت، تكوير الشمس واندثار النجوم، خلقها الله بفعل كن فيكون.
وقد
تمَّ خلق السموات والأرض تدريجيًّا في ستة أيام؛ فالخَلق في الزمان ولكن يوم الله بألف
سنة
من أيام البشر، والله مسير لقوانين الطبيعة. ينزل من السماء الماء فتَسيل الأودية بقدر.
ويُحوِّل الإخوان أفعال الطبيعة إلى أفعال القلوب، والعالم الأكبر إلى العالم الأصغر.
والطبيعة في عَلاقة مع الله. فقد أمر الله أن يتَّخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر، وخرج
شراب
مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، والطبيعة مُسخَّرة للإنسان بأمر الله، الأنعام فيها دفء
ومنافِع، طعام وجمال، حمل وانتقال. وأحيانًا تدخل الخُرافة من السماء في وصف الأرض نظرًا
لضياع الأرض واستجداء السماء.
١١٨
ويتمُّ تخصيص خلق الإنسان. فقد خلق من تراب ومن طين ومن ماء وافق. ثم تطوَّر الخلق
من
نطفة في قرار مَكين إلى علقة فمُضغة فعظام فلحم حتى أصبح خلقًا آخر مثل التدرُّج في الحياة
من الطفولة إلى الكهولة إلى الموت، ثمَّ إلى الحياة من جديد. ولقد خلق الإنسان من ضعفٍ
وشيب. والنشأة والعودة الجِسمية مثل النشأة والعودة الرُّوحانية، الاستِتار والخروج،
دورة
المياه في الكون مثل دوران الحكم في التاريخ مثل دورة أحوال البشر. ثم أنشأ خلقًا آخرَ
لإفادة الانقطاع؛ أي قدم نظام عدلٍ مُختلِف نوعيًّا عن نظم الحكم السابقة. وتَستعمل الآيات
لتصوير الخلق، من كل زوجَين اثنَين مما تنبت الأرض ومن النفس وكأنَّها العناصر الأربعة
في
الطبيعة. وهذا من فضل الله نظرًا للعشقِ وشوقِ كلٍّ منهما إلى الآخر.
١١٩ وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم، مرتبة الإنسانية. ثمَّ يَرتقي ويبلغ أشده
ويستوي ويُؤتي الحكم والعلم، ويحيا بعد موتٍ بالعلم وهو النور الذي يَهدي في الظلمات،
وبالإيمان الذي يرفع الدرجات. فالإنسان خلق أقدارًا في قمَّتها الدعوة إلى الله والسلوك
في
سبيله دون أن يُشاقِق الرسول. خلق الإنسان في أحسن صورة، وهي ليسَت صُورة جسمية بل صورة
رُوحية. فإذا حسن الجسد وفسدت الرُّوح قبحت الصورة وتحوَّل الإنسان من أعلى عليين إلى
أسفل
سافِلين. والإنسان خليفة الله في الأرض، يُحقِّق كلمته ثم يعود إليه. وأول خليفة هو آدم.
١٢٠
ويتمُّ التركيز على خلق النفس والنشأة الأولى
ثمَّ النشأة الثانية من الخلق إلى المعاد. لقد خلق البشر من نفس واحدة، أصل واحد للبشر،
وتتفاوَت مراتب النفوس مثل مراتب الملائكة. وأعدادها لا يَعلمها إلا الله. وقد شهدت مع
الملائكة وأُولوا العلم في أول الخلق على الوحدانية في عهد الذر الأول كما هو الحال عند
الصوفية، الشهادة على الأنفس وعلى وحدانية الله كما شهد موسى على الخلق وشهد الجنة والإنس
على العباد، وذلك في رسالة «المعادن» انتقالًا من العلم إلى الدين، ثم تتمُّ العودة إلى
الأصل الأول بعد التشتُّت والضياع في الخلق. تَشتاق النفوس إلى الصعود إلى أبواب السماء.
والبعث نشأة ثانية أسهل من الخلق الأول.
١٢١
ويتم الانتقال من الطبيعيات إلى الإلهيات وكأنهما علم واحد مرة مفعولًا ومرة فاعلًا.
تستعمل الآيات لإثبات علم الله الشامل وقدرته المطلقة. هو الرامي لكل الرامين، والفاعل
لكل
الفاعلين، والخالق، والزارع، والحارث وكأنها حرية مُطلَقة. وأحيانًا يكون الفعل الإنساني
مجرَّد مُناسبة للفعل الإلهي، فما من دابة أو طير إلا وعلى الله رزقه. وهو المعاقب الذي
أرسل الطير الأبابيل بأصحاب الفيل. لذلك كفر قارُون عندما ادَّعى العلم. فلا يعلم جنود
الله
إلا هو لأن علمه محيط بكل شيء.
١٢٢ ويتمُّ التعبير عن الله بالصورة الفنية. فالله نور السموات والأرض، نوره كمشكاة
فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا
شرقية
ولا غربية. يُمسك السموات والأرض، وكلاهما مطويات بيمينه. يهدي من يشاء ويُنزل من السماء
الماء فتنزل الأودية بقدرها. وهو في كل مكان، واحد، لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار.
١٢٣ ويَشهد بذلك الله والملائكة وأولوا العلم. هو الأول والآخر، الظاهر والباطن،
حاضر في كل مكان. كل يوم هو في شأن. يَسجد الملائكة وهم في أعلى القامات في العلوم لقُربِهم
من الله.
١٢٤
وكما أنَّ الله هو الخالق فإنه هو الرب المعتني بالعالم، يهدي، ويُطعم، ويَسقي، ويشفي،
ويُميت، ويُحيي، ويغفر، وهو الذي يرسل المطر والريح والضياء.
١٢٥ هو الذي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، بيده كل شيء، ما يُصيب الإنسان من
خير أو شر، من ثواب أو عقاب في الدنيا أو في الآخرة.
ويدخل موضوع الرسالة والنبوة والأنبياء والمعاد ضمنَ الإلهيات. فالرسالة دعوة إلى
الله،
وتنبيه على الآخرة والثواب والعقاب طبقًا للعمل، مثل دعوة الأئمة. القرآن تذكره، وموعظة
حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، وقول سديد، وأمر بالمعروف، ومعيار للاختلاف. وهي دعوة إلى
السلام. وهي الطريق المستقيم والسبيل إلى الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى
الله
بقلب سليم والرسالة طريق الاتِّصال بين الله والبشر وحيًّا أو من وراء حجاب أو إرسال
رسول.
وهي دليل وبُرهان حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وتكون بلغة القوم كما أن
القرآن بالعربية للعرب.
١٢٦ وهي غير متوارَثة، ليست في ذرية بالضرورة بل في أصل العمل الصالح، وهي النبوة
النفسانية لا الجسمية.
١٢٧ والإيمان لا إكراه فيه. والآيات للاتباع. ومناسك الحج وفرائضه أمثلة لتذكير
النفوس بالمعاد وإيقاظها من الغفلة. ولا تنجو النفس بمفردها بل بالتعاون على البر والتقوى،
والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والحسنات يُذهبن السيئات، واكتناز الذهب والفضة دون
إنفاقهما في سبيل الله يعذب بهما صاحبهما.
١٢٨
وقد بعث الله الأنبياء مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب والموازين لكي لا يكون على
الله
حجة بعد الرسل. فيكون الإنسان حسيب نفسه، لديه كتاب حق، يسجل عمله، وصراطه مستقيم.
والأنبياء كثيرون، ولكلٍّ منهُم شرعةٌ ومنهاجٌ، تقود وكلها إلى غاية واحدة. تتَّفق الأنبياء
في العقائد والأخلاق وتختلف في النواميس والشرائع. كما تختلف الشرائع حسب الأزمنة، وما
من
أمة إلا خلا فيها نذير. وهم المُصطفَون المؤمنون بالرسالات، الأقلية الصالحة والأولياء،
الوعي المُستقِل عن الوعي الجَمعي والذي أدرك البينات مثل وعي الرجل من آل فرعون الذي
تمَّ
إيمانه للتشجيع والانخراط في الدعوة السرِّية، الأقلية المؤمنة. والوعي الفردي مسئولية
شخصية، وهم المُصطفَون الذين يَرثُون الكتاب السابقون بالخيرات. هم فتية آمنوا بربهم
وازدادوا هدًى، وهم نموذج الإخوان الأوائل.
١٢٩
والرسول في علاقة مع الله مثل المؤمن. هو خاتم الأنبياء، وقادر على تجميع الناس بالرفق
واللين، والرسل قدوة حسنة كما أن الرسول على خلق عظيم.
١٣٠ ويَرتاح الرسول إلى التصديق والبرهان العياني. لذلك كانت المعجزات أدلة
الأنبياء، عصا موسى، سلامة إبراهيم، القرآن لمحمد. الغاية منها التخويف. واتباع الأراذل
لهم
ليست حجة ضد الأنبياء لأنهم أتوا للمُضطهدين في كل مجتمع، والمنبوذين في كل أمة؟
١٣١
وآياتُ الشيطان كثيرة مما يدلُّ على المصدر
الداخلي للفكر عن طريق التفسير الموضوعي للقرآن، تجميع الآيات في نفس الموضوع من السور
المتفرِّقة من الذاكرة فلم تكن هناك معاجم مفهرسة لترتيب السور من البقرة إلى «الناس»
كما
فعل الإخوان.
١٣٢ لقد رفَض إبليس السجود لآدم لاستكبارِه؛ ومن ثم أصبح عدوًّا للإنسان الذي
علَّمه الله الأسماء، وهو عدو للإنسان. أخرج آدم وزوجته من الجنة بالرغم من خطئه في قياس
الكيف على الكم، النار على الطين. كان الاستكبار سبب عصيانه فأغوى آدم وظل عدوًّا للإنسان،
وطلب الوقت لغوايته فأعطاه الله ما سأل، وأصبح الزمان تحديًا بين الإنسان والشيطان. ولما
كان الشيطان عدوًّا للنفس لزمت مجاهدته. وهو الوسواس الخناس الذي يُوسوس في الصدور. يَرى
الإنسان ولا يَراه الإنسان، ومن عداوته التوجُّه إلى الأنبياء والغلط عليهم في الوحي،
وقد
بدأت غواية آدم ظالمًا لنفسِه ومع ذلك اصطفَى الله آدم ونوحًا وإبراهيم وآل عمران. فللإنسان
حدودُه وعظمتُه، وكذلك تَكثر الآيات حول السحر والفرق بينه وبين المُعجزة. فالسحر من
عمل
الشيطان ليفرق به بين المرء وزوجِه والإضرار بالناس مما يَجعل الناس يَكفُرون بالمعجزات
وآيات الأنبياء ويجعلونها سحرًا. وبعض السحرة يستسلم للمعجزة ويؤمن بالله، والله لا يظلم
أحد. والقرآن سحر ولكنه سحرٌ صادق يسحر الألباب ويقرأ في السحر.
١٣٣
والنفس مُستعدة للخير والشر، وللإنسان حرية التقوى والفجور، وهو قادر على أن يُحوِّلَها
إلى نفس مطمئنة أو إلى نفس أمارة بالسوء. والنفس المطمئنة ترفع إلى ربها مرضية. وهو قادر
بفعله على التمييز بين الحسن والقبح كما يُميِّز الوحي بين الخبيث والطيب. فالنفس قادرة
على
المعرفة. وهي مسئولة عن أفعالها. والمسئولية الفردية أساس الحساب والعقاب. ولا تنفع التبعية
يوم الندم. وقد وعَدَ اللهُ المؤمنين بالثواب والمُفسدين بالعقاب طبقًا لقانون الاستِحقاق
لينجوَ من ينجو ويهلك من يهلك عن بينة. وهناك فرق بين الإسلام والإيمان. الإسلام بالشفتَين
والإيمان بالقلب. فكل مؤمن مُسلم وليس كل مسلم مؤمنًا. والإحسان بالوالدين من الإيمان
إلا
أن يَدعُوَا إلى الشرك بالله.
١٣٤ والدنيا دار عمل وجهاد، والحياة امتِحان واختبار. وخير عمل هو الجهاد في سبيل
الله الذي يُعطي الخلود. والجهاد أيضًا هو جهاد النفس، والهجرة والمعراج، وتحول الضعف
إلى
قوة، وضرورة النصر من تطلُّعات المجتمَع المُضطهد. وفي نفس الوقت لا يكلف الله نفسًا
إلا
وسعها. والأولوية للفعل الإنساني، فإذا نسيَ الإنسان الله أنساه نفسه.
١٣٥
وفي العلوم الإلهية الناموسية والشرعية تَكثُر آيات الأخلاق والمعاد والمجتمع والتاريخ.
فالعمل الصالح هو أساس النجاة. وليس للإنسان إلا ما سعى. وطريق النجاة هو طريق إبراهيم،
التقوى والعمل الصالح. والسيطرة على النفس فضيلة، عدم الحزن على ما فات أو الفرج بما
هو
آتٍ. والدار الآخِرة نتيجة للتواضُع والإصلاح، والحظ العظيم للصابرين. وكل عمل في الدنيا
يكون حاضرًا للإنسان في الآخرة، خيرًا أو شرًّا، فليس للإنسان إلا ما سعى، وسعيه سوف
يُرى،
ويُوفَّى الجزاء الأوفى. الطريق إلى النجاة الصبر والعفو. والجهاد أكبر عمل صالح، والشهداء
هم الذين يُشاهدُون ربهم بتقدُّم عمل الإنسان يوم القيامة. ومن لا عمل له يودُّ لو يُردُّ
إلى الدنيا فيعمل صالحًا وقد باء بالخسران، والحياة امتحان واختبار وليست عبثًا. ويأتي
كل
إنسان فردًا. وليس العمل الصالح وحده الصلاة والصوم بل عمارة الأرض والسعي فيها فالدنيا
مزرعة الآخرة، والحسد رذيلة.
١٣٦ أما المنافقون الضالُّون فهمُ العدو الذي يجب الحذر منهم، مأواهم جهنَّم،
يَحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. ويستمعون إلى غواية الشيطان في النار التي
تطَّلع
على الأفئدة، دهورًا بلا طعام أو شراب. تستبدل جُلودَهم لمزيد من العذاب. وهم الذين يؤمنون
باللسان وليس بالقلب. وهم في العذاب دومًا. يَحسبون كل صيحة عليهم. وهم العدو الذي يجب
الحذر منهم. ويندم الكافرون ويتمنَّون أن يكونوا ترابًا أو العودة إلى الدنيا والعمل
صالحًا
أو طلب الشفاعة مع إنهم لو رُدُّوا لعادُوا إلى نفس الأفعال، أفرادًا وجماعات، لا فرق
بين
الإنسان والجن. يودُّون التعمير في الأرض، وهذا لا يُعفيه من العذاب.
١٣٧
وتظهر عديد من الأحوال والمقامات الصوفية كرصيدٍ للأخلاق كأفعال لبَواطن القلوب.
فالتوبة طريق التحوُّل من السيئات إلى الحسنات وتجاوُز غواية الشيطان كما فعَل آدم. والله
يَقبل التوبة لمن أناب. والشكر على النعم من طباع الإنسان. والتقوى خير زاد في الرِّحال.
والصبر طريق الفوز، والذي لا يصبر يظنُّ بالله ظن السوء، والتوحيد طريق لقاء الله وليس
الشرك. والعفو والصفح والمغفرة من أفعال الله ومن أخلاق الإنسان. والخوف من الله طريق
النجاة، بل إن الملائكة يخشون الله ويُطيعونه، وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله. والتفكر
طريق إلى الله، وكذلك التوكُّل سعي إليه.
١٣٨ ولا يوجد اصطفاء أو اختيار كطريق للنجاة. لا تُوجد ولاية أو محبَّة أبَدية بين
إله وشعب. إنما الاصطِفاء والوراثة للعمل الصالح. فالفعل متبادَل بين الفعل الإلهي وفعل
الإنسان. هو فعل الشرط والفعل الإلهي جواب الشرط. والدعاء يَجلب الفرج. والرضا متبادَل
بين
الإنسان والله، ويُؤَوِّله الإخوان على أنه رضا بالقضاء والقدر. والإيمان بالمصائب دليل
على
التقوى وليس الخير. ثمَّ إذا جاء الشر جلب الكفر. واتِّباع أحسن القول يُؤدِّي إلى النجاة،
الإيمان بالله وطاعة رسوله وتجاوز الدنيا إلى الآخرة. والزهد شرط العلماء، والعلماء هم
الزهاد. العمل أساس النظر، ومن شكَر فإنَّما يشكر لنفسِه ومَن كفر فإنَّ الله غني عنه.
ومن
ظلم فإنما يَظلم نفسه.
١٣٩
والوعد حق. وتأتي الساعة فجأةً كلمحِ البصر وعلى غير انتظار، والخالق هو الباعث،
والمُحيي هو المميت. وكما بدأت الحياة أول مرة فإنها تعود ويَعرُج الكل إلى الله في يوم
مقداره خمسون ألف سنة. واليوم عند الله ألف سنة مما يَعدُّ الناس. والزمان نفسي، ويوم
البعث
لا يدرك الخاسر الزمان، ويظنُّ أنه قام بعد ساعة. ولها أسماء عديدة: يوم البعث، يوم الدين،
يوم الحشر، يوم الخروج، يوم تقوم الساعة. والرُّوح من أمر الله ولم يؤت الإنسان من العلم
إلا قليلًا.
١٤٠ وكل شيء مُسجَّل، وكل ما يعمله الإنسان يجده مكتوبًا. هو اليوم الفصل الذي
يتمُّ فيه الحكم بين جميع المتخاصمَين. وهو ميزان عدل. وهناك برزخ بين الموت والبعث.
١٤١
ويبدو الثواب والعقاب وكأنَّهما حركتان للطبيعة. يدور المُحسنون والمسيئون مع حركات
الأفلاك. فاشتهاء النفس والْتذاذ الأعيُن والخلود في الجنة للمُحسنين، وتبديل الجلود
لذوق
العذاب للمُسيئين أفعال للطبيعة. فالطبيعة متَّجهة نحو المعاد وطريق إليه. وتؤدِّي إلى
مشاهد القيامة والحساب، والكواكب الثابتة الحافَّة بالفلك التاسع هي الملائكة الحافة
بالعرش. والجنة عرضها السموات والأرض، وجهنَّم مملوءة بالجنِّ والناس.
١٤٢
وكما يبدأ البشر من المصدر الأول يعودُون إليه. بدءوا مُتساوين وانتهوا مختلفين بين
الهداية والضلالة. يَنال الفوز بجنات النعيم عباد الرحمن الذين يَمشُون على الأرض هونًا،
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، رحماء بينهم، ركَّع سجد، أشبه بأخلاق الملائكة الذين
يَحملون العرش، والذين نهوا النفس عن الهوى وأصبحوا أحرارًا من غواية الشيطان، ولا تَدري
النفس ما أُعدَّ لها من نعيم. ومن يتمتع في الدنيا مع نسيان الآخرة يحرم منها في الآخرة،
ومن قتَّر على نفسه في الدنيا فتحت له أبواب الآخرة، فالدنيا معبر للآخرة. ولا يفرح الإنسان
بها كما فرح قارون من قبل إلا إذا كانت طريقًا إلى الآخرة. لذلك يعاتب الله المُسرفين.
وكل
خير يقدم في الدنيا يكون خيرًا في الآخرة. فينال المؤمنون الدنيا والآخرة.
١٤٣ في الجنة ما تَشتهي الأنفس. الأبرار في نعيم وفي عليين. تفتح لهم أبواب الجنات،
وتسلم عليهم خزنتها، وتعرض عدة صور للنعيم، الاتكاء على الأرائك وطواف الولدان المُخلدِين
بالأكواب والأباريق والسدر المخضوض، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب،
والمقعد الصدق، وكل ما تَشتهيه الأنفس، والعسل المصفَّى. وكلها صدور لدلالات روحانية.
المؤمنون هم أصحاب اليمين الذين يسعون إلى ذكر الله ويَذَرُون البيع ويتزوَّدون بالتقوى
والعمل الصالح والتواضُع في الدنيا.
١٤٤
ويعرف المؤمنون الحق، والنفس المطمئنة هي النفس الراضية التي كانت تسارع في الخيرات،
وتدعو الله رغبة ورهبة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تنظر إلى ربها، وتدخل عليهم الملائكة
من كل باب لأنهم كانوا يؤمنون بالآخرة ولا يَستكبرُون. يُحبُّون الله، ويوفيهم الله الحساب،
ويسعى نورهم بين أيديهم، تحيتهم فيها سلام.
١٤٥ وتُشير ألفاظ الفتى والفتية إلى المؤمن والمؤمنين والحكيم والحكماء. وهم خير من
الخاسر والخاسرين الذين يألَمون في الدنيا والآخرة. يَرجُون من الله ما لا يرجوه الكافرون.
أعد لهم النعيم ويُوفِّي أجر الصابرين، ويَحميهم الله في الدنيا. ولا يَستوي الذين يعملون
والذين لا يعملون. يدخل الملائكة على المؤمنين من كل باب. تتوفَّاهم الملائكة طيبي النفوس.
ينهون النفس عن الهوى ويتقون، ويذكرون الله بصرف النظر عن شكل الدين.
١٤٦ ويعتمد الإخوان كثيرًا على الآيات القرآنية لإثبات القيامة دون تحليل عقلي كافٍ
مثل الرغبة في الخلود، والتواصُل ضد القطيعة والنهاية، وبقاء العمل والأثر في الناس
استمرارًا للجهد، والرغبة في أن يكون للعدل الكلمة الأخيرة على الظلم.
وأما الخاسرون فإنهم يَنالُون العذاب الأليم، كلما نضجَت جلودُهُم بُدِّلت جلودًا
غيرَها لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا. والعذاب ضروري حتى لو عاش الخاسر ألف عام. لا تُفتَّح
لهم أبواب السماء حتى يدخل الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. عاشوا قرناء الشياطين، ولهم
عذاب أليم. أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ. ومن لا يذكر الرحمن يكن الشيطان قرينه.
يودون لو يردوا إلى الدنيا كي يعملوا صالحًا. فقد ظنوا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة
وتفاخر بالأموال والأولاد، وكلها ظاهر وعرض وغرور، والآخرة خير وأبقى. فلا ينالون إلا
السراب. يحال بينهم وبين ما يشتهون يوم القيامة. الزمان لا يعود، ولا يُردُّون إلى الحياة
الدنيا، ويعرضون على النار غدوةً وعشيًّا. قلَّدُوا الآخرين فانطبق عليهم قانون التبعية
والتقليد أو الذبذبة بين المواقف أو تبعية الشيطان. كذبوا بآيات الله.
١٤٧ وهم مَحجُوبون عن الله بما كسبوا من أفعال، زاغوا فأزاغ اللهُ قلوبَهم. رضوا
بالحياة الدنيا ويئسُوا من الآخرة. لم يذكروا الله فحمَلُوا أوزارهم على ظهورهم ولم يؤمنوا
بالآخرة واستكبرُوا. وسخروا من المؤمنين في الدنيا، وكانوا يضحكون عليهم ويتغامزون. ويدرك
الخاسرون المأساة عندما يجدون كل أمة تَلعن أختها. ويستجدي الظالمون أمام الله، ظلموا
أنفسهم، وكانوا إخوان الشياطين. ومَن كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل
سبيلًا.
١٤٨
وبين المؤمنين والخاسرين هناك أهل الأعراف بين الجنة والنار، حالة افتراضية صورية
تحسمها الطبيعة الخيرة والبراءة الأصلية في حالة التساوي بين الخير والشر.
١٤٩
وتبدو آيات القسم الرابع عن العلوم الإلهية
الناموسية والشرعية قليلة. وتصب كلها في نفس الثنائية، ثنائية الخير والشر على المستوى
الاجتماعي. وتكشف عن التعارض بين مجتمعين، مجتمع الخير ومجتمع الشر كما هو الحال في الأخلاق
والمعاد. مجتمع الخير هو مجتمع الإخوان ومن والاهم، مجتمع مغلق طاهر. ففي الأرض صالحون
وفاسدون. ويستشهد الإخوان أيضًا في مسار التاريخ بالآيات على حتمية زوال دولة الظلم وقدوم
دولة الحق مما يكشف عن الهدف السياسي للإخوان. ومصير دول الظلم كلها في النار، يلعن بعضها
بعضًا. ويتم التأكيد على المعارضة من أجل الثورة على الحاكم الظالم. فالتاريخ دورات وأحقاب،
والصراع واقع في العالم. فإما أن يقبل الإنسان الصراع وإما أن يتخلف عنه فيأتي الله بقوم
يحبهم ويحبونه ويقبلون الدخول فيه. تتوالى المجتمعات بعضها وراء بعض، وتنهض الأمم وتنهار.
الظالمون أولياء لبعضهم والمؤمنون أولياء أيضًا لبعضهم.
١٥٠ والله مع جماعة المؤمنين. وهي جماعة مترابطة بفعل الإيمان، تحب من يهاجر إليها،
وتؤكد الرسائل ضرورة التعاون بين الإخوة والترابط الاجتماعي. وهم مثال على ذلك. فالولاية
لهم وليس لغيرهم والترابط الاجتماعي وهم، والصلح بين الزوجين واجب قبل الطلاق. والشريعة
ضرورية للمجتمع مثل القصاص. والتحريم طلب من الناس حتى ولو ضاقوا به. والطريق الآخر مترابط
في الشر، وتتميز المجتمعات فيما بينها بالهدف الذي تجتمع عليه.
١٥١
ومع ذلك يظل الوعي الفردي مستقلًّا عن الوعي الاجتماعي مثل الرجل من آل فرعون الذي
يكتم
إيمانه ومثل إبراهيم مع قومه ومثل كل نبي مثل نوح. ثم يكبر هذا الوعي ويتمدد ويُصبح القلة
المؤمنة الذين اشترى الله منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، ومثل الشهداء وحواريي المسيح الذي
يبايعون المؤمنين والأنبياء، وهم الإخوان.
١٥٢
(د) الأحاديث
وتظهر الأحاديث بصُورة أقل من الآيات حوالي العُشر، وتظهر في نفس العبارات التي بها
تعبير «رسول الله». وتستعمل في نفس النسق العقائدي الفلسفي، التوحيد والعدل؛ أي العقليات
والسمعيات، الإلهيات والنبوات. والمرويات في السمعيات أكثر منها في العقليات، وفي السمعيات
تبرز أولًا في الإيمان والعمل ثم النبوة ثم المعاد والإمامة. وتستعمل الأحاديث تدعيمًا
للآيات ما دام القرآن والحديث مصدرَين للعلم.
١٥٣
ففي نظرية العلم، في فضل طلب العلم يذكر حديث عن تعلُّم العلم لأنه خشية وعبادة وتسبيح،
ومعرفة بالحلال والحرام، والسبيل إلى الجنة، والمؤنس في الوحدة، والصاحب في الغربة والسلام
على العدو، وزين الأخلاق، وحياة القلب، وقوة البدن، طريق العبادة والأجر ووصْل الرحم
وتأييد
له كما هو الحال في أحاديث كتاب العلم في بداية «إحياء علم الدين». وهو حديثٌ طويل، صوفي
إشراقي ليس به طابع الأحاديث الصحيحة. أسلوبه متأدِّب مُفتعَل مُصطنَع، مُحمَّل بالصور
الفنية والثنائيات المتعارضة ولغة النور والإشراق، الطبقات والمراتب، يصعب أن تعيَه
الذاكرة. يخبر بالغيبيات، وأقرب إلى أن يكون تأليفًا على منوال سابق كما هو الحال في
الأناجيل مع قدرٍ كبير من التأويل الروحي للشفاء. ربما الصحيح فيه الفقرة الأخيرة عن
العلم
والعمل، والباقي كله إشراقيات منسوجة حولها. ويؤدِّي العلم إلى التواضُع والرحمة، ويَبعُد
عن الخلاف والمنازَعة وطلب الرياسة والتعصُّب والعَداوة والبَغضاء. ويُحذِّر الحديث من
عيوب
العلماء بالرغم من فضائل العلم. ويُطالب الرسول بأن يكون الإنسان عالمًا جليس العلماء؛
فالإنسان إما عالِم أو مُتعلِّم أو مُجالِس للعلماء أو صاحب للعلماء.
١٥٤ وتُحذِّر بعض الروايات من العلماء المزيَّفين.
وهناك أحاديث أخرى تُبيِّن أن طريق العلم بالله هو العلم بالنفس، من عرف نفسه فقد
عرف
ربه، وأن أعرف الناس بنفسِه أعرفهم بربه. مع تكرار بعض الأحاديث. كما توجد أحاديث أخرى
عن
العلم الإشراقي، النور الذي يقذفه الله تعالى في القلب بعد العبادة أربعين صباحًا، فيُطلق
اللسان بالحكمة حتى ولو كان أعجميًّا. فالمؤمن يَنظُر بنورِ الله. كما يَروي حديث يبين
أهمية السفر في طلب العلم والغنم سواء كان السحر بالجسد أو الرُّوح.
١٥٥ وسِحرُ البيان لا يَعني خرقَ قوانين الطبيعة بل البلاغة والشعر كما هو الحال في
المجاز والقرآن. ومَن أخلَصَ للهِ أربعينَ يومًا فتح قلبه وشرَحَ صَدرَهُ، وأطلَقَ لسانَه
حتَّى ولو كان أعجميًّا.
والعجيب أن يظهر أرسطوطاليس في حديثَين موضوعَين للتأكيد على الموروث لا الوافد. فقد
كان له الفضيلة والكمال وقال «أنا أرسطاطاليس هذه الأمة.» وقد ورَدَ الحديث بأكثر من
صيغة
تدلُّ على وضعه، ولو صح لكان له عدة دلالات أن أرسطو كان نبيًّا بنص القرآن
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ،
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا
نَذِيرٌ، وأنَّ محمدًا نبيٌّ مثل أرسطو، وأن الاثنين متفقان معًا في النبوة
والحكمة، وأن حكمة الشعوب واحدة سواء كانت حكمة اليونان أم وحي الإسلام. وفي صياغة أخرى
يُوضَع السياق، وتختمها أسباب القول، عندما ذكر أرسطو في مجلسه مع أنَّ المسلمين لم يَعرفوه.
١٥٦
وفي نظرية الوجود تُروى أحاديث أقل من نظرية العلم، حديث واحد فقط في مقابل أحد عشر
حديثًا. فالوجود هو كل شيء، والله والوجود شيء واحد لذلك يَنتهي التفكُّر في خلق العالم
إلى
الوصول إلى الخالق، وفي خلق الإنسان من المني إلى إتقان الصانع.
١٥٧
والأحاديث في العقليات أقل منها في السمعيات.
١٥٨ فالسَّمعيات تُثير خيال العامة أكثر من العقليات، وإمكانية الوضع فيها أكثر من
العقليات؛ فالظنُّ في الإقناع أكثر من اليقين. فلا يعلم جنود الله إلا هو، ولا يُوجد
في
السماء موضعُ شبرٍ إلا وملَك قائم أو راكع أو ساجد لله، مما يُثير الخيال على عظمة الله
وعبادة الكون له في نظرية الذات والصفات لا يروى إلا حديث واحد. وفي خلق الأفعال، والحسن
والقبح لا يروى إلا حديث واحد في كل من موضوعي العدل. ويسود التيار الأَشعري قبل أن
يُقنِّنه الأشعري. فالهداية والتوفيق والعصمة من الله. والله هو الذي يرزق الطير فتغدو
خماصًا وتروح بطانًا، أشعرية صوفية ضد خلقِ الأفعال والعمل والكسب. الغرض منها الوصايا
والمواعظ والتوجُّه العمَلي للعامة. وكثير من الأحاديث يدعو إلى القيم السَّلبية مثل
الفقر
والزهد إما عزاءً للفقراء أو كرهًا للأغنياء لا تدعو إلى الثورة الاجتماعية بالرغم من
أن
الجهاد رهبانية الأمة. وهي لا تشابه الأحاديث الصحيحة الواضحة العملية. إنما يغلب عليها
الطابع الأسطوري الخيالي النظري. واختلافات الصياغات في الحديث الواحِد كل على وضعِه.
١٥٩ وقد يكون بعضُه صحيح في البداية بتحديد مكانٍ وزمانٍ مُعيَّنَين مثل خضراء
الدِّمَن ثمَّ يَنتهي بالخيال. وفي بعض الأحاديث ركاكة مما يدلُّ على طابعه الشَّعبي
في
التأليف أو التأليف على مستوى العامة في حين أن الرسول قد أعطى جوامعَ الكَلِم، وهو أفصحُ
فُصحاءِ العرب ليس بها طابع أقوال الرسول المركَّزة البليغة. كما يصعب حفظ الأحاديث الطويلة
بلا تحريف، والرسول غير معروف بالإطالة. وقد تمَّ صياغة الأحاديث في نوع أدبي مركب بإدخال
مُحاورٍ للرسول مثله أسامة أو عائشة أو أبي هريرة أفقر الفقراء وأقربهم إلى الرسول أو
عمر
الذي صدَّقه الوحي.
١٦٠ ويبدو الحديث مركبًا منقطعًا عن طريق تدخل المحاور «زدني» من أجل إعطاء أكثر من
فرصة للخلق والتأليف كما فعل المسيح مع حواريِّيه، وليس من طبيعة الرسول قول الأشياء
إلى
منتصفها ثم الانتظار كي يعطيَه المُحاور مناسبة ثانية لاستكمال الحديث. بل الهدف منه
الخلق
على دفعات. فالخلق بطبيعته قصير، يتكوَّن من عدة دفعات ثمَّ يتمُّ التأليف بينها، وليس
من
عادة الرسول مُخاطبة أصحابه يا أسامة، يا أسامة، بل التوجه نحو الموضوع مباشَرة. ومما
يدلُّ
على وضع الحديث ووجود إخراج له في مُحاور كما هو الحال في العشاء الربَّاني للسيد المسيح،
وفيها يَبدُو الرسول ناعيًا نهاية العالم ونهاية المسلمين كما تنبَّأ المسيح بهدمِ المعبد
وتدمير الهَيكل، ونقد الدينونة ومظاهر البذخ والترف وكأنه ابن خلدون أو أحد الصوفية.
ويَغلِب على مُعظَم الأحاديث الطابع الصوفي، وقد تكون من وضع الإخوان. لا تَعتمِد على
العقل
بل تخاطب التجربة البشرية وتكشف عن مواطن الاغتراب فيها. وتعارض أحاديث أخرى تدعو إلى
الدنيا وإلى العمل فيها، والتي تُعبِّر أيضًا عن رُوحِ القرآن. ويدلُّ على وضعِ الحديث
طوله
على عكس الأحاديث الصحيحة القصيرة ذات النزعة الأخلاقية العملية المباشرة متجهة نحو المنفعة
والصلاح في العالم، إنما يغلب عليها ثنائية الدنيا والآخرة، أشبه بوصايا الشيخ للمريد.
ويعبر البعض منها عن اتجاهات غير إسلامية مثل إنقاذ الجماعة من أجل البقية الصالحة. هي
أقرب
إلى تاريخ الأدب والإبداع الفني. فالوضع ليس مجرد اختلاف بل هو عمل فني خلاق. ويتكاثَر
الحديث، حديثًا وراء آخر مما يدلُّ على طابعه التركيبي، فالمتْن أقرب إلى تاريخ الأدب،
والمضمون أقرب إلى التصوُّف. وكان الحديث يذكر تأكيدًا للقرآن فما اتَّفق معه كان صحيحًا،
وما اختلف كان موضوعا بالإضافة إلى حكم العقل وصدق التجربة.
وتكثر الأحاديث في النبوة على طريقة الصوفية، محمد الحقيقة. محمد قديم، خلق وآدم بين
الماء والطين، وجودُه بالقوة قبل الفعل، وعمر الدنيا سبعة آلاف عام، وبُعث محمد في آخر
ألف
منها ولا نبيَّ بعده، النبوة في بداية الخلق وفي نهايته، وتطوُّرها بين الخلق والقيامة.
ينتسب الرسول إلى إبراهيم، أبوة روحية إشراقية. ومقامه رفيع مثل مقام الأنبياء آدم وإدريس
النبي (هرمس). أعانه الله على شيطانه، فلكلِّ إنسان شيطان يجري منه مَجرى الدم، ورُواة
أحاديث النبوة خمسة: عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم. ومن أجل تعظيم
النبوة يتمُّ انتقالها من القلم إلى اللَّوح إلى إسرافيل إلى ميكائيل إلى جبريل إلى محمد
نزولًا، ومن محمَّد إلى جبريل إلى ميكائيل إلى إسرافيل إلى اللوح إلى القلم صعودًا، ستة
رواة، ويَروي الإخوان من السابع.
١٦١ وهناك أحاديث موضوعة عن النسخ، نسخ النبوة بالجبروتية، ويُسمَّون باسم الخلافة،
ويَسيرون عليها بسيرة الجبابرة، ينهون عن المنكر، ويرتكبون الخدور، ويقتلون الأولياء
أولاد
الأنبياء ويُقيمون بسبْيِهم واغتصاب حقوقهم وشربِ الخمر والفجور واستِبعاد الناس وسلب
الأموال وخطف الأولاد والاستطالة ونسيان المعاد وبَيع الدين بالدنيا، والآخرة بالأولى.
فينهار التاريخ ممَّا يُؤدي إلى ضرورة الهدى ورفعه. وهو تصور شيعي للتاريخ من الهزيمة
في
الماضي إلى السقوط في الحاضر إلى النهضة في المستقبل.
١٦٢ كما تروي أحاديث الرؤية الصادقة وأنها جزء من النبوة. ينتهي الوحي وتستمرُّ
الرؤية. وفي أحاديث أخرى يُحدد كم الجزء من ستة وأربعين جزءًا، وكأنَّ الكيفَ يُقسم كما
إلى
هذا العدد الذي قد يجانب الرمزية. وقد نفى الرسولُ نفسه عندما نزلت آية
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وأقرَّ بالعودة إلى الله، واشتاق إلى
رؤية إخوانه الأنبياء. والسحر حقٌّ، والعين حق. ولا تروى الأحاديث في ذلك، بل أيضًا أفعال
الرسول عندما أخرج السحر من الجُب. وقد أمر الرسول بسقْي رجلٍ مسحور وغسل آخر لإزالة
أثر
العين. وقد أنزل القرآن على سبعة أحرف وهو إعجاز الرسول.
١٦٣ كلها شافٍ كافٍ، وكل آية لها ظاهر وباطن من أجل التأويل ولتفاوت العقول بين
الخاصة والعامة، العلماء والجُهَّال، العقلاء والأنبياء، الرجال والنساء، النساء والصِّبية،
وهو أحد معاني الإعجاز الاتصال على جميع المستويات.
١٦٤
ويطلب محمد الهداية لقومه لأنهم لا يعلمون، ولا يطلق عليهم اللعنات كما فعل الأنبياء
من
قبل. بل يَنصُر كل نبي أمته كما تنصر كل أمة نبيها كما نصر أبو هاشم محمدًا والكل له
الجنة.
النبوة فتح مُستمِر وإعلان لشعار «لا إله إلا الله». نصرة النبي واجب قومه وفداؤه بأنفسهم.
وهو على خُلُق عظيم، أعانه الشيطان حتى أسلم، وهو قاضي يتبع حُجَج الخُصوم. ولكنَّهم
أقضى
لأنَّهم أعرف بالحق.
١٦٥
وتكثُر أحاديث المعاد. فمن مات قامت قيامته. والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. والملائكة
هي التي تَوفَّى الإنسان. إذ يمُوت الإنسان مرتين، الموتة الصغرى في النوم والموتة الكبرى
في الموت ويحيا اثنتين، الأولى في الدنيا، والثانية في الآخرة. وليس للكافرين إلا الموتة
الأولى، وتختلط أحاديث المعاد مع الاستعداد له بالإيمان والعمل، ثوابًا أو عقابًا، اغتنام
الفَراغ قبل الشُّغل، والغنى قبل الفقر، والصحة قبل السُّقم، والشباب قبل الهرم، والحياة
قبل الموت؛ فإنَّ خير الزاد هو التقوى. وبالرغم من صدق المعنى إلا أن الحديث قد يكون
موضوعًا في صياغاتِه في هذا التقابُل الجدلي بين المُتعارِضات. ويستعمل مثل هذا الحديث
كمثل
منطقي على تناقُض حكمَي السلب والإيجاب في اللفظ والمعنى، لا يَجتمعان في الصدق والكذب
في
صفة واحدة، في زمانٍ واحد، من جهة واحدة، في إضافة واحدة. ويَقوى المعني بإلحاق الحديث
بنصوص مقدسة أخرى، فالوحي واحد، والحديث شرح للقرآن، والصحف واحدة.
١٦٦
تمُوت كل نفس وترى مقعدها في الجنة أو في النار، ويَختلط الحس بالمجرد. فالجنة في
السماء والنار في الأرض. وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ويرى
أهل
الجنة ربهم كل يوم جمعة مرة. ويفرح بهم سكان السماء. يقف الرسول على الصراط، ويرد المؤمنون
على الحوض وأقربهم منه منزلة يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته دون أن
يتغير.
وهم الذين يذكرون العهد الأول والميثاق.
١٦٧
والجنة تحت أقدام الأمهات. وهيَ لأولياء الله. فقد أبى الله لهم إلا الخلود. وأَرواحُ
الشهداء في الجنة، في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رءوس أشجارها وثمارها
وعلى
ضفاف أنهارها، تأوي بالليل في قناديل معلقة تحت العرش. ويحشر المرء مع من يحب دليلًا
على
الترابط والمحبة في الدنيا والآخرة. والجنة هي مصير الكل. فلا يزال يخرج من النار قوم
من
الأمة بعدما دخلوها حتى لا يبقى في النار أحد قال لا إله إلا الله مخلصًا في دار الدنيا.
١٦٨ وقد كان مكتوبًا في الصحف كلها، صحف إبراهيم وموسى عن العجب ممن يضحك وهو يعرف
النار، ومن يُسيء وهو موقن بالحساب، ومن يثق بالدنيا ويرى تقلبها. لذلك لا تفتح للخاسرين
أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سمِّ الخياط. وقد خلق أهل النار من
نار،
ويأكلون النار، وعلى النار يتقلبون، ويطلون في النار. وهي مبالغات ضد العقائد وضد خلق
الأفعال.
١٦٩
ومعظمها أحاديث ظنية أو أقوال مأثورة. وبعضُها موضوع. ويدلُّ على ذلك صياغة الحديث
وشكله الأدبي مثل أحاديث الجماعة المؤمنة آخر الزمان. إذ يَنقطِع الحديث ويتدخَّل أبو
هريرة
طالبًا وصفهم طلبًا للمزيد وإفساحًا للخيال لمزيد من التحديد أو طلبًا للنصائح للاتِّباع
وبكاء الرسول شوقًا لرؤيتهم مع وصف أفعال الرسول داخل الرواية. ويتقطع الحديث لمزيد من
الاستفهام وتعيين المناط للتفرقة بين الأصحاب (الخارج) والإخوان (الداخل). ولا يذكر السند
لأن الحديث لا سند له. يفرض المعنى سنده مثل الوضع بالمعنى عند المالكية، ويمكن وضع مثله
من
جديد ما دام الوضع النفسي قائمًا. ومن علامات الوضع التكرار في نفس الشكل الأدبي، فعل
الشرط
وجواب الشرط.
١٧٠
وفي الإيمان والعمل تتوالى الأحاديث عن العمل الصالح والأخلاق الحميدة والإعداد
للمستقبل والتربية الخلقية، فالإنسان بعمله وليس بنسبِه. ويرد العمل الصالح إلى صاحبه.
ومن
العمل الصالح طلب الدنيا تفقهًا وتوسعًا على العيال والتعطف على الجار كي يلقى الله كالقمر
ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مفاخرًا مرائيًا جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبالِ بأي
وادٍ
يَهلك. وقمة العمل الجهاد. وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ويتكرَّر الحديث المشهور «رجعنا
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» فالجهاد رهبانية الأمة، والدالُّ على الخير كفاعله،
والخير فاعله خيِّر. وقد جمع الرسول في حديث واحد شارحًا آية
خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ بأنَّ مكارمَ
الأخلاق سبعة: العفو عن الظالم، قطع صلة الرحم، الإحسان إلى المسيء، النصيحة لمن غش،
والاستغفار لمن اغتاب، والحلم لمن غضب. والتوبة بعد الذنب خلقٌ جديد. والاستغفار من الذنب
دائم يستجيب الله له، وخير الزاد هو التقوى.
١٧١ ويأخذ الزهد مكانًا بارزًا في الأحاديث؛ إذ لا يكفي الزهد في الدنيا بل الزهد
في الآخرة أيضًا. ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. والزهد في الدنيا طريق إلى الجنة.
الزهد في الدنيا والنظر إلى أسفل وليس إلى أعلى وحب المساكين والرضا من الدنيا بكسرة.
الدنيا سجنُ المؤمن وجنة الكافر. ويكون الإعداد للمُستقبَل بالفراغ قبل الانشغال، والغنى
قبل الفقر، والصحة قبل المرض، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت. والشعائر نفسها
طرق
أخلاقية مثل الصوم طريقًا للصحة وكذلك السفر من أجل الغنم، والعبادة الصادقة أن يَعبد
الإنسان الله كأنه يَراه فإن لم يَرَه فإنه يَراه، من الموضوعية إلى الذاتية أو من الذاتية
إلى الموضوعية. وليست الغاية من الشريعة العقاب بل التقوى. لذلك لزمَ درأ الحُدود بالشبهات.
والحلف باليمين لا يكون في المعصية.
١٧٢
ولا تكفي الأخلاق الفردية. هناك أيضًا الأخلاق الجماعية مثل الصلاة في المسجد جماعة،
وأن يحب المرء لأخيه ما يحبُّ لنفسه كشرط للإيمان. ونسبة الأفراد في المجتمع كنسبة الأعضاء
في الجسم الواحد، نسبة جسمية وليست رُوحية. والأمة مُترابطة، نفس واحدة، دماؤهم وأموالهم
حرام فيما بينهم، أقوياء على مَن سِواهم. وكل أمة مُنقطِعة إلا أمة محمد. وكل نسبٍ مُنقطِع
إلا نسبُه، والنسب رُوحي لا بدني. طريق الأمان هي أمة آخر الزمان. يُحشرُون مع الأنبياء.
آثرت الجوع بعد أن أشبعها الله، والعطش بعد أن رواها الله، والعري بعد أن كساهُم. بل
تركوا
الحلال. صاحَبُوا الدنيا في أبدانِهم دون تعلُّق القلوب بشيء منها. وطريقها طريق النجاة،
هم
صحابة الرسول. وهي وصية الرسول لأبي هُريرة في نهاية الرسالة التاسعة مثل وصايا لقمان
لابنِه. يغلب عليها الوضع لإيغالِها في التصوف وترك الدنيا. لذلك كان مُحاوِر الرسول
أبا
هريرة. ويظهر الطابع الإشراقي في الثنائيات المتعارِضة بين الدنيا والآخرة، النفس والبدن.
١٧٣
وقد يكون الحديث قصيرًا في الحث على تقوى الله. ويدخله أبو ذر مُحاورًا مرتَين، يطلب
الوصايا ثم الزيادة فيها اثنا عشرة مرةً. وهو نموذج للحديث المركب الذي يبدأ بالتقوى.
ثمَّ
ذِكر الله وقراءة القرآن ثم الجهاد رهبانية الأمة ثم النظر إلى أسفل وليس إلى أعلى، ثم
أقل
الكلام في حب المساكين، ثم الغُربة في الدنيا، ثم قول الحق ولو كان مرًّا، ثم الشجاعة
الأدبية، ثم الرضا والزهد في الدنيا، ثم كظم الغيظ والإحسان في مقابل الإساءة، ثم التحذير
من حب الدنيا، ثم النصح للناس، ثم النصح للنفس عن طريق الصعود الحلزوني من الخارج إلى
الداخل من أجل الصعود من الداخل إلى أعلى. وقد يستقلُّ جزءٌ منه ليصبح حديثًا مستقلًّا
مثل
الجهاد رهبانية هذه الأمة. والتقوى باطنية وليست ظاهرية كما هو الحال في أقوال المسيح.
وقد
يكون تكرار الحديث صحيحًا في المعنى ولكن موضوعًا في الصياغة. فالخلاف في الإخراج وتحويله
من قول مباشر إلى حوار كي يكون أكثر تأثيرًا في النفس.
١٧٤
وقد يكون المحاور من أحباء الرسول مثل حواريِّي المسيح، أسامة بن زيد الذي يتدخَّل
التقطيع الحديث طالبًا تحديد الطريق ورمزه الصوم، ودعاء الجائع مُستجاب. وتصف بعض الأحاديث
أحوال الرسول وأفعاله وبكائه شوقًا إلى رؤية جماعة المؤمنين حتى اشتدَّ البكاء وعَلا
النحيب، تأييدًا للمُضطهَدين وتعاطُفًا معهم. وقد يدخل عمر مُحاورًا ويسأل إذا كان الناس
على الإسلام وهم يقومون بالاضطهاد، ولماذا يقتل من أطاع الله؟ ويُجيب الرسول بأنه حب
الدنيا. ويقرن الحديث بالآيات تدعيمًا له وتطابقًا معه تغطيةً للظنِّ باليقين. وتغير
المُحاوِر لا يعني تغير الحديث إنما فقط تغير المناسبة. والحديث الطويل لا يتكرَّر لأنَّ
الذاكرة لا تعيه، خلق وقتي فريد. إنَّما الذي يتكرَّر هو الحديث القصير الأقرب إلى جوامع
الكلم.
١٧٥ ويُمكِن للحديث أن يُطابق كل عصر، فسبب النزول يتكرَّر عندما تُلائم بنيتُه
النفسية أيَّ عصر مثل حب الدنيا من فريق واستبعاد فريقٍ آخر.
١٧٦
والمجتمع أيضًا أخلاق وعمران وسياسة. فالاستِعانة على كل صناعة بأهلِها. والشورى
أساس
الحكم والتعدُّدية والخلاف في الرأي. وتتنوع أحاديث الإمامة بين المعنى الضيق أي السياسة
والقيادة بالمعنى العام وخصائص الشعوب وحركتها في التاريخ إلى إمامة الدول، وتظهَر ألفاظ
الفِرَق مثل الخوارج في مقابل عموم المسلمين دون ذكرٍ للشيعة والإمامية والباطنية وإن
كانوا
حاضِرِين على نحوٍ غير مُباشِر. تكثر الأحاديث في الإمامة لأنها الباب إلى السياسة.
١٧٧ كل إمام راعٍ ومسئول عن رعيته، وهو الذي يَحمل الراية، كرار غير فرَّار، ويكون
الفتح على يدَيه، وعليٌّ نموذَجُ الإمام. والرسول وعليٌّ أبوا هذه الأمة. الرسول مدينة
العلم وعليٌّ بابها. وعثمان وليُّ الأمة بعد عمر. وكل أصحاب الرسول هداية وقدوة. ويتمُّ
التحذير من القائد المنافق، حلو اللسان مر القلب. وقد يكون الثناء على شعب بعينه مثل
شعب
فارس المؤمن في أول الزمان وفي نهايته وحامل العلم مما يدل على ارتباط التاريخ بالسياسة
والسياسة بالتاريخ. هناك شعوبية في انتقاء الأحاديث عن فضل فارس في مقابل الأحاديث عن
فضل
العرب. وحتى لو صحت تاريخيًّا فإن استعمالها شعوبي. ومن علامات الساعة خدمة المسلمين
أبناء
فارس والروم وقتل الأتقياء وتغير الزمان وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
١٧٨
وتظهر أحاديث آخر الزمان والخلاص في المستقبَل على يدَي المَهدي. فقد جاء الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء. وقد يكون الخلاص على يد أربعين رجلًا من
الصالحين على ملة إبراهيم الذي عاش فكره، واستمسك بالتوحيد نظرًا وعملًا حتى النهاية،
الإيمان بالله والاستغناء به عمن سواه. ويتَّحد مجتمع المؤمنين بالطبيعة والكون، بالأرض
والسماء، فالخلاص فردي واجتماعي وتاريخي وكوني.
١٧٩
(ﻫ) رسالة الجامعة
وفي رسالة الجامعة هبط الموروث إلى النصف تقريبًا.
١٨٠ وأكثره في الجزء الثالث في حين كان في الرسائل في الجزء الرابع. وتَختلِف نسب
الوافد والموروث في كل جزء.
١٨١ ويبدو التحوُّل من الوافد إلى الوافد والموروث إلى الموروث بلا وافد إلى غياب
الوافد والموروث معًا من أجل الإبداع الخالص. كما قل استعمال لفظ «القرآن». وقل أيضًا
ظهور
أسماء الأنبياء.
١٨٢ وتَختلِف الآيات طولًا وقصرًا، والغالب القصر كعامل مساعد. وقد تتوالى الآيات
دفعة واحدة كما يفعل الخطيب والواعظ والفقيه وأهل السلف قدماء ومُحدِّثين. وأحيانًا تكون
الآية بديلًا عن العبارة وليس استشهادًا على قول. فالقرآن لغة شعرية تكمل الخطاب النثري،
وتَبدُو الآيات بالرغم من كثرتها غير دالَّة، مجرَّد تجميع دون توظيف. ويتم الحديث عن
الإخوان بضمير الغائب الجمع وكأنَّ الملخَّص كمي دون أية دلالة كيفية. وقد تَبلُغ النصوص
حدَّ سورة بأكملِها واعتمادًا على سلطة النص دون تصوُّرات خاصة بل مجرَّد صلوات وأدعية.
وتتحوَّل رسالة الحيوان إلى آيات الحيوان اتجاهًا نحو التفسير الموضوعي للقرآن. وأحيانًا
لا
تُوجَد قضية لإثباتها بالنص بل مجرَّد استعمال الآيات كأُسلوب إنشائي بطريقة الأزهر وطبعات
حوارِي الأزهريِّين عن المعاد وعالم الجن والملائكة لا تُوجد حُجَج أن استشهادات بل مجرَّد
رصد مادة خام مثل: المعجم المفهرس عن مشاهد القيامة دون تأويل أو فكر جَمالي، مجرَّد
تقابل
آيات ووقائع.
١٨٣ وكما هو الحال في الرسائل من الأقل إلى الأكثر إلى الأقل تغيب آيات العدل، وتقل
آيات التوحيد ثم تكثر آيات النبوة والمعاد. ثم يقلُّ من جديد الإيمان والعمل، وتكاد تَغيب
الإمامة. وقد تَنتهي العقليات لحساب السمعيات، والإلهيات لحساب النبوَّات، وتطغى النبوة
والمعاد على الإيمان والعمل. وتكثر الآيات في رسالة البعث والقيامة والحشر والحساب وكيفية
المعراج، فالموضوع هو الاغتراب خارج العالم المفقود وتعويضًا عنه.
١٨٤ وأحيانًا لا تُذكر عناوين الرسائل بدقة، وتختلط بصلب نصوصها، مما يدلُّ على أن
التلخيص قد تمَّ عن وعيٍ وبلا رؤية.
وتقوم كل الآيات المنتقاة على ثنائية الخير والشر، الجنة والنار. وكل آية لها تأويل
مقابل من أجل بيان التضاد بين الحق والباطل، العدل والظلم. فالتضادُّ الديني ما هو إلا
تعبير عن التضاد السياسي. وهي مقياس الاختصار، الإبقاء على الآيات الإشراقية وحذف غيرها
لأنها عمدة الرسائل.
ولا فرق بين النفس والطبيعة. الكل نماء وحياة وإشراق. وتغيب الآيات الاجتماعية الموجهة
إلى أوضاع العصر كما تفعل بعض الحركات السلفية الإصلاحية المعاصرة.
وأحيانًا يكون استعمال الآية في غير محلها. ويتحوَّل سبب النزول من الواقع التاريخي
الأول إلى الوضع النفسي الحالي لدرجة الافتعال في الاستشهاد. وأحيانًا يبدو القصد إيجاد
مناسبة للاستِشهاد بالآية. وتتكرَّر الآيات بنفس المعنى وفي نفس السياق وكأنَّ المقصود
هو
مزيد من الإقناع أو اللازمة الشعرية من أجل ضبط الايقاع النفسي. ويتمُّ التوجه نحو العواطف
للتأثير واستبعاد العقل لنزع المقاومة ومنع الاعتراض، واستعمال النصوص للتستر والتغطية
اعتمادًا على السلطة. لا يوجد إقناع عقلي بل تملق لأذواق الجمهور بطريقة حسية ساذجة،
وإيهامهم بالخلاص مع كثرة البسملات والحمدلات لتجريد الفرد من سلاح الفردية. وتكثر
الموضوعات الخيالية في المقدمة مثل الجن وإبليس والشيطان وآدم وحواء من أجل إثارة الخيال
الشعبي، وتدخل في أساطير السقوط والخلاص في تاريخ الأديان. ومن الغريب ترديد الحكم الشائع
أن الرسائل تضمن إعلاء للعقل والحكمة أمام هذه الكثرة من آيات الجن استرعاء للانتباه
وإثارة
للخيال.
وفي نظرية العلم تذكر آية النور، نور الله كمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة،
والزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية كمثل على العلم،
ولله المثل الأعلى. هو كشف الغطاء بعد أن يصبح البصر حديدًا وكما حدث للرسول في الإسراء
والمعراج. والرؤيا أحد مصادر العلم، ورؤى الأنبياء صادقة مثل رؤية يوسف التي حسده عليها
إخوته. والقرآن مصدر للعلم بشرط عدم النسيان. فالعلم ذكرى ولا يذكر إلا أولوا الألباب.
بل
إن الجن سمع القرآن وآمن به استرقاقًا ولم يكن الإنسان قبله يعلم شيئًا منه عن طريق الوحي.
١٨٥ ومع ذلك هناك المعرفة الطبيعية التي تأتي من التأمل في النفس وفي الآفاق،
والمعرفة بالقلب، وإدراك الحواس مشروطة به وإلا كان البشر كالأغنام. والسمع والروح والفؤاد
ضمن مسئولية الإنسان. والعلم قوة وإلا كان مجرد أسماء فارغة من أي سلطان. لذلك وضع الجدل
في
العلم والعلماء يخشون الله. ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
١٨٦
وفي نظرية الوجود، الخلق صفة لله، ومن أحسن من الله صبغة. قدر فهدى، وأخرج المرعى،
وخلق
السموات والأرض في ستة أيام. ولا يوجد تفاوت في الخلق؛ فقد خلق كل شيء بقدر. ذلك تقدير
العزيز الحكيم، وكل في فلك يسبحون. وخلق آدم من الطين وإبليس من النار. وطور الجنين من
العظم إلى اللحم وحسن الخلقة. وهو الذي يُصوِّر في الأرحام. لقد جهل إبليس دور الشر فظهر
دور التجلِّي. وخلق عيسى مثل آدم من تراب ثم قال كن فيكون. وخلق الإنسان من نطفة أمشاج،
وجعل له السمع والبصر والفؤاد ثم أهداه السبيل، شاكرًا أم كفورًا. وخلق الناس من نفس
واحدة.
والخلق يبعث على التفكير.
١٨٧ فلا يُوجد شيء باطل في العالم. ويَنتهي الفكر إلى أن الله خالق العالم. فكلُّ
آية تدلُّ على وجودِه في النفس أو في الأرض، في الداخل أو في الخارج، بناء على شهادة
في عهد
الذرِّ الأول. فالمستنكر والمنكر يَخرج على هذا العهد. ومن لم يشهد تحول قردًا أو خنزيرًا
وعبد الطاغوت، وتحول إلى حجارة أو حديد، وأوتي من الأموال والأولاد وكل ما وعده الشيطان
من
شرور. ويضرب القرآن المثل بالشجرة الخبيثة التي ليس لها قرار أو ثمار. وخلق الناس من
نفس واحدة.
١٨٨ وقد تمَّ الخلق بالحق، وكل شيء خلق زوجين كي تستمر الحياة. والقمر منازل،
والإنسان خليفة الله في الأرض، كل شيء في الطبيعة مسخر له، والأنعام بدفئها، والإطعام
منها،
وحملها الأثقال. ويسير الخلق طبقًا لسننه وليس لسنَّة الله تبديل.
١٨٩ ولم يكن لآدم عزم. نهاه الله عن الأكل من الشجرة فظلم نفسه وزوجه وكشف المستور
وبانَ العُري. فخرجا من الجنة بعضهم إلى بعض عدو إلى حين، من غرور الناس بعضهم ببعض،
وغواية
الشيطان إلا عباد الله. وقد طلب إبليس الانتظار تحديًّا للإنسان لغوايته وليزين له زخرف
القول إلا عباد الله الذين ليس عليهم لإبليس سلطان. وقد تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.
١٩٠
وفي الذات والصفات تظهر صفة الوجه وهي تُعادل الوجود، وصفة البقاء، فكل شيء هالك
إلا
وجهه، وصفة التنزيه والتسبيح والتعالي عن الوصف. وهو أحد. تُسبِّح له الملائكة، يعملون
بأمره، وهم صافون حول العرش، وسعت رحمتُه كل شيء. وأمره لكل شيء كلمح البصر. علمه شامل،
لا
يضلُّ ولا يَنسى. يعلم السر وما يَخفى، ويُحصِّل ما في الصدور، ويعلم مستقر الحب ومستودعه.
١٩١ قدرته مطلقة، يقدر كل شيء بتقديره. ولا تستطيع الجن أن تنفذ إلى السماء إلا
بسلطان. ومن عصى منهم فله العقاب. وقد خُلقوا لعبادة الله. والله يُمسك السموات والأرض
أن
تزولا، وتأتيانه طائعين. وهو كل يوم في شأن، رزاق ذو قوة متينة. يمحو ما يشاء ويثبت وعنده
أم الكتاب. له الأسماء الحسنى، عالم الغيب والشهادة، له الخلق والأمر، يمسك السماء ثم
يبقيها، ويفجر في الأرض الماء ويجففها.
١٩٢
وفي خلق الأفعال تظهر الآيات التي تدلُّ على الجبر والرضا بالقضاء والقدر أو الكسب
على
أقصى تقدير. فالله هو الرامي، وهو المتمُّ نورَه. يَمحو ما يشاء. الهداية من الله، فضل
يؤتيه من يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله مُتمُّ نوره مهما حاول أحد أن يمنعه.
والرزق من الله، وأحيانًا يبدو التيار الاعتزالي في بعض الآيات مثل التكليف طبقًا للطاقة،
وأن الإنسان حرٌّ يختار أحد الطريقين، النجاح والفوز والخلود أو الشقاء والفناء والخسارة.
فالله بريء من الشر. وأحيانًا يظهر لفظ الكسب، كسب الأفعال بعد الإيمان بالله. والله
ينصر
المؤمنين وجبريل وصالح. ومولى المؤمنين عليٌّ. وتغيب آيات العقل إيجابًا أم سلبًا نظرًا
للطابع الإشراقي لنظرية العلم.
١٩٣
وفي النبوة تظهر عدة آيات أخرى. فالله لا يُكلم البشر إلا وحيًا أو من وراء حجاب
أو
يُرسل رسولًا. فالرسول مجرَّد إنسان يُوحى إليه، يُرسَل بلسان قومه. وما عليه إلا البلاغ
والإنذار. فالنبوة تذكرة وبشارة ونذير وإعلان. وهي أمر وطاعة، امتثال للأوامر واجتناب
للنواهي، وقد اصطفى الله أنبياءه فرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل. وشرع الله
من
الدين ما وصى به نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى لإقامة الدين دون تفرُّق فيه. ثم حرف أهل
الكتاب القلم عن مواضعِه، يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون من عند الله. والقرآن لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. نزل به جبريل على قلب محمد بلسان عربي مُبين. لا يمسُّه
إلا المطهرون. يؤمن به كل الناس. ويصدق ما في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى. وموسى
كليم
الله، أبلغه الله رسالته، وناداه من جانب الطور. وأبلغ الرسالة إلى أحمد بالوحدة وعدم
التفرق.
١٩٤
وفي المعاد تُذكر آيات البعث والحساب بداية بعلامات الساعة، تكوير الشمس وتسخير البحار،
وتزويج النفوس، وسؤال الموءودة عن ذنبها، ونشر الصحف، وكشط السماء، وسعر الجحيم، وأزلاف
الجنة. حينئذ تعلم النفس ما أحضرت. وكلها صور حرَكية يُمكن تأويلها بأيِّ مضمون إشراقي
أو
اجتماعي. فإشراق القدماء يُعادل ثورة المحدثين، هروب روحي وعمل سياسي. والآيات تسمح بذلك،
لغة الستر والكشف في أيديولوجية الصراع بين الخير والشر، الأنا والآخر، الأصدقاء والأعداء،
والمدبرات أمراء ثم إلى الله يرد كل شيء وإليه يرجع الأمر. يبدأ الخلق ويعيده، ويثبت
بقياس
الأولى. فبعث العظام أصعب من الخلق، والخلق أسهل من البعث. والكل يعود إلى الله.
١٩٥ والمسئولية فردية صرفة، لا يَعرف المرءُ أخاه وأمه وبنيه وصاحبته. الخلق فرادى
دون شفاعة. تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها. حينئذ يتبرأ المتبوع من
التابع. ويغيب قانون الاستِحقاق كما هو الحال عند الأشاعرة. الثواب والعقاب مرهونان
بالمشيئة الإلهية. ومع ذلك ينفع الصادقين صدقهم ويشهد كل نبي على أمته. ويشهد الرسول
على
الأمم كلها. وتُوضع الموازين بالقسط، وكل نفس حسيبة على نفسها دون ظلم وجور. الخير بالخير
والشر بالشر ولو مثقال ذرة. والموازين الثقيلة تُنجي، والموازين الخفيفة تُؤدِّي إلى
الهلاك. والاختصام يوم الفصل لا يفيد لأنه لا مجال للزمان، وقد تمَّ التنبيه من قبل في
الزمان، ووعدُ الله حقٌّ، ولم يَستجيبُوا له فاللوم عليهم، وتقف الملائكة والأرواح صفًّا.
لا يتكلم أحد منهم إلا بإذن، ويتكلَّمون صوابًا. والكل راجع إلى ربه يُسبِّح له. ولكل
مقام معلوم.
١٩٦ وكل شيء مسجى ومحصى ومعد. والوعد صادق. وتشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود
بما كانوا يعملون فيستحقون جزاء الأعمال دون ظلم.
١٩٧ ويأتي مع كل نفس بشهيد من نفسه وجسمه ولا يتكلَّم أحد يوم الفصل إلا بإذن.
ويفرح المؤمنون بالعودة إليه. ويشعر الجميع أنه لم يبرح إلا منذ يوم ومقداره ألف سنة
أو
خمسون ألف سنة. وتتكاثر الصور الفنية. إذ ينفخ في الصور، ويعصف بالسماء والأرض، وتشرق
الأرض
بالنور، وجيء بالنبيين والشهداء، وتؤتى كل نفس ما عملت خيرًا أم شرًّا. ويأتي الله في
ظلٍّ
من الغمام. وتزلزل الأرض. وعنده علم الساعة، وما تكسب النفس وبأي أرض تموت. والروح من
الله
ولم يؤت الإنسان إلا قليل من العلم، ويظهر التقابل بين الخير والشر في المعاد بين أصحاب
اليمين في سدر مخصوص وطلع منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة وفرش مرفوعة في مقابل
أصحاب الشمال في سَموم وحميم. كتاب الأبرار في عليين، كتاب مرفوع، يشهده المقربون، وكتاب
الفجَّار في سجين. البلد الطيب يخرج نباتًا طيبًا، والبلد الخبيث يخرج نباتًا نكرًا.
وهناك
أهل الأعراف، يعرفون بسيماهم، حالة افتراضية للترجيح، وإلى الخير أقرب للميل الطبيعي
نحوَه.
١٩٨
ويعجل المؤمن إلى الله ليَرضى. وهي النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.
وطوبى للمؤمنين حسن المآب. يظنُّون أنهم مُلاقُوا ربهم، يُنالون النعيم الحسِّي والرُّوحي.
يسقون ويطعمون، ويعيشون بلا غل في الصدور، على سُرُر متقابلين وحسن الرفاق. لهم نخيل
وأعناب. يَستقبلهم أهل الجنة، تحيتهم فيها سلام وليس فيها شمس ولا زمهرير. صحفهم مكرمة،
مرفوعة مطهرة، بأيدي كرام بررة. يذهب الله عنهم الحزن، ويحلهم دار المقامة دون نصَبٍ
أو
لُغوب. فنعم أجر العاملين. والملائكة من حول العرش، يَحملُه ثمانية، وتُوفَّى كل نفس
ما
عملت. يَنعم الله عليهم ولا يغضب. ويستغفرون، فقد وسعت رحمته كل شيء.
١٩٩
وعندما يأتي أمر الله دون استِعجال يَحجب
الكافرُون عن ربهم. وتتحسَّر كل نفس على ما فرطت في جنبِ الله، وتتمنَّى لو كانت تُرابًا.
ترى ما عملت من سوء محضرًا، وتتمنَّى لو كان بينها وبينه أمد بعيد. ولا ينفعها جدالها
عن
نفسها أو القدم. ويعض الظالم على يديه ويتمنى العودة بعد فوات الأوان. ولا يُمكن رده
كي
يعمل صالحًا. ويُحاسِب قوم عيسى عما نقلُوه عن لسانه واتخاذِه وأمه إلهَين من دون الله
وإنكار المسيح ذلك. وقد آمن بعض أهل الكتاب بالطاغوت. قتلُوا فريقًا وكذبوا فريقًا، وأشركوا
بالله ولم يُؤمنُوا به، ظلموا أنفسهم وآمنوا بالطاغوت، وقلدوا غيرهم من الأمم حيث لا
ينفع
الندم والتفريط في حق الله، ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سمِّ الخياط.
٢٠٠ وينكشف الخداع في العمل، العمل للدنيا رياء للناس والذي لا ينفع في الآخرة،
ويذهب هباءً منثورًا. وتبرز الجحيم للغاوين. شياطين الجن والإنس يُوحون بالغرور. لم يطعموا
المسكين، ولم يَكونوا من المصلين. بل خاضُوا مع الخائضين، وكذبوا بيوم الدين، وأخذوا
أموال
الناس بالباطل، وقالوا زخرف القول غرورًا، فكانوا كالأنعام أو أضل سبيلًا. يأتي السماء
بدخان مبين، ويَغشى الناس عذاب أليم، ويَرِدون سكارى وما هم بسكارى، ويلقون عذابًا شديدًا،
وتكون السماء دخانًا، ولا يُخفَّف عنهم العذاب، وتغير جلودهم لمزيد منه. نار الله الموقَدة
تطلع على الأفئدة، وأعدَّ الله لهم سلاسل وأغلالًا وسعيرًا، أئمة يدعون إلى النار كأنَّهم
أعجاز نخل خاوية، مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، تغشى وجوههم النار. حينئذ لا
ينفع
الذين ظلموا معذرتهم، ولا تنفع نفس إيمانها إلا إذا آمنت من قبل، والأخلاء اليوم بعضهم
لبعض
عدو إلا المتقين. تشهد عليهم جلودهم، يملئون النار هم وأتباعهم. لهم مقامع من حديد، ولهم
فيها زفير وشهيق. حينئذ يتنصَّل الشيطان من غوايتِه ويوقع المسئولية على ظلم الإنسان.
والخاسرُون في الآخرة رضوا بالحياة الدنيا، أعمالهم حسرات عليهم، ولا ينجُون من النار.
فخسرُوا الدنيا والآخرة، يصلَون نارًا حامية، يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، أعمالهم حسرات
عليهم، يؤخذون بالنواصي والأقدام. ومن ورائهم برزخ إلى يوم البعث، ويعرضون على النار
غدوة
وعشيًّا. والتركيز على المعاد على هذا النحو إنما هو رد فعل على مآسي العصر والرغبة في
الانتصار كما هو الحال في نشأة الأخرويات في تاريخ الأديان.
٢٠١
وفي الإيمان والعمل تذكر آيات تجمع بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح فشرط المحبة
اتِّباع الله، والذكرى والصبر طريق النجاة. وعبادة الله والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي
وتجنب الفحشاء والمنكر والشكر والتوبة، كل ذلك يؤدي إلى اليقين، وذكر اسم الله والتسبيح
له
في الغدوِّ والآصال وعدم اللهو بالبيع والتجارة عن ذكر الله. وخير الزاد التقوى، والشريعة
نور الله الذي يتم دون إطفاء. والأمانة حملها الإنسان بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال
مشفقين منها. ومضمون الإيمانِ الإيمانُ بالله والملائكة والكتب والرسل. قمته الجهاد،
جهاد
النفس، والعزلة عن الظالمين الذين يقتلون الأنبياء، ويكفرون بهم.
٢٠٢ في مقابل أعمال أخرى تؤدِّي إلى الهلاك مثل النفاق الذي يُؤدي إلى الاستهزاء
بالمؤمنين والطمع مثل من له تسع وتسعون نعجة ويطلب من أخيه نعجته الوحيدة، وتكذيب الأنبياء
وقتلهم، وهي أعمال الخاسر الذي بيته أهون من بيت العنكبوت.
٢٠٣
والتجمع طبيعي في البشر بل وفي الحيوان. فالدواب والطيور أمم وفي المجتمع أحزاب،
كل حزب
بما لديهم فرحون. وحزب الله هو الناجي وحزب الشيطان يُريد إطفاء نور الله والله متم نوره
ولو كره الكافرون. وينصر الله الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين،
ويهلك فرعون وهامان وجنودهما مما كانوا يَحذرون. ويتكون فريق في الأمة للتفقه في الدين
وإنذار القوم. وهنا تبرز الإمامة العملية على استحياء.
٢٠٤
وتذكر في الجامعة عشرة أحاديث يتكرر منها حديث الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر مرتين.
وهو
حديث ضعيف يحول الجهاد من الخارج إلى الداخل، والعدو من الخارج إلى الداخل.
٢٠٥ ثمَّ يظهر التشيع خاصة في أحاديث فضائل على وخلافته. فالرسول وعلى أبَوا الأمة،
ولا إله إلا الله عنوان المسلم. والله هو الدهر، لذلك لا يجب سبُّه. ولذلك جعل الفلاسفة
الزمان قديمًا. وهناك عدة أحاديث عن آخر الأنبياء وآخر الأمم ووقت ظهورها.
٢٠٦ ويَستعمل لفظ القرآن ليدلَّ على معانٍ عادية مثل ما ذكر فيه من بناء على
المؤمنين أو المقارنة بين لفظ الجن والجنان والجنات أو آيات الصداقة والجن. كما تُشير
إلى
ضرورة تأويله والتدبر والتفكير فيه وضرب الأمثلة على معانيه الخفية التي لا يدركها إلا
الراسخون في العلم، والموعِظة والتذكرة وضرورة تأويله. والمعنى الأهم والجديد هو دور
القرآن
أي مرحلته التاريخية التي تبدأ بها دولة أهل الخير وزوال دولة أهل الشر إلى أجل محدود
في
الدنيا ثم استئناف دور آخر في الآخرة. الدور الأول مجرَّد تذكرة ومثَل، والثاني تحقق
وتصديق. الأول هو السجن والثاني هو الخلاص. ولا يكون الخلاص للإنسان وحده بل للحيوان
والطبيعة. الأول القرآن الرأسي الذي يستغلُّه الظالم والثاني القرآن الأفقي الذي يَثور
به
المظلوم. الأول خارج التاريخ، والثاني داخل التاريخ.
٢٠٧
(و) قصص الأنبياء
ويَعتمد الإخوان على قصص الأنبياء كملحمة تاريخية يظهر فيها الصراع بين الخير والشر،
قراءة للحاضر القريب في الماضي البعيد. فالتاريخ يُعيد نفسه في دورات وأكوار. وآدم هو
الأكثر ذكرًا لأنه أول الخلق وسره، ثم موسى الذي يُمثل القوة في مواجهة طغيان فرعون،
ثم
المسيح الذي يُمثل سرَّ آدم في الخلق من جديد ووحدة الروح والطبيعة والنفس مع البدن،
ثم
إبراهيم خليل الرحمن الذي عارض عبادة قومه للأصنام، ثم محمد خاتم الأنبياء، ثم سليمان
الذي
علم منطق الطير، ثم نوح صاحب العزم ونجاته وهلاك من عصاه، ثم يوسف الصديق، ثم هارون رفيق
موسى وداود صاحب المزامير، ثم لقمان الحكيم، ثم إدريس هرمس الحكيم، ثم يعقوب، ثم إسحاق
وشعيب وصالح، ثم يحيى ويونس، ثم يُوشع نون والخضر وهود وإسماعيل ومريم وزكريا.
٢٠٨ ولكل نبي قوم. فيشتق من آدم بنو آدم، ابن آدم، الآدميون، آدمي، وبنو إسرائيل
قوم الأنبياء.
٢٠٩ ولكل نبي عدو، فرعون لموسى، وقارون نقيض لقمان، حب المال في مقابل حب الحكمة،
وطالوت لجالوت. ومن الأعداء ابن النمرود، هامان، قابيل وهابيل.
٢١٠ وتذكر بعض الأسماء العبرية والفارسية وأسماء الملائكة وأسماء بعض الشخصيات
التاريخية العربية الإسلامية. كما تذكر بعض الأسماء الأسطورية كما هو الحال في علم الكلام
في آخر فقرة في نظرية الوجود عن الجن والشياطين والقرابين الجرجاس والدعاء له والذي تنقش
صورته على الهيكل، وهو جرجاس الجراجسة، وإبليس الأبالسة، وكبير الشياطين، وعظيم الجن
أجمعين، رئيس سبعة وثمانين.
٢١١
وتاريخ الأنبياء هو تاريخ الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين النور
والظلمة، موسى وفرعون، قابيل وهابيل، إبراهيم والنمرود، نوح وابنه، المسيح واليهود. الصراع
سنة الحياة مثل صراع إخوان الصفا مع إخوان الشياطين. ذرية بعضها مع بعض، ومعجزاتهم يؤيد
بعضها بعضًا بحيث يكونون مسارًا واحدًا في التاريخ بناءً على الاختيار والاصطفاء والاختبار.
لذلك يوبخ الله اليهود العصاة. الأنبياء هم شموس بني آدم والشيطان عدوهم أجمعين وقصصهم
معه
معروفة. لا يُحيط بعلومهم أحد من البشر أو الفلاسفة إلا ما شاء الله. لم يذكر الله ذنوبًا
لهم في كتبِه ليكُونوا قدوة لغيرهم. اتفقُوا مع الفلاسفة في التوحيد والعدل. وعلماء التأويل
هم الأئمة وخلفاء الأنبياء، أخبرُوا عن نعيم الجنات كما أخبر الحكماء عن خلود الأرواح،
غرضهم وضع النواميس والشرائع كما أن غرض الحكماء وضع السياسات والصلاح في الدنيا والآخرة.
والإيمان إقرار باللسان بما أتوا به. ولم يحرموا إلا الموسيقى التي تُضعف النفوس لنَيل
شهوات الدنيا وليس الموسيقى التي تزهد في الدنيا طلبًا للآخرة التي اشتغل بها الحكماء.
والعلماء خلفاؤهم، يَسيرُون على طريقهم وهم الأئمة المهديُّون الذين يقضون بالحق. الأنبياء
والحكماء متفقُون في الغاية. والخطورة في جعل الفلسفة أو النبوة المصدر الوحيد واستبعاد
الآخر وكلاهما من الله. موضوعهما واحد. ويستعمل الإخوان الشعر حول الأنبياء، إبراهيم
ويوسف
سليمان ويونس والمسيح وأسماء قابيل وهارون وماروت وأهل الكهف ويأجوج ومأجوج والدجال.
وهو
شعر ركيك ولكنه قادِر على صياغة القصص، ويكشف عن أهم الأنبياء والحكماء خاصة مع توافر
الطابع الدرامي للصراع بين الخير والشر، وأثر السحر على الآدميِّين في أجسادهم، وقصة
هاروت
وماروت وهبوطهما من السماء إلى الأرض ومفارقتهما جوار ربهما والملائكة مثل مفارقة إبليس
للملائكة باستكبارِه وعصيانه ومفارقة آدم الجنة من خطئه ونسيانه.
٢١٢
ويذكر آدم أبو البشر بمفردِه أو في صيغة ذريته فردًا. ابن آدم مرادف للإنسان أو جماعة
«بنى آدم» مرادفًا للبشر. خلق من طين ثم نفخ فيه بالرُّوح. خلق مرتين، الأولى من الطين،
والثانية من الروح. وخلقت به النسب الكونية. فآدم نموذج النسبة والتناسُب والمقياس في
الخلق. قرنت النفس الإنسانية بجسد آدم الذي خلق من تراب. وقد خلق الله آدم على صورته
ومثاله
كما جاء في بعض الكتب. فهو مؤهل للطاعة. وخلق آدم عاريًا وكانت الكواكب في إشراقها، وأوتاد
الأبراج قائمة، والزمان مُعتدل، وعلى رأسها شعر طويل. وكان قبل آدم الجن وعزرائيل وإبليس
أسير، فرعون آدم. كان خلق آدم وحواء من الطين بعد كون الحيوان من الأرض، وآدم وحواء بحذاء
الجوزاء من الشرق. اصطفاه الله وكرمه هو وأولاده من بين سائر الحيوانات. ومن فضائله كثرة
العلوم.
٢١٣
وقد سجدت الملائكة لآدم ساعة الخلق إلا إبليس، رفض واستكبر وقرَّر غوايته إلى يوم
الدين، وأخرجه من الجنة. وظلَّ هو وزوجه في الأرض دون حماية إلا أن الله ألهم عطارد فألهم
آدم النطق. وترمز قصة خطيئة آدم من السقوط والخلاص إلى محمد في هذه الدنيا وحاجته إلى
العون
والخلاص منها، عالم الكون والفساد ومعاونة الإخوان الفصحاء أقرب إلى المسيحية منها إلى
الإسلام، وبعد أن سقط آدم في عالم الظلام احتاجَ إلى عالم النور. وكِبْر إبليس إحدى
المعاصي، وامتدت إلى جسد قابيل، وكبر فرعون وكذلك أخذ ما ليس للإنسان واستحقاقه فسقطت
رتبتُه، وانكشفت عورته، وشمَّت به أعداؤه. وشر الأخلاق كبر النفس، وحرص آدم، وحسد قابيل.
وتقبل الله قربان أحدهما دون الآخر، والقصة كلها لا يُمكن معرفتها بالعقل. لذلك أيده
الله
بالوحي والالهام، وأنزل معه الكتاب ليدعو إلى الجنة التي منها خرج. وَعَلَّمَ الله آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، منافعها ومضارها أي حقائق الكون. وأمر الملائكة بالصعود إلى الجنة.
ثم علم آدم أولاده تلقَّينا وتعريفًا لما تكاثَرُوا. خلق الله آدم أبا البشر وجعله ناطقًا
متكلمًا فصيحًا مميزًا بالقوة الناطقة والروح الشريفة والقوة العاقلة القدسية. وأصل الحروف
والخطوط خطان ومنهما تركبت الحروف مثل صوت الإنس كلهم من شخصين آدم وحواء، وهي الحروف
التي
علمها الله لهم. وأصل العلوم وأشكال الكتابات وفنون التأليفات لأهل الهند من الحروف التي
خرجت مع آدم والتي بها عرف أسماء كل الموجودات. وعدد حروفها تسعة لمناسبتها للأفلاك التسعة
الحاوية لجميع الموجودات. ثم تفرعت بعد ذلك واختصَّ بها أهل الهند لأن آدم هبط بها من
الجنة. وظل آدم يحفظ أسماء هذه الحروف ويتكلَّم باللفظ وينطق بالمعنى ويدل عليه. ولم
يخط
بيده بالقلم إلى أن ظهر علم الكتابة.
٢١٤
ومع ذلك فهو خليفة الله في أرضه منذ الخلق حتى يوم القيامة لما به من مثال باقٍ إلى
يوم
الدين. هو الإنسان الأول، النفس الكلية، أبو البشر الترابي، له الحكم في هذه الأرض
والربوبية على جميع من فيها إلى يوم القيامة. حذره الله من إبليس الذي رفض السجود له
والاستخلاف في ذريته بعد التوبة، وهو الأمر الثاني والألوهية الثانية، وهي خلافة النبوة،
ومملكة الرسالة، والإمامة وفي ساعة الخلق. وبعد أن استوى الله على العرش أخذ الميثاق
عليه
وعلى ذريته ألا يعصون ربهم. وقد عاتبَ الملائكةُ اللهَ وراجعته في الخطاب وسجودهم لآدم،
فالقصة كلها مُحكمة الأطراف تفسر سبب كون الظلم ووقوع النفس في غرورها وخلق آدم الأول
وسبب
عصيانه وحديث الملائكة وسجودهم لآدم واستكبار إبليس من السجود وشجرة الخلق والملك الذي
لا
يَبلى، وسبب أخذ الميثاق إلى ذرية آدم، وأخبار القيامة. ثمَّ أصبح الإخوان نيامًا في
كهف
أبيهم آدم مدة من الزمن حتى جاء وقت الميعاد فتفرقت بهم البلاد في مملكة صاحب الناموس.
وشاهدوا المدينة الروحية التي خرج منها آدم وزوجه بعد خداعهما من إبليس. فالقصة تعود
من
جديد، والعودة إلى السماء. السقوط من السماء في البداية، والعودة إليها في النهاية.
٢١٥
وابن آدم أصبح عنوانًا للإنسان من حيث هو إنسان، مخلوق إلى الأبد. وبطاعته الأوامر
وتجنبه النواهي يصبح حيًّا مثل الله وأن يقول للشيء كن فيكون مثله، وله محلان، الأول
فيه
عيوب نفسه، والثاني عيوب غيره، ويَرتبط به ولداه قابيل وهابيل، استمرارًا لقصة الظلم
والعدوان والصراع في نشأة البشرية. فقد قتل قابيل هابيل وظنَّ أهل هابيل، أنه قتل بفعل
الجن. ومنذ ذلك الوقت استظهر بنو قابيل على بني هابيل. واستمرَّ القتال أخذًا بالثأر
هو نفس
ما فعله السباع بعد ما رأوا امتِثال بني آدم.
٢١٦
ولبني آدم العلم والمعرفة، والنبوة والحكمة، الكتابة والقراءة، والأخبار المروية
وإدراك
الحواس. اصطَفى الله من بينهم الأنبياء رسلًا لإعطائهم الوحي ليدعونَّ الله، يَرضُون
بقضائه، وهم ذرية الأنبياء الذين قربهم الله إليه. والنفوس متفاوتة في طاعة الله في ذرية
بني آدم. والأنبياء هم الأولياء والأصفياء منها، بنو آدم أجسامهم ثقيلة إلى أسفل وصورتهم
آدمية. أما العلماء والفقهاء فقد تجاوزوا الآدمية الحيوانية.
٢١٧
وبنو آدم هم ذرية آدم، وإليهم يتوجه النداء بأن الله حي لا يموت. توالد من آدم وزوجه
البشر جميعًا. اقترن بها وحملت منه. أبوان، الذكر والأنثى، والأنثى تحت الذكر، ومنهما
كان
العالم. وكما أن لآدم ذريته فكذلك للشيطان ذريته في غواية بني آدم وعداوتهم له. وهم
مُطالَبُون بالتخلُّص من جناية آدم بعد أن عصى ربه فخرج هو وذريته من الجنة، عالم الأرواح.
ولما كانت النسب تختلف بين الأفضل والأقل فضلًا فإن البشر أفضل من الملائكة الذين كانوا
قبل
آدم لأنهم في هذا العالم يُصارعُون الأضداد الذين بهم سيكون خراب العالم.
٢١٨ ويظلُّ بنو آدم في الأرض قادِرين على الهداية أو العصيان، على العدل أو الجور،
لقد خلق بنو آدم من شعوب وقبائل مختلفة ألوانها وألسنتُها. وكلهم خلفاء الله في الأرض،
ولهم
ملوك يُدبرون أمورهم ولكنهم أضلوهم بكثرة اختلافاتهم وآرائهم ومذاهبهم. فالاختلاف مهلكة.
وهم الآن الأكثر عددًا أفرادًا وشعوبًا. لذلك تكاثرت لغاتهم وتعددت. كما ركب بنو آدم
من
الأخلاط الأربعة، وعليها قامت الأخلاق، العزم من التراب، واللين من الماء، والحدة من
الحرارة، والأناة من البرودة. لذلك تم الخلق تدريجيًّا حتى لا تضيق بهم الأرض.
٢١٩
وبين بني آدم والحيوان صراع وألفة كما بين الإنس والجن. وقد تم تأجيل الصراع الحالي
بين
الإنسان والحيوان تاريخيًّا. بل إن طباع الحيوان قد تغيرت بظهور الإنسان. فالضفدع يداخل
بني
آدم في منازل، في حين إنه بين الإنسان والحيات عداوة قديمة وحقد كامن. يأكل بنو آدم الحيوان
ثم تأكلهم الديدان. وقد تغيَّرت طباع الحيوان إلى أسوء. فظلت تقاتل بعضها بعضًا بعد أن
رأت
بني آدم يفعلون ذلك. والله يعلم بني آدم من النحل الذي يَخلق عسلًا من غير هيولي لإثبات
قدرته. ويتناظر الحيوان والإنسان أيهما أفضل بعد مناظرة الجن والإنسان. فالإنسان بين
الحيوان والجان. الكلاب تُجاورهم وتتداخل معهم وتتجانس مع أخلاقهم، وأطعمة الإنسان والحيوان
متشابهة. ولهم طباع السباع، ومع ذلك يعتدي الإنسان على الحيوان بالسلاح، ولهم ملوك وطغاة
معتدون. ولهم حيل يسيطرون بها على البحار. وللحيوان يد بيضاء على الإنسان. حواه الحوت
في
بطنه، وتسلُّط الذباب على الملوك. فأيهما أقوى وأيهما أفضل، الإنسان أم الحيوان؟ وفي
قصة
رمزية تشكو الحيوانات بأسرها في أيدي بني آدم كما تشكو تعاونهم مع بني آدم ضدهم، وتود
البهائم الهرب من بني آدم، وهي تصلح جنودًا للملوك. يجور بني آدم على الحيوان. لذلك جاءت
دعوات الرفق بالحيوان عن حق بعد أن تحوَّل الواقع إلى مبدأ شرعي نتيجة لاضطرار الإنسان
البدائي الصيد للطعام وأخذ جلد الحيوان للكساء.
٢٢٠ وهناك عداوة أخرى بين بني آدم والجن، بين بني الإنسان وبنى الجان، عداوة قديمة
قبل آدم؛ إذ كان قد أخذه عزرائيل أسيرًا وهو فرعون آدم. وكلما تذكره بنو آدم امتلأت قلوبهم
حقدًا عليه. العداوة قديمة والذاكرة حية. حاولت الشريعة والملة والدين الصلح بينهما،
وتراجع
بنو الجان إلى ديار بني آدم، فلما طرح إبراهيم في النار اعتقد بنو آدم أن ما فعله النمرود
كان من فعل الجان. ولولا معاونة الجن سليمان لكان حكمه حكم بني آدم. تمَّ الصلح بين بني
الجان والمسلمين من أولاد آدم إلى اليوم. ويظلُّ الجانُّ يُجاور بني آدم في بساتينهم
وبني
آدم يبغضونه، ويستطيع الجان أن يدخل من أهواء بني آدم.
٢٢١ والسماء مسكنٌ لنفوس الجميع؛ الملائكة والشياطين وبني آدم والحيوانات.
ويأتي موسى بعد آدم في الأهمية. وإذا كان إبليس عدوًّا لآدم فإن فرعون عدو موسى.
والمعنى الشعبي لفرعون معنى صحيح، الشر والفرعنة والطغيان. وعلاقة موسى بفرعون مثل علاقة
إبراهيم بالنمرود. وقد استطاع موسى إبطال سحرة فرعون بعد أن اتُّهِم بالسحر من هامان
وفرعون، وسحر أقوى من سحر، والعقلية واحدة. وأنجى الله إسرائيل من عذاب فرعون، وفلق البحر
وأعطى الله موسى النبوة والملك ليجمع فيه الدنيا والآخرة نظرًا لتعود بني إسرائيل على
الملك، القصد الأول الدين، والثاني الملك. ولفرعون خاصية الكبر التي لإبليس. لذلك أجابه
موسى عن أسئلة فرعون عن رب العالمين بجواب يليق بربويته. والوعي الفردي لآل فرعون مُستقل
عنه. وهو الرجل المؤمن الذي دافع عن موسى في حين استنكف آل فرعون من الدخول تحت طاعة
الأنبياء.
٢٢٢
ولكل نبي صديق مثل هارون لموسى، يُسرُّ إليه ما يشعر به. وقد بدأ موسى بالدعوة لأخيه
هارون من أولاد يعقوب وغيره من علماء إسرائيل حتى بلغوا سبعين رجلًا سرًّا، ثم أظهروا
بعد
ذلك الدعوة وبدأ موسى بالفتيان. وكذلك فعل المسيح في بيت المقدس ثم محمَّد في مكة. تبدأ
الدعوة سرية قبل أن تُصبح علنية وهكذا يفعل الإخوان، ولما أراد موسى الصعود إلى الجبل
وترك
هارون لبني إسرائيل خشيَ هارون أن يُحدِثوا حدثًا آخر بعد عبادة العجل. إلا أن ملك الموت
قبضَ رُوح هارون فأخذها موسى فاتهمته إسرائيل بقتل أخيه. وبقي موسى بعد وفاة أخيه، وكتب
لهم
التوراة. وسلَّمهم إلى يُوشع، وصعد إلى الجبل وتُوفي هناك. وبقت إسرائيل أربعين سنة في
التيه حتى أنقذهم يوشع.
٢٢٣
وكما أنَّ لآدم علاقة خاصة بالله، فقد خلق آدم بروح منه كذلك لمُوسى علاقة خاصَّة
بالله؛ فهو كليم الله بعد أن طلب رؤيته بوسوسة الشيطان. فلما ناجاه الله أدخل السرور
والفرح
على قلبه فصفَّر وغنَّى وطَرب. كلم الله موسى وناجاه وناداه باسمه. وسأله موسى عن سبب
خلقِه. فإذا كان الخير فقد سكن الجنة مع الملائكة بشرط ذكر اسم الله وخشيته. وإذا كان
لابتلائه فرعون فلأنَّ الله اختاره يُخاطبه بلسانه ويُعلم بني إسرائيل التوراة. فلما
طلب
موسى البقاء في الجنة دون الابتلاء بالأرض كان جواب آدم الذي عاش في الجنة ولم يحفظ عهده
فعصى وغوى وخرج. أما طلب موسى النظر إلى الله إذا ما استجاب الله فإنه لن يهنأ له العيش
بعد
ذلك، وتمَّ تأجيل الطلب حتى موعد اللقاء، وهو تحليل في غاية التعقل والاحترام المتبادَل
في
حين أن التوراة كلها لعنات على إسرائيل. ويبدو في التحليل الوضع بالمعنى في الأخرويات
وليس
في المصالح العامة. ويتجاوَز أسلوب التوراة إلى عمل أدبي فني مثل أدب الانتحال، أقرب
إلى
التأليف منه إلى الترجمة مثل استعمال القرآن الحر لتقوية النثر الفني.
٢٢٤
وقد جعل الله موسى منذ ولادته قرة عين فرعون. وأتمَّ موسى ميعاد ربه وكان من الشاهدين.
آمن موسى مع غيره من الأنبياء بخلود الروح وبقائها وصلاح حالها بعد تلف الأجساد. وأثبت
أن
الأجسام تقطع بالحديد وليس النفوس. ولكن بني إسرائيل عبدوا العجل في غيبته، وأنكروا خلود
الروح. فطلب منهم موسى التوبة. وأمرهم بضرب عنق العجل لأنَّ في تلف الأجساد صلاح النفس
وطاعة الرب، لذلك رضي السحرة بتلف أجسادهم استبقاء لأرواحهم. والنبوة رسالة من الله إلى
النبي للسيطرة على أهواء البشر. فقد ارتدَّ رسول موسى بعد أن عشق امرأة. وقد أوصى موسى
بنى
إسرائيل بالخضوع إلى شرائع التوراة التي أنزلها الله، وبالتضرع والدعاء وإقامة التوراة.
وأصلح ما بين الجان وبني إسرائيل بالدين والشريعة فدخل كثير من الجن وبنو موسى، وقد أعطى
الله موسى الشريعة لما فيها من أمر ونهي وحدود ورسوم وأحكام. وأعطى الخضر السر والغيب
والكتمان. ولم يستطع موسى معه صبرًا، والشرائع تتغير وتتبدَّل. فكانت شريعة موسى لزمانه.
٢٢٥
وبِنية النبوة واحدة، وقصة كل نبي لها نفس المغزى، قام المسيح بعديد من المعجزات
في
حياته عن طريق الإشفاء، ويُؤَوِّلُها الإخوان تأويلًا روحيًّا، مداواة النفوس لا الأبدان.
وكان لا يمرُّ بحجر أو شجر أو شيء إلا ويكلمه ويعرفه ما يصلح له بوحي من الله الذي يُعطي
الحكمة لعباده المصطفَين. أحيا الأجسام بعد موتها، وأخرج الأرواح الشريرة من الأبدان.
وشريعته لعصره تتبدَّل كما تبدَّلت شرائع الأنبياء السابقين. وجاءت شريعة المسيح ودعوته
إلى
بقاء النفوس كردِّ فعل على تمسك اليهود بمظاهر الشريعة. يقرءون التوراة وكتب الأنبياء
غير
قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها ولا أسرارها. فشرح المسيح صدورهم للمعاد، ووجههم إلى
العالم العلوي، فسار معه قوم كثيرون. ودعا المسيح الخلق من الجن والإنس. ونصره الحواريون.
وانتصرت دعوة المسيح من أقاصي الأرض شرقًا وغربًا. ونصح الحواريِّين بألا يُضيعوا الحكمة
فيضعوها لغير أهلها أو يَمنعوها عن أهلها فيظلمونهم.
٢٢٦
ويستشهد بأقوال عيسى للحواريِّين على الزهد في العالم اليوم لمن يريد دخول الفردوس
غدًا. فطلب الدنيا والآخرة لا يجتمعان مثل المشرق والمغرب في مواعظ كثيرة للمسيح لبني
إسرائيل بطريقة حوار الله وموسى حتى حج آدم موسى، هناك إذن دين واحد هو التصوف. الحياة
الدنيا استعداد للآخرة. وتلك مسئولية العلماء الذين يصدون عن سبيل الله ولا يسيرون هم
فيه،
والجاهل أعذر من العالم. الموت مفارقة الجسد. كما أن الولادة مفارقة الرحم. والترهُّب
مثل أعلى.
٢٢٧ وقد وصَف المسيح الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية مثل ملكوت السموات، على
يمين الله ولم يرمز لأن التوراة قد هذبتهم، وكذلك كتب الحكماء وكانوا غير مُحتاجين إلى
الإشارات والتنبيهات. وقد طلب المسيح الاستعداد للقتل والصلب، وحذر من عدم الارتداد.
وقد
نصره الحواريون اعتقادًا منهم في خلود النفس. وقد عبر المسيح للحواريِّين عن هذا المعنى
بأنه جاء من عند أبيه وأبيهم، وأنه سيكون على يمين العرش بعد مفارقة الهيكل، يشفع للمؤمنين.
ورضيَ المسيح بقضاء الله، وانقاد للمقادير، وسلم ناسوته إلى اليهود عن طيب خاطر، وهي
النفس
المطمئنة. فلا فرق بين الإنجيل والقرآن. وعرف الناس أن المسيح لم يقتل، فنبشوا القبر،
ولم
يجدوا الناسوت فاختلفوا. وتفرَّقوا إلى بلاد الغرب والحبشة وروما وأنطاكية وفارس والهند
ومن
بقي في إسرائيل. وما يهم أيضًا هو بعث المسيح؛ إذ قال للحواريين في وحيه له أنه إذا فارق
الهيكل أي البدن فإنه يكون واقفًا في الهواء على يمين العرش؛ ومن ثم فهو حاضر شاهد لا
يجب
مخالفته حتى يكونوا معه في السموات. وهذه هي الولادة الثانية، وقد اعتقد البعض اعتقادات
خاطئة مثل قتل اليهود له. والله هو الذي يحكم بين عباده فيما اختلف فيه أنصاره. فارتدُّوا
وصوَّروا وعملوا التماثيل لله وللروح القدس وجبريل ومريم والمسيح تذكرة لهم بأحواله.
٢٢٨
وإبراهيم خليل الرحمن، ناجاه وبحث عنه حتى عرفه. وتلك ملة إبراهيم. اتبعه عليها الناس
وهي ملَّة الإسلام. بنى الكعبة كما بنى سليمان إليا في القدس. ففي كل الديانات مناسك
وبيوت
وقرابين وهياكل وصلوات. وضع الحجر والمقام وعلم الناس المناسك ليشهدُوا منافع لهم. وحج
وطاف
ولبَّى وصلى وطاف وسعى ووقف بعرفات وبات بالمزدلفة، وضحى بمنى، وحلق وعرى، تصفية للنفس.
وانتقل إبراهيم إلى التأمل في الطبيعة إلى إقامة الشعائر إلى الصعود بالروح، حطم الفتى
الأصنام، وكانت نفسه مطمئنة بالإيمان حتى رأى ملكوت السموات والأرض وكان من المؤمنين،
وتبعته ذريته. والسحر الحلال هو العلم الذي يعرفه المعلم الواصل أو الحكيم الفاضل.
٢٢٩ طرحه النمرود في النار. وظنَّ الناس تعليم المنجنيق من الجان ولكن البق قتل
النمرود في النهاية. قتل الأضعف قوَّة الأعظم سلطانًا وصولة وتكبرًا، وهو اسم النمرود
في
الثقافة الشعبية. وطرح إبراهيم في النار مثل تخريب نبختنصر إليا وحرقه التوراة وقتل أولاد
سليمان وآل إسرائيل وطرد آل عدنان. وقد فعل ذلك نمرود لما أخبره المنجمون بمولود جديد
يخالف
دينه على عبادة الأصنام. ولو أنه سأل النجوم لأهدته. ولكن إيمان إبراهيم خلَّصه من جنون
الآدميِّين اعترافًا بالوحدانية، فالله هو الذي يهدي ويشفي ويغفر، ولإبراهيم حكاية أخرى
مع
قارون تمثُّل التعارض بين الروح والبدن، بين الآخرة والدنيا. وقد امتحن إبراهيم في منامه
بذبح ولده إسماعيل، وكان لا بدَّ من تصديق الرؤيا لأنَّ رؤيا الأنبياء صادقة. ثم أعطى
الله
درسًا للبشر بأن الإنسان قيمة، لا يُنكر رؤية نبي أو إرادة إله.
٢٣٠
ويأتي سليمان في الأهمية قبل داود.
٢٣١ فالحكمة تسبق الملك، جمع الله له النبوة والملك كما جمعها ليوسف بالرغم من
زهدهما في الدنيا. وهو من ملوك العراق وليس من الشام نظرًا لظلم الأمويِّين وعدل العباسيين،
وسليمان ملك عادل لا يظلم. عرف سليمان كل اللغات، لغة الطير، الهدهد والنملة، ونقل العلوم
من أمة إلى أمة، وأخذ علوم الكلدانيين والبابليين والآشوريين والمصريين واليونانيين.
وهو ما
فعله الروم حين غلبوا اليونان وما فعله اليونان عندما غلبوا غيرهم، وكان سليمان متكلًا
على
الله، مستندًا إليه، مستعينا به، عارفًا بفضله على عكس قارون الذي ادعى العلم. عرف سليمان
الله وخر له ساجدًا، وقد بنى سليمان مسجد إليا الذي يُسميه اليهود الهيكل، في عصره وليس
بيديه. وقد هدمه نبختنصر كما فعلت الروم مع ثغور المسلمين بالرغم من دفاع المجاهدين حماية
للبلدان من الأعداء. كما أطاعت اليمن سليمان. والجن أفضل من الإنس كفرًا بظلم البشر،
وسخر
له الله الجن وأيده بالملك. وافتخرت الجن على الإنسان بمعاونتها سليمان. فلما مات كانت
في
عذاب مهين. واتصل عن طريقهم ببلقيس عندما غلبوا غيرهم، بل ويحدد الإخوان أسماء الجن.
وكانت
الجن تخشاه لأنه كان يكلف الطغاة منهم بالأعمال الشاقة.
٢٣٢
وكان داود يقرأ مزاميره في البيوت في الصلوات وعند القرابين وفي الدعاء والتضرع
والبكاء، وكما يفعل النصارى في كنائسهم والمسلمون في مساجدهم لتساعد القلوب على الخضوع
والنفوس على الخشوع والانقياد لأمر الله والتوبة من الذنوب. كان الزبور يُقرأ في المحراب
بألحان طيبة. وكان داود أواهًا حليمًا، ونجا آل داود من عذاب نبختنصر. وقد سعى داود إلى
التفرقة بين المرء وزوجة أوريا بن حنان. قدمه أمام التابوت بدافع الهوى والحسد الغالب
حتى
قتل وتزوج بامرأته. ويقالُ إنها أم سليمان مما يضع قضية عصمة الأنبياء موضع التساؤل.
٢٣٣
ونوح ضمن أولي العزم من الرسل الخمسة مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ذرية بعضها من
بعض.
ومن الطبيعي أن يؤمن بالأنبياء أراذل القوم، المضطهدون والمستضعَفُون والمنبوذون. وكل
من
يعصي الأنبياء وينكر المعجزات ويكذب ويستكبر يحق عليه العذاب مثل طوفان نوح، وريح هود،
وغرق
فرعون، وعقر ناقة صالح. كانت المعجزات أداةً للإقناع حتى نهاية النبوة، وقد غرق ابن نوح
مع
الغارقين مع إنه حاول إنقاذ نفسه طبقًا لمقاييس العلم والمشاهدة. وقد تطورت الشرائع من
نوح
إلى إبراهيم إلى موسى إلى المسيح إلى محمد طبقًا لحاجة كل عصر ومستواه في تقدم الوعي
الإنساني.
٢٣٤
وتُمثِّل قصة يوسف أيضًا الصراع بين الخير والشر بدافع الحسد ونزعات الشيطان من أولاد
الجن عندما قذفه إخوته في الجب، طبقًا لتاريخ الصراع بين الإنس والجن. وهو نموذج الجمال
الفني الذي لا يقاوم عند المرأة، والرجل الصادق القادر على المقاومة. كما أنه نموذج الجمع
بين النبوة والملك مثل موسى وداود وسليمان ومحمد بالرغم من زهدهم في الدنيا، وهو نموذج
للعلم وتأويل الأحاديث والرؤية الصادقة والمقام عند الله، نموذج النفس المطمئنة.
٢٣٥
أما إدريس وهو هرمُس الحكيم فإنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد
جميع
أنواع الفلك. ثم نزل إلى الأرض وأخبر الناس بعلم النجوم، وأصبح في مقامٍ عليٍّ. لذلك
يسمى
إدريس الرفيع. بالرغم من احتمال خطأ بعض المنجمين إلا أن العلم لا يبطل لأنه معجزة إدريس
آمن بها ملك زمانه وليكون العالم على أتم حالاته وأكمل غاياته كما هو الحال في السفر
الرابع
من صحف هرمس. وهو نفس ما فعله هرمس عندما تشوقت نفسه إلى الصعود والاستمتاع بالنظر إلى
الموجودات، مجرد الاستمتاع الشخصي، وفي حالة إدريس منفعة الناس. ولإدريس الحكيم فضيلة
ثانية، الصلح بين الجان وبين أولاد آدم بالدين والشريعة والإسلام والملة. فتراجعت عنه
الجان
إلى ديار بني آدم. وله فضيلة ثالثة وهو إنجابه ذرية من القضاة العدول والفقهاء مثل بلقيس.
يمثل إدريس وحدة الحضارات القديمة اليونانية والعبرية والإسلامية مثل الدعاء الأفلاطوني،
والمناجاة الأرسطاطاليسية، والتوسل الإدريسي.
٢٣٦
ويذكر لقمان الحكيم في وصاياه لابنه في مجالسة العلماء لأن الله يحيي القلوب بنور
العلم
دون منازعتهم لأن الحكمة صافية بعيدة عن أهواء البشر على عكس قارون الذي جمع المال كما
هو
الحال في المثل الشعبي أموال قارون.
٢٣٧
ويذكر شعيب مع صالح ويونس وهلاك أقوامهم بالريح يندفع كالصاعقة، يخترق السحاب ويقتل
كثيرًا من الحيوان والناس وكأن معجزة الهلاك قد تمت من خلال قانون الأحوال الجوية. ونجا
المؤمنون بقوة رب الفلك كما نجا قوم يونس وصالح وشعيب. ودعا قوم يونس رب النجوم وخالقها
ومدبرها ليكشف عنهم العذاب.
٢٣٨
وأخيرًا يظهر محمد في آخر المطاف، خاتم الأنبياء، وأمة محمد أفضل الأمم، والعجيب أن
يجعله الإخوان من العراق مثل باقي الأنبياء والملوك رمزًا للصراع بين فارس والعرب أو
العباسيين والأمويين. وله ألقابه. مثل
ﷺ، صلوات الله عليه وتحياته، حاكم الحكام،
المصطفى، الرسول، النبي. أما أحمد فليس لقبًا بل كنية. ويذكر مرات قليلة بلا ألقاب بل
بأوصاف مثل حُسن الخلق، له الحوض، رسالته عامة وشاملة للجن والإنس معًا فاستجابت طائفة
من
الجن وحسن إسلامها. ومضت على ذلك مدة من الزمان. ومنعها من استرقاق السمع، أنزل عليه
القرآن
وبلغ على لسانه، وطالب بالقراءة. يَحتوي على كتب الأولين وشرائع المرسلين. أنزل الله
عليه
الوحي، واستجابت له الكهنة والمنجمون الذين لديهم علم الكتاب. رسالته آخر الرسالات، ونبوته
آخر النبوات، وشريعته آخر الشرائع. وعلى شريعته تقوم القيامة؛ إذ تختلف الشرائع حسب العصور
والأزمان. وقد بعث على تمام ألف سنة، وليس له معجزات تخرق قوانين الطبيعة، تفجر ينبوعًا
من
الأرض أو تنزل كسفًا من السماء أو تسير الجبال. الرسول مجرد واسطة وليس كل هذه المزايا
الشخصية، ومع ذلك اتهمه الجاهلون بالسحر والكذب، إعجازه القرآن، حرف الله دواعي
المتَّحدين.
كما تذكر بعض أحكام القرآن على اليهود ورفض ما يعتقدونه بأنهم أولياء الله وأحباؤه.
كما
يُنبه على أنَّ الآخرة خير من الأولى، واستوت عند المسلمين الأيام فصارت كلها جمعة وعيدًا
لمشاهدتهم يوم القيامة. ويُؤَوِّل الإخوان بعض أقواله الفلسفية مثل تأويل العقل المذكور
في
القرآن على أنه العلة الفاعلة المبدعة بلا واسطة، وإشارته إلى النفس المطمئنة.
٢٣٩
ويُعطي الوصايا لأمته. وكلام الله لجبريل إفهامه للمعاني ثم جبريل لمحمَّد ثم محمد
لأمته ثم أمته بعضها لبعض، وكلها مخلوقة مثل قول المعتزلة. وقد جمع له الله خصال الملك
والنبوة كما جمعها لموسى وداود وسليمان ويوسف في محاجة القرآن لليهود والنصارى الذين
كانوا
يُنكرون الملك ويقرون بالنبوة، فجعل الله الملك خادمًا للنبوة.
٢٤٠ وأمته خير أمة أخرجت للناس، يُعاملها ربها أحسن معاملة. تمنَّى موسى أن يكون
منها نظرًا لصلاحها وتميز رجالها كما تصفها التوراة. فأخبره الله أنه منها وهم منه. فكل
مسلم منسوب إلى أمة محمد، وكل من تزيى بزيِّ المُسلمين وأعذرهم بعروة الإسلام. وهو القدوة.
لذلك ترى عائشة أن أول بلاء حدث في الأمة بعد ذهاب نبيها هو الشيع أي حب الدنيا والترف
بلغة
ابن خلدون بالرغم من اتفاق الإسلام والمسيحية على الزهد والورع، الإسلام الإشراقي بعد
تأزُّم الإسلام الاجتماعي.
٢٤١
ويتمُّ الاستشهاد ببني إسرائيل كثيرًا. فهم قوم لهم كتب مثل المسلمين؛ أي إنهم أهل
كتاب
دون تحديدها بأنها مقدسة، ودون تحديد دقيق أي كتب هي خارج التوراة. قد تكون نصوصًا موضوعة
فيما عرف فيما بعد باسم الإسرائيليات أو ربما من إخوان الصفا أنفسهم، وفي معظمها نصوص
إشراقية يهودية مركبة على الفلسفة اليونانية بحيث لا يعرف الفرق بين نبوة اليهود وحكمة
اليونان. والنص اليوناني الموضوع على لسان الأنبياء مثل الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول
ليس الوضْع فقط في نصوص الإسلام، بل أيضًا في نصوص الديانات الأخرى بل ونصوص الفلاسفة
كما
فعل الصوفية من قبل في روايتِهِم «عن قلبي عن ربي أنه قال.» ولما لم يستطع الإخوان عزو
ذلك
إلى الرسول فقد تمَّ عزوُه إلى الأنبياء خاصة وإن حكم القرآن عليهم أن أقوالهم نقلت محرفة.
ويبدو الله في الوضع كأنه فيلسوف طبيعي يوناني متكلم في الأخلاق على طريقة الأخلاط
اليونانية. يجمع بين وحي الأنبياء وحكمة اليونان في تأليفٍ حضاري أخلاقي رُوحي، طبي طبيعي،
الصحة في اعتدالها والمرض في اختلالها، ثمَّ تتحوَّل إلى أصول وفطر في أخلاق البشر. العزم
من التراب، واللِّين من الماء، والحدة من الحرارة، والأناء من البرودة. ثم يأتي نفْخ
الروح
ووضع النفس في البدن. فمن النفس تأتي الحواس وباقي الوظائف النفسية والطبيعية، ومن الرُّوح
تأتي الإدراكات العقلية أو الخلقية بما في ذلك الأهواء والانفعالات والعواطف. فالله كما
يبدو عند الإخوان يوناني المزاج، أفلاطوني النزعة.
٢٤٢ وإذا كان بنو إسرائيل قد سكنوا الشام فإنهم استطاعُوا احتواء حكمة اليونان. فقد
استولى سليمان على خزائن الأمم ونقلها وضمها إلى الوحي. فالوحي له مصدران: إلهي وإنساني،
ديني ودنيوي. يَختلط الوحي بالحكمة والدين بالفلسفة ليس فقط في العقل، بل أيضًا في التاريخ.
فعلوم إسرائيل أيضًا مستمدَّة من أنبيائهم مثل سليمان والتي أخذها من باقي الشعوب ونقلها
إلى العبرانية وإلى الشام. فالحضارات متصلة بعضها بالبعض الآخر. وقد بحث الحكماء في النفس
قبل نزول التوراة والإنجيل والقرآن بقلوبهم وقرائحهم. وصنَّفوا في ذلك الكتب الفلسفية.
فالحكمة مصدر أول قبل الشريعة. ثم تمَّ تدوين الكتب الإلهية، ووضع النواميس بالتأييد
الرباني وهي أشرف صناعة. معرفة البشر الحقائق إذن من الوحي وكتب الأنبياء أي من الماضي
القريب أو من كتب الحكمة قبل الأنبياء منذ آدم أي من تاريخ البشر. ولا تعلم أخبار العالم
قبل آدم إلا من النقل، وظيفة القصص إذن إذكاء الوعي التاريخي والبحث عن مصادر المعرفة
الإلهية والإنسانية.
ويعتمد الإخوان على تاريخ الأديان ليس فقط قصص الأنبياء بل أيضًا الكتب المقدسة في
ترجماتها العربية القديمة. ويذكرون التوراة والإنجيل رجوعًا إلى المصدر الأول للوَحي
بعد أن
استولى الظلمة على آخر مرحلة فيه، القرآن، واحتكروا تفسيره، ومن ثمَّ جعل الأول ضد الأخير
والعودة إلى جذور الوحي لزعزعة استحواذ الحكم الظالم على القرآن. القرآن ليس حالة خاصة
بل
هو استمرار لوحي تحرُّري طويل. كل مرحلة سابقة تقترن بالمراحل اللاحقة، وكلها تعترف بمرحلة
القرآن آخر المراحل، وتتنبأ بقدوم محمد آخر الأنبياء. ومع ذلك شك النصارى واليهود في
نبوته
لما رأوا أنه جمع بين النبوة والملك. وكثيرًا ما تذكر القصص والأمثال والمواعظ والعقائد
والأخلاق في التوراة والإنجيل تأكيدًا على وحدة الوحي. وأحيانًا تستعمل التوراة وحدها
واتفاقها مع القرآن في موضوعات كثيرة مثل التوبة.
٢٤٣
وتذكر أقوال مأثورة تتَّفق عليها الأديان جميعًا دون صحة تاريخية أو نسبة إلى مصدر
معيَّن وسط الآيات. الغاية منها أثرها وليس مصدرها، وأحيانًا تُعزى إلى صاحبها موسى أو
كتب
الأنبياء على العموم أو الخبر على الإطلاق أو كما قيل أو المثل السائر. والبعض منها على
لسان الحيوان رمزًا على أهواء البشر وتعبر عن حكمة الشعوب، تجمع بين الفلسفة والدين،
والحكمة والشريعة. ويَستدعي القرآن آيات من التوراة والإنجيل، فالحقائق واحدة في كل الأديان
مثل تسخير الطبيعة وطلب المسيحيين من الحواريِّين الاستعداد للقتل والصلب دون مراعاة
للصحة
التاريخية والانتقال من الرواية المعنوية (القرآن) إلى الخبر المباشر (الإنجيل). والإشارة
إلى صحف إبراهيم وموسى نوع من القراءة التراجعية بحثًا عن الأصول.
٢٤٤ وتذكر خصال النبوة في الكتب الثلاثة وإجراء السنة في الشريعة، وبيان الحلال
والحرام، وتفصيل الحدود. وقد يختار من التوراة الألحان الداودية أو مزامير داود التي
تُقرأ
مثل القرآن والإنجيل. فالتوراة مصدر للعلم عند اليهود. وأحيانًا يُذكر الإنجيل بمفردِه.
وتستعمل أقوال المسيح من القرآن بالعربية في معانيها وليس بألفاظها لأن المسيح لم يتحدَّث
بالعربية لأنها مختصرة للغاية قاصرة على الدلالة. وقد تكون قراءات إسلامية أو رواية إسلامية
لأقواله.
وقد يذكر القرآن مع كتب النصارى؛ أي الإنجيل فيما يتعلَّق بذكر الشياطين وأفعالها
مع
المسيح. وقد يستعمل الإنجيل وحده. فالنصارى لهم كتاباتهم المستقلة. وقد تأتي من القرآن.
فالقرآن مصدر لأقوال المسيح دون مجادلة أهل الكتاب. نصف أقواله من القرآن والنصف الآخر
من
الإنجيل ودون تمييز بين النوعين من النصيين من حيث الصحة التاريخية. فالمهم هو الاتفاق
في
المعنى وهو أكبر ضمان للصحة.
٢٤٥
ويستعمل الإخوان نصوص القرآن في نقد اليهود من أجل إعطاء العظة والعبرة مثل طلب الله
التوبة من اليهود، وانتصار الحواريين للمسيح، وتحريف الكتب المقدسة ونقد أخلاق العهد
الخاصة، فالأرض يرثها عباد الله الصالحون. وقد تنسخ الشرائع بسبب تحريف البشر لها وعدم
حفاظهم عليها والتلاعب بها طبقًا للأهواء. ويُكفر اليهود، مثل الخوارج، المخالفين
ويستحلُّون دماءهم على عكس الإخوان. وينتقل تاريخ البشر من الوحدة إلى الكثرة كما هو
الحال
في تاريخ الفرق الإسلامية، وفي نهاية الرسالة التاسعة عن تهذيب الأخلاق بعد اتفاق الآيات
والأحاديث تأتي التوراة والإنجيل فتمثل فصلًا بأكمله في حسن التكليف مع موسى أولًا ثم
المسيح ثانيًا. مصادرها من التوراة أو الإسرائيليات أو من الإخوانيات إذ تتَّسم بنفس
الطابع
الإشراقي بين موسى الصوفي والله. فلا فرق بين رسالة محمد وموسى والمسيح. ومع ذلك يظل
السؤال
قائمًا: لم الخلق؟ وهو سؤال المُلحِد، سؤال الصلاح والأصلح. وقد حج آدم موسى مثل محاجاة
الشيطان لآدم في كتب الفرق.
٢٤٦
كما يذكر في بعض كتب بني إسرائيل وفي القرآن أن الكبر رداء الله. والعظمة إزاره.
كما
يذكر في التوراة والإنجيل والقرآن وصف الجنان وسعة السموات والروح والريحان والنعمة
والرضوان، وفي نفس الوقت ضرورة الاستعاذة بالجن وتوبيخ العاصين. كما يذكر في الكتب الثلاثة
آيات الجن ويُستعاذ بها في السفر، وفي نصوص أخرى حكايات عنها وأنها موجودات خلقت للبشر،
وتأويل النصوص واليقين بها على فنون متعدِّدة.
٢٤٧ ويُفسر الإخوان المعجزات تفسيرًا خرافيًّا كما هو الحال عند بني إسرائيل.
فالضفدع هو الذي حمل النار بفمه لاصطناع النار التي وضع فيها النمرود إبراهيم. وكان معجزة
لموسى. وهو فصيح اللسان، جيد البيان، كثير التسبيح والتهليل والتكبير، وقد وضع علماء
التوراة ورؤساؤهم حساب الجمل يعلمونه للناس.
وتنسج قصص من التوراة لإثبات السحر سواء كانت من
الإسرائيليات أو الإخوانيات. ويجزم بصحة التوراة من أجل إثبات السحر مما يدلُّ على الوضع.
٢٤٨ فإثبات الصحة يعنى نفسيًّا عدم الصحة عند اليهود والنصارى، ووجودها بعدة لغات
عبرانية وسريانية وعبرية تدلُّ أيضًا على عدم صحتها بل على مصدرها الشعبي.
٢٤٩ وهي قصة الصراع بين الخير (عيصو) والشر (ابن النمرود) كما هو الحال في صدى
الاسم حتى الآن في الثقافة الشعبية. مما دفَع الفقهاء مثل ابن حزم إلى نقد السحر والخرافة
في الدين، وتنسج قصة أخرى من التوراة في السحر قصة يعقوب مع لابان مذكورة في التوراة
تدلُّ
على وضعها لأنَّها تخالف أخلاق الأنبياء وتجعل يعقوب غشاشًا أنانيًّا مخادعًا راغبًا
في
الدنيا طماعًا مُحتالًا. ويخلو من السحر بل به بدايات علم الأجنة. والجهل بالموضوع يُعتبَر
سحرًا. وهناك قصة أخرى في موضوع السحر وكأن الوحي قد تحوَّل إلى مصدر للسحر من كتاب الملوك
الذي في مكانة التوراة في كتاب صمويل. فقد استطاع السِّحر إحياء الأنبياء والإخبار
بالمستقبَل ومعرفة قوانين التاريخ. وقد نزعت الساحرة من النبي الذي استدعتْه لمزيد من
الحركة المسرحية.
٢٥٠
وتَنسج القصص ليس فقط مع اليهود والنصارى بل أيضًا مع المجُوس.
٢٥١ فتاريخ الأديان واحد في موضوع أخلاقي عمَلي، المُجازاة على المدح والذم، الثواب
والعقاب، الوعد والوعيد، الترغيب والترهيب لأنَّ الفعل مكتسَب لصاحبه.
٢٥٢ وتكشف القصة عن خصوصية إله إسرائيل وعدوانيته وشعبه ورفض الأخلاق العامة
الشاملة، والتقابل بين الأخلاق العنصرية اليهودية وأخلاق المجوس الإسلامية. استغلَّ اليهودي
مثالية المجوسي لصالحه، وأصبح المثالي ضحية مبادئه. والحق في النهاية هو الغالب. ويحقُّ
العقاب الإلهي على الظالم لتصحيح سلوكه في الدنيا. كال اليهودي بمكيالَين، انتفع بالمثالية
والمادية معًا، والعمل هو محك صحة المبادئ، والواقع هو المقياس. كما تكشف القصة عن التعلم
من التجارب مثل رسالة حي بن يقطان، ليست في التوحيد بل في العدل. تعلم المثالي في المرة
الثانية وترك اليهودي لولا أنه أشفق به من جديد وعاد إلى مثاليته. وقد انتصرت في النهاية
الأخلاق الشاملة ضد العنصرية اليهودية. لقد حول الإخوان العقائد النظرية إلى ممارسات
سلوكية
وطبيعية ثانية. وقد تكشف البيئة الجغرافية، كرمان وأصفهان، عن الصراع بين نظريتين في
الأخلاق. والمجوسي هو الذي يبدأ بالسؤال ولديه حب الاستطلاع والرغبة في المعرفة في حين
أن
اليهودي لديه رغبة إلى المنفعة. والقصة موجودة في نوادر الحكماء مما يدلُّ على اعتماد
الإخوان على مصادر مكتوبة.
وفي رسالة الجامعة يأتي آدم أولًا ثم المسيح، عيسى، عيسى ابن مريم قبل موسى مما يدلُّ
على النزعة الصوفية الإشراقية للرسائل.
٢٥٣ ثم يأتي سليمان ونوح وإدريس وإبراهيم وكلهم من الأنبياء والحكماء الإشراقيين.
فآدَم من أُولي العزم من الرسل مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. وكل نبوة تنتسِب إليه.
وهو أول مخلوق مركب من المادة والصورة، أبو البشر، وإذا كان الله قد اصطفى موسى لنفسه
فإنه
خلق آدم بيده، وحواء أم البشر. آدم والطبيعة والنبوة بداية واحدة. آدم فانٍ لأن جسمه
ذو
طبائع متضادَّة. وكانت الملائكة قبل خلق آدم أشخاصًا روحانيِّين. وهو خليفة الله في الأرض.
كل شيء في الأرض مسخر له، الحيوان والطبيعة حتى ولو أتعب الحيوان. وعلم الله آدم الأسماء
كلها وأمره أن يعلم الملائكة. والعلوم ثلاثة أصول وجوامع وفروع، شريعة وصناعة وملَكة،
آدم
ونوح وإبراهيم، فآدم من أصول المعرفة. علم الله آدم الأسماء كلها وأمره أن يعلم الملائكة.
ودعوته مثل دعوة المسيح تقوم على ضرب الأمثال. فآدم في كلِّ نبي.
٢٥٤
ولما كان لكلِّ نبيٍّ عدو ورفيق فإن عدو آدم هو إبليس منذ خطيئة آدم، وقد تاب وغفر
الله
له بالكلمات التي تلقَّاها، مكتوبة بنور القُدرة. ولم يظهر إبليس لآدم إلا في صورة النسبة.
ورفض إبليس السجود له رفضًا لكرامة الإنسان. ولقد عرف الله نفسه للبشر من خلال قصة آدم،
وكان إبليس يَركلُه على باب الجنة. لذلك تعني إبليس اشتقاقًا المتحير والمتوقف. والعداوة
مركبة في البشر منذ عداوة إبليس لآدم، وقابيل لهابيل، وجبار قوم لإدريس، وفرعون لموسى،
والنمرود الإبراهيم. آدم يُمثِّل النفس الناطقة وإبليس النفس الشهوانية. وكان حب استطلاع
آدم هو سبب الخطيئة، حب الرياسة والاطِّلاع على ما نهى عنه. لقد اشتاقت نفس آدم للمجهول.
لذلك جاءته شريعة ضيقة العلم، حرجة التكليف، قليلة الخيرات، عقوبة له.
٢٥٥
ولكلِّ نبيٍّ رفيق، هارون لموسى، وعليٌّ لمحمَّد.
ولكن تحليل الأعداء يغلب على تحليل الأصدقاء. ويضم الأعداء معًا الجبابرة والفراعنة
والنماردة، فرعون وهامان وقارون وجالوت ونمرود ومن يتبعهم من المتغلبين على الملك والرياسة
ظلمًا وعتوًّا بغير حق، في مجالس لم يستحقوها بأعمال ولا علوم. وهنا يبدو الرمز السياسي
الأسطوري للواقع السياسي. وقد استذلَّ جماعةُ المتكبرين جماعة المؤمنين كما فعل فرعون
بآل
إسرائيل، والإنس للحيوان، والجن للإنس، وبختنصَّر لآل داود، وآل تبع، وآل حمير، وآل يونان،
وآل ساسان، وآل أردشير، وآل عدنان، ونجاة الله الخيرين، وهلاك الأشرار.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. فالأيام دول. ويبدو آل
يونان أشرارًا وآل ساسان أخيارًا، وكان هوى الإخوان مع الفرس ضد اليونان. فاليونان بلغة
العصر مستعمرون سياسيًّا وإن كانوا حكماء فلسفيًّا. وإذا كان الأخيار في الجنان فإنَّ
إبليس
والشيطان وفرعون وهامان ومالك الغضبان كلهم في النار. فآدم له دورُه في التاريخ، مرحلة
من
مراحله بعد نجاته وهلاك عدوِّه. وأول من استخلف على دور الستر فانكشفت عورته، وبعث العلوم،
وأخرجها من السر إلى العلن. وحواء بقية دور الكشف. ولآدم دور آخر عند شجرة سدرة المنتهي
إذا
بدأ دور السعادة بظهور النفس الزكية في يوم العرض الثاني إذا تجلَّت النفس الكلية. فالإقامة
رتق للفتق، وإصلاح للخطأ، ورفع للسقوط. ولقد أعلم الله آدم ما أخفى عنه. سكون الأرض نعمة
وكرامة مثل تأييده بالإلهام والوحي، وإقامة الشريعة، والسجود لله، والعمل بالجسم، وإظهار
الصنائع، وكثرة الأولاد، واتِّساع الدعوة.
٢٥٦ الأنبياء جزء من فلسفة التاريخ وبقرانات الأدوار في الفكر الشيعي كما بدأ عند
السجستاني، تحوُّل تاريخ الأديان إلى فلسفة في التاريخ القائم على التحليل النفسي، وقراءة
الحاضر في الماضي، والماضي في الحاضر.
واضِح تضخُّم قصة آدم وإبليس في أشكال متعددة لبيان عداوة الشيطان لآدم التي تعبر
عن
روح المعارضة في الناس لفرعون والفراعنة وكل تفرعن كما هو الحال في معنى اللفظ في الثقافة
الشعبية، وقراءة تاريخ الأنبياء قراءة سياسية، من تاريخ الصراع القديم إلى تاريخ الصراع
الحالي.
كما تمثل أهمية قصة آدم في التراث الفلسفي، في الكلام ونشأة الفرق والأهواء في الحكمة
لخطيئته وضرورة الخلاص، وفي الأصول نشأة القياس وفي التصوف العدو للنفس وضرورة الوحدة.
فلما
غواه إبليس عرف آدم بدور الكشف وما فيه من الفوائد العقلية الباقية الخالدة، وأدرك قوته
على
باقي المخلوقات. واستعمل إبليس الحية في إغوائه فكانت الخطيئة
وَعَسَى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. فآدم الأسطورة الحية جزء من
التراث الشعبي القديم وليست قصة آدم في القرآن. هو استدلال على طريقة الخيال الشعبي
والاعتماد على الأخبار المشهورة. ويُسيطِر إبليس على الإنسان بصور عدة منها جريانِه في
الدم
في العروق كما هو الحال في الخطيئة الأولى في المسيحية. وفرق إبليس بين آدم وزوجه ونفرت
منه
الوحوش التي كانت قد آنسَت إليه، أما بنو آدم فهم البشر بعد آدم، ذريته وعشيرته وأهله
الذين
سارُوا في دور الكشف واستحكم العداء بينهم وبين الحيوانات ذات الطبائع الجميلة، وتفاضَلُوا
فيما بينَهم كالحيوانات بناءً على نفوسهم الشريرة.
٢٥٧
ويأتي عيسى قبل موسى في الأهمية. استأنف المسيح من الشجرة ونهى قومه. وضرب المثل
بالحنطة والزوان على الرعاع والعوام وقتَلة الأنبياء والمرسلين، رُوح الله وكلمته إلى
مريم،
أبوة علوية وليست بشرية. أعطى الحواريِّين القوة، وصبرت الآيات والمعجزات على يدَيه مصدقًا
لما بين يديه من التوراة والإنجيل ومبشرًا برسولٍ من بعدِه اسمه أحمد، لذلك قال من لم
يولد
الولاد ويكن لم يرَ ملكوت السموات. فللنفس ولادتان، واحدة للجسم والأخرى للرُّوح كما
فعل
آدم. وقد حرف أتباع المسيح كلامه، ويُواجهه الله يوم القيامة به بعد أن كذبوا عليه، ولم
يقلِ المسيح إلا الصدق. كانت الدورة الخامسة في عيسى المسيح يسوع مؤيدًا بروح القدس.
تكلم
في المهد. وكان كالمضغة بمعنى مضغة الشرائع وعصارتها ولبابها حتى صار غذاء لمن اتَّبعه،
كانت دعوته شبيهة بدعوة آدم في ضرب الامثال كان ضعيف الجسم مثل المضغة. أراد اليهود إفسادها
ولكن الله حماه.
٢٥٨
وقد أخذ موسى من البقعة والوديعة المستورة، وتابوت السكينة من شجرة آدم، وكذلك أخذ
منها
آل هارون إلى مُستحقِّه من ولد إسماعيل إلى خاتم الرسل، وهي الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها
في السماء، تؤتي أكلها بإذن ربها. وقد أمر الله الشجرة بالتوبة. كما قرب إليه موسى وراجت
الشياطين تحت امرأة فرعون. جاء موسى وأخوه هارون إلى فرعون حاملًا للجنين كواسطة بين
القوة
والفعل. قبل موسى المولود بالقوة وبعد موسى المولود بالفعل. وشريعة موسى مثل المربية
للولد.
اصطفاه الله لنفسه كما خلق آدم بيده. النهاية مثل البداية، النشأة الأولى مثل النشأة
الثانية.
٢٥٩
ثمَّ جاء القرآن الثالث في إبراهيم، وأوحى الله له بتطهير بيتِه للطائفين والعاكفين.
فأولوا العزم يُمثِّلون مراحل سبع؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ثم الفاتح. كان
إبراهيم مثل العلقة المتعلقة بأمور الأصليين الفرعيين، إسماعيل وإسحاق. ووضْع إسماعيل
القواعد. وقد رفع إبراهيم رأسه إلى السماء لمشاهدة الملكوت الأعلى. ورأى إبراهيم ملكوت
السموات، وفدى إسماعيل بالذبح المستخرِج من الجنة.
٢٦٠
ثم عمل الجن تحت امر سليمان، وأيد الله داود وسليمان بالملائكة. وغلب جالوت، وألان
له
الحديد. وبمثل ما أوحي به موسى أوحي به أحمد في المقام المحمود. ثمَّ رفع الله إدريس
مكانًا
عليًّا، وأنقذ رُوح ذريته. ويبرز نوح المؤمن في مواجهة قومه الذين كفروا به، واتهمُوه
بالجدل وهو يُحاول إقناعهم. وقام نوح بالأمر والنهي الجديد الثاني في وقت القرآن الثاني.
فالأنبياء علامات على مراحل التاريخ، بيولوجيا الوحي وذرية الأنبياء، ويُمثل نوح النطفة
التي في قرار مكين متمكِّنة في أصلها ثابتة في فرعها قائمة بصورتها في القوة النبوية
التي
تناسلت منها الذرية الطاهرة من عقب نوح ممَّن كان في سفينتِه.
٢٦١
وتذكر ألفاظ الإسلام والمسلمين عدة مرات.
٢٦٢ الإسلام دين واحد منذ آدم حتى محمَّد. وقد أخبر الله موسى في مناجاته له أنه
على دين الإسلام، وكان إبراهيم على ملَّة الإسلام. وهو الذي سمَّى أمته بالمسلمين. يرتبطون
بعروة الإسلام، الإسلام ملَّتهم، يجعلهم متوادِّين مُتراحمين بينهم، وهو مقابل الجاهلية.
وتدعي الجاهلية أن محمد قد عمل في الناس السحر ليحولهم من الجاهلية إلى الإسلام. وهو
نفس
البيت الذي كان في الجاهلية والإسلام الذي ظهر فيه العلم والنبوة والآيات والمعجزات.
وكان
رؤساء المناقضين في الجاهلية هم رؤساء المناقضين في الإسلام.
٢٦٣
والإسلام دين وسنة وهداية. وهو في نفس الوقت حرب وقتال واستشهاد. فقد استشهد الحسين
بكربلاء فافتضح الإسلام. وهناك من يدخل بلاد الروم لاستنقاذ أسارى المسلمين. والإسلام
شريعة
أعياد، وأركان خمس، الإسلام أو الجزية أو القتال. وفرض فيه قول
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ في كلِّ يوم وليلة سبع عشرة مرة، وهناك
خلفاء للرسول في سائر بلدان المسلمين الجباية الخراج وأخذ الأعشار والجزية. فلا بد للمسلمين
من قيم بها في ظاهر أمور الدنيا، يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم إليه فيما يعرض لهم من
خلاف.
ودور الفقهاء والحكماء والقُضاة والعلماء وأهل العقل والرأي دور واحد وهو المشورة على
الحكام. فالدين لازم للسياسة، والشريعة ضرورة للملك، يَجتمعون للفُتيا بين العتق والتخلية
والبيع والتخفيف والإحسان وهي أحكام الشريعة بالنسبة للحيوان. وقد يَجتهدُ الفقهاء ويتفقَّه
العلماء طلبًا للدنيا. وقد يَظلم القضاة فليسوا كلهم عدول. ومن بين الجن يكون قضاتها،
وقد
يكون الملك هو القاضي، وقد يَختلفان. فالقضاة خلفاء الأنبياء، والملك حارس الدين.
٢٦٤
وتكشف فواتيح الرسائل وخواتيمها عن الجو الديني الثقافي العام، البسملة والحمدلة
كالعادة والصلاة والسلام على الرسول وآله، في أول الرسالة أو في وسطها أو في نهايتها،
وارتباط كل شيء بالمشيئة الإلهية مع بعض الأساليب والعبارات الفلسفية مثل ينبوع الحكمة
وصفاء الجوهر، ودعوات بالتوفيق وطلب العون والمدد من الله.
٢٦٥ وتبدو البيئة الدينية في خواتيم الرسائل، ودعوة الله بالتوفيق في صيغة «وفقك
الله» للمخاطب ولجميع الإخوان الطريق السداد والهداية إلى سبيل الرشاد مع صياغات مختلفة
تضم
أينما كانوا في البلاد، والوصول إلى دار الإسلام برحمته والتوفيق للصواب بفضله وهو نعم
المولى ونعم النصير مع الصلاة على النبي. وقد تكون دعوة الله بالتوفيق للصواب. وقد تكون
الدعوة بأفعال «أعاذنا الله» أو «نجانا الله» أو أعانك الله. كما تبدأ عبارات أخرى بالله
مباشَرة مثل الله المستعان، وهو الذي يَهدي من يشاء إلى صراطٍ مُستقيم، بمشيئته وقوته
وحمده. وقد تبدأ بأفعال مثل سؤال الله الهداية وبلوغ الصفاء. وقد يأتي ذلك في نهاية الجزء
وليس في نهاية كل رسالة إلا الرسالة الأخيرة. وأحيانًا يُعلن عن إتمام الرسالة ثم الصلاة
والسلام على الرسول، كما تظهر «الله أعلم» كثيرًا بالرغم من علم الإخوان الغزير، تواضُعًا
ورغبة في مزيد من العلم.
٢٦٦
ويظهر هذا الجو الثقافي والديني حتى على لسان الحيوانات والجن والإنس في الرسالة
الثامنة في شكوى الحيوان من بني الإنسان، الكل يبدأ بالبسملة والحمدلة، الكل إلى رسول
الله
مُنتسِب، أقرب إلى الخطب المنبرية الطويلة كما هو الحال في خطبة الصرصار مثل خطب الأشاعرة
في مقدمات العقائد، مقدماتها نتائجها، ونتائجها مقدماتها، نموذج للخطب الدينية التي لا
تقول
شيئًا، مجرد تحصيل حاصل، تدعو الله والسلطان معًا كما هو الحال في مقدمات كتب العقائد،
٢٦٧ ولا فرق في استعمال الدين بين الظالم والمظلوم، القاهر والمقهور، السيد والعبد،
الغني والفقير. فالدين أداة لتبرير الأوضاع السياسية والاجتماعية للحاكم والمحكوم، الدين
أداة للاضطهاد، والدين وسيلة للثورة، والكل إلى رسول الله مُنتسِب، وكلاهما يعتمد على
الكتاب والسنة، لذلك كانت الاختلافات في الدين هي في الحقيقة تعبيرًا عن تباين المصالح.
ووحدة الدين لا تعني وحدة المصلحة، الدين سلاح ذو حدين يقوم بوظيفتين متباينتَين بل
ومتعارضتَين طبقًا للتكوين الطبقي للمجتمع، وتغلب على الخطب الاستشهادات القرآنية والأساليب
القرآنية بل والتوجهات القرآنية مثل إدراك الطبيعة حكمة التمايز والاختلاف في أسلوب إنشائي
خطابي أشبه بخطب المساجد أيام الجمع والأعياد، يصل أحيانًا إلى حد السجع الركيك. وتتَّجه
كلها نحو الإشراقيات. والإشارات الإلهية والتصوف والوجدانيات دون فكرٍ أو إشكال ودون
تحليل
القضايا الواقع وأوضاعه الاجتماعية، تقوم على التصوُّر الهرمي للعالم وقسمته إلى أعلى
وأدنى، علَّة أولى وعلل ثانية، مع بعض الأدعية والأدعية المضادة طبقًا لتعارُض المصالح،
والدرس المستفاد هو أنَّ القوة ليست في الحكم ولا في الجسم بل في العقل، وبالتالي يكون
السؤال هل العقل أداة للتبرير أم للتغير، للقهر أم للتحرُّر؟
٢٦٨