(أ) المقابسات
وهو أكبر عمل يظهر فيه الوافد، عشرة أعلام يونانية، أرسطو، ثمَّ أفلاطون، ثم الإسكندر
وسقراط وفيلون أحد قوَّاد الإسكندر، ثم بطليموس، ثم أنباذقليس وبقراط وجالينوس وزينون
الفيلسوف وفرفوريوس الصوري.
١٥
ويتمُّ التعامل مع الوافد من خلال رواية الموروث، إملاء أبي سليمان وليس من الوافد
مباشرةً. فقدم تمثُّله في الموروث وأصبح وافدًا موروثًا أو موروثًا وافدًا. وأبو حيان
ذاته
ليس مجرَّد راوٍ بل هو فيلسوف أديب تمثَّل الوافد الموروث. واستطاع هو أيضًا تحويله إلى
موروث وافد، وتحويله خطوة من الوافد إلى الموروث. ويذكر أرسطو مع الأوائل وليس بمفردِه
أي
كجزء من التاريخ العام وليس لحظة مقطوعة منه. ففي موضوع الخلاء وهو مكان عادِم لجسمٍ
طبيعيٍّ بين النَّفي والإثبات يذكر أرسطو نموذجًا للنفي مع آخَرين نموذجًا للإثبات في
مقابل
رأي ثالث يقول إنه معنى مثبوت في العالم به يكون الانقباض والانبساط، والتخلخل والتكاثُف،
والخفة والثقل، والطاقة والغلظة، والحركة والسكون. وهناك رأي رابع يثبته خارج العالم
ولا
نهاية لها، ثم يأخذ أبو سليمان وأبو حيان موقفًا قد يكون مع أرسطو وقد يكون مُناقضًا
له.
فأرسطو هنا جزء من كل، رأى ضمن مجموعة من الآراء والموضوع طبيعي عِلمي مجرَّد وليس فقط
إنسانيًّا أخلاقيًّا عمليًّا.
١٦
كما يذكر أرسطو في إطار النقل كتاريخ لبدايات الإبداع كما يفعل الوحي في قصص الأنبياء
قبل خاتم النبوة.
١٧ فالطبيعة تدلُّ على عدة معانٍ تُغطي جوانب الموضوع، وأرسطو مثل إحداها. طريقة
العرض تنتسب إلى الموروث لأنَّ الطبيعة اسم مُشترَك طبقًا لمباحث الألفاظ عند الأصوليين.
إذ
تدلُّ على أن لكل شيء عرضًا أو جوهرًا، بسيطًا أو مركبًا، وعلى المركب منهما، وعلى المزاج
الأول اللاحق لكل مركب، وعلى المزاج المتنوع، وعلى المزاج العام عند الطبيب، وعلى المزاج
الخاص عند الإنسان. ويدلُّ عند أرسطو على المعنى عند الفيلسوف الطبيعي، مبدأ الحركة والسكون
في الشيء بالذات لا بالعرض، وهو المركب من المادة والصورة. والأولى الصورة لأنها مبدأ
الحركة والسكون كرد فعل على جعله المادة عند بعض القدماء، ثم يتحقق أبو سليمان وأبو حيان
من
صحة هذه المعاني لاختيار أحدها. فهناك إبداع أول في لحظة التمثل ووضع الوافد داخل الموروث.
وهناك إبداع ثان في لحظة التحقق من صدق هذه المعاني، ومعيار التحقق مبادئ اللغة العربية
وهو
معيار موروث.
١٨
كما يذكر أرسطو من خلال الترجمتين، عيسى بن زرعة، بعد أن أصبح النص عربيًّا متاحًا
للجمهور، وجزءًا من الثقافة العامة. فالإنسانية أفق، والإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع،
دوائر
على مركزه، إلا أنه مشدود أيضًا بطبيعته إلى أخلاق بهيمية. ومن ترك نفسه لها خرج عن أفقه.
وهو نص مباشر لأرسطو يعلق عليه أبو حيان استحسانًا. ويجد أنه يشابه الموروث في مواعظه
وإرشاداته. يمكن أن يأتي بمثله الحسن البصري ومنصور بن عمار مع مخاطبة القارئ ودعوته
إلى
المشاركة في الحكم. فلا خلاف بين الوافد والموروث من حيث المضمون الأخلاقي، العقل اليوناني
الخالص والعقل الإسلامي المطابق للوحي. بل إنها نوع من الفلسفة الخالدة التي يصل إليها
العقل الإنساني بمفرده، وتوجد في حكمة كل الشعوب.
١٩
وتتم المقارنة بين الوافد، أرسطو، والموروث، المتكلِّمين، في طريقة البرهان. فقد
أحسنَ
أرسطو عرض الجدل وما به من تمويه ومُغالطة بطريقة أفضل مما وصَل إليه المتكلِّمون، اعترافًا
بالحق. فقد أكمل أرسطو ما تركه المتكلِّمون ناقصًا كما يُكمل الفلاسفة أحيانًا ما يَترُكُه
أرسطو ناقصًا، فالوافد والموروث يُكملان بعضهما بعضًا بِنيويًّا وليس تاريخيًّا.
٢٠ ويذكر أرسطو في نموذج آخر في موضع السؤال والجواب كما هو الحال في علمِ أصول
الفقه في أبواب المفتي والمستفتي وأحكام السؤال والجواب. فيسأل أرسطو: لم لا تَذكُر العالم
العُلوي ومنه هبطنا إلى هذا العالم؟ وهو سؤال إشراقي صُوفي موضوع يُعبِّر عن الموروث
أكثر
مما يعبر عن الوافد. ويعطي فرصة لأرسطو الموروث فيلسوف الإشراق الصوفي. السؤال إبداع
والإجابة إبداع من أرسطو المنتحَل دون تحديد أي كتاب لأرسطو يتضمن هذه الإجابة. فالهبوط
من
العالم العلوي إلى العالم السفلي ليس سؤالًا يونانيًّا بل سؤال صوفي إشراقي فارسي. ويُجيب
أرسطو مدافعًا عن نفسه ضد السؤال-الاتهام بأن السبب في ذلك هو اختلاطنا بالمادة في العالم
السفلي والعالم العلوي هو الدهر وكل الزمان، ماضٍ وحاضر ومستقبل. بل كله حاضر في حين
أنه في
العالم السُّفلي هناك زمان، ماضي وحاضر ومستقبل. ومن ثم لزم تذكر الماضي في الحاضر. ويدلُّ
جمال الأسلوب وحسن العبارة على الانتحال، إبداع أرسطي دون أرسطو، والتعبير عن روح الحضارة
الإسلامية من خلال روح أرسطو. ومع ذلك يمكن العودة إليه عن طريق التذكر على الطريقة
الأفلاطونية، العلم تذكر والجهل نسيان. وتستمر الأقوال المنتحلة في هذا المعنى، وكان
أرسطو
الحكيم أصبح إشراقيًّا صوفيًّا. ثم يتمُّ الاعتراض عليه بطريقة الفقهاء والمتكلِّمين
بالسؤال عن حاجة النفس والعقل إلى العلة الأولى والإجابة عنه ببقاء العلوم. يدرك العقل
الأولي الأشياء بالحدس، وكذلك العقل الثاني باتحاده بالعقل الأول. فإذا أعاقه شيء احتاج
إلى
التوسط بالحواس والوهم والأجسام. للعقل الإنساني طرفان، العقل الأول والوهم. فإذا مال
إلى
الوهم كان فكرًا وروية. وإذا مال إلى العقل كان حدسًا مباشرًا. يبدو أرسطو هنا من أنصار
الفيض، الله، فالعقل، فالنفس، فالمادة.
٢١
وقد حول الموروث علاقة الإسكندر بمعلمه أرسطو، كما تحولت العلاقة بين الإسكندر
وأصدقائه، والإسكندر وأمه إلى علاقة مثالية بين الشيخ والمريد. وكلاهما أخذ لقب حكيم،
فالإسكندر يراسل معلمه، يصف له ما رآه في الهند من الأمور العجيبة. ويناديه الإسكندر
الحكيم
أي المعلِّم الأبدي لا شخص أرسطو. ويروي له كيف أن صديقه فيلون أراد يعبر الخليج أولًا
مضحيًا بنفسه وحتى لا يُصاب الإسكندر بمكروه. فلما غرقَ فيلون جزع الإسكندر عليه، وكانت
هذه
الحادثة فرصة لأرسطو أن يتناول موضوع الصداقة والصديق، والعشق والمحبَّة، والمعرفة والعلم،
والتوحيد والفتوَّة، والمروءة والعقل، والروح والرأي، والسعادة والغنى، والجود والظن،
والوعد والوعيد، والحكمة والعالم، والدنيا والإنسان، والشريعة والوجود، ثقافة واحدة لا
تمييزَ فيها بين الوافد الموروث، وبين العقل والنقل. فيها التوحيد والشريعة كما أن بها
العقل والحكمة. يبين أبو حيان شيئًا أشبه بالمناسبة التي فيها تحدث أرسطو، شيئًا شبيها
بأسباب النزول.
٢٢
وقد يذكر أرسطو بطريقة غير مشخصة، الفيلسوف الحكيم، انتقالًا من الشخص إلى العالم
في
حدِّه للصديق. فالصديق هو الآخر المتَّحد بالأنا إلا أنه بالشخص غير الأنا. ويناقش
النوشجاني هذا الحد وينقده. الحد صحيح إلا أن المحدود غير موجود فلا داعي للتسرع لقبول
حد
أرسطو. فالعقل الذي به يتمُّ الحد بين العقل الصوري والحسي والمادي، ولو كان العقل صوريًّا
فقط لاكتفى بالأجناس والأنواع. والإنسان ذو مزاج وطبيعة، قد تتفق أو تختلف مع إنسان آخر.
فالصداقة بمعنى الهوية بين الأنا والآخر لا وجود لها إلا بمنطق الهوية لا بمنطق الاختلاف.
والهوية تؤدي إلى التبعية وهي خلاف الصداقة. لذلك كله حد الفيلسوف لا حقيقة له ولا دلاله
عليه، ولا يُطابق شيئًا في الشاهد. وقد قصد بهذا الحد المبالغة في بيان الهوية الكاملة
بين
الصديقين من أجل شحذ الهمة والوصول إلى الغاية، وإن لم يطابق شيئًا في الحس.
٢٣ يتمُّ عرض أرسطو من خلال النوشجاني وهو صاحب رأي مثل باقي الآراء، وهو رأي
مثالي لا يطابق الحسَّ، يعبر عن قصد ومثل وليس عن واقع ومشاهدة. وهنا تبدو مثالية الوافد
وواقعية الموروث. ويبدو أرسطو موضوعًا للتحليل والمناقشة والإكمال والإنقاص. وهنا يُحاول
الموروث أن يؤصِّل الوافد، ينقده ويُبين حدوده، ويفسر غايته وبواعثه. ويتم التساؤل عن
حدود
هذا الحد للإجابة عليها من أجل تعميق حد الحكيم وفهم بواعثه. فلا يوجد فرق بين شرح أرسطو
وتعقيله وبين الإبداع الخاص. الشرح والنقد والتحليل مرحلة متوسطة بين النقل والإبداع.
وينقل
عن الفيلسوف عدة أقوال إشراقية كما ينتقل عن غيره من الأوائل في موضوعات عقلية فلسفية
فكرية
خالصة مثل تعريف الذكر بأنه حركات الفكر على الوهم الجاري، وتعريف العقل بأنه لا يعني
تمييزًا له عن قوى النفس النامية والحسية.
٢٤ وقد قرأ أبو حيان كتاب النفس للفيلسوف على أبي سليمان. فالوافد حدث ثقافي في
الموروث، مجرد حدث أو مناسبة للحديث دون نقل ولكن بإبداع مباشر في موضوع النفس والأخلاق
حتى
المعاد والخلود. ويكمل الموضوع أبو يزيد البلخي في كتابة «اختيار السيرة».
٢٥ ويذكر كتاب الفيلسوف «الخطابة». فالكتاب هو المقصود وليس الشخص، من خلال
الموروث وهو اللغة العربية. فالمنطق اليوناني محمول، واللغة العربية حامل. ونظرًا لارتباط
المنطق باللغة فإن خصائص اللغة العربية تجعلها أولى بالمنطق اليوناني. ومن يقول ذلك هو
الأعجمي أبو سليمان السجستاني، وهو نفس موضوع المناظرة بين السيرافي ومتى بن يونس.
٢٦
ويذكر أفلاطون في رواية أبي حيان عن أبي سليمان في
موضوع إسلامي وهو تعدد وجهات النظر في الموضوع الواحد. فلا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مُطلق
في
وجهات النظر الإنسانية. كل إنسان مصيب من جهة رأيه. ويضرب أفلاطون مثلًا وهو انتحال إسلامي
بفيل يتحسس كل إنسان جزءًا ويحكم على الكل بما عرف من الجزء، طول الخرطوم أو استواء الظهر
أو انبساط الأذن، وهو مثل يستحسنه أبو سليمان، يشير إلى تعدد طرق الاستدلال ضد التعصب
والاستئثار بالرأي وأحادية الطرف.
٢٧ ويتكرَّر نفس النموذج. إذ يذكر قول أفلاطون في رواية أبي حيان عن أبي بكر
القومسي أن من لم يعرف الشر لم يعرف الخير. فالنقيض لا يعرف إلا بالنقيض. وهو موضوع إسلامي
عند إخوان الصفا (إيجابًا) ومحمد بن عبد الوهاب (سلبًا)، موضوع الرُّقى والعزائم، ويوضع
في
سياق إسلامي، السؤال والجواب مثل أسباب النزول في علوم القرآن وأحكام السؤال والجواب
في علم
أصول الفقه. ويؤيد القومسي ما ذكره أفلاطون تأييدًا للوحي بالعقل والتجربة.
٢٨ ويذكر أفلاطون مرة ثالثة من خلال الموروث، علي بن عيسى، وليس مباشرة بعد أن
تحول إلى وافد وموروث عن طريق المترجمين الوسطاء بين الوافد والموروث، النقل والإبداع.
ويذكر أفلاطون مع غيره مثل سقراط وبطليموس وليس بشخصه كجزء من التراث اليوناني، والموضوع
إسلامي خالص. الحكمة، نظرًا وعملًا. ويتكرر نفس النموذج مع اختلاف الإخراج. فقد يكون
الراوي
أبو سليمان، وسياق أفلاطون الطبيعيُّون الأوائل، والموضوع الإسلامي الفضيلة وسط بين طرفين.
من اتصلت الحكمة بطباعة فتحتها وأخرجت منها أنواع البيان. امتلاك المنطق حلم، وامتلاك
الغضب
شجاعة، وامتلاك الشهرة عفة. ثم يدخل أبو حيان في مناقشات الوافد وينتصر لإحداها.
٢٩ ويعاد ذكر قول أفلاطون في نوع أدب إسلامي هو السؤال والجواب. السائل يسأل
وأفلاطون يُجيب كما هو الحال في أبواب المفتي والمستفتي وأحكام السؤال والجواب في علم
الأصول وبطريقة الكتب المقدسة في حوار الأنبياء مع الحواريِّين والصحابة. وأحيانًا تكون
الرواية مُزدوجة أو مثلَّثة. قال أبو حيان من إملاء أبي سليمان أو قال راوٍ لأبي حيان
أن
أبا سليمان قال كما هو الحال في سلسلة الرُّواة في علم الحديث. فقد أصبح الوافد موروثًا
في
سلاسل متداخلة، منقولًا جيلًا عن جيل بحيث لم يعد مطابقًا بين الجيل الأول والجيل الثالث.
وفي هذا الانتقالية تم التحول من النقل إلى الإبداع. ويذكر أفلاطون كعالم طبيعي يحتج
به
الموروث باعتباره تراثًا علميًّا من الأسلاف. ففي البدن ثلاثة ينابيع، وفي كل ينبوع جداول
تفيض في أقطار البدن. الكبد ينبوع الغذاء، والجداول عروق الدم لجميع الأعضاء، والقلب
ينبوع
الحياة، وجداوله العُروق. والدماغ يَنبوع الحس، وجداوله العصب، وهو نفس تصور إخوان الصفا.
٣٠
ويذكر سقراط في رواية أبي سليمان مع غيره وليس
بمفرده. فليس هناك وافد أولى من آخر. ويذكر الوافد عن طريق تداعي المعاني بعد أن أصبح
حاضرًا في الموروث ومحمولًا عليه. وفي نفس الوقت يعطي الموروث مزيدًا من التنظير العقلي
والعمق الإنساني، ونقل مُستواه من الطبيعيات، الحركة والمتحرِّك إلى الإلهيات، من الوافد
إلى الموروث. ويذكر سقراطيس على نفس المنوال مرويًّا داخل الموروث في قوله عن إمكانيات
تحول
العناصر الأربعة إلى بعضها البعض عن طريق الحركة. فلو قبل الماء السكون كان أرضًا، ولو
قبلت
الأرض السكون كانت ماءً، ولو كان الهواء حاد الزاوية كان نارًا، ولو كانت النار منفرجة
الزاوية كانت هواء.
٣١ كما قرأ على أبي سليمان كلام أنبادقليس عن المحبة والغلبة. إذا استولت المحبة
على الأجسام كان العالم كريًّا. وإذا استولت الغلبة كان العالم فاسدًا مركبًا من أسطقسات.
فالوافد يعرض على الموروث، فيفسر أبو سليمان أن استيلاء المحبة بالقوى العقلية اعتزازًا
بحضارة العقل. وذكر أبو سليمان كلمات لبطليموس واستحسن قوله في الثمرة كالشذور المنتخبة
والدرر الثمينة وبين الحاجة إليها في الفلسفة الإلهية والطبيعية لمعرفة واجب العقل. وهنا
ينقل أبو سليمان مستوى الطبيعة لبطليموس إلى مستوى الإلهيات والتصوف. ويتكرر نفس النموذج.
فأبو سليمان هو الراوي عن بطليموس، والموضوع، الاختيار والطبيعة إسلامي. ثم يشرح كاتب
آل
طولون الوافد بالموروث. فالوافد محاصر مرتَين من البداية والنهاية تأكيدًا للوافد ودفاعًا
عنه. وقال بطليموس قولين في الثمرة متشابهين يدلَّان على أنهما مُنتحلان أي من عمل الإبداع
على لسان الوافد.
٣٢
مهمَّة الموروث التحقُّق من صدق أقوال الحكماء ونسبتها لهم في التاريخ. فقد زعم بعض
الأولين أنَّ للجسد مواتًا هو مقدار من مقادير المزاج ثم يكون حيوانًا إذا تغيرت الهيئة
والمزاج، وأن الطبائع الأربع كانت مقادير مُعتدلة في الحيوان القابل للحس ويكون البدن
حيًّا. فإذا ما تغيَّرت هذه المقادير انقلبت وكانت مواتًا. ومنهم من زعم أن البدن على
قدر
المزاج يحدث في البدن عرضًا يكون حياة أو نفسًا. وينسب هذا الزعم إلى زينون. وهو ظنٌّ
زائف
ورأي ضعيف في رأي الموروث. فالنفس مُستقلَّة عن البدن. والبدن آلة لها. وهي موطن النطق
والعلم والحكمة والبيان والفكر والاستنباط والعقل والنظر. وربما نسب هذا الرأي خطأً إلى
زينون الشيخ اليوناني الذي جعله الفارابي معبرًا عن الفلسفة الإشراقية، وهو زينون الرواقي.
فإذا كان رأيه فإنه يكون منسوبًا إلى زينون الإيلي.
٣٣
وذكر قول فرفوريوس المفسِّر لأرسطو في كتاب النفس أنَّ العقل النفساني إذا اتصل بالعقل
الأول الخالص كان عقلًا دائمًا، وإذا فارق البدن لزمته هذه الصفة. ويبطل الحس والنماء
والتوهُّم ببطلان الجسم لأنها من أثر النفس فيه. ليس العقل من الجسم ولا من النفس بل
النفس
من أجله وهو صورتها وهو ما يتَّفق مع رأي الحكماء. ويذكر قول أبو قراط رواية عن القومسي
رواية عن الأوائل أن الحمية ترك الشَّهوة. وأحيانًا يكون الوافد هو الدافع على سؤال
الموروث. فقد بلغ جالينوس في منافع الأعضاء حدًّا من الدقة بحيث يبدو وكأنه مُلهم من
الله
ومُوحي إليه في وصفه للعين. فالوحي والعقل والطبيعة شيء واحد. والفرق أن جالينوس يجعل
العلل
تابعة للأشياء في حين أن الأشياء تابعة للعلل. ويسأل أبو حيان عيسى بن زرعة بحضور أبي
علي
وابن عبدان الطبيب عن الأشياء المدركة بالحس والعقل واتباعها العلل.
٣٤
ومن الوافد ما زالت بعض المُصطلحات المعربة مثل الهيولي. كما تذكر التسميات العامة
مثل
القدماء، الحكماء، الفلاسفة، الأوائل، الفيلسوف، يونان؛ إذ يروي ابن زرعة من كلام القدماء
ما يتفق مع الموروث مثل دلالة العقل على الفضيلة كدلالة الجهل على الرذيلة دون الإشارة
إلى
سقراط. وكلام الأوائل منقول ومترجم، وهو في حاجة إلى تفصيل وشرح، مما يقتضي إعادة صياغته
لمزيد من البرهنة وتعميم للفائدة. البداية هو الوافد، والوسط هو الموروث، والنهاية هو
الواقع العملي من أجل توحيد الثقافتين بدلًا من ازدواجيتهما ثم التوحيد بين الثقافة والواقع
بدلًا من عزلتها وانفصالها عنه. وهناك شيوخ عرضوا علوم الأوائل وهضموها وتمثلوا مثل أبي
القاسم عيسى بن علي بن عيسى، وقد يكون لفظ الأوائل عامًّا للغاية بحيث يشمل الوافد والموروث
بمعنى السابقين. فأبو بكر القومسي كان كبيرًا في الأوائل مما يدل إلى الاحترام الشديد.
علوم
الأوائل مفهومة ومعروفة وليست صعبة ولا عويصة. ويمكن التسليم بها لمن يعرفها. فالعقل
قاسم
مشترك بين الوافد والموروث. وكثيرًا من الأقوال المروية عن القدماء يقبلها العقل، ولا
تعارض
الوحي، وأقرب إلى العلوم الطبيعية مثل معرفة الدواب أولادها بالرائحة، ومعرفة الطير أفراخها
بالألوان، ومعرفة الناس بالصورة. وتروى هذه الأقوال على لسان أبي سليمان، ويحكم عليها
بالصواب والخطأ. وأحيانًا يروي القول بلا تعليق. كما يروي أبو سليمان قول بعض الأوائل
أن
الحد يكون من الصورة والهيولي في حين أن الإيضاح يكون من الصورة والعلة ثم يحكم بصحته.
وهو
الصناعي خارج عن حد الطبيعي. فالصناعي يصدر عما له صورة نفسية بأداة روحية. فالطبيعة
من
الآلهة. ويكون المحرك مساكنًا كالمغناطيس للحديد، والشهوة للبدن، وصياغة الرواية في شكل
سؤال وجواب كما هو الحال في علم الأصول وفي أسلوب التساؤل القرآني.
٣٥
وأهم الموضوعات التي تروى فيها الأقوال على لسان أبي سليمان في الموضوعات الإنسانية
مثل
العلم والعمل وهما حد الفلسفة، ولكل منهما ضدان. العلم بين الصدق والكذب، والعمل بين
الخير
والشر. والإنسان الذي لا يعمل بعلمه كشجرة مورقة لا تثمر. وهو تشبيه وارد في أساليب
الموروث، والإنسان ليس العالم وهو في الوسط. قد يعلم بالمماثلة ويهبط بالمشاكلة. والبخيل
والغني كالجبان والقوي، وهو تعريف يقوم على المشابهة. ويذكر موضوع القول إنه في السياسة
والأخلاق. فالأقوال ليست متناثرة بل تنصب في موضوعات مثل ضرورة أن يكون لكل ذي سلطة تحصين
العقل من العجب والوقار من الكبر والعفو من تفضيل الحدود، وتبدو مفاهيم الموروث في انتحال
الوافد، إذ لا يمكن فصل الحق عن العدل. والنفس والعقل صورتان. والعلم علم فحص وعلم فكري
مثل
القياس. وإذا قويت الهيولي على النفس تظل النفس قادرة على التجرد والحرص، والفكرة تقع
على
المفقود والعلم يقع على الموجود، وتعلم العلوم الشريفة يؤدي إلى الإحساس بالنفس.
٣٦
وأحيانًا يتم استعمال الموروث التصحيح الوافد مثل ما رواه القومسي عن بعض الأوائل
أن
الرقي باطلة ودفاع الموروث عنها لأنها كلمات تدخل على الطبيعة فتشغلها عن عملها كما تشهد
بذلك المشاهدة. فالوعيد يقطع العرق. ووصف الموت والحياة على أنه تحول في مزاج البدن زعم
من
القدماء وإغفال لموضوع النفس. وقد روى أبو سليمان قول بعض الطبائعيين أن منزلة الكواكب
من
الشمس منزلة الحديد من حجر المغناطيس. واعترض بعض الحاضرين بأن الحجة للدين. ورد أبو
سليمان
بأن كل من لا يعرف ما يجب عليه فلا يعرف. فللوافد أصله وللموروث أصله. وأحيانًا أخرى
يتم
استعمال رأي الوافد لتصحيح الموروث خاصة ولو كان منفردًا لا يتفق مع آراء موروثة أخرى
أو مع
رأي الأوائل مثل رأي أبو بكير في وجود فلكين دون فلك القمر هما سبب المد والجزر. فعند
الأوائل البرهان على خطأ دعواه. وهو قول بلا برهان، وصورته القياس مخالف لرأي الأوائل.
فالموروث أحيانًا لا يرتفع إلى مستوى الوافد، وثقافة العامة لا تصل إلى مستوى ثقافة الخاصة،
والنفس لا تصل إلى مستوى العقل، ولا الدين إلى مستوى الحكمة كما يقول العامري.
٣٧
ويروي الموروث (الصابي) عن الوافد (الأوائل) أقوال أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد،
تتحدث عن الشكر والإقرار بالنعمة للمعبود في الضمير والنية والفعل. يتكون الضمير من النية
والمحبة والطاعة. ويتكون القول من الثناء والدعاء والنشر. ويتكون الفعل من الصبر والسعي
لرضاء المنعم، وقد يشير لفظ الأوائل إلى الموروث لأن الأقوال أقرب إلى الموروث منها إلى
الوافد. وقد تكون وافدًا منتحلًا أي روح الموروث منسوبًا إلى الوافد. وقد تكون ترجمات
حرة
لبعض أقوال الأوائل وهو الاحتمال الأبعد. والنسبة المطلقة إلى الأولين توحي بانتحال في
ثقافة ترى أن السلف خير من الخلف، وأن الخلف أشر من السلف. والطبيعة والعقل مكان النفس،
والباري محيط بالكل. ويستضيء الجسد من النفس كما يستضيء القمر من الشمس، وتستضيء النفس
من
العقل كما تستضيء النفس من النفس. وتستضيء الروح من الطبيعة كما يستضيء المركز من المحيط.
ويستضيء العقل من العقل كما يستضيء العاشق من المعشوق. وهنا تبدو لغة الإشراق المعروفة
في
نظرية الفيض. وللعقل ثلاث جهات: جهة إلى ربه، وجهة إلى معقولاته، وجهة إلى ذاته إبرازًا
للبعد الإلهي بالإضافة إلى العقل والمعقولات مثل «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
٣٨
ويشير لفظ الحكماء إلى الموروث خاصة. فلفظ الحكمة قرآني. القومسي من الحكماء البينة
لديه إدراك الشيء من جهة علته المحيطة به كما قال بعض بلغاء الحكمة، فالحكمة بلاغة، ولكل
شيء علة تربط الجوهر بالأعراض، وتحرك الكواكب والأفلاك، وتباين العقول والأزمان، وتعرف
الليالي والأيام، وهي وضع المهاد ومركز الأوتاد. كما يستعمل لفظ الفلاسفة بوجه عام دون
تحديد لهم، وهم الفلاسفة الكبار، البررة الأخيار، يكثرون الخوض في معنى الإمكان، في شكل
سؤال وجواب، وهو شكل الرواية الموروث.
٣٩
أما الموروث فيتجاوز الوافد. وتعطي كثرة الأعلام من الموروث في «المقابسات» صورة
للفكر
والمفكرين في القرن الرابع وموضوعات النقاش والحوار، وصورة الفلسفة كحوار بين العلماء.
٤٠ وإذا كان أرسطو قد أتى في مقدمة الموروث ثم يحيى بن عدي لا فرق بين مسلم
ونصراني، فكلاهما يشاركان في ثقافة واحدة، ويبدو أبو سليمان الراوي الأول الذي يعتمد
عليه
نصف المقابسات.
٤١ والعجيب عدم ذكر أسماء الكندي والفارابي وابن سينا. ربما لم يكونوا فلاسفة
الصالونات الأدبية والمنتديات الثقافية بل فلاسفة البلاط وحكماء الدواوين مثل فقهاء
السلاطين، مُفكِّرُو السُّلطة في مقابل مفكري المعارضة، مع إنهم كانوا شعراء وأدباء وأطباء
وموسيقيين وظرفاء، وفي المقابل يذكر أعلام الشيعة مما يدلُّ على دورهم في تكوين الفكر
الفلسفي في القرن الرابع. ويذكر المترجمون باعتبارهم فلاسفة مثل يحيى بن عدي مما يبين
أن
المترجمين لم يكونوا نقلة فحسب بل كانوا أيضًا مبدعين، والعجيب عدم ذكر متى بن يونس وهو
صاحب المناظرة الشهيرة مع الصيرافي في «الإبداع والمؤانسة». ويذكر أنبياء الشرق وحكماؤهم
وملوكهم مثل أنو شروان، وماني المجوسي، وتبدو أهمية الأعلام أن اثنين منها أبو سليمان
السجستاني في مناظرته مع ابن العميد وأبو الحسن العامري عنوانان في مقابستين. ويبدو التراكم
الفلسفي في المقابسات في الإحالة إلى أبي يزيد البلخي وكتابه اختبار السيرة. ويذكر ثابت
بن
قرة على لسان الموروث عن الخرافات الأربع: عجائب البحر، حديث السحر، حديث العشق، حديث
الجن.
٤٢ ويبدو التراكم الفلسفي في «المقابسات» في الإحالات إلى أعمال أخرى مثل في
«النسك العقلي» للعامري، «وتدبير المنزل» وكتاب «الأخلاق» لمسكويه. كما تبدو وحدة فكر
أبي
حيان في الإحالة إلى «الهوامل والشوامل».
٤٣ وتخلو «المقابسات» من الآيات والأحاديث في بيئة فيها الآيات والأحاديث المصدر
الأول للمعرفة. بل تعتمد على العقل الخالص. فقد وصل التنظير للموروث إلى حد الاستغناء
عن
أصله ذاته، اعتمادا على العقل والتجربة تجربة الفرد وتجربة العصر. يوجد فقط تفسير جديد
الحديث «أنتم أعلم بشئون دنياكم» للدنيا لا للدين.
٤٤ وتبدأ بالبسملة وتنتهي بالحمدلة وتتخللها عبارات المشيئة والتوفيق
والعون.
(ب) الهوامل والشوامل
يتوازى المصدر إن «الوافد والموروث» من حيث الأهمية. فمن الوافد يذكر الحكيم أكثر
من
أرسطو مما يدل على التحول من الشخص إلى الرمز.
٤٥ ويستشهد بأحد أقوال أرسطو مثل أعجب الأشياء ما لم يعرف سببه ليتم التعليق عليه
بأن كل مجهول سببه عجب طلبًا لمزيد من التعقيل. كما يذكر قوله بأن المعقولات تصير كذلك
إذا
ثبتت صورها في النفس وهو قول لأفلاطون أن النفس مكان للصور استحسنه أرسطو. ومن ثم يوضع
أرسطو داخل الفلسفة اليونانية كلها كما هو الحال في العرض الكلي. ويستشهد بقوله عن ضرورة
الاضطراب عند نزول المكروه، فمن لم يجزع من هيج البحر وهو راكبه، ومن الأشياء التي فوق
طاقة
الإنسان فهو مجنون. ويستشهد بقول له في المنطق بأن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة
والزمان المستقبل لا تصدق ولا تكذب معًا، ولا تقتسم الصدق والكذب. وهو قول محير وضحه
أرسطو
بعد ذلك. فالموروث يتبع مسار الوافد من الاشتباه إلى الأحكام، ومن الغموض إلى الوضوح.
كما
أن العلة الكمالية عنده أشرف العلل. وهو أول من نبه عليها وذلك لأن العلل الثلاث خوادم
لها.
يحلل الموروث العلل بعد أن استقل عن الوافد ثم يستشهد بالوافد على نتائجه. ويستشهد بأرسطو
في النسبة العادلة والمساواة في المعاملة بين البائع والمشتري كما بين في كتاب الأخلاق.
ويستشهد به في أسماء النذل والروقح مبالغة في الذم. وهو ما يتفق أيضًا مع اللغة العربية
وأمثلتها. يحال الوافد إلى الموروث على مستوى الموروث اللغوي. فالموروث يقوم بدراسة الموضوع
ويحيل إلى أدبياته من أجل إكمال مادته، التاريخ من أجل البنية، والبنية بلا تاريخ لا
تظهر،
والتاريخ عام، من التراكم الداخلي والتراكم الخارجي بعد أن أصبح تراكمًا داخليًّا.
٤٦
ويشار إلى الحكيم انتقالًا من الشخص إلى الرمز في أن النفس تكمل بصور المعقولات لتصير
عقلًا بالفعل بعد أن كانت عقلًا بالقوة المنطقية في الألفاظ الخمسة وشرحها المفسرون وسموها
المتفقة والمتباينة والمتواطئة والمترادفة المشتقة، وهي الألفاظ الموجودة في أول مباحث
العبارة كثقافة عامة. وهي تميز الأسماء الخمسة في مقدمة فرفوريوس. ويذكر الحكيم على أنه
هو
الذي روى أقوال القدماء وأستاذه في الزمان والمكان في السماع الطبيعي وتحقق من صدقها.
وقد
نقله المفسرون إلى العربية، وانتقل إلى المتكلمين. فقد كثر الكلام في الموضوع، وقد تم
توضيح
هذه المسائل كلها منذ زمن الحكيم ومفسريه. ولا داعي للتكرار إحساسًا من أبي حيان بضرورة
التحول من النقل إلى الإبداع. ولا داعي لإعادة العرض بعد أن بين الحكيم الموضوع في كتاب
الأخلاق.
٤٧
ويذكر أفلاطون في معرض الحديث عن الموروث بعد أن أصبح وافدًا موروثًا. فقد تبين في
المباحث الفلسفية أن العلم إدراك النفس صور الموجودات على حقائقها. وقد قال بعض الأوائل
نفس
الشيء إن النفس مكان للصورة، واستحسن أفلاطون هذا القول وصوب قائله لأن النفس إذا اشتاقت
إلى العلم الذي هو غايتها نقلت صورة المعلوم إلى ذاتها حتى تكون الصورة المحصلة مطابقة
لصورة المنقول منه وإلا لم تكن علمًا، فأفلاطون يأتي في الدرجة الثالثة بعد الموروث
والأوائل ثم يأتي الموروث من جديد على لسان مسكويه لتأكيد هذه الحقيقة مرة رابعة، ويبدأ
الموروث بالحديث عن القوة في الأشياء التي تسمى الإلهية والتي لها الرياسة، ثم يستشهد
بأفلاطون الذي لاحظها في الذهب وفي الحديد وفي الإنسان تأكيدًا للحقيقة بالثقافتين معًا،
الموروث والوافد بعد أن أصبح موروثًا.
٤٨
ولا يتعرض الموروث لموضوع إلا بعد استيفاء ما كتب عنه، لا فرق بين موروث ووافد. وهنا
يدخل الوافد كمصدر للعمل. ففي موضوع العدل لم يوجد فيه إلا رسالة لجالينوس مستخلصة من
كلام
أفلاطون لا تكفي لتغطية الموضوع. فقد تم التراكم الفلسفي في الوافد أولًا ثم في الموروث
ثانيًا. فالموضوع مستقل. ويتم له البحث عن أدبيات في شروح جالينوس على أفلاطون وهي غير
كافية لأنها مجرد موعظة وليست تحليلًا عقليًّا.
٤٩ ويذكر جالينوس وحديث القفل وتعجبه من جهل من يفعل ذلك أو يرفس الحمار ويلكم
البغل مما يدل على غلبة البهيمية على الإنسانية وسوء التمييز وقلة استعمال الفكر. وفي
تأكيد
الموروث على أن البدن آلة للنفس يذكر مذهب جالينوس المطابق لذلك. وفي تأكيد الموروث للمزاج
يحال إلى جالينوس أيضًا لبيان مطابقته. فالموروث هو الذي ينتهي إلى النظرية والوافد يؤكد
عليها ربطا للحقيقة بتاريخها والبنية بتطورها، الدراسة أولًا والإحالة ثانيًا، وقد بلى
جالينوس بمرض طويل لم يستطع إبراء نفسه منه حتى ضحك عليه من حفظ مذهبه.
ويذكر أفليمون باعتباره أول من وضع مصنفًا في علم الفراسة قبل كتاب الرازي أو الاعتراف
لصاحب الفضلة فضيلة. كما دخل على أبقراطيس متخفيًا فتعرف عليه.
٥٠
وما زالت تظهر بعض المصطلحات المعربة مثل الأسطقسات مع الترجمات مثل الأركان الأربعة،
العناصر الأربعة، الموسيقى، موسيقار، الكيموس، السوفسطائي، الماليخوليا، السكنجبين، الكوسج.
٥١ ومن الفرق يذكر الحكماء ثم الفلاسفة والأوائل والمتقدمون ثم القدماء والآخرون
والأولون ثم الفيلسوف. ومن أسماء المؤلفات يحال إلى الأخلاق ثم إلى السماع الطبيعي وتدبير
المنزل.
٥٢ والقدماء دليل ومقياس. هم أهل الحكمة. لم يتركوا شيئًا إلا وعرفوه، رضي الله
عنهم. يسترشد بهم المحدثون، ويسأل عن قول أحدهم إن العالم أطول عمرًا من الجاهل، وإن
كان
أقصر عمرًا منه فطول عمر العالم بعلمه وآثره على الناس. فالحس التاريخي هنا يبين أن القدماء
لم يتركوا للمحدثين شيئًا. ويذكر المتقدمون في مقابل المتأخرين، وهو تدبير إلهي سمح بنقل
الأخبار وحفظها. دون المتقدمون ونقل المتأخرون. وقد يتناقض ظاهر بعض أقوال المتقدمين
مثل
«المحتفل ملغي والمسترسل موقى».
٥٣ وقد قال بعض الأوائل: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع، كما يذكر الأولون
والآخرون وهويتهم في النفس وما قيل من أعجب الأشياء: إكدار الوافر ومنال العاجز.
٥٤
والحكماء مؤيدون للأنبياء بألفاظهم لتشبيهاتهم. ويستشهد الموروث بأقوالهم تأييدًا
من
الأوائل للأواخر، يدعون إلى تطهير النفس، ويعرفون الله. وأطلقوا لفظ العلة على الباري
تقدس
اسمه، وعلى العقل والنفس والطبيعة كعلل ثانية وثالثة ورابعة. وميزوا بين العلل القريبة
والعلل البعيدة. ويصور الحكماء التشوق إلى الشهوات مثل من أعتق فاشتاق إلى الرق أو من
أفلت
من السباع فاشتاق إليها. والمجتهد لعلوم الحكمة إنما يكون بالرياضيات (المنطق) والطبيعيات
والإلهيات ثم الإنسانيات، النفس والعقل.
٥٥
ويقرن الحكماء بالأنبياء، الحكماء من الوافد والأنبياء من الموروث، يؤديان إلى غاية
واحدة. فلا فرق بين أخلاق الحكماء وشرائع الأنبياء. كلاهما تظهر من الهوى بالعقل. إنما
يعادي الناس الحكمة، لاستعمالهم الألفاظ على الاتساع وخطأ فهمهم لها حرفيًّا. وليس صحيحًا
ما يروج من أن الحكماء جعلوا أنفسهم أعلى قدرًا من الأنبياء.
٥٦ وإن أقوال الحكماء في صفة الرجل العاقل العادل إنما نزل عليهم من الوحي القديم
الذي أنزل الله على الإنسان منذ «اعرف نفسك بنفسك». ولا توجد عبارة أقصر ولا أبلغ منها.
فما
المانع أن يكون سقراط نبيًّا؟ وما المانع أن يكون حكماء كل قوم أنبياء هم
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ.
٥٧ وهو نفس الحديث على لسان الرسول من عرف نفسه فقد عرف ربه تحويرًا للمحور الأفقي
إلى المحور الرأسي. وتعطي الأمثلة من أقوال الحكماء في النفس والعقل والخير والشر والصداقة
والنفور من الخمر وأن الإنسان مدني بالطبع رواية عن الموروث مثل أبي زيد البلخي فالصديق
هو
الآخر، وهو الأنا ولكنه مغاير بالشخص. وهو تعريف صعب المنال. وإن لم يكن الأخ صديقًا
فهو
نسيب بالجسم. وإن لم يكن الصديق أخًّا فهو نسيب بالروح. كما تحيل النفس الفاضلة إلى الصدق
وتنفر من الكذب. وإن أعجب الأشياء السماء بكواكبها.
٥٨ والفيلسوف هو الذي يبحث عن الوضوح. فقد يكون القول الرشيق سببه متوار والدليل
عنه مزاح. ويذكر الفلاسفة بوجه عام وليس بالضرورة فلاسفة اليونان بل يشمل اللفظ الإشراقيين
والصوفية. هم الفلاسفة الإلهيون والزهاد والذين يجمعون بين الحكمتين والنعمتين وتخلوا
عن
نقائصهم وبهم تصلح المدن فالإنسان مدني بالطبع. وكثرة الملك. وقلة الرزق خير من كثرة
الرزق
وقلة الملك. والفلاسفة هم القادرون على التمييز بين الاسم والمسمى، وكان المأمون نموذج
الملك الفيلسوف الذي يدير الآفاق ويعجز عن تدبير قطعة الشطرنج.
٥٩
أما الموروث فإن الشعر يأتي في المقدمة مما يدل على أهمية المصدر العربي الأول ثم
القرآن مما يدل على أهمية المصدر الجديد الذي ورث المصدر الأول، ثم العرب وكلام العرب
وأمثلة العرب ثم الحديث ثم المصادر المدونة والمروية قبل أن تأتي الأعلام.
٦٠ يستشهد بشعر ابن الرومي على الفأل ويتعصب البعض الشعر البحتري وتشببه، ويستعمل
الشعر نموذجًا للصواب وسهولة حفظه عن حفظ الخطأ مستشهدًا بشعر أبي تمام والبحتري وليس
بشعر
الطرمى أو أبي العبر. وينقد أبو حيان امرئ القيس للغته الأعرابية وعجمية ملكه وشبابه
وذهابه
في طرق الشعر طريق التصنع والهيام في الوادي والانغماس في المعاني. ويستشهد بأقوال المرقش
وأبي تمام.
٦١
ويذكر من الأعلام ما يزيد على الخمسين من الأدباء والمتكلمين والمغنين والمؤرخين
والشعراء والحكماء والمترجمين والصوفية والأمراء والخلفاء والصحابة والعلماء والأنبياء.
٦٢ ويخص بالذكر متى بن يونس (٣٢٨ﻫ) باعتباره منطقيًّا، ومناظرة أبي هاشم المتكلم
في الصلة بين اللغة والمنطق. فالمنطق عند أبي هاشم أحد أوزان اللغة. ويؤيد أبو حيان
أبا هاشم، وهو نفس موقف السيرافي.
٦٣ ولأبي يزيد البلخي كلام في تفسير انتصاب قامة الإنسان من بين الحيوان. وله
رواية لبعض الحكماء عن معنى سكون النفس الفاضلة إلى الصديق ونفورها من الكذب. أصبح الوافد
الآن رواية عن الموروث وأخذ البلخي لقب الفيلسوف. ويحضر الجاحظ والبلخي في «الهوامل»
كما
يحضر أبو سليمان في «الإمتاع» و«المقابسات». فالجاحظ أقرب القدماء إلى أبي حيان، كلاهما
يجمع بين الأدب والفلسفة ويزيد الجاحظ العلم فتذكر أقواله في الحياء لباس وحجاب وستر
من
المساوئ شقيق العفاف، وحليف الدين، يذود عن الفساد، وينهي عن الفحشاء وإن كان أحيانًا
يبدو
تصنعًا. ويذكر حسد أحمد بن عبد الوهاب له في «التربيع والتدوير» حول الصدق والكذب والتولد
في الحيوان دون النبات.
٦٤
ونظرًا لأهمية المناظرة فقد جمع أبو حيان في «الهوامل والشوامل» مجموع مناظراته مع
مسكويه. بل إن الهوامل المسكويه والشوامل لأبي حيان. ويحيل مسكويه إلى الفوز دون تحديد
الأكبر أم الأصغر. والأصغر أقرب إلى علم أصول الدين. كما يحيل إلى باقي كتب المنطق والأخلاق
وكتب النفس، فالمناظرة في الموقف كله. كما يحيل أبو حيان إلى «تدبير المنزل» لمسكويه
(أرسطو)، فالمناظرة في الموضوع كله وتراكماته الفلسفية.
٦٥ والعنوان مستمَد من البيئة. الهوامل سائمة الغنم أي الأسئلة الشاردة والشوامل
الإجابات عليها وردُّ المسائل إلى أوضاعها الصحيحة. فهو تأليف مزدوج. ويتضح أن أبا حيان
هو
التلميذ ومسكويه هو الأستاذ. فلماذا الهجوم على شخصية مسكويه؟ وتدل الأسئلة والإجابة
على
مستوى رفيع للمناظرة كنوع أدبي، الأسلوب الأدبي وشكوى الزمان. ويقرع مسكويه الأستاذ أبا
حيان التلميذ بسبب شكواه. فمسكويه أقرب إلى الفيلسوف الرواقي. ومع ذلك يبدو أفق أبي حيان
متسعًا، فيلسوفًا مع الفلاسفة، متكلمًا مع المتكلمين، لغويًّا مع اللغويين، متصوفًا مع
المتصوفين على عكس مسكويه الذي يبدو ضيِّق الأفق، سيِّئ التعبير، لا يحسن الإلهيات، بل
يكتفي بالأخلاق العملية وتدبير المنزل في فلسفة أرسطو. كانت شهرة مسكويه في العلم أكثر
من
شهرة أبي حيان، وكان أغنى منه لأنه كان خازن بيت المال وخازن كتب. وربما طمع أبو حيان
في
علمه وماله. لذلك هاجمه في «الإمتاع والمؤانسة»، مغترٌّ بين أغنياء، وعيي بين أدعياء
… إلخ،
كما يهاجم ابن سينا مسكويه ربما لسلوكه الخلقي على عكس انغماس ابن سينا في العالم. ربما
لم
يكن مسكويه عالمًا ولكنه كان زاهدًا في الدنيا التي طمع فيها ابن سينا.
وقد سأل أبو حيان أسئلته كلها دفعة واحدة أجاب عليها مسكويه متفرقه. ويتصرف مسكويه
في
الأسئلة، يجيب عن بعض أجزائها دون البعض الآخر، وأحيانًا يسقط السؤال كلية ويعيد وضعه
حتى
يصبح أكثر دقة. يسأل أبو حيان عن شيء فيجيبه مسكويه ثم يسأل نفس السؤال مرة ثانية ليعرف
هل
سيعطي مسكويه نفس الإجابة ليعلم صدقه كفيلسوف وهل الإجابة وقتية أم بناء على تجربة فردية
أو
مشتركة. وتبدو بعض المسائل الأصولية عن وحدة الحق وتعدده، اختلاف الحكم حسب الزمان والمكان
والعادة ومصالح الناس كما هو الحال في الفتاوى مثل صبغ الثواب سوادًا هل يقلل أو يزيد
من
قبحه. فأبو حنيفة قبل العباسيين وأبو يوسف أيام العباسيين يعدان السواد شعارًا، ومثل
دوران
الحكم مع المصلحة، والاجتهاد حتى ولو خالف النص. فالاجتهاد حسن في ذاته واستحالة خروج
الشريعة عن مقتضى العقل. وهي تعطي صورة لمشاكل القرن الرابع في العراق والحالة الاجتماعية
للناس. والإجابات نفسية واجتماعية وليست صورية آلية. وتدل إجابات مسكويه على أنه ليس
غبيًّا
بين أذكياء، دعيًا بين أدعياء. وهناك أسئلة عن العلل والمصلحة كما هو الحال في علم الأصول
بالإضافة إلى تحليل العواطف والتجارب الحية العامة. وما يهم هو الفكرة لا الشخص، الإبداع
لا
المبدع. وتكثر الأسئلة عن العلم، وكلها لأبي حيان والأجوبة لمسكويه. ويتم الاعتماد على
العقل الخالص والتجارب المحضة دون وافد أو موروث ولا حتى الموروث الأصلي. ويخلو الكتاب
من
الشعر الذي يكثر في «الصداقة والصديق». وله أسلوب غير الأسلوب الشائع لأبي حيان في باقي
مؤلفاته. ربما ألفاه سويًّا، وهو أسلوب واضح بسيط، أقل افتعالًا وأكثر عقلانية. يبدو
طويلًا
ولكنه واضح لا يبرر اتهام مسكويه بالغباء والسعي وراء الدنيا ربمًا حسدًا من أبي حيان.
وإذا
كان غبيًّا فلماذا يسأله أبو حيان ويستفتيه؟ والأسئلة إنسانية عقلية مفتوحة إبداعية.
ولا
يهم الجواب. فالسؤال الجيد أفضل من الإجابة السيئة. وتذكر حكايات عن الأدباء والرواة
مثل
سؤال ابن العميد عن عدم الاتفاق على المثامنة بالياقوت والجواهر أو بالنحاس والحديد والرصاص
دون الفضة والذهب، ربما لندرة الأول وشيوع الثاني، وتوسطًا ثم الاتفاق عليه.
٦٦
ويبين أبو حيان أسباب الإلحاد في الإسلام، الشك عند أبي سعيد الحصيري، حرمان الفاضل
وإدراك الناقص عند ابن الراوندي مثل أيوب، فالمؤمن المصاب، ومساواة الإسلام بالحكمة ثم
الكفر بهما أو الإيمان بهما مثل أبي عيسى الوراق. وقد عرضت لأبي سالم البصري شبهة أن
الله
تعالى لم يزل ناظرًا إلى الدنيا رائيًّا لها وهي معدومة. فالذات لا تحتاج إلى الموضوع.
وقد
تورط الرازي في مذهب بعيد عن الحق، سببه معاني الألفاظ التي أطلقها الحكماء على الاتساع
بعد
أن ضاقت الألفاظ القديمة طبقًا لمنطق التشكل الكاذب، ويقيم أبو حيان بعض العلماء مثل
الكندي
والأصمعي وبعض الموسيقيين مثل إسحاق الموصلي. فالكندي لم يخرج كلامه من القوة إلى الفعل.
ولم يصنع الآلة التي تتطلب مهارة العازف عليها. كما أنه أبطل صناعة الكيمياء، ورد عليه
الرازي مدافعًا عنها.
ويذكر أبو حيان حكاية الرشيد حين سأل عن حال إسحاق الموصلي مع الفضل بن يحيي وجعفر
بن يحيى، الأول الوصول إليه صعب، والثاني سهل، والأول أفضل لأنه صاحب الشرف في العطاء،
وجعفر صاحب الطلاقة والبشر. وقد فضل الموصلي الثاني. ويعطى أبو حيان لنفس الفضل في الكيمياء
وليس لخالد بن يزيد منها شيء، ويذكر أبو حيان الأصمعي والإمام علي لارتباط الشيعة بالثقافة
الشعبية.
ويذكر أبو حيان من الفرق المتكلمين مع أصحاب الكلام الإسلاميين ثم النساك والمعتزلة
والمانوية والإسلام، ومن أسماء الشعوب العجم والترك والفرس والروم والهند والسودان والحمران
والزنوج وليس منهما يونان.
٦٧
ويذكر أبو حيان بعض أقوال الصوفية في وصف الطريق ومراحله الثلاث: المرحلة الخلقية
(الرياضة والمجاهدة)، المرحلة النفسية (المقامات والأحوال)، المرحلة الإلهية (الشهود
والوجود). وينتقل إلى التصوف الاجتماعي المدني. إذ تقوم المدينة بالمعاونة، ويصح معاش
الإنسان الذي هو مدني بالطبع. وهم طبقات الزهاد وأهل الأديان والمذاهب. وقوم من الفلاسفة،
وسموا في الإسلام بالصوفية، وقالوا بتحريم المكاسب. وسبب الصيت الذي يحصل عليه الصوفي
بعد
موته أنه يعيش خاملًا ويشتهر ميتًا مثل معروف الكرخي. هم أهل التقشف ولهم فيه أقوال كثيرة،
والتشف من الشرف، والترف من السرف عند بعض النساك. وقد يعيش الصوفية في بعض الأحوال مثل
«حمى الربع» أربعين سنة حتى إذا فارقته استوحشها. وسر الصوفي أنه إذا صفا لم يحتمل الجفا.
وإذا صفي السر انتفى الشر إيحاء إلى مراتب النفس من المعارف ومنازل اليقين وكذلك حالات
الوجود والتواجد، ويتحدث بعض الصوفية عن المشاهدة والمناظرة، البعيد الذي لا يجحد والقريب
الذي لا يشهد، الحق الأحد.
٦٨ وهو الذي قال فيه أبو حنيفة الصوفي ببغداد:
قلت غدًا موعدنا
ضحكت وقالت بعد غد
ويستعمل أبو حيان عديد من الآيات القرآنية لتأييد العلم اللدني كما هو الحال عند
إخوان
الصفا. وهو رزق الموقنين بكرة وعشيًا، دولةً بينهم دون إيثار. والطريق إليه هو ترك العاجلة
والتوجه إلى الآجلة، والتدليل على حب العاجلة بالشعر، فلا فرق بين التجربة الدينية والتجربة
الشعرية. وقد تحصل الفضائل في التركيب من صحة المزاج ثم تهمل فيصير الإنسان من الأخسرين
أعمالًا وهو من انحط على مرتبة الصور الإلهية. والعبادة هو الطريق إلى الله. وهنا تكون
العجلة والسرعة فضيلة. وقد يتحول ذاك كله هباءً منثورًا إن لم يشفعه العمل الصالح. ميزة
القرآن الاختصار في اللفظ والإيضاح في المعنى مثل المثل الشعبي والبيت الشعري. ومن شروط
الاجتهاد العلم بالقرآن والسنة، ويمكن إثبات الصفات الإلهية عن طريق تحليل التجارب البشرية
مثل نفي الشركة مما جعل أبي حيان عرضة إلى الاتهام بالإلحاد.
٦٩
ويستعمل الحديث في موضوع التطير والفأل. فالفأل الحسن مجرد إيحاء، وقائع تطابق التمني،
وأن يكون حامل الرسالة حسن الاسم حسن الوجه. كما تستعمل بعض الأحاديث الحرة مثل الثناء
على
يوم الجمعة. فأيام الراحة أيام طعام وشراب أو الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان منعًا
للحسد، وإن رثاثة الهيئة من الإيمان، وتكاتف المسلمين فيما بينهم. ويستشهد بقول المسيح
من
الرواية العربية مفسرًا الروحي بالحرارة الغريزية. ويستعمل أبو حيان بعض التراث اليهودي
مكررًا من باقي مؤلفاته عن حدة طبع اليهود.
٧٠
ويبدأ الكتاب بالبسملة والاستعانة بالله والاعتراف له بولاية النعمة. وتنتهي بالحمدلة
والصلاة والسلام على محمد النبي وآله الطاهرين والدعاء للقارئ بإدراك الحق وشرح صدره
له. بل
وتستمر بعض العبارات الدينية عبر الكتاب كله مثل إن شاء الله وبالله التوفيق، أعزك الله
والدعاء بالتوفيق والعصمة والشكر والتوكل والنصر.
٧١
(ﺟ) الصداقة والصديق
ويظهر الوافد في «الصداقة والصديق»، أفلاطون، ثم الإسكندر وديوجانس ثم أرسطو مع الحكيم
ثم سقراط ثم أنكساجوراس ثم أبارينوس، وثيفايون، وثامسطيوس وهرمس، وبقراط، وثيغانوس. ومن
الفرق بعض المتقدمين والحكماء والأوائل والحكماء القدماء.
٧٢ تذكر أقوال أرسطو مثل باقي الحكماء والصوفية والعلماء والفقهاء دون تمييز له عن
غيره. فهو صاحب أقوال وحكم وأمثال وليس صاحب مذهب مثل رابعة العدوية إبرازًا للعلاقة
بين
الإنسان والله. فأخلص الإخوان من لم تكن مودته عن رغبة أو رهبة. وتعهد الإخوان بالملاطفة
يمنع من الهجر، وتعهد إخوان الإخوان دليل على الوفاء، وتعهد أهل المكاشرة المتشبهين
بالإخوان أي المنافقين بالصبر عليهم إما لتحويلهم إلى أصدقاء أو لاتقاء شرهم. وقد عرف
أرسطو
معلم الإسكندر الصديق بمنطق الهوية والاختلاف. فالأنا هو الأنت، والأنت غير الأنا كما
قال
أبو بكر في عمر، أنا الخليفة إلا أنه هو أنا، ويظل أرسطو مع أفلاطون وسقراط وبقراط، هو
الحكيم الزاهد في الدنيا، البعيد عن الكبر والخيلاء ومجالس اللهو والشراب المعروفة عند
مدعي
العلم في بلاط الخلفاء. وتذكر أقوال أرسطو في صيغة نصائح ومواعظ في ضمير المخاطب المفرد
على
طريقة الصوفية المسلمين. ومعظم الروايات عن أرسطو عن طريق أبي سليمان وليس مباشرة منه
أي
الوافد من خلال الموروث. فقد تفاعل الوافد والموروث بحيث أصبح الوافد محمولًا والموروث
حاملًا. فإذا كان النقل يبدأ بأرسطو فإن التحول يبدأ بالرواية التي تحمل الوافد على لسان
الموروث، ويعود رمز الحكيم في الصديق مرات عديدة، الآخر هو الأنا ولكنه بالشخص غيره،
وهو
شبيه بقول روح بن زنباع عندما سئل عن الصديق فقال لفظ بلا معنى. فقول الحكيم مشابه لقول
آخر
من الموروث. ومجموع أقواله إشراقية صوفية منتحلة تعبر عن روح الحضارة الإسلامية. هنا
يصبح
الوافد حاملًا والموروث محمولًا. ويستأنف الموروث شرح عبارة للوافد ويعمقها ويتحقق من
صدقها.
٧٣
وتذكر أقوال أفلاطون في معرض الصداقة والصديق تقريبًا في سياق واحد. ومعظمها منتحلة.
فهي أقرب إلى المواعظ الخلقية وأقوال الصوفية وتحويل المجردات اليونانية إلى أخلاقيات
عملية
إسلامية وتأصيلها بشعراء العرب، والانتحال أحد مظاهر الإبداع، صياغة الموروث الروح الوافد.
٧٤ فصديق المرء عقله، وعدوه جهله، وعمر الدنيا أقصر من أن تطاع فيها الأحقاد.
وإرضاء الحازم بإسخاط الحاشية، وإسخاط الأحمق برضاء حاشيته. والشرير يتبع مساوئ، الناس
لا
محاسنهم، ولا يتمنى العاقل لصديق الغني بل المساواة.
٧٥
وعلاقة ديوجانس بالإسكندر مثل علاقة أرسطو أو علاقة أمه به، مناسبة لإبداع الحضارة
الإسلامية حوار بين صديقين أو بين شيخ ومريد فيما يتعلق بالصداقة والأخوة والنبوة تأكيدًا
للفيلسوف الملك وانتقالًا من الوافد إلى الموروث بسهولة ويسر، وعدم الإحساس بالغرابة
أو
الغربة أمام الوافد بعد أن أصبح موروثًا غارقًا في الدين والأدب والأخلاق. كما اندمج
الإسلام نفسه داخل تاريخ الأديان عند السجستاني وإخوان الصفا. وتذكر أقوال ديوجانس أحيانًا
في شكل سؤال وجواب من سائل معروف أو يكون ديوجانس نفسه هو السائل مثل الإسكندر. ويخص
ديوجانس باليوناني تمييزًا له وتحديدًا بأنه وافد في مقابل موروث. وكلها حكم تدور حول
ضرورة
التحفظ من حسد الأصدقاء ومكر الأعداء، ومعرفة الأصدقاء في الشدائد، وفرح الإنسان بأخيه
في
حياته لأنه يموت وحزنه عليه بعد وفاته لأنه لا يعيش. والأخوة بين صديقين أبقى من علاقة
مواطن يملك إذا استمرت الصداقة في الباطن والتبعية في الظاهر. وخير صديق هو العقل في
حين أن
الصديق حتى ولو قام بالنصح قلاب. وتذكر أقوال الإسكندر في الصداقة في صيغة سؤال وجواب.
فقد
نال الملك في حداثة السن باستمالة الأعداء وتعهد الأصدقاء، والحزن على موت صديق ليس لموته
بل لأنه لم يوفه حق بره وصداقته.
وتذكر أقوال سقراط في الصداقة. فالإنسان لا يكون كاملًا إلا إذا أمنه عدوه وبالأولى
أن
يأمنه الصديق. كما أن من رجحان عقل الصديق أن يدل على عيوب صديقه، ويعظه بالحسن، ويمنعه
من
السيئة، وبتعبير الموروث، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. كما تذكر أقوال هرمس أن القرابة
تحتاج إلى المودة في حين أن المودة لا تحتاج إلى القرابة. فالمودة أعلى من القرابة وأكثر
استغلالًا. كما يذكر قول ثامسطيوس عن ضرورة الصداقة، وأن الإنسان بلا أصدقاء كالشيء بلا
عين. ويستشهد بقول أنكساجوراس بأن الشدائد التي تنزل بالمرء محنة إخوانه أكثر من محنته
هو
لو كانوا أصدقاء، وصعوبة الصداقة أنها خلق واحد، والصديق ذو طباع أربعة. وتذكر أقوال
الفلاسفة أقل شهرة مثل أبارنيوس فيما يتعلق بما يلحق الإنسان بالنفع أو المضرة من صديق
مقبل
أو مدبر. فالإنسان لا ينفع ولا يضر إلا نفسه ولا يملك أحد لأحد نفعًا ولا ضرًّا وهو المعنى
الموروث. ويذكر قول آخر لثيغابون (أسطيفانوس) عن قضاء الحاجة من الصديق قبل طلب ذلك منه.
كما يذكر الكاتب على الإطلاق لا يهم سمه ولا شخصه بل راويا للفكرة وهي الصداقة.
٧٦
والموروث في الصداقة والصديق يفوق الوافد، شعر عربي وأسماء محلية وشعراء بالمئات،
بالإضافة إلى الآيات والأحاديث.
٧٧ ويستشهد ببعض أئمة الشيعة باعتبارهم تراثًا شعبيًّا ولأنه تراث حاضر ومسيطر،
ويرى علي بن القاسم أنه يمكن النفاق بالدين دون الفلسفة. ويجيز الدين قتل النفوس دون
الفلسفة، ويذكر مسكويه أقل مما يذكر في «الإمتاع» ونقده لانفصال قوله عن عمله، و«تهذيب
الأخلاق» عند ذميم الأخلاق. يتدخل في كل شيء دون أن يبدع شيئًا. لا يكتفي بعمل ما يحسن،
بليد الطبع.
٧٨ ويستشهد بأقوال المرقشي وأبي تمام والجاحظ وأبي داود بقتل الصديقِ الصديقَ إذا
رآه مع عدوه. كما يستشهد بابن المقفع في كليلة ودمنة.
ويستلهم أبو حيان من التصوف مصادره عن الصداقة والصديق تبين استحالة الصداقة وصعوبة
الحصول على صديق. فالصداقة عطاء لا أخذًا توحد بالروح والمشيئة والإرادة. وحسن الخلق
من
فاجر أفضل من سوء الخلق من عابد، ونقل الحجارة مع الأبرار أفضل من أكل الخبيص (الحلوى)
مع
الفجار. الصداقة شهادة بالقلب وليست خبرًا بالرواية. وهي مقابلة السيئة بالحسنة والمساعدة
على الحسنة. والصديق من لم يجد الإنسان سواه ولم يفقده من هواه. والرفيق ما يكون الإنسان
غاية شغله وأؤكد فرضه. والشقيق من أن دهم الإنسان محنة قنيت عينه له وإن شملته منحة قرت
عينه به. والوافي من يحكي بلفظه كمال الإنسان ويرعى بلفظه حاله. والصاحب من غاب اشتاقت
الأحباب إليه، وإن حضر تلفحت به الأبواب. والنديم من نأى ذكر الإنسان عن الكأس، وإن دنا
ملك
الاستئناس. الصداقة التداري بالرثاء إلى أن يأتي فرج الله، والتخلص من الرياء والنفاق
وإلا
أصبح مكاشفة ثم مقارحة. وهذه الأمثلة عن الصداقة المثالية لا تمنع من وصف الصداقة الواقعية
من مالك بن دينار أنها في هذا الزمان مثل حرفة الطباخ حشيشة الريح لا طعم لها.
٧٩
وتجارب المتقدمين مرايا للمتأخرين. المتقدمون هم المقياس والمعيار والهادي للمتأخرين
أئمة الهدى، عنهم تنقل التدابير الإلهية. وقد قال بعض المتقدمين أنه لا صلاح للمالك إلا
نفسه ووزراؤه وأعداء يخرجون عليه فيصلح نفسه من أجلهم. كما قال الأوائل أن الإنسان مدني
بالطبع لابد له من الإعانة والاستعانة. والحكماء جماعة واحدة يخرج بعضهم من بعض بصرف
النظر
عن مضاراتهم وشعوبهم. وقال بعض الحكماء إن لم يكن الأخ صديقًا فهو نسيب الجسم، وإن لم
يكن
الصديق أخًّا فهو نسيب الروح، وقد سمى أبو داود حكيما.
٨٠
ويروى عن فيلسوف قوله عن إخوان السوء أنهم ينصرفون عند النكبة ويقبلون مع النعمة.
ويتواصلون بالمحبة إلى أن يظفروا بالثقة ثم يتحولون إلى الشر. لا يشكرون على الخير، وينشرون
الشر. صداقتهم شر، وتحجرهم شر، وحسن النية دليل على الصداقة والهجر دليل الموت، واعتزال
العدو، والحذر من الصديق واجب. الصديق في الزمن الصالح الحسيب اللبيب الأديب، وفي زمان
السوء المكاشر (المضاحك) بين الحياء والنفاق. ومن عاشر الإخوان بالمكر كافئوه بالغدر.
والسفر في طلب صديق أطول سفر. وليس العاقل بأفضل من الصديق لأنه إن كان فاضلًا تزين به
وإن
كان سفيهًا قابله بالحلم. وخير الأصحاب من ستر الدين وعدم المن. ولا يجوز لأحد مصاحبة
الكذاب إلا مضطرًّا دون تصديقه ودون إعلامه بذلك حتى لا ينتقل عن طبعه. والعدو هو القادر.
ولا تجوز القطيعة مع أحد إلا بعد العجز عن إصلاحه، ولا إيقاعه حتى يمكن عودة، وغاية المودة
الثقة والتناصح.
٨١
ويَستشهد أبو حيان بأقوال أهل السلف الذين يَستشهدُون بدورهم بالقرآن والشعر أكثر
من
النثر. وهم أقرب إلى إخوان الصفا بالمعنى الواسع. ويقتبس من أقوالهم في فضيلة الصداقة
وتحييد العداوة. وتعريف الصديق بأنه الآخر الذي هو الأنا. وأحيانًا يتحدد السلف بالسلف
الصالح من أجل إعطاء سلطة للتراث. وهو تراث نوعي يغلب عليه الإشراقيات والأخلاقيات والنفسانيات.
٨٢ وقد يذكر السلف الصالح على الاتِّساع دون تحديد في التواضُع وطريقة التعامل مع
النفس أو على التحديد، ابن مُجاهد عن الفضل والرزق، وأبو عثمان الهندي عن الأمل، وابن
الخليل عن الخير، وعامر بن الظرب حكيم العرب عن الرأي النائم والهوى اليقظان. فالفكر
الفلسفي ينشأ بشروح على أقوال السلف وليس فقط على أعمال اليونان. وقد تُذكر أعمال حكماء
العرب الذي حرَّم أحدهم على نفسه الخمر، وحكم في الخنثى بما جرى فيه الحكم في الإسلام،
مما
يدلُّ على قدرة الواقع على الوصول إلى ما انتهى إليه الوحي، وعلى تأييد الوحي لما توصَّل
إليه الواقع.
٨٣ ويذكر الصحابة باعتبارهم مصدرًا للموروث، لا فرق بين سنَّة وشيعة.
٨٤
ويَستشهِد بالقرآن في معاني الشهادة والتحاب والتآلُف بين القلوب. فالصديق بمنزلة
العين. كما يَستشهد بالحديث على أنَّ الصديق لا يرضى لصديقه إلا ما يرضاه لنفسه، وأن
مداراة
الناس صدقة دون مجاراة، وأن المؤمن صديق أَلُوف، وضرورة الاستعاذة من شرار الناس، والحذر
من
خيارهم، وإعلان الصديق بالمحبَّة للتبادل بينهما، وأن التهادي يوثق أواصر المحبة، وأنَّ
رأس
العقل بعد الإيمان التودُّد للناس، وأن حسن العهد من الإيمان، وأن أفضل الصديقَين من
كان
أكثر حبًّا لصديقِه.
٨٥ ويَستشهد بالأنبياء أيضًا باعتبارهم تاريخ الوحي السابق. فتُذكر أقوال عيسى
ابن مريم من خلال الروايات الإسلامية وأحيانًا المُنتحَلة تعبيرًا عن رُوح الحضارة
الإسلامية. فمِن علامات تلاميذ المسيح حبُّ بعضِهم البعض، وحبُّ الله بكل القلب، وحبُّ
الجار مثل حُبِّ النفس، وحب الصديق للنفس، وحب النفس للرب. صيانة الصديق وصيانة للنفس،
ووجودُ النفس وجودٌ للرب، وتروى قصة لقاء بن زكريا بعيسى ابن مريم عندما تبسَّم يحيى
وعبس
عيسى؛ لأنَّ الحياة ليسَت آمنة، في صيغة حوار وليسَت قولًا مباشرًا. كما يستشهد بقول
لقمان
عن صحبة الخير وصحبة الشر. كما يَستشهد بتراث اليهود الديني والأدبي مثل سبعين بن عريض
اليهودي وكعب الأحبار تحذيرًا من أن يكون الإنسان كلب أصحابه.
٨٦
(د) الإمتاع والمؤانسة
لا يتجاوز الوافد في «الإمتاع والمؤانسة» واحدًا وعشرين اسمًا يونانيًّا. يأتي ديوجانس
في المقدمة ثم أفلاطون ثم سقراط ولا يأتي أرسطو إلا في المرتبة الرابعة مع الإسكندر،
ثم
كنتس (أبقوس) ومنقاريوس ثم فيثاغورس وزيموس، ثم جالينوس، إقليدس، أوميرس، أنكساجوراس،
حوريس، أربوس، أسطفانوس، أسقليبوس، ثيوديسيوس، زيودورس، طيماثاوس، غالوس، يونان.
٨٧ ويكتب أرسطو أحيانًا بالألف أرسططاليس وأحيانًا بالواو أرسطوطاليس. ولا يذكر
فقط في أقوال أبي حيان بل في أقوال مناظريه. يذكر أرسطو في المناظرة الشهيرة التي يرويها
أبو حيان بين السيرافي ومتى بن يونس حول اللغة والمنطق. فعند السيرافي المعنى مُستقلٌّ
عن
اللفظ، والمنطق من حيث هو معنى ليس ملكًا لأحد؛ لأن المعاني في الذهن ومن يعرف منطق أرسطو
لا يُمكنه أن يجحد ذلك. وهي حجة جدلية ضد متى بن يونس دفاعًا عن اللغة العربية ضد هجوم
المنطق عليها، وقلب الحجة عليه باسم المنطق الذي يُدافع عنه. كما يعجز منطق أرسطو أن
يُحدِّد معاني حرف الواو في اللغة.
٨٨ ويَستعمِل أئمة الكفر، فرق الشيعة، أرسطو وسقراط وأفلاطون؛ للتمييز بين الظاهر
والباطن للقدح في الإسلام وإدخال الفتنة فيه. وهي حُجة ضعيفة فكما يُستعمَل منطق أرسطو
في
تدعيم الكفر يستعمل أيضًا في تدعيم الإيمان. لم يَعُد الأمر شرحًا لأرسطو أو إكمالًا
له بل
نقدًا له ورفضًا لأهميته ما دام في منطق اللغة ما يُغني عنه. وأرسطو مذكور مثل غيره وإن
كان
أقل ذكرًا. ويُعطي شرح إيساغوجي وقاطيغورياس لصديق بالرِّيِّ لاختبار مسكوَيه، الفقير
بين
الأغنياء، العييُّ بين الأنبياء. الوافد هنا مذكور من خلال الموروث، وأرسطو من خلال
ابن سينا وليس مباشرة. ولمسكويه تذوَّقه للموروث لا للوافد، للأخلاق لا للمنطق، للعمل
لا
للنظر، لتحليل الفضائل والنفس لا للطبيعيات أو الإلهيات. ويذكر أرسطو على أنه صاحب حكايات
وروايات في طلب الشفاعة لرجلٍ لم يُعطها له، وإن أراد ولم يَقدر فله العذر، وإن قَدرَ
ولم
يُرِد فسيَجيء وقت يريد ولا يقدر. وهي ألفاظ مُحملة بالكلام الأشعري عن القدرة والإرادة
والشفاعة. والأقرب أنها من المنتحلات لبيان أرسطو الحكيم في الحياة اليومية. كما يروى
عنه
أن العقل والفرح بالدنيا لا يجتمعان مما يدلُّ على صورة أرسطو الأخلاقي الصوفي. كما يذكر
صاحب المنطق تأكيدًا على هوية أرسطو أو المُستعمل للمنطق بوجهٍ عام انتقالًا من الشخص
إلى
العلم. ويذكر الحكيم وليس أرسطو انتقالًا من الشخص إلى الرمز، ورواية عن العامري وليس
مباشرة. فقد تحوَّل الوافد إلى ثقافة داخل الثقافة. علة الأنواع والأجناس ودوامها الفلك
المستقيم، وعلة كون الأشخاص وحوادثها الفلك المائل. أما الكليات المنطقية فطبيعتُها من
القوة القياسية المُستَتبَّة لها. وقد نقد أبو النضر النفيس هذا الرأي واعتبره حكمًا
بالوهم
ورجمًا بالظن، وأنه لا فرق بين الفلك المستقيم والفلك المائل في أثرهما على الأجناس
والأنواع. وللحكيم هفوات كما أن للجواد عثراتٍ، وكما أن للنائم هذيانًا، عَيبُ العامريِّ
أنه قلَّد الحكيم. وقول الحكيم توهُّم، ومحبة الرجال للرجال فتنة تؤدي إلى قبول الباطل
كما
أن بعض الرجال للرجال فتنة تؤدي إلى ردِّ الحق. ولا مخرج من هذا المأزق إلا الدعاء إلى
الله
بالتضرُّع للخروج منه. وهنا يتوجه الموروث لنقد الوافد والتبعية للوافد وعدم التحقق من
صدقِه. ويذكر أرسطو في معرض لا نهائية العلم. فالعلم نقص في الجهل، والجهل بلا حدود،
ومن ثم
كان العلم بلا حدود، ونقيض العلم هو الذي له حدود. والإنسان لا يطلب إلا ما لا حد له،
وهو
قولٌ أشبه بقول سقراط في العلم، وأقوال المسلمين عنه تُعبِّر عن روح اليونان وروح الإسلام.
٨٩
ويذكر أفلاطون في معرض الاتفاق بين الشريعة
والحكمة أو بين الدِّين والفلسفة أو بين الموروث والوافد. فالموروث يستعمل ألفاظ التنزيل
والتأويل والسنة والأمة، والوافد يَستعمل ألفاظ الهيولي والصورة والطبيعة والأسطقس، والذاتي
والعرضي، والأيس والليس. فالخلاف في اللفظ. الفلسفة والشريعة شيء واحد، الفلسفة فرع من
النبوة، والنبوة فرع من الفلسفة. والفيلسوف والنبي يقولون نفس الخطاب والفلسفة أم العلوم،
والنبي في حاجة إلى الفلسفة لإتمام نبوته، والفلسفة غنية بنفسِها. يرفض أبو سليمان هذا
الموقف المدافع عن الفلسفة ليس فقط عدم تقليد الوافد بل رفض إدخاله في الفلسفة. إلا أنَّ
أفلاطون وضع كتاب النواميس لتعليم الخطاب وطريقة البحث والتقديم والتأخير. ويَستعمل
أبو سليمان تشبيهات أفلاطون الأدبية التي تستهوي المزاج الأدبي العربي وتشبيهات القرآن
وأمثاله. فالحكيم مثل النملة تجمع في الصيف للشتاء وهو يجمع في الدنيا للآخرة. والعلم
مِصباح النفس ينفي عنها ظلمة الجهل. حبَّذا لو ضمَّ مصباح النفس إلى مصباح الغير. ويُعلِّق
أبو سليمان ويُضيف تشبيه المشكاة والمصباح في القرآن. كما يذكر أمثلة من السياسة، سياسة
النفس الواحدة قبل سياسة الآخَرين، وموت الرؤساء أصلح من رئاسة السَّفَلة، وإذا بخلَ
الملك
كثر الإرجاف به، ومن صحب السلطان يجزع من قسوته. ويرفض أبو سليمان مضمون هذه الأقوال
بالرغم
من قبول أشكالها الأدبية، ويَرفض التمثيل كأداة للبرهان. فالمثال يستجيب إلى الحق كما
يَستجيب إلى الباطل. وينقد الفكرة ذاتها التي تضر أكثر مما تنفع. تجنب السلطان أولى من
مصاحبتِه خاصة إذا فسد الزمان. ويعطي أمثلة محلية جديدة لتأصيل الفكر القديم ونقْد الفكر
الجديد والرد عليه عقلًا وواقعًا. ويصلح العصر إذا كان الدِّين طريًّا، والدولة مقبلة،
والخصب عامًّا، والعلم مطلوبًا، والحكمة مرغوبًا فيها، والأخلاق طاهرة، والدعوة شاملة،
والقلوب سليمة، والمعاملات متكافئة، والسياسة مغروسة، والبصائر متقاربة. قد تكون هذه
الحالة
افتراضية خالصة من أبي سليمان ومُحاوره الأندلسي؛ فالزمان خصب وجدب، صلاح وفساد، إقبال
وإدبار، زيادة ونقصان. فلا يُوجد في السياسة خير مُطلَق أو شر مطلق. ويذكر أبو سليمان
قول
أفلاطون، ويُعلق عليه قبولًا أو رفضًا. فإذا قال أفلاطون إنَّ الله تعالى بقدر ما يُعطي
من
الحكمة يمنع من الرزق فإنه يَزيد هذا القول تعقيلًا لأن العلم والمال ضرتان قلَّما يجتمعان،
المال للنفس الشهوية والسبعية، والعلم من النفس العاقِلة، وهما مُتعاندان ضدان. العلم
مدبر
والمال مدبر، العلم نفسي والمال جسدي، العلم خاص بالإنسان والمال عام. آفات المال كثيرة،
والعلم يزكو على الأنفاق، ويَهدي إلى القناعة. الإبداع هنا إيجاد تعليل للوافد الموروث
وتركيبه على الواقع الجديد وتأصيله في تجارب إنسانية جديدة. فأبو سليمان السجستاني هو
الذي
يقوم بالتحول من النقل إلى الإبداع، من الوافد إلى الموروث إلى الموروث المبدع.
٩٠
وتقتبس كثير من أقوال ديوجانس مع مناقشتها وعدم التسليم ببعضها، والبعض منها في صيغة
سؤال وجواب، الشكل الأدبي الموروث. وكلها في قالب الحكم مثل تلك التي أرَّخ لأشكالها
الأدبية المبشر بن فاتك، ولا يمكن التمييز فيها بين الوافد والموروث، البداية بالوافد
والنهاية بالموروث، البداية بالدنيا والنهاية بالآخرة. ويُمكِن تصنيف أقوال ديوجانس إلى
ثلاثة أنواع؛ الأول ما يتعلق بالغذاء وأمور البدن مثل صلاح الملح وفساد الذباب، أكل العبد
من رزق الرب، ليس المُهم كثرة الأكل بل ما يتواءم مع البدن، والتحرِّي في غذاء النفس
أولى
من التحري في غذاء البدن، إذا كان المأكول للبدن فالموهوب للسعادة، والمحفوظ للعدو. إذا
كان
الملاح لا يطلق سفينة لكل رُوح فالأولى بالنفس أن تكون كذلك. وكلها أقوال تَفتح البدن
إلى
النفس وإلى الله توسيعًا لمفهوم الغذاء البدني. والثاني ما يتعلَّق بالأمور الفردية
والاجتماعية، التفرُّغ والوحدة، والحديث مع من يفهم، وترك اختزان الذهب والفضة في الدار،
ورؤية النفس في المرآة لعدم قُبحِ حُسنها أو زيادة قبحها، واستعداد المرأة لتلقين الشر
للمرأة. والثالث ما يتعلَّق بالآخرة، الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، من طلب الغنى إلى
طلب
الحكمة، ضرورة تفلسُف الملوك أو تملك الفلاسفة، الدنيا سفر لا يؤخذ فيه إلا حد الكفاف،
أولوية الحمام السمائي على الحمام الأرضي، طالب العلم والمال في الدنيا؛ فالعلم يقدره
الخاصة والمال يقدره العامة. ويتم التعليق على بعض هذه الأقوال مثل تشبيه الذهب والفضة
في
الدار كالشمس والقمر في الحال؛ لأنَّ الشمس والقمر يُكسفان فيكونان سببًا لفساد كثير،
والذهب والفضة يذيبان ويُحميان تكملة للناقص. كما يتمُّ التعليق على تفلسف الملوك وتمليك
الفلاسفة؛ بأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وتفرغ للآخرة. ومن ثم استحالة الملك
الفيلسوف أو الفيلسوف الملك عند الحكماء، ويوافق على ارتفاع ثمن الحمام السماوي على الحمام
الأرضي، وما زال المجال مفتوحًا لمزيد من التعليق اليوم على موقف جالينوس المُعادي للمرأة
ومقارنة هذه الأمثال بالآداب السامية القديمة ومواعظ الكتب المقدسة.
٩١
وتُذكَر بعض أقوال سقراط، وأغلبها مُنتحَل، في موضوع موروث مثل الطرب على الغناء والعزف
في صيغة سؤال وجواب كما هي العادة في الأسلوب القرآني وبداية الآيات بالسؤال والإجابة
وأحكام السؤال والجواب رواية عن المُترجم أبي عثمان الدمشقي بعد أن أصبحَ الوافد موروثًا
عبر الترجمة. وتُروى الأقوال في أسلوبٍ عربي رصين يدلُّ على تأليفها ابتداءً من المعنى
وليس
ترجمتَها ابتداءً من اللفظ. لا يعني الانتحال الوضع والانحراف عن النص الأصلي بل استئناف
معناه بألفاظ مؤلَّفة وليست مترجمة اتفاقًا مع معاني الموروث لمزيد من العمق والاتِّساع،
وفي موضوعه الرئيسي، صلة العلم بالفضيلة، وإعطاء الأولوية للأخلاق على المعرفة تعبيرًا
عن
موقف الإسلام، وتأكيدًا لموقف اليونان، وتحويلًا للثنائية الأخلاقية اليونانية الوافدة
إلى
إشراقيات صوفية موروثة. فالإنسان يطرب للغناء والسمع؛ لأن نفسه مشغولة بالدنيا وهي لا
تساوي
شيئًا. والأولى الانشغال بالنفس، والبدن مجرَّد آلة لها. وهي عالمة بكل ما أعدَّ لها.
والكلام اللطيف يَنوب عن الفهم الكثيف، والوعظ لا يبغي الانتقام من الأعداء بل يُعالج
الأصدقاء. والعلم في الصغر أفضل من العلم في الكبر، وكما يبدأ النقل عن المُترجمين ينتهي
أبو سليمان بالتعليق والتعميق، فيحسن المرء بالتعلم ما حسنت به الحياة والنفس الفاضلة
لا
تطغى بالفرح، ولا تَجزع بالحزن؛ لأنها تنظر إلى الأشياء كما هي دون زيادة أو نقصان. فلكلِّ
محاسنَ مساوئ ولكلِّ مساوئَ محاسن وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ،
تداعيًا للمعاني. الوافد مجرد البداية وليس النهاية، مجرد خيط وافد لحبات العقد
الموروث.
وتُذكر أقوال فيثاغورس بعضها في صيغة السؤال والجواب. وكلها إشراقية صوفية؛ مثل الفرق
بين عمى البدن وعمى النفس، بين شهوة البدن وفضيلة النفس، بين الكلام غير المعروف والطريق
المَجهول من ناحية، والكلام المعروف والطريق المعلوم من ناحية أخرى.
٩٢ ويذكر إقليدس في موضع المقارنة بين العرب واليونان أو بين العرب والعجم كما هو
الحال في المناظرة الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس. فيُعيِّر الجيهاني العرب
بأن ليس لهم كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقى ولا كتاب الفلاحة ولا الطب ولا العلاج
ولا ما به علاج الأبدان والأنفس. ويردُّ أبو حيان على هذه الشعوبية التي تُعطي الوافد
أكثر
مما يستحق، والموروث أقل مما يستحق. فهذه العلوم كلها تأتي الوافد عن طريق العقل البشري
في
حين تأتي العرب عن طريق النقل الإلهي. طريق العقل هو الطريق الاصطناعي في حين أن طريق
النقل
هو الطريق الطبيعي؛ فالله هو الطبيعة والعقل الصنعة. ولا يوجد طريق إلهي خالص دون أن
يَمتزج
بالإنساني كما لا يوجد طريق إنساني خالص لا يَمتزج بالإلهي، مما يؤدي إلى اتفاق العلوم
والثقافات. ولا يحق للفُرس الفخر على العرب؛ فليس لهم أيضًا المجسطي. تمثُّل الوافد إذن
صار
بعد معركة رفضِه وحصاره أو قبوله وتقليده. وتروى أقوال هوميروش الشاعر باعتباره حكيمًا
له
مواعظ وحِكَم مثل: عِلم الإنسان بشيء إذا عُيِّر به غضب فيكون كالقاذف لنفسه، ومثل الصبر
على عيب الناس لاستوائهم مع الإنسان فيه. وأحيانًا يكون القول مفهومًا عند اليونان وليس
عند
العرب مثل هلاك كلب الملك أويوس وهو ابن العشرين. ويذكر قول لأنكساجوراس بفيض الماء إذا
امتلأ الإناء وكذلك الذهن، ويستعمل ضد من يُريد حشو الذهن بالحفظ. فكما يقوم الموروث
بتصحيح
الوافد وتعميقه وإكماله يقوم الوافد أيضًا بتصحيح الموروث.
٩٣
والصلة بين الإسكندر وأرسطو صلة العمل بالنظر، الأستاذ بالتلميذ. وقد طلب الأستاذ من
الإسكندر أن يرد حياته لرجاله لا أن يرد رجاله لحياته. ويضرب المثل بدورة الإسكندر على
أن
لكلِّ أمة زمانًا وربما تفسيرًا لا شعوريًّا لآية
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. ويُروى عن جالينوس حكيمًا لا طبيبًا. فجالينوس
الأخلاقي أفضل من بقراط الطبيب طبقًا لنفس النموذج، الرواية من الموروث للوافد الذي أصبح
موروثًا في صيغة موعظة موجهة للمخاطب ضد المفاسد الأخلاقية للعصر مثل حب الذات والعجب
بها
وهو رذيلة في حين أنَّ حب الناس لها فضيلة. ويذكر قول موريس رواية عن عيسى بن زرعة يؤكد
على
التعدُّدية في الفكر والرأي والمنهج، ويستنكر إجبار الناس على رأيٍ واحد ومنهج واحد.
ويتم
التعليق عليه بضرورة التعددية حتى ولو كان هناك ملك يَأمُر ويَنهى والناس تَسمع له وتُطيع
مع إنه لا بد من التعاون والمُعارضة للرأي بالرأي حتى يكون التصالح والتشاور بين العالم
والمُتعلِّم والأمر والمأمور، ولا يهمُّ شخص مورس بل المهم التعبير عن رُوح الموروث
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً على لسان الوافد.
٩٤
ويُروى قول لأبوقراط لا فرق بين طب وفلسفة، بين طب الأبدان وطب النفوس؛ فكلاهما حكمة.
وطب بقراط يَجمع بينهما. فلطافة القلب في الأبدان مثل لطافة الناظر في الأجفان. آفة القلب
الغم والهم، الأول يؤدي إلى النوم والثاني إلى السهر. ويضرب المثل بالإسكندر في الفعل
الرشيد والقول السديد؛ فهو مقياس للمقارنة وليس مجرد معلومات وافدة مخزونة. فهو الملك
الفيلسوف، تلميذ أرسطو، ولا يُعقل أن يكون هو النبي وأستاذه ليس كذلك. كما أن الإنسان
هو
المسئول عن ذم الناس أو مدحهم له، وقوته على مُكافأة من أحسن إليه بإحسانٍ أعظم في صيغة
حوار بين الإسكندر وندمائه.
٩٥
وتذكر عدة أسماء أخرى أقل شُهرةً مثل مقاريوس (مكاريوس) ومنقاروس من أجل صياغة حكاية
متعددة الشخصيات تقوم على الحوار الثنائي وليس قولًا منفردًا. كان مقاريوس في حاجة، ومرَّ
بزيموس وقد تعلَّق به رجل يطالب بمال أخذه منه متظاهرًا بالزهد والنسك وباطنه سقيم. وقد
أخذ
المال ووعَدَه بالذهب، والإنسان لا يَقدر إلا على قدر الوسع، والإنسان الذي يختلف عن
المعدن
كالمعدن. فكما يلفظ المعدن الذهب فإن الإنسان يبتلع الذهب. ويتم اختيار الأقوال الموافقة
لروح الموروث ونسبتها إلى بعض أعلام الوافد مثل إسقلبيوس في ضرورة اجتماع الهمة مع القدر.
ويذكر قول ثيومورس في زهد المال الذي يحضره البخت، ويحفظه اللؤم، وتُبدده النفقة، وإن
قلَّ
يُحضُر الهم، وإن كَثُر تقاسمه الناس. يجلب الحسد من ليس عنده، والخداع من يطمع فيه.
وقد
يكون في اسم «هبة الله» دلالة. وربما لم تقع الحادثة، ولا يوجد شخص بهذا الاسم، وإن وجد
فليس حكيمًا زاهدًا. وإذا كان فإنه لم يقل هذا القول، مما يدلُّ على الإبداع الحضاري
بناءً
على تعامُل الموروث مع الوافد. ويذكر قول صولون، العلم صغير كمًّا كبير كيفًا. ويشرحه
أبو سليمان ليس بطريقة الشُّراح بل يُبين إمكانيات المعنى، حسن استعمال القليل في إيتاء
النفع والغاية المَحمودة والأثر الباقي.
٩٦
وقد يتكرَّر نفس القول على لسان أكثر مِن شخصية وافدة مما يدل على الانتحال. فليس
المقصود هو الحامل بل المحمول، المثل بل الممثول، الشخص بل الفكرة.
٩٧ فقد تكررت على لسان أسطفانس أن الصديق هو الذي يقضي حاجة الصديق قبل طلبها. وقد
تكرَّر القول من قبل على لسان تيفابون. ويذكر قول طيماثاوس عن عدم الإساءة للناس بالفعل
لا
بالقول. ويذكر قول غالوس عن وجهة الاهتمام بما لا منفعة فيه أو منفعة قليلة أو منقطعة
وكأنه
أصبح معروفًا في الثقافة العامة وأصبح وافدًا موروثًا. ويذكر الوافد وكأنه معروف، جزء
من
الثقافة الشعبية في هيئة حِكَم ومواعظ كما قال آربوس في أن الولاية تظهر بالوالي، ولا
يظهر
الوالي بالولاية في صيغة سؤال وجواب، وهو الشكل الأدبي للموروث. ويذكر أبو سليمان حكاية
ثيودوسيوس ملك اليونان إلى كنتس الشاعر عندما يطلب منه كتبًا في الفلسفة، فجمعها له الشاعر
إلا أن قطاع الطريق قتلوه، وطلب من الكراكي في السماء الانتقام. وفي الهيكل أتت الكراكي
في
الهواء تصيح للانتقام فسمع البعض ذلك فأخبر السلطان. فتمَّ تركيب الوافد على الموروث
والحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية دون تحرُّج من ذكر الأساطير أو إسقاطها ووضع
حكاية عربية محلها. كان أبو سليمان على علم بالوافد ويصبه في الموروث.
٩٨
وبالإضافة إلى أسماء الأعلام ذكر لفظ «يونان» عشرات المرات خاصة في المناظرة بين
اللغة
العربية والمنطق اليوناني وصفًا للشعب والمنطق واللغة.
٩٩ فاليونان قومٌ مثل الفرس. وكلاهما من العجم أي غير العرب أي الوافد من أجل
إثبات خصوصية الشعوب وإبداع كلٍّ منها وعدم حصر الإبداع في شعب واحد هو اليونان. لكلِّ
شعبٍ
إبداعه، إبداع العرب في اللغة، وإبداع اليونان في المنطق، وإبداع الفُرس في السياسة.
وقد
تصل التبعية الحضارية إلى حدٍّ جعل كل فرح وحزن من بركات يونان، وكل حيوان من أرض يونان.
ولو تدارَسَ كلُّ شعب لاستغنى عن منطق اليونان ولغة اليونان. بل إنَّ واضع المنطق ربما
يكون
قد أخَذَه ممَّن سبقه كما أخذ منه من أتى بعده. المنطق اليوناني مُرتبِط باللغة اليونانية.
فاللغة أساس المنطق مما يَجعل اللغة العربية منطقًا خاصًّا بالعرب. وكيف تَستطيع باقي
الشعوب العرب، والفرس، والهند النظر في منطق يوناني مُرتبِط باللغة اليونانية؟ ولا يُمكن
تعلُّم المنطق إلا بعد تعلُّم اللغة اليونانية. فالدعوة إلى المنطق دون تعلُّم اللغة
اليونانية مُستحيلة. وقد قدمت اللغة اليونانية، وانتقلت إلى السريانية ثم إلى العربية،
ولم
يبقَ إلا المعاني. وليست اللغة العربية مجرد النحو يضاف عليه منطق اليونان، بل هو منطق
أيضًا. والمعاني ليسَت يونانية أو هندية أو فارسية أو تركية أو عربية.
١٠٠
ولم تَذكر ديانات أو الشرائع اليونان أو تقتبس شيئًا منهم، ولم يتعرَّض لهم موسى وعيسى
وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى حتى محمد. والعجيب أن يكون هذا رأي أبي سليمان المنطقي
من تلاميذ يَحيى بن عدي وقرأ عليه كُتبَ اليونان. وليس ليونان نبيٌّ ولا رسول، بل لهم
حكماء
وملوك. بل إنَّ الإسكندر نفسه لم يَقُل إنه نبي أو تابع لنبي. كانت لهم شرائع قَدِمت
وأبلاها الزمان فجدَّدُوها طبقًا لتغيُّر المصالح وكأنهم مجتهدون. والحقيقة أن عدم إشارة
الوحي إلى اليونان أنه خاطب بني إسرائيل أو العرب، ولم يكونوا على علمٍ باليونان. خاطبهم
الوحي بما يعرفون، دين إبراهيم، وأنبياء بني إسرائيل. كما أنه ليس من المستبعَد أن يكون
لليونان أنبياء مثل سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرفيوس وأرسطو والإسكندر
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ. وبالرغم من وجود بعض الألفاظ
اليونانية المعرَّبة مثل الكيموس والموسيقا والسوفسطائي والماليخوليا والقنطوريا توجد
بعض
ألفاظ أخرى بين اليونانية والفارسية مثل السكنجبين والكوسج. فقد أصبحت الأسماء المعربة
يونانية أو فارسية جزءًا من اللغة العربية والحضارة الإسلامية. كما تظهر بعض الأسماء
الفارسية مقابل اليونانية مما يدلُّ على حضور الجناح الشرقي للتراث الإسلامي قدر حضور
الجناح الغربي.
١٠١
وتُذكَر ألفاظ الحكيم والحكماء والفيلسوف والفلاسفة على العموم وليس على الخصوص،
تدلُّ
على الموروث والوافد على السواء وليس على الوافد وحدَه. أقوال الحكماء بسيطة مُوجَزة،
ومع
ذلك قد تحتاج إلى بعض البسط مثل قول بعض الحكماء إن التمني فضل حركة النفس، وهو جواب
رشيق
في حاجة إلى بسط، لذلك كان الحكماء أقرب إلى الصمت منهم إلى الكلام مثل الصوفية. والحكماء
جماعة يخرج بعضهم من بعض بصرف النظر عن حضاراتهم وشعوبهم، وقد روي حبيب عن بعض الحكماء
أن
أمراض النفس مثل أمراض البدن إلا أن أمراض النفس تؤدي إلى الشر. لذلك نصح الحكماء بإصلاح
النفوس؛ وذلك بالابتعاد عن الدنيا والزهد فيها، ومعرفة الفرق بين الخير والشر وما تشابه
بينهما. ويُمكن الاستفادة في ذلك من طباع الحيوان، سرعة قضاء حوائج الخنزير، ونصح الكلب
لأهله، ولطف الهرَّة عند المساءلة. وإذا كان الإنسان مَدنيًّا بالطبع فإن المدن تُبنى
على
الماء والرعي والمُحتطَب والحصانة. والحذر من العامة واجب. فلا يجب سبُّها لأنها تُخرج
الغريق، وتُطفئ الحريق، وتؤنس الطريق، وتَشهد السوق، وإن لم تكن أهل حكمة، والحكماء ليسوا
قصرًا على اليونان بل عند الفرس والمسلمين. فأبو الحسن العامِري حكيم، وهناك حكماء فارس،
ومن أقوالهم، الملك السمح الجواد تجُود به السماء والأرض، والملك البخيل تنحلُّ به السماء
والأرض. قد يُشير اللفظ إلى صوفية المسلمين لا فلاسفة اليونان. ليس اللفظ وقفًا على اليونان
خاصَّة وأنه لفظٌ قرآني، بل إن الأقوال المروية من الحكماء يمكن نقدها بعد عرضها على
العقل.
وقد اتفق الحكماء على أنَّ الروح جسم لطيف منبت في الجسد أما النفس الناطقة فهي جوهر
إلهي،
ليسَت في الجسد بل مُدبِّرة له. الروح أقرب إلى حياة البدن في حين أنَّ النفس أقرب إلى
حياة
العقل على عكس اليونان والعبرانيِّين الذين جعلوا النفس أقرب إلى البدن والرُّوح أقرب
إلى العقل.
١٠٢ كما طالب بعض الحكماء بعدم ترفيه السفَلة فيعتادون الكسل والراحة ولا توسيع
الرزق لهم فيَطلُبون السرف ولا تعليم أولادهم الأدب فيُسيئون الأدب وكأن التعلم لا يكون
إلا
لذوي الطباع الخيِّرة. العامة عامة، والخاصة خاصة، والعودة إلى الأصل والطبع تُجسِّد
الكسب والفرع.
١٠٣
ويَذكر الفلاسفة بوجه عام وليس بالضرورة فلاسفة اليونان، بل يشمل اللفظ الحكماء
الإشراقيِّين والصوفية. هم الفلاسفة الإلهيون والزهاد الذين يَجمعون بين الحكمتَين
والنعمتين وبهم تَصلُح المدن. فالإنسان مدني بالطبع. وتذكر أقوالهم في النفس التي تفعل
في
ذاتها دون حاجة إلى البدن. وكثرة الملك وقلَّة الرزق خير من كثرة الرزق وقلَّة الملك.
والفلاسفة هم القادِرُون على التمييز بين الاسم والمسمَّى، ولم يُخصَّص فيلسوفٌ يوناني
إلا
مرةً واحدة في طرق العلم: التقليد في الإحصاء، والتوسط في المجامع، والتعرُّف في الصناعات
واستماع فنون الأقوال مما يزيد الإنسان بصيرةً وحكمة وتجربة ويقظة ومعرفة وعلمًا. وتذكر
أقوال الفيلسوف بطريقة لا مُشخصة. فما يهمُّ هو القول لا الشخص، ولا يهمُّ إن كان وافدًا
أو
موروثًا، بل ضم الأقوال المتشابهة في موضوع واحد. وغالبًا ما يكون القول متعلِّقًا بالنفس
أو العلم أو الصداقة. فللنفس خمسُ قُوى. والقوة المُميزة هي التي تبعث الحواس والحركات
على
الفعل. ولكلِّ حيوان ثلاثة أرواح في ثلاثة أعضاء؛ نفسية في الدماغ، وحيوانية في القلب،
وطبيعية في الكبد. وتدور أقوال أخرى حول الزهد في الدنيا، والاستغناء عن الماديات مَروية
عن
أبي سليمان، وحديث الرموز بين الفلاسفة عن المعرفة ومُستويات عمقها. ويفرح المريض بالطبيب
لأنه يعلم ما لديه في حين لا يفرح الجاهل بالفيلسوف لأنه لا يعلم ما لديه، ومن يَستعمل
الحكمة بلسانه دون قلبِه كمَن يُمسك بطرف الثوب دون لباسه. والفيلسوف هو الذي لا يردُّ
على
الطعن فيه حتى لا يُزيد الشر شراء الكاظم الغيظ، والعافي عن الناس. وإذا صُفي السرُّ
انتفى
الشر. والقول الليِّن يتضمَّن دليله.
١٠٤
ويتجاوز الموروث الوافد في «الإمتاع والمؤانسة» عدَّة أضعاف.
١٠٥ في الجزء الأول يأتي في المقدمة أبو سعيد السيرافي مُمثِّل الثقافة العربية، ثم
أبو سليمان المنطقي، ثم متى بن يونس وأبو حيان، ثم الصاحب بن عباد، ثم ابن العميد الكاتب.
وتكثر الأسماء لدرجة أن الفكر يبدو غارقًا في البيئة الثقافية الموروثة. والوافد اليوناني
لا يكاد يذكر. بل إن الوافد الشرقي لا يُعتبر وافدًا بعد أن دخل العجم الإسلام، وأصبحت
الزرادشتية والمانوية جزءًا من ثقافات الأمة مثل النصرانية واليهودية. بل إنَّ الوافد
اليوناني أصبح ثقافة عربية بعد أن قام بترجمته نصارى الشام. فالوافد المُنعزل المقابل
المغاير المتحدي، عنصر الاستقطاب مجرد افتراض، لا وجود له في الواقع الثقافي. ويظهر الرسول
مرةً واحدة وسط مئات الأعلام. كما يظهر بعض الحكماء مثل الكندي تائهًا بين كثرة الأعلام
وكأنه واحد منهم دون تمييز يختلط فيه الخليفة بالعالم بالأديب بالمُترجم بالملك بالفيلسوف
بالأمير.
١٠٦ ويُشارك في الفكر الحكيم وغلامه لا فرق بين سيد وعبد. أستاذ وتلميذ، وفي إطار
مدح السلطان تذكر إبداعات الموروث في كل الميادين؛ فمِن خمس وثلاثين مُبدعًا وإبداعًا
لا
يظهر إلا أرسطو في المنطق في مقابل أربع وثلاثين مبدعًا وإبداعًا في الموروث. بل إن إبداع
أرسطو في المنطق أصبح وافدًا موروثًا.
١٠٧ ويُلاحظ أن مفهوم العلم واسع للغاية بحيث يشمل العلم الكلي مثل العروض واللغة
والتفسير والمنطق والخط والحيوان والفقه والقضاء والقراءات والطب والرواية والعِلم الجزء
مثل الجزء وهو جزء من علم الطبيعة. والبديهة واستخراج العمى جزء من العلم الرياضي، والفردوس
والآراء والديانات والموازنة والكهانة والتنبِّي جزء من علم الكلام، والخطرات والوساوس
والعبارة وتفسير الأحلام والحفظ وهو جزء من علم النفس، والنوادر والفقر وهو جزء من الأدب،
والحفظ وهو جزء من الرواية، والتدبير والجود جزء من الفلسفة، كما يظهر الإبداع عند العرب
والعجم مثل ابن نوبخت وابن سيرة وابن ثوابة ومن النصارى مثل يوحنا في الطب وابن ربن في
الفردوس.
ويتفوَّق الموروث على الوافد في الجزء الثاني. فبينما لا يذكر من الوافد إلا ثمانية
عشر
علمًا يذكر من الموروث حوالَي ثلاثمائة وثمانية علوم أي سبع عشرة مرةً ضعف الوافد. ومنهم
الفلاسفة والحكماء والعلماء والخلفاء والأمراء والصابئة والمُحدِّثون والفقهاء والمؤرخون
والشعراء والقواد وإبليس والأنبياء والصوفية والمُتكلِّمون وبعض النساء. البعض مشهور
والبعض
ليس كذلك.
١٠٨
وفي الجزء الثالث يفوق الموروث الوافد بأكثر من مائة ضعف، ويتداخَل الفيلسوف والعالم
والفقيه والقاضي والمتكلِّم والصوفي والمؤرخ والنحوي والخليفة والحاكم والقائد المعروف
وغير
المعروف والمُفسِّر والمُحدِّث والراوي والشاعر والصحابي والتابعي والعربي والعجمي، والمسلم
والنصراني واليهودي مع بعض النساء والغلمان والحكماء يكونون ثقافة الخاصة في حين أنَّ
ليالي
بغداد تُمثِّل ثقافة العامة. ولا ريب من نقد التصوف باعتباره طرقية تُجند الغرباء
والمُجندين والأدنياء والأردياء، لسوء مخالطتهم، ويجلب الضعف والخسة.
١٠٩
ويظهر التراكُم الفلسفي للموروث خاصة في الجزء الأول في الجملة الثانية عند الحديث
عن
المترجمين والحكماء الأوائل على لسان أبي سليمان يظهر فيه دقَّة التصوير. لا يقرأ
أبو سليمان كثيرًا ولكن له بصيرة بالناس. أسلوبه مُتقطِّع أعجمي، ولم يقل أحد أنه من
دعاة
الشيعة. ويُعطي أبو حيان صورة للعصر ورجاله كما يصوره أبو سليمان. وهو أدقهم نظرًا ولكن
أقصرهم غوصًا نظرًا لأنه يقدم الحكمة الشعبية للناس وليس للخاصة، وأصفاهم فكرًا، وأظفرهم
بالدُّرَر، وأوقعهم على الضرر. نظره في الكتب قليل؛ لأنه ينظر لثقافة الناس ويعتمد على
الخاطر لأنه يجمع بين الفكر والأدب. يَحسُن استنباط العويص. وله جرأة على التفسير الرمزي
وإن لم يُؤلِّف كثيرًا بخلًا بما لديه وهي إحدى سمات الفكر الشيعي.
١١٠ وكل مؤلَّف له مشروع فكري واحد متعدِّد الجوانب تتمُّ الإحالة إليه بما في ذلك
أبو حيان الذي يُحيل إلى باقي أعماله الستة الأخرى المعروفة وغير المعروفة. كما يُحيل
إلى
أقرانه مثل أبي الحسن العامري وكتابه في التصوُّف الذي وضع فيه علم أبي حيان وتصوُّفه.
وكان
من الجوالين في البلاد للاطِّلاع على أسرارها. فهو منظر مُباشر للواقع لا مُتمثِّلًا
للوافد
أو مُنظِّرًا للموروث. ويرسم أبو حيان شخصيته كأديب يجمع بين الفكر والمزاح، والرأي
والطباع، والعلاقة مع نفسه ومع الآخرين، وثنائية الفكر في القول والعمل والعامري غليظ
الطبع، جفاء الخلق. ينفر الناس من نفسه ولكنَّه إذا طلب منه فإن كتابته تأتي في غاية
الكمال.
١١١ ويَنقُد أبو حيان الكندي بأنَّ فكره وهم بلا ترتيب، يتقبَّل الوافد بلا تمحيص،
وهو مريض بالعقل، فاسد المزاج. وهو نقدٌ ظالم وكان السيرافي قد أصبح ابن الصلاح. الموروث
ضد
الوافد واعتبار الحكماء امتدادًا للوافد.
١١٢ ينقد السيرافي الفلسفة في شخص الكندي على أنها مجرد اجتهاد وظن، بحسب الاستطاعة
والإمكان من ناحية الوهم، وغياب الترتيب مع أنها تضمُّ المنطق، غلط الفيلسوف وعدم صمودِه
في
الجدل واعتقاده أنها صحيح، وهي وافدة وهو تابع من هو أعلم منه، إنه مريض بالعقل فاسد
المزاج، مائل الغريزة، مشوَّش اللب، أجوبته ركيكة ضعيفة وفاسدة وسخيفة، ويُخطئ في التمييز
بين حركة الإبداع التي لا من موضوع وحركة السكون التي عن فساد.
١١٣ ونظيف مُتوسِّط بين العلو والسفل، وأكثر تخصُّصًا في الطب، ويجول في باقي
العلوم، وله حذقٌ في الجدل. وابن الخمار فصيح سهل الكلام، صحيح النقل، كثير التدقيق.
فالمدح
للأسلوب ولطرق التعبير، والنقد للسلوك في الخلط بين الغث والسمين والزهو والصلف، والمغالاة
والكذب، والعنف واللطف، ومصاب بالصرع. والقومسي حسن البلاغة، حلو الكناية، متَّسع الثقافة،
نقله صحيح، مقدام شجاع. يجمع الكتب الغريبة لكنه كثير التردُّد في الدراسة، غير صحيح
في
الحكمة. المزاج ترابي، والفكر سحابي، مقلد وتابع، محب الدنيا وحسود للآخرين.
١١٤
وكما ينقد أبو حيان الكندي لتبعيتِه للوافد كذلك يَنقد مسكويه منذ البداية. يبين
السلب
بالإيجاب، مقارنة بالآخرين، وقياسًا على باقي الفلاسفة. يجمع بين الصفات الخاصة والصفات
العامة، ويُحلل مشاعر الفيلسوف مُباشَرة أو من خلال الحوار، ويُعبر عن أمانيه ويدعو له
في
إطار من التحليل النفسي الاجتماعي جامعًا بين المزاج والفكر والعلاقات العامة. يُدقِّق
في
رسم الشخصيات نظرًا لارتباط الفكر بأصحابه. فمسكوَيه مثلًا فقير بين أغنياء. والفقر هنا
معنويٌّ وليس ماديًّا، وعيي بين أنبياء أي أنه لا يُحسِن التعبير لأنه شاذ. وهو غير قادر
على شرح الوافد أو شرح الشرح أو التعليق على الشرح مثل شرح إيساغوجي أو قاطيغورياس من
تأليف
الصديق بالري أبي القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري؛ فالغلام كان يشتغل بالفكر مع
الحكيم بالرغم من مُصاحبته لابن الخمار وربما لأبي سليمان ربما لانشغاله مما جعله يشعر
بالحسرة والندم. صحب ابن العميد وصحبه. وانشغَل بالكيمياء مع الرازي وافتُتن بكتبه وبكتب
أبي حيان وهو خازن لمَكتبتهما. كان مُنشغلًا بقضاء الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية
بالرغم من قصر العمر، صاحب العامري خمس سنوات ولم يأخذ منه شيئًا فندم من جديد. قضى عمره
في
خدمة السلطان. كان بخيلًا يَمدح الجود باللسان، ويأتي الشح، ويمجد الكرم بالقول ويُفارقه
بالعمل، ووحدة القول والعمل مقياس فقهي. ومع ذلك فهو ذكي، حسن الشعر، نقي اللفظ. وهو
تصوير
قد يُخالف ما هو معروف عن مسكويه أنه لم يَنشغِل بالعلوم الطبيعية مثل الرازي وأبي حيان
بل
بالأخلاق من علوم الحكمة ولا بالإلهيات مثل العامري وابن سينا بل بالنفس أولًا. وتذكر
محاسنَه كما تذكر مساوءَه. فهو لطيف اللفظ، رحاب الطرق، رقيق الحاشية، سهل المأخذ، مشهور
المعنى، كثير الثواني، شديد التوقِّي، ضعيف الترقي، بطيء السلك وقليله، يقرأ أكثر مما
يَكتب، يشتد جهده ويضعف، طموحه أكثر من أفعاله، يحصد قبل أن يزرع. ومع ذلك له باع في
الفلسفة، نادِم بخيل كاذب مائل العقل لشغفه بالكيمياء. لا يعرف النحو، عقله ضعيف وسواس،
ساقط، مَخدوع في أول العمر وخادع في آخره.
١١٥
وفي نفس الوقت الذي يُعاب فيه على الكِندي أنه من أنصار الوافد يَمدح أبو حيان الجاحظ؛
لأنه من أنصار الموروث، فقد اجتمعت فيه خصال قلَّما تُجمع في غيره، بعضها بالطبع والمنشأ
والأصول والعادة والقريحة وبعضها بالعمر والفراغ والعلم والعشق والمنافسة والبلوغ والثقافة
والتربية والحوار مع الآخرين. ومع ذلك لا يوجد عالم قد حوى كل شيء. وقد تطوَّرت الأمور
وتبدلت الأحوال منذ زمن الجاحظ واستدعت علمًا أوسع. وقد تمَّ «استكتاب» الجاحظ كتاب الحيوان
حرصًا عليه وتقديرًا له. فوضع نوعًا أدبيًّا يجمع بين الباطل والمحال، والعجيب والمُضحِك،
والخرافي والطريف.
١١٦
ويضمُّ أبو حيان المترجمين مع الفلاسفة. فالترجمة في المرحلة المتوسِّطة التي يتحوَّل
فيها الوافد إلى موروث فيُصبح موروثًا وافدًا أو وافدًا موروثًا خاصة فيما يتعلق بالأسلوب.
فابن زرعة جميل الأسلوب صحيح النقل، مُستوفِي الموضوع ومُوثِّقه إلا أنه ليس عميق النفاذ.
جهده موزَّع في التجارة وحب الربح، حريص على جمع المادة والتبذير وكأن الفكر يَفرض سلوكه
وقيمَه وتفرُّغه. وابن السمح أقل من المستوى العام للأصحاب، أقل في الحفظ والنقل والنظر
في
الجدل. مُقلد وليس مبدعًا، مبدع وليس أصيلًا، محب للدنيا مشغول بها، وكأن الحرف مضيعة
للفكر
على عكس المتكلِّمين الذين جمعوا بين الحرفة والفرقة. ويَحيى بن عدي شيخ ليِّن الطباع،
متأنٍّ في تخريج المُختلف، بارع في الجماعة، مبارك في المجلس، مُنبهِر بالآليات إلا أنَّ
ترجمته مشوَّهة، وعبارته رديئة. أوضح الغامض ولكنه ضلَّ في الإلهيات. فهو مُفكِّر وليس
فقط
مترجمًا مثل حنين وإسحاق اللذَين لا يذكرهما أبو حيان. ويُصور يحيى رئيسًا لجماعة
والمترجمون حوله وأصحابه، وأبو سليمان من غلمانه. كان يقرأ عليه كتب يونان. كان في إصبعه
خاتم من فضَّة زاعمًا أنه عمل بين يديه. وشهد بذلك أصحابه ابن زرعة والخمار وأبو سليمان.
وأحال ذلك أبو يزيد البلخي سيد أهل المشرق في الحكمة؛ لأنه مفسدة والله لا يُحب الفساد.
وعيسى بن علي (٣٩١ﻫ) عبارته واسعة، ونقله صحيح، ومُنصرف في فنون اللغات والمعاني والعبارات،
واسع الاطِّلاع، ولكنه بخيل في الكلام، سوداوي المزاج.
١١٧
وأهم نصٍّ عند أبي حيان يكشف عن الصراع بين الموروث والوافد هي المناظرة بين أبي سعيد
السيرافي ومتى بن يونس التي يبدو فيها الوافد مُدافعًا عن النقل ومستبعدًا الموروث،
والموروث مدافعًا عن الإبداع ومُستبعدًا النقل. فالوافد بسيط والموروث عميق. وتكشف المناظرة
عن خصوصية الحضارات اليونانية، بين خصوصية اللغة وعموم المنطق. خطورة المنطق اليوناني
ليسَت
فيه بل في تبعيته وتقليده ونسيان خصوصية اللغة واللغة منطق دون ما حاجة إلى منطق خارجي،
والمنطق اليوناني لغة وليس له هذا الطابع الشمولي العام. وإذا كان النحو يَعتمِد على
النقل
والمنطق على العقل فالتَّفرقة بين اللغة والمنطق تظل قائمة بالرغم من وجود عناصر الربط
بينهما في منطق اللغة ولغة المنطق والفطرة، ويبدو إبداع العجم في اللغة العربية واضحًا؛
لأن
العربي يتكلَّم بالسليقة وليس في حاجة إلى تنظير. والعجمي يَجتهد بوضع القواعد وينظر
للنحو
من أجل التعليم المنطق بالفطرة واللغة أيضًا بالسليقة. ويُوحِّد المسلم بين المنطق
والعقيدة، ويُفرِّق النصراني بينهما. وتُمثِّل المناظرة تطورًا في علاقة الوافد بالموروث.
فلم يَعُد الموروث شخصًا، أرسطو، ولم يَعُد الموروث أيضًا أسماء أبو سليمان، بل يُمثِّل
كلٌّ منهما موقفًا فلسفيًّا وخصوصية حضارية. وهذا ما يجعل الموضوعات الغالبة في «الإمتاع
والمؤانسة» ليس فقط الدين والفِكر والجنس بل أيضًا رأى العلماء في الشعوبية والمُفاضَلة
بين
الأمم وهو ما يدخل في فلسفة التاريخ.
وقد ظهر الموروث أيضًا تحت مُصطَلح المُتقدِّمين أي السلف في مقابل المتأخِّرين من
السلف أيضًا. يشير اللفظان إلى السلف والخلف في الموروث في حين أن لفظ الأوائل يُشير
إلى
المتقدمين من الوافد. فأقوال المتقدمين أمثلة من الحضارة الإسلامية، ثم يتحوَّل الأمر
إلى
مفاضَلة بين القديم والحادث. فالتعجُّب منوط بالحادث، والتعظيم والإجلال بالقديم. وقد
يكون
القديم بالزمان أو بالذهن كالعقل والنفس والطبيعة. الزمان هو الوقت المحدَّد أما الدهر
فهو
كل الزمان. أما العتيق فإنه ما له أول؛ لأن القديم ما لا أول له، ومن ثم لا يطلق على
العالم، لذلك وصف الله بأنه قديم بالرغم من أن هذا الوصف ليس في الكتاب ولا في السنة
ولا في
أقوال الصحابة والتابعين. وتَعني العرب بالقديم الزمان المجهول. ويبدو أن الموروث هنا
هو
مقياس معاني الألفاظ، القرآن والحديث والصحابة والتابعين واستعمال العرب لغتهم. وفي نفس
السياق يتمُّ التمييز بين الحادث والمحدث والحديث. الحادث ما يلحظ نفسه، والمحدث ما تعلق
بالذي كان عنه محدثًا، والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلق بالزمان ومن كان منه. والحدثان
فعل
مضارع للحادث والحدثان اسم للزمان فقط. وحدث تابِع لقدم. وحدث أي وقع شيء في الزمان.
١١٨
وفي مقابل اليونان يذكر العرب والأتراك والترك والهنود والفُرس والعجم والرُّوم مما
يدلُّ على الثقافات المحيطة بالعرب حتى الشرق في الهند وفارس، والشمال عند الترك والغرب
عند
الروم، وفي الجنوب عند الزنج.
١١٩ ومن أسماء الفِرق يذكر النحويون والنصارى والصابون والقرامطة والمُعتزلة
والمنطقيون ثم الجبرية والخرمية والزيدية والشافعية والشيعة الأمامية والصوفية والطبيعيون
والمتكلِّمون والملاحدة والمهندسون واليهود.
١٢٠ وتذكر أيضًا بعض المؤلفات من الموروث.
١٢١ كما تذكر الأماكن العربية مثل بغداد ثم الرِّي ثم همذان والهند وعشرات الأماكن
الأخرى تدل على الجغرافيا المحلية للفكر، مُدنًا ومناطق وأقاليم.
١٢٢
وأخيرًا يأتي الموروث الأصلي، القرآن والحديث ممتزجًا بأقوال الصحابة والصوفية كمصدر
لفكر أبي حيان. يستشهد بالآيات أحيانًا دون تأويل كمجرَّد أسلوب، حرف وعبارة شارحة مثل
أي
خطيب استكمالًا للخطاب الأدبي بحجة نقلية. فإذا كان العقل أداة العلم، والتخلِّي عن العقل
تخليًا عن العلم فتُستدعى آيات تذكر أولي الألباب، واعتبار أولي الأبصار، وتدبُّر القرآن،
وتذكر القلب والسمع، ومشاهدة الآيات، والحياة بالنور، وتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، والتوكل
على الله، والموت بالأجل. وتذكر آيات لبيان شرف النثر على النظم، في اللؤلؤ المنثور وليس
المنظوم، وعلى الإيجاز في التعبير في وصف الله نفسه بأنه الظاهر والباطن. وتُستعمل الآية
كدليلٍ نحويٍّ على استعمال حرف الواو مُقحَمة مثل
وَنَادَيْنَاهُ، أو حالًا مثل
وَكَهْلًا أو للتقديم
والتأخير في تقديم الإناث على الذكور، وتعريف الذكور وتنكير الإناث أو الجمع بين الاثنين
بالتذكير، ويُستعمل القرآن كأسلوب في الحوار وعدم الرد على ما لا يستحقُّ الجواب؛ لأن
خطاب
الجاهلين يُقابَل بالسلام. كما يُستعمَل في الصياغة وكأسلوب في التعبير مع خلفيةٍ من
تراث
الخلفاء وأقوالهم البليغة وصورهم. فالقرآن عمل أدبي، ويستعمل في نطاق التراث الأدبي.
وتحوُّل التراث الأدبي الشعري إلى تراثٍ فلسفي منطقي هو في حدِّ ذاته من مسارات الإبداع،
تحوُّل شعب بدوي أمي إلى شعبٍ مدني قارئ بفضل الوحي الجديد. العلم والعقل والكتابة بتوجيه
القرآن. وأحيانًا يستعمل القرآن الحر بديلًا عن اللغة نظرًا لجمال العبارة. فالقرآن مخزون
أدبي في الشعور. ويضرب بالقرآن المثل في البلاغة. وترفض تأويلات الفرق والطوائف لآيات
القرآن بعيدًا عن التورية والحيلة والإيهام والكناية لا يتَّصل بالإرادة، والإرادة لا
تتَّصل بالتصريح. فالناس أحرص على الدين. وتذكر تأويلات منهم بتبديل الله يوم القيامة
سيئات
المؤمنين حسنات بعد الندم، وعقاب من يعود إلى السيئات ولا ينفعه الندم.
١٢٣ وتذكر أسباب النزول في بعض الآيات للاستِدلال بها على فضائل الإسلام مثل
الإيثار. وأحيانًا يتم شرح القرآن استنباطًا أي بداية بالآية لتحديد ألفاظها مثل «متَّكئًا»
أو «طعامًا» لمعرفة معانيها أو لتحقيق مناطها مثل
الْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالًا أو تحديد معاني «البلاء المبين» أو «الشيء العجاب». ويتمُّ التأليف في
مسائله وفي أمثال العرب ومسائل اللغة العربية. فالقرآن مقياس للمقارنة. ويذكر لفظ القرآن
باعتباره ضمن العلوم الموروثة، علوم القرآن مع باقي علوم الفقه والحديث والأخبار والنحو
واللغة والعروض والقوافي والعلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة. كما أن التأليف فيه جانب
من
الإبداع الحضاري العام.
والقرآن مصدر للعلم عند أبي حيان مثل أن يكون الملك مبعوثًا، وأن كرامة الوجه كرامة
الضعيف، وأن الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وأن الله مع المتقين
والمُحسنين. والعلم فضل من الله يؤتيه من يشاء. فقد فسَّر سيبويه الشعر من أوله إلى آخره،
بغربيِّه وأمثاله وشواهِدِه وأبياته. ويُؤدي هذا العلم إلى العمل كما يَنتهي العقل إلى
الإيمان، والتفكير في الدنيا إلى معرفة الآخرة. والقرآن أداة للتوجيه وأمر للتنفيذ مثل
الأمر بإنذار العشيرة. ويَستنبط من القرآن السلوك مثل السلام على أهل الكتاب والاستعداد
للأعداء، والدعوة إلى الصبر كما قال بعض أهل السلف وفضل الله على الناس والرزق على الله،
وتستعمل الآية لتأكيد تَجربة نفسية تحقيقًا للمناط. فالنبيذ يذهب الحزن كما قيل في الآية
من
ذهاب الحزن، ومن الضروري الحفاظ على الجوهر أو الرُّوح من البِلى. فماذا يُفيد الأعمى
نور
الشمس وهو لا يُبصِر. ويستعمل القرآن للدفاع عن النفس أو تحقيق المصلحة في سبب نزول جديد
مثل استعمال آية تُخفي البصر من فتاة دفاعًا عن نفسها ضد من ينظر إليها، وطلب ابنة عمران
استئجار القوي الأمين. ويُستشهد به على قوانين التاريخ وانتقال الملك من العجم إلى العرب
كانتقام إلهي أو تعبيرًا عن الإرادة الإلهية، وهي قوانين ثابِتة تفسر نهضة المجتمعات
وسقوطها.
١٢٤
ويَستعمل أبو حيان مثل الإخوان والشيعة قصص الأنبياء. ويَستشهِد بما ورد في القرآن
عن
إبراهيم وموسى وعيسى، سخاوة إبراهيم، وزهد عيسى ولقمان وعزيز. وقد طلب الله لموسى أن
يُجيبه
إلى عباده عن طريق ذكرهم لنعمِه، وقال لقمان إنَّ الذهب يُجربه بالنار والمؤمن بالبلاء.
وأوصى الله إلى عزيز عدم شكواه إلى خلقه كما أن الله لم يشكُه إلى ملائكته، وإن أهمية
الذنب
ليس في حجمه بل فيمَن وقع عليه. ويَستعمل أبو حيان آيات من الإنجيل والتوراة، من أقوال
المسيح وأنبياء بني إسرائيل في ترجمات عربية سليمة وكأنها من روائع الأدب العربي بخلاف
الترجمات الحالية الركيكة عن اللغات الأوربية الحديثة. فهي شواهد من خلال الموروث أي
الترجمات العربية. كما أن هؤلاء الأنبياء مذكورون في القرآن. تاريخ النبوة جزء من النبوة،
وتذكر مع أقوال حكماء اليونان، لا فرق بين شرق وغرب، وافد وموروث، وتُفيد كلها الحكمة
الإشراقية، الثنائية المُتعارضة بين الخير والشر، النفس والبدن، الآخرة والدنيا. وهما
كالمشرق والمغرب كل ما يقرب واحد يتباعَد الآخر، وقد تتضاعَف الثنائية إلى رباعية، دلالة
على مراتب الارتقاء. فالإنسان مُطمئن في ثلاث مراحل، في رحم الأم وحين الرضاعة وبعد الفطام
ثم يقلق حين البلوغ ويَحيد عن طريق الصواب. وقد تكون أقوالًا مُنتحلة، لا فرق بين الرواية
والتاريخ، بين النقل والإبداع. كلاهما يكشف عن الحالة الذهنية. وكان أبو حيان على وعي
بذلك
نظرًا؛ لأنَّ مضمون أقوال المسيح قد لا تتَّفق مع بيئتِه التي نشأ فيها. فالتقابل بين
الشرق
والغرب، والرزق من السماء، وحمر وبقر الوحش كلها من البيئة العربية تدلُّ على الانتحال
دون
طرح قضية التحريف كما يفعل الفقهاء.
١٢٥
وقد يذكر القرآن في معرض شرح الحديث البيان اتِّفاق المَصدرَين في موضوع ما مثل الفتح
على الأشرار. ثم تستقلُّ الأحاديث وتكثر إلى درجة التحوُّل من الفلسفة إلى الدين، ومن
العقل
إلى النقل.
١٢٦ ليلة للمجون وليلة للأحاديث، لا فرق بين الدين والحياة، بين الإيمان والجنس.
وأحيانًا يتكلَّم الرسول وأحيانًا يُجيب على سؤال وأحيانًا يوجد في موقف يسمح له بالتعليق.
فيَستشهد بأحاديث قدر الاستشهاد بالقرآن. فإن كان صحيحًا سُمِّي حديثًا وإن كان مظنونًا
سُمي أثرًا.
١٢٧ وهي مصدر للعلم؛ لأنها نبوة محمد مع إنكار نبوة زرادشت الذي لم يَرِد ذكره في
القرآن وكأنَّ الأنبياء هم المذكورون وحدهم في القرآن مع أن القرآن لم يتحدث إلا عن أنبياء
بني إسرائيل المعروفين في الوعي العربي للاستفادة بهم في الإقناع، ووضع قوانين للتاريخ،
قيام الأمم وسقوطها. وربما كان غيرهم أنبياء لم يقصَّ القرآن عنهم شيئًا،
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ.
١٢٨ ومع ذلك فقد قاسَهم النبيُّ على أهل الكتاب بالرغم من أنهم لا كتاب لهم.
وتغيب الأحاديث التي تتعرَّض لموضوعات غيبية نظرًا لطابعها العملي باستثناء القليل
عن
قوانين الطبيعة واطرادها وعدم خرقها بموت أحد، والنَّهي عن الخوض في التكهُّن بالمستقبل
ومعرفة الغيب. لذلك حُرمت العرافة والكهانة والتنجيم، وعدم جواز الخوض في القدر؛ لأنه
سر
الله الأكبر. وعن طريق الفراسة يعرف الرسول إمكانيات الصحابي في القتال راجلًا أم فارسًا.
كما أدرك ضعف أبي ذر وأنه ليس له في الرياسة والإمارة والولاية. وكان الوحي يأتي للنبي
مثل
صلصلة الجرس تشبيها وليس حقيقة بالصوت لا بالصورة، وبدأ بإنذار عشيرته الأقربين طبقًا
لتوجيه القرآن له. وكان الرسول صاحب بلاغة وفصاحة، والرسول مجرَّد نبي يَرفض الإطراء
والمدح. ولله أمناء على خلقه يضنُّ بهم على القتل، يعيشون ويَغيبُون في عافية. وهو حديث
يُوحي بالتشيع.
١٢٩
وهناك بعض الأحاديث الخاصة بالنبي مثل ما يتعلَّق
بفدك والبعض الآخر عام له ولباقي المسلمين، وهناك عادات له يجوز أن تكون خاصة أو عامة
مثل
حبِّه أكل «الهريسة» ليلة بعد ليلة من قصعة تعدُّ خصيصًا له، والأحاديث العامة سننٌ للرسول.
يَقبل الرسول السباق مع الأنصار، ويجعل النصر لناقة أسامة مع أنه السابق حرصًا على معنوية
الأنصار. ويقسو على بيته لإعطاء النموذج في الزهد حتى على ابنته فاطمة. ومن سنتِه إطعام
الضعيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب. والعجَلة من الشيطان
إلا من هذه الأمور الخمسة. وليلة الضيف حق، وكل من له فضل فليردَّه إلى من لا فضل له.
والدفاع عن أصحابه قدوة لباقي المسلمين. وكان يخرج مع أصحابه ويُداعبهم على الطعام. وكان
يدعو لنفسه ولباقي المسلمين بالهُدى وإصلاح ذات البَين وتأليف القلوب والهداية إلى سواء
السبيل، والإخراج من الظلمات إلى النور، وصرف الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والتوبة،
والتمتُّع بالأزواج والذرية والمعايش، والشُّكر للنعمة.
١٣٠
ويستعمل الحديث لإثبات الولد للأب ولمعرفة الحكم الشرعي عن ضالة الإبل أو الغنم أو
الدنيا وبناءً على سؤال، إما تركها فمعها غذاؤها حتى يأتيها صاحبها أو أنها لمن وجدها
أو
لأخيه أو للذئب أو الاحتفاظ بها سنة حتى يتعرَّف عليها صاحبها. فإن لم يظهر فإنها تُصبح
لمن
وجدها، وكلها أحكام عقلية أكثر منها شرعية، واجتهادات النبي. وهناك أحاديث الرفق بالحيوان،
رهف الشفرة حين الذبح وإراحتها وتركها تخبُّ وتشخب فذلك أمرأ للدم وأفضل للحم. وهو ليس
طبًّا فقط بل هو موقف إنساني وإن أتى الطب بعد ذلك على نحوٍ مباشر. فالحيوان ليس فقط
للنحر
والطعام؛ بل هو موقف إنساني تجاهه. وهي أحاديث تُنظِّم علاقة الإنسان بالطبيعة خاصة
الحيوان.
وتتعلَّق معظم الأحاديث بالأخلاق الفردية والاجتماعية، وهي أقرب إلى التحليل النفسي
الاجتماعي وفهم أخلاق البشر أو أقرب إلى الحكمة الخالدة وأخلاق العامة. فأشد الأعمال
إنصاف
الناس من النفس ومواساة الأخ من المال وشكر الله على كل حال وكثير منها لتطهير النفس
مثل
كراهية حمل الهم. وما جاء للإنسان من معروف يُقبل ولا يُرد، رزقٌ ساقه الله إليه من الله
والمرض والشفاء وليس من الصحة والمرض. ويتعلَّق البعض منها بالإيمان والتقوى والحياة
الباطنية تَشبيهًا. فظهرُ المؤمن مشجبه، وبطنُه خزانته، ورجلُه مطيته، وذخيرتُه ربه.
والإيمان أفضل من الكفر، الإيمان صدق وبراعة، والكفر خداع وحقد. ومن عرف الله وعبده وطلب
رضاه وخالف هواه فاز بالرحمة والسيطرة على النفس أفضل من الغضب؛ لأنَّ الغضوب يُبيح ظهره
وعرضه، ولا داعي للحلف بالإيمان بالرغم من صدق الحلف. أما الحلف الكاذب لأخذ مال الغير
فإنه
يُؤدِّي إلى الهلاك. والتوبة من الحلف إذا ما رأى الحالف غير ما حلف به فضيلة. ثمَّ تأتي
أهمية الصدقة. فهي تَزيد المال ولا تنقصه، والعفو عن الظالم زيادة في العزة. والسؤال
يَزيد
الفقر. والصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصِلَة. وأجود الأعمال. الجود في
العُسر، والقصد في الغضب والعفو عند المَقدِرة، وتجاوز ذنب السَّخي؛ لأنَّ الله يأخذ
عبده
كلما عثَر، فلا فضيلة بلا هفوة.
١٣١
وتَنتقِل الأخلاق الفردية من الداخل إلى الخارج، من النفس إلى البدن. فالحماية من
الغواية حماية للشباب. والخيانة بئس البطانة في حين أنَّ الدفاع عن عرض الصديق حماية
من
النار. والرجل أحقُّ بمجلسه، وصاحب الشيء أولى به. والإقلال في الطعام فيه صحة البدن
وصفاء
النفس، الثلث للطعام، والثالث للماء، والثلث للنفَس. وإكرام الخبز لأن الله أكرمه وسخر
له
بركات السموات والأرض. وما يقدم للضيف لا يقلُّ عما يقدم للنفس. والبداية برعاية أقرب
الناس، والطاعم الشاكر كالصائم الصابر، وليس من الإيمان مَن باتَ شبعان وجاره طاوٍ. أما
الطعام فالحلو أفضل من الحار، والتين يرقُّ القلب. وهو أقرب إلى الطب النبوي منه إلى
الطب
العِلمي. يَعتمد على مزاجٍ بيئيٍّ طبيعي وعلاج طبيعي. والقيام إلى الصلاة مُبكرًا أفضل
منها
مؤخَّرًا. ويوم الجمعة زينة كيوم الفطر والنحر، عيد أسبوعي وفرح بالأعياد مع الأعياد
الموسمية. والمرأة لا تُسافر في ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحرم نظرًا لتعب السفر والتعرُّض
للغواية.
١٣٢
وتتوجَّه الأحاديث الاجتماعية إلى العصر. قد يكون السند غير مُتواتر ولكن المتن فعَّال
ومُؤثِّر، ومعظمها موجَّه إلى مساوئ العصر خاصة السلطة دون طلبها بعد الاقتِتال عليها،
وأهمية العدل ضد الجور، وليسَت أحاديث عذاب القبر ونعيمه. البعض منها حول أخلاقيات الفقر
والغنى، فاللوم ناشئ عن تغيُّر الأخلاق بتغيُّر المستوى الاقتصادي، المهانة في الفقر
والعزة
في الغنى، وخير الناس الغنيُّ الحفي المتَّقي. وقد يكون الرزق الواسع للعاصي استدراجًا
وتأييدًا لما ذكره القرآن، والتاجر الأمين إن مات في السفر فهو شهيد وفي الحضر فهو صديق!
والمرعى يَكفي كل الرعاة، ولا يضيق بأحد. والمشاركة في المرعى تؤدِّي إلى الحلف الاجتماعي
والحياة في سلام بلا عدوان. وتتجلَّى الأخلاق الاجتماعية في العدل في الإمارة. فالإمارة
لا
تُطلَب. فإن كانت بعد طلب كانت وكالة وإن كانت دون طلب كانت إعانة. والعِقاب للجائر في
الدنيا والآخرة. والحرص على مصالحهم يؤدي إلى الثواب. وكل راعٍ مسئول عن رعيته في المنزل
وفي الأمة، أحسن أم أساء، نفع أم ضر، ائتمن أم خان، عدَل أم جار. ومهما كان القاضي حريصًا
على العدل فقد يجور. فمن الأفضل أن يكون العدل بين الناس وليس طبقًا لحُكمِ القضاء بالرغم
من أن الرسول قاضي عادل. والخوف على الأمة من الأئمة المضلِّين وليس من الدجال، العلماء
الفساق والقراء الجهال، واختلاف القول عن العمل. والأئمة من نوع المأمومين وكما يكون
الناس
يُولَّى عليهم، والجهاد صلب الحياة العامة. فإذا تباطأت المغازي، واستُؤثر بالغنائم فخير
الجهاد الرباط.
١٣٣
ويستشهد بالحديث لمعرفة أحوال آخر الزمان، صعوبة الأمر على الناس، واتِّباع الهوى،
وزيادة الشر، وغربة الإسلام كما كان وكأن غربة أبي حيان هي التي استدعَت حديث الغُربة.
وفي
نفس الوقت تَستدعي أحاديث لطمأنينة المؤمنين على الخاشِعين خشية من الله أو جهادًا في
سبيله
أو رعاية لمحارمِه. كما تُستعمَل أحاديث للتنبؤ بالمستقبل عن فتح الشام امتدادًا للجزيرة
العربية بعد استدعاء الماضي بالرغم مما في الحديث من ألفاظ عربية جاهلية قديمة لا يُمكن
فهمها بعد تطور اللغة عكس القرآن الذي يُمكن فهم لغته عبر العصور.
١٣٤ كما يتنبَّأ الرسول بحرص المسلمين على الإمارة فتكون الندامة. وهناك عدة أحاديث
تُبيِّن اتِّساع الجنة، أن يكون بين مصراعَيها مسيرة مائة عام، وزحامها شديد مما يدلُّ
على
كثرة المؤمنين. وهي دار غنم المؤمنين، تعبيرًا عن الفأل الشَّعبي حتى ولو كان الحديث
مشهورًا بين الناس.
١٣٥
ومدحًا للسلطان فإن إبداعه يفوق إبداع الحضارة الإسلامية كلها في كل العلوم، والعجيب
أنَّ المداح هو الغريب البائس الذي لم يظفر بشيء ونقد المداحين مثل مسكوَيه.
١٣٦ ويَنتهي الموروث بالبسملة والحمدلة في بداية ونهاية كل جزء من الاستعانة بالله
وطلب العون والتوفيق.
١٣٧
(و) آليات الإبداع
وهي في مؤلفات أبي حيان آليات واحدة يُمكن تجميعها في منطق واحد. قد يبدو تحليل آليات
الإبداع بناء على تحليل المضمون جهدًا لا طائل وراءه وحصيلة قليلة. ومع ذلك فإن درأ تهمة
النقل تجعل من الضروري تحليل فعل القول حتى في الفلسفة الأدبية، وتبدو آليات الإبداع
في نص
أكثر من نصٍّ آخر. فتبدو أفعال القول في «الهوامل والشوامل» مما تبدو في باقي الأعمال؛
لأنه
هو المعني بالحوار، السؤال والجواب بين مسكويه وأبي حيان. وقد تتداخل آليات الإبداع معًا،
أفعال القول والبيان والشرح والإيضاح والتقديم والمسار المنطقي والإطالة والإيجاز والسؤال
والجواب ومخاطبة القارئ إلا أن التمييز بينهما ضروري لبيان طرق الإبداع.
ويظهر فعل القول، قول أبي حيان وليس قول أرسطو أو غيره. ويبدو المؤلِّف هنا راويًا
لفكر. وما يهم هو الفكرة لا روايتها، المتن لا السند. بل تتكاثَر أفعال القول إلى درجة
الملل من كثرة القيل والقال، ويغيب البناء الموضوعي أو الروائي ولا يَبقى إلا مجرَّد
الأسلوب والاصطناع، التأليف الأدبي. وتكون أفعال القول بضمير المتكلِّم أو المخاطب أو
الغائب، مفردًا أو جمعًا، فعلًا أو اسمًا، إثباتًا أو نفيًا، مبنيًّا للمعلوم أو مبنيًّا
للمجهول. ولم تَرِد صيغة «قال» الشهيرة إلا مرتين. وليس الفاعل أرسطو. بينما تصل الصياغات
الأخرى عشرات المرات.
١٤٦
وفي مسار الفكر تظهر عدة أفعال مثل: تعلم، أخبر، شرح، وعد، في الماضي والحاضر
والمستقبل، لبيان الاتجاه نحو الغاية والقصد.
١٤٧ وقد لا يَحتاج الموضوع إلى بيان وبالتالي تقلُّ أفعال البيان والشرح؛ لأن
الموضوع واضح بذاته عند المؤلف والقارئ. وقد يكون البيان فعلًا أو اسمًا.
١٤٨ وفي نفس الوقت يحرص أبو حيان على الاقتصار دون التطويل. تكفي الإجابة على
السؤال دون التوسُّع فيه أو الخروج عليه؛ لأن التوسُّع موجود في كلِّ مكان. فالموضوعات
تَنتظِم في نسقٍ واحد. ويعني المسار الترتيب المنطقي، ترتيب موضوع على موضوع أو إقامة
الفرع
على الأصل كما هو الحال في علم الأصول. يَكشف المسار عن الاستدلال من المقدمات إلى النتائج
ومنطق البرهان. وهذا يَقتضي تقسيم الموضوع إلى موضوعات أصغر مُتوالية. وبهذا يتمُّ البرهان
واكتشاف الصواب والخطأ.
١٤٩ ويَستدعي الإحساس بالاستطراد إلى العود على بدأ والإحالة إلى ما سبق.
١٥٠ ويضم التأليف عدة موضوعات حية غير مجردة عرض تراث الموضوع وأدبياته. كل موضوع
له مكانه الخاص نظرًا لتقسيم الموضوع الواحد على عدة أماكن لتعميق كل جزء. ويظهر أسلوب
الرد
على الاعتراض مسبقًا.
١٥١ ويبدو الأسلوب الأدبي في الفكر الشَّعبي الإنشائي مثل «هيهات هيهات».
١٥٢
وقد استطاع أبو حيان إيجاد أنواع أدبية لتأليفه مثل «المقابسات» وهي حكايات فلسفية
«الإمتاع والمؤانَسة» وهي ليالٍ فلسفية، «الهوامل والشوامل»، وهي الأسئلة الضالَّة
والإجابات الهادية، «الصداقة والصديق» وهي الصِّلة بين الذات والموضوع، الإشارات الإلهية
وهي وصفٌ للأحوال النفسية.
١٥٣ ولا تهمُّ الأماكن والأشخاص. فأحيانًا يذكر المكان دون الشخص، وأحيانًا الشخص
دون المكان، وأحيانًا يُذكر كلاهما، وأحيانًا أخرى يسقطان. ويُمكن ضم هذه الأنواع كلها
تحت
نوع واحد هو «المقابسة» أي الحكاية الفلسفية التي تجمع بين الفلسفة والأدب والدين في
أسلوبٍ
سهل سائغ بها عنصر التشويق، يَفهمها كل الناس، ولا تخلو من مدحٍ أو ذم وتهكُّم وسُخرية.
فإذا ما طالت خرجت عن هذا القالب ولم تَعُد حسامًا قاطعًا. المقابسات كالطلقات السريعة
في
المعارك الفكرية تتمثَّل فيها فنون القول. قد لا تُطابق حدثًا تاريخيًّا وتكون من نسج
الخيال أو جمعًا بين الواقع والخيال. لا يكاد يرفضها السامع لأنَّها تُعبِّر عن حالته
الشخصية وموقفه النفسي، ولما كان الدين والأدب موروثين والفلسفة وافدًا تحوَّل إلى موروث
إلا أن المقابسة تُعبِّر عن فكرة واحدة ذات طابع عملي تربوي. وتبدأ المقابسة بالدعوات
كما
تنتهي بها ثم بشكوى الزمان بعد الاستهلال، وفي نفس الوقت مدح السلطان. وبعد ذكر المسألة
يُنوِّه بالدرس المستفاد منها والتعليق عليه. تبدأ المقابسة بالتجربة الحية والواقعة
الجزئية؛ فالسؤال عياني، وفي الغالب مستمد من حياة أبي سليمان وخروجه يومًا من بغداد
إلى
الصحراء مع تحديد الأشخاص في الزمان والمكان. وفي خاتمة المقابسة يذكر أبو حيان عناصر
فنها،
وكيفية جمعها، ويعتذر عن قصورها وعن مدح الإخوان وذم الأهواء دون أن يكون في ذلك كشف
لعيوب
الأعداء أو إظهار الشمائل الأصدقاء.
١٥٤ ليس الهدف فقط تسلية النفس، وتفريغ الكرب، وشحذ الهمة، بل أيضًا الدرس
الأخلاقي، وتأييد العقل، وإصلاح السيرة، وتعود الحسنة، ومجانية السيئة وراء الألفاظ والجمل.
المقابَسة حدث طريف أي نكتة ولكن لها دلالتها، وضوح الفكر وجمال الأسلوب من إبداع أبي
حيان
وليس من المادة المروية. فالفِكر صياغة المقابَسة إبداع يجمع بين الوافد والموروث والعصر.
ما زالت ناقصة، ويُمكن تحسينها. لذلك يعتذر أبو حيان عما بها من قصور. ربما كتبها في
آخر
حياته بعد أن أختار التصوف طريقًا له كالغزالي، وهروبًا من تشاؤمه وفشلِه في الحصول على
مغانم الدنيا. وبالرغم من قصر المقابَسات إلا أن ضمَّ بعضها البعض جعلها كبيرة الحجم.
مسائلها صغيرة، وأسلوبها سهل عادي مما يجعل إفادتها لأكبر قدر مُمكن من الناس مُمكنًا.
تتميز بالإيجاز بالرغم من الرغبة في الاستطالة في عرض مسائل شعبية تخيلية وليسَت موضوعات
يقينية للخاصَّة. والاختصار يقطع الطريق على الشغب والجدال. والتأمُّل في النفس يَستغني
عن
الإطالة التي قد تَصدُر عن المعنى، وتمنع من تحقيق المراد. والكلام الزائد يَفتح باب
الشك
واللبس حتى في الأمور الواضِحة. والغموض أحيانًا يُثير المعنى ويشحذ الذهن، ويُنشِّط
الهمة،
ويُجلي القصد.
١٥٥ لذلك تتفاوَت المقابَسات فيما بينها طولًا وقصرًا ولكنها إلى القصر أقرب مثل
الومضات الفلسفية القصيرة.
١٥٦
وتستمدُّ المقابَسة مادتها من الأفكار المطروحة في المجالس الثقافية. وأبو حيان مجرَّد
راوٍ أو حافظ لها. يقتصر دوره على الصياغة والتقنية مع بعض الزيادة أو النقص. من أجل
تعميم
الفائدة الأكبر قدر مُمكن من الناس. وقد تكون هذه الليالي مروية شفاهًا أو البعض منها
يعتمد
على مصادر مكتوبة طبقًا للتراكم الفلسفي عبر الزمان، البعض معروف مثل السجستاني والعامري،
وأحيانًا تكون الرواية بلا زيادة تسهيلًا وإيضاحًا وتجنُّبًا للمزالق وإيثارًا لما يتَّفق
عليه العلماء. مادتها مناقَشات الفلاسفة حول الفلسفة، الوافد، الإلهيات المحضة، ونقل
مُستواها من الإلهيات العقلية المجرَّدة إلى الإنسانيات العمَلية العيانية بحيث لا يتغيَّر
المقصد والمغزى بل بقصد توضيح المعنى وجعله أكثر دلالة على العصر. المقابَسة تصوير لحوادث
العصر وبيان صحيح عنها في أسلوب أدبي يقوم على السخرية دون التضحية بالموضوع لصالح الأسلوب،
والتاريخ لحساب الفن.
١٥٧
كما تعبر المقابسة عن الحالة النفسية للمؤلف وعن رؤيته المتشائمة للعالم. فهي تُصوِّر
حال عصر بأكمله سادَه النفاق والشراء بالمال. كتابة أبي حيان تشهد على العصر والتاريخ،
للعصر لا للمال. يُخطِّئُه الناس إذا أصاب، ويُصوِّبوه إذا أخطأ. ونظرًا لصدق التصوير
الأحوال الناس فقد عاداه البعض تحت ذريعة ضرورة التستر على العيوب مما يخرج على أدبيات
الحوار. والتأويل أفضل لإقالة الناس عثراتهم تَعتمِد بعض الحكايات على التجارب الشخصية،
صداقة أو رياسة. وقد لا تذكر أسماء الإعلام على عكس «الإمتاع والمؤانسة». فما يهمُّ هو
الفكرة لا الشخص. وتكشف عن بعض التجارب الإنسانية وتصفُ ماهياتها.
١٥٨
كما تَعتمِد المقابسات على الشعر والأمثال العربية لمزيد من الإيحاء والإيصال. فلم
يكن
الوافد إلا أحد المصادر بالرغم من أن الفِكرة واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى أمثلة، ولكن
النقل
عنصر في الإبداع وبدايته. والشِّعر طبيعة العرب وعلمهم. وأكثره في رسالة «الحنين إلى
الأوطان» نظرًا لما يُهيِّجه الشعر في النفوس.
١٥٩
وكل مقابسة لها موضوع واحد إلا نادرًا، وأحيانًا تتضمَّن الليلة الواحدة أكثر من
موضوع
أو يمتدُّ الموضوع على أكثر من ليلة، فيتقطَّع الموضوع.
١٦٠ ويظهر التأليف في آخر الليلة وليس في أولها بعد الإعداد المسرحي وعناصر التشويق
الأولى. وكل آخر ليلة يَرتبِط بأول الليلة التالية مثل خيط العقد في كتابة فن الليالي،
وأحيانًا تكون المقابَسة مجرد كلمات متفرِّقة لا تُنسَب إلى شيخ واحد لأنها أصبحت مشهورة
غير مشخَّصة مثل الأمثال العامية والأقوال الشعبية والسِّيَر التي أصبحت مجهولة المؤلف.
الشرف في جمعه، والفائدة لمتلقِّيه. ورُبَّ سامع أوعى من مبلغ. والحق مبين منهاجه، ومنير
سراجه، ومعقول بيانه، ومعلوم برهانه.
١٦١ كل مقابسة لها وحدتها الذاتية، وجميع المقابَسات وحدة أكبر، يؤيد بعضها بعضًا
نحو الهدف الأعظم وهو نَيل الأبدية. وقد تَنتهي بشكوى الزمان من الحساد والشامِتين مُنتقلًا
من مقابسة إلى أخرى واصفًا حال الكاتب. ينقسم الكلام إلى موضوعات مستقلَّة كلها مشروطة
بطهارة النفس، ومكتوبة بحساسية مُرهَفة خوفًا من عثرة اللسان ونزوة القلم وإيثار الحيطة
من
الراوي والمُفسِّر من الوقوع في الاشتباه. وقد تمتدُّ المقابسة على أكثر من ليلة. فالموضوع
ما زال حيًّا حتى يعود آخر الكلام على أوله مما يتطلَّب حضور البديهة وحسن المزاج وصفاء
النفس، وتوفُّر الوقت، وخلو البال.
وتَعني المقابسة الانتقال من المثل إلى الممثول، ومن النقل إلى الإبداع، ومن الوافد
إلى
الموروث، وتكرار الفكرة في تطبيقات متعدِّدة كنوع من القياس الفلسفي. يُمثل النقل الانفتاح
على الآخر بعد فتح الأرض، شعوبًا وثقافات ثم إدخال الأجزاء المتناثرة داخل الكل الواحد،
والقيام بعمَلية الإكمال الحضاري ووضع التاريخ داخل البنية من أجل خلق وحدة الثقافة،
لا فرق
بين ماضٍ وحاضر، بين أوائل وأواخر. يمكن التمييز في التنقُّل بين موضوعات إبداعية خالصة
لا
نقل فيها مثل الصِّلة بين الحكمة والشريعة، وموضوعات إبداعية تبدأ من النقل بطريق غير
مباشر
مثل النقل عن ابن سيرين، وموضوعات إبداعية تقوم على النقل كنقطة بداية فقط.
ولأبي حيان فواصلُه بين إبداع وآخر، وملاحظاته حول صعوبة الأسلوب، وعمق الفكر، والتعبير
عن الحال النفسي، وإبراز الدرس المُستفاد، ومخاطبة القارئ والدعوة له. فالغاية من المقابَسة
إثارة النفس وإيقاظ الوعي مستعملًا مصطلحات الصوفية ومؤثرًا مناهجهم الذوقية. ومخاطبة
القارئ للوصول إلى الغاية، والوصول عسير، والعائق عظيم، والسير وشيك، ولولا لطف الله
لتمسك
اليأس من القلوب القارئ هو الطرف الآخر للمؤلف، والفكر حوار بين طرفين بل ومشروع مشترك.
وتتحول مخاطبة القارئ في «المقابسات» إلى لازمة دائمة؛ لأنَّ الغاية منها توجيه القارئ
ونصحه وهدايته. بل وتُوحي المقابسة بالإيماءة والإشارة من أجل ربط الفكر بالشخص. وتتحوَّل
إلى حديث للنفس يتوجَّه نحو الآخر في دعوات وابتهالات، فتتحوَّل الفلسفة إلى دين، والأدب
إلى تصوف، ويجتمع كل الناس على نفس الهدف. ويتحول الخطاب من حوار بين المتكلِّم والمخاطب
إلى حديث بضمير المتكلم الجمع. وتأتي مخاطبة القارئ في الفواصل وليس بالضرورة في أول
الخطاب
كما هو الحال عند إخوان الصفا.
١٦٢