(أ) الدوائر الحضارية الخمس
ويَذكُر مسكويه خمس دوائر حضارية: فارس، والهند، والعرب، والروم، والإسلاميين
المُحدَثين. اثنان من الشرق، فارس والهند، وواحدة في الغرب، الروم أي اليونان، واثنتان
في
الوسط العرب والمسلمون كطائر بجناحَين. ويعني بالعرب قبل الإسلام وبالإسلاميِّين المُحدثين
بعد الإسلام، وهما دائرتان حضاريتان مُتداخلتان أو دائرة حضارية واحدة في زمنين مُتتاليَين
قبل الإسلام وبعده. فما هو مقياس هذا التصنيف؟
هل هي مناطق جغرافية؟ الشرق والغرب والوسط؟ وماذا عن الشمال والجنوب؟ هل يَدخُلان
في
الشرق والغرب باعتبار أن شبه الجزيرة العربية جنوب غرب فارس والهند، واليونان شمال غرب
بلاد
العرب؟ وماذا عن مصر والصين وبلاد ما بين النهرَين والعراق وفلسطين وبلاد الشام. ربما
دخلت
مصر ضمن الإسلاميِّين المحدثين، وربما العراق والشام، وربما لأنَّ الصين لم تصل أخبارها
لمسكوَيه. ألا توجد دوائر حضارية أخرى في أواسط آسيا أو في جنوبها في الملايو وإندونيسيا
والفلبِّين وقد دخلها الإسلام مبكرًا أم أنها تدخُل ضمن الإسلاميِّين المحدثين أي حضارة
الإسلام المترامية الأطراف؟ وماذا عن الدائرة الإفريقية التي كانت على اتصال بشبه الجزيرة
العربية عبر القرن الإفريقي أم أن الإسلام الإفريقي لم يكن قد أنتج حضارته في هذا الوقت
مبكرًا؟ وهل الرومان مجرد امتداد لليونان دون أن يكون لهم حضارة مُستقلَّة أم أن اليونان
تشمل الرومان بطريقة التغليب أم أن اليونان والرومان لفظان لحضارة واحدة؟ وماذا عن حضارة
بني إسرائيل التي يذكرها صاعد في نفس الفترة أم أنها جزء من الحضارة الإسلامية في تاريخها
الطويل عبر اليهودية والنصرانية؟
وربما يكون المقياس تاريخيًّا وليس جغرافيًّا، الحضارات القديمة أو لا في الشرق، الهند
وفارس ثم الحضارات الحديثة بعد ذلك في الغرب، الروم ثم الحضارة الأحدث، العربية الإسلامية
قبل الإسلام وبعده. وعلى هذا النحو تنتقل الحضارة من الشرق إلى الغرب ثم يرثها الوسط
أي
العرب والمسلمون المُحدَثون بين الشرق والغرب. ولماذا يبدأ المسار من فارس قبل الهند
وحضارة
الهند أسبق؟ هل لأنَّ مسكويه فارسي الأصل فانتقلت الحضارة من فارس إلى الهند شرقًا ومن
فارس
إلى العرب والروم غربًا، ففارس مركز الحضارات القديمة؟ هل انتقلت حضارة فارس إلى الهند،
الزرادشتية والمجوسية والمانوية أم أن الهند هي منشأ ديانات الشرق الهندوكية والبوذية؟
وهل
انتقلت حضارات فارس والهند إلى بلاد العرب قبل الإسلام بدليل وجود الألفاظ الفارسية في
القرآن بعد أن تمَّ تعريبها؟ وهل انتقلت حضارة العرب إلى بلاد الروم، أثينا السوداء،
المصادر الإفريقية الآسيوية للحضارة اليونانية، ثمَّ عادت الحضارة من بلاد الروم إلى
المسلمين المُحدثين؟ وعلى هذا النحو يكون مسار الحضارة من الشرق إلى الغرب وإلى الشرق
تعود،
من فارس والهند والعرب إلى الروم ثم إلى المسلمين المحدثين لو كان العرب والمسلمون جزءًا
من
الشرق، ولو كانوا جزءًا من الوسط مع جناحَي الشرق والغرب فإن مسار الحضارة يكون من الشرق
إلى الوسط ومن الوسط إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الوسط. فالعرب هم الوسط الأول والمسلمون
والمُحدَثون الوسط الثاني. الوسط هو الممر من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق مرتان،
مرة عند العرب ومرة عند المسلمين المحدثين. الوسط في تلك الحالة هو شبه الجزيرة العربية،
المركز وجناحاه الشرقي والغربي هما الأطراف.
ومن تحليل الدلالة الكيفية يبدو الإسلام جزءًا من تطور حضاري عام، آخر حلقة من حلقات
التطور البشري وليس جزيرة منعزلة أو فترة واحدة في التاريخ. لم تسبقها ولم تتلُها فترات
أخرى. الإسلام نهاية المسار الحضاري الذي استطاع تُمثِّل كل الثقافات فانصهرت فيها ثقافات
الشرق والغرب والجاهلية ومراحل الوحي السابقة اليهودية والنصرانية. وقد حضر الوافد الشرقي،
فارس والهند أكثر من حضور الوافد الغربي، الروم، على عكس الموقف الحضاري الآن، حضور الوافد
الغربي، الأوربي الأمريكي أكثر من الوافد الشرقي، إيران والهند والصين واليابان والملايو
وإندونيسيا وأواسط آسيا وباقي دول الشرق. الغرب يسأل والشرق يجيب، الغرب المريد والشرق
الشيخ حتى «المسائل الصقلية» لابن سبعين عندما سأل فردريك الثاني وأجاب ابن سيعين.
١٥ وليس كما هو الحال في عصرنا، الغرب المعلم ونحن التلميذ. وقد أثرت الأطراف
القديمة شرقًا وغربًا في المركز وصبت فيه، أثر الهند وفارس والروم في العرب والمسلمين
وليس
كما هو الوضع حاليًّا أثر المركز الغربي الأوربي الأمريكي في الأطراف، إفريقيا وآسيا
وأمريكا اللاتينية. كما يلاحظ الحديث عن العرب كآخر وليس كأنا كما يفعل بعض المفكرين
العرب
المعاصرين من أصل غير عربي بعد أن تعربوا وكأن هناك تمييزًا بين العرب العاربة والعرب
المستعربة. كما لم يذكر المسلمون المحدثون من الأمم الأربع وكأن الإسلام حضارة العرب
الحديثة وليس حضارة كل الشعوب الإسلامية، عربية أو غير عربية.
كما يتفق التحليل الكمي مع التحليل الكيفي في أولوية العرب والمسلمين المحدثين على
فارس
والروم والهند. العرب الأكثر كمًّا والهند الأقل.
١٦ فالوسط بمرحلتَيه، العرب والمسلمون، أكثر من نصف الحكمة الخالدة. وقد تكون
أولوية العرب على المسلمين المحدثين كمًّا إسقاطًا من شعوبية الفرس سلبًا إن لم يكن ترتيبًا
زمانيًّا. وربما كان السبب في قلة ثقافة الهند قلة الترجمة عنها. ربما لم تكن ثقافة منافسة
للعرب قدر منافسة الفرس، وربما لانتشار الإسلام بها مؤخرًا بعد فارس أو لأنها لم تكن
قوة
سياسية مثل قوة الموالي من فارس، يؤسسون الدولة مثل العباسيين إلا متأخرًا في دولة
المغول.
ويُبرِّر مسكويه ترتيبه والبدء بحِكمة فارس نظرًا؛ لأنها في الزمان وإن «جاويذان
خرد»
أول الكتب ثم تتلُوه آداب الأمم الأخرى؛ فالمقياس زماني تاريخي.
١٧ ولم يَذكُر مسكويه كل حكم هذه الشعوب بل اكتفى بالكليات دون الجزئيات وبالأنساق
العامة. كما تتفاوت الحِكَم فيما بينها طولًا وقصرًا بحيث لا تَزيد أحيانًا عن بضعة
أسطر.
(ب) الوافد والموروث
ويصعب تحليل المضمون لنصوص الحكمة الشعبية نظرًا لكثرتها ولتشعُّبها ولضمِّها أدباء
وشعراء وصوفية ورواة وصحابة وتابعين وأمراء وسلاطين وعلماء وأنبياء ومتكلمين وفقهاء وظرفاء
ومشاهير وخلفاء من الشرق والغرب. ومع ذلك يمكن حصر حوالي ١٥٥ علمًا لا يُمثل الوافد
اليوناني أكثر من ١٤ والشرقي ١٠ مع أنَّها حكمة الشرق، ويُمثل الواقع العربي الإسلامي
حوالي
١٣١ علمًا مما يدلُّ على أولوية الدائرة الحضارية العربية الإسلامية على الدوائر الحضارية
الشرقية والغربية، ولبعض هذه الأعلام أقوال مذكورة والبعض الآخر ليسَتْ له أقوال لوجودها
في
الثقافة الشعبية بإيحاءاتها ودلالتها دون ما حاجة إلى اقتباس. أصبحت هي الفكرة دون ما
حاجة
إلى دليل عليها. وقد يكون للبعض منها أكثر من قول؛ ومن ثم يتضاعَف تردُّده، وقد يكون
للبعض
أكثر من كنية مثل أفلوطين والشيخ اليوناني، والمسيح عيسى. وفي هذه الحالة تبقى كل كنية
على
حدة لأنها تدلُّ على تصور مُستقلٍّ بالرغم من وحدة الشخص. وأحيانًا يذكر القول دون صاحبه
ويُبينه الناشر دون الاكتفاء بالنص زيادة في العلم والتعالم.
ومن الوافد الغربي اليوناني يأتي الإسكندر الأكبر في المقدمة ثم سقراط لارتباطهما
بالحكمة الشعبية ثم أرسطو في المرتبة الثالثة، ثم أفلاطون ثم أوميروس وأيروقليس، ثم
فيثاغورس وجالينوس وقابس والشيخ اليوناني، ثم أفلوطين وبطليموس وهرمس، لا فرق بين الرياضي
والطبيب والفيلسوف الإشراقي والفلَكي والحكيم الإلهي، بين الإنسان والإله، بين الواقع
والأسطورة، بين الشِّعر والحكمة.
١٨
ومن الوافد الشرقي فارس والهند يأتي ذوبان في المقدمة الذي يعادل الإسكندر من حيث
الكم
ثمَّ أوستهنج ثم برزجمهر وكسرى أنوشروان ثم أورباذ، كيخوز، بهمن، ثم حجشيد، خرشيد، كسرى
قباد.
١٩
والصعوبة في تتبع الوافد والموروث في الحكمة الخالدة أنهما مُتجاوران وليسا متداخلَين،
حكمة وراء الأخرى، فارس ثم الهند ثم العرب ثم الروم ثم الإسلاميين المحدثين، مجرد تجميع
وعرض ورواية دون تأليف. ومن ثم يغيب التداخُل بين الوافد شرقًا أو غربًا وبين الموروث،
ومن
ثم غياب آليات الإبداع.
أما الموروث فله النصيب الأوفر من الأعلام؛ فالقلب له الصدارة على الأطراف. ويأتي
في
المقدمة علي بن أبي طالب والحسن البصري مما يدلُّ على حضور التشيع والتصوف في الحكمة
الشعبية، ثم المسيح والأحنف بن قيس والمأمون، مما يدلُّ على حضور المسيح في الثقافة الشعبية
أكثر من موسى ومحمد نظرًا لما يكتنفُه من معجزات وإشراقيات وكذلك شعراء العرب وحكماؤهم،
وأهمية المأمون باعتباره راعي الحكمة، ومؤسس ديوانها، ثم الحسن بن علي مما يدلُّ على
حضور
آل البيت في الثقافة الشعبية لا فرق بين سنة وشيعة، ثم الفضيل بن عياض مما يدلُّ على
استمرار حضور التصوف الأخلاقي ثم الرسول والجاحظ وسفيان الثوري وابن المبارك، مما يَكشِف
عن
صورة الرسول في الثقافة الشعبية كأحد العلماء أو الصوفية، وأحاديثه أقوال مأثورة مثل
أقوالهم، ثم بشر بن الحارث، وابن السماك مما يُبين أهمية الصوفية الأوائل الذي خرجُوا
من
قاع الشعب، يُنادون بالفضيلة كرد فعل على الفساد الاجتماعي منذ عصر الأمويين، ثم الحجاج،
الحسن بن سهل، وداود النبي، وابن عباس، وعمر بن الخطاب وابن المقفع، وذي النون المصري،
ومحمد بن واسع، مما يدلُّ على تداخل الحكام مع قواد الشرطة والعلماء والأنبياء والصحابة
والخلفاء والأدباء والصوفية والفضلاء في الثقافة الشعبية لا فرق بين ما يأتي من الله
وما
يأتي من الناس، من الحاكم أو من المحكوم، من الشرطي أو من الشيخ، ثم أحمد بن خالد، وإبراهيم
بن أدهم، وأكثم بن صيفي، وجعفر الصادق، وأبو حازم المدني، وحذيفة بن اليمان، والحسين
بن
صالح، والخليل بن أحمد، وعمر بن عبد العزيز، والفضل بن سهل، ومسكوَيه، ومعاوية، والنبي،
ويحيى بن معاذ مما يدلُّ أيضًا على حضور الصوفية والأئمة وآل البيت واللغويين والخلفاء
والحكماء والحكام والأنبياء في ثقافة العامة، بالإضافة إلى أعلام عشرين، ثم أعلام سبعة
وسبعين تكشف عن حضور الصوفية والفقهاء والعلماء واللغويين والصحابة والخلفاء والأمراء
وامرأة واحدة وسط هذا الجمهور الفقير بل وحضور المترجمين والمتكلمين والمؤرخين والأطباء
والخلفاء والأمراء والقواد والأطباء والفقهاء والمُحدِّثين والأئمة والأنبياء، والصحابة
والحكماء والعُباد. ويزداد الأعلام من النساء كلما عمت الثقافة الشَّعبية من العُبَّاد
والصوفية والأتقياء والأقارب، لا فرق بين مسلم ونصراني ويهودي. فالكلُّ عرب عاربة أو
مُستعرِبة.
٢٠
وتُستعمل آيات القرآن والأحاديث وآيات التوراة والإنجيل على نفس المستوى من الأقوال
المأثورة التي تتَّفق مع الحكمة الخالدة، ثقافة كل الشعوب. ويتصدَّر الحديث على القرآن
لأنه
أقرب إلى أمثال العرب.
٢١ فقد أُوتيَ الرسول جوامع الكلم. والحديث في صياغاته ما هو إلا استمرار لجمهرة
أمثال العرب مع تأويل للمضمون وقراءة له وإكمال من أجل التعبير عن التصور والقيم الجديدة.
٢٢ فلا خلاف في حضور النص في الثقافة الشعبية بين نص القرآن أو الحديث أو التوراة
أو الإنجيل عن المثل الشَّعبي والسير والأمثال والأقوال المأثورة. الكل مصدر حكمة للعامة.
ولا فرق بين الآية القرآنية وحكمة الشعوب مثل
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ، وما يُقابل ذلك في الأمثال العامية عند كل الشعوب. ويُمكن ضم حكم الشعوب
في عواميد موازية لإيجاد التقابل بينها كما هو الحال في الأناجيل المتقابلة، لا فرق بين
حِكمة في الشرق، وحكمة في الغرب، وحكمة في الوسط. هناك حكمة واحدة للشعوب يلتقي فيها
الوحي
والعقل والطبيعة، الفرد والمجتمع والتاريخ، ويوضع القرآن والحديث وأمثال العرب وأقوال
الأنبياء السابقين في اليهودية والنصرانية ونصوص الديانات الشرقية وأقوال الحكماء في
عواميد
متوازية أكبر لمعرفة مدى التوافق بينها في خبرة بشرية واحدة.
٢٣ ويُمكن في نفس الوقت معرفة خصائص الشعوب على حِدَة، كما يُمكن معرفة حكمة البشر
كلها وهي التي صاغها الوحي في المرحلة الأخيرة.
٢٤
(ﺟ) آليات الإبداع
وهي حِكَم مُتفرِّقة لا رابط بينها إلا تيار عملي أخلاقي واحد يَبعث على الفضائل،
ويُنبِّه على الرذائل، متعدِّدة المواضيع وقصدها واحد. لا برهان ولا دليل عقلي عليها،
ولا
استدلال منطقي فيها، بل إيحاء مباشر إلى النفس، تصبُّ كلُّها في بؤرة واحدة وأفق واحد،
افتتحته الحضارة الإسلامية الجديدة كمصبٍّ نهائي لحكمة الشعوب. تظهر أحيانًا الألفاظ
والتعبيرات الإسلامية وكأنها تأليف إسلامي مباشر.
وتكشف البدايات والنهايات في «الحكمة الخالدة» عن البيئة الثقافية الجديدة التي يتم
فيها التجميع والعرض للوافد والموروث في المخطوطات الأربعة. ففي المقدمات يذكر المؤلف
رفض
الدنيا والزهد فيها والاشتياق إلى عالم أفضل مما يَكشِف عن التيار الإشراقي، النوع الأدبي
للكتاب أي العرض والتجميع والضم. تضمُّ إليها بعض التعبيرات الدينية مثل طلب العصمة والتوفيق.
٢٥
والخواتيم أكثر تحميلًا للدلالات من البدايات؛ لأنها ساعة الفراق بين المؤلف والناسخ
والقارئ والمالك، مسك الختام. ويذكر التاريخ الهجري مع تواضُع الناسخ إلى حد الافتقار
والمحو في مقابل غرور المحدثين، وطلب العفو والمغفرة. ومع الحمدلة والصلاة على النبي
نبي
الرحمة وشفيع الأئمة وآله وعشيرته على عادة العصر والدعوة بحسن التوفيق، يكون الإهداء
للأمراء والسلاطين على عادة مؤلِّفي البلاط في كل عصر مع ذكر ألقابهم التي تكشف عن مذاهبهم
كسنة أو شيعة. ومع الملكية الشرعية للوثيقة التاريخية في مقابل حقوق التأليف عند المحدثين
تظهر العلاقة بين المؤلف والناسخ والمالك في مقابل الترقيم الدولي والناشر والمدينة والسنة
والتوقيع والختم عند المحدثين الغربيين، بل وبيان الوضع الاجتماعي، حر أو مملوك، والدعوة
للمالك والتعظيم له في مقابل استعباد الشعوب من الغرب الحديث، والدعوة للمؤلف والناسخ
وطلب
العفو والرحمة لهما وصلاح الشأن والهدي إلى الرشد خاصة في العصر المملوكي مع المقابلة
بين
النسخة الأصلية والنسخة الفرعية وإضافة بعض الأشعار في النهاية المناسبة لموضوع الذكرى
والتذكُّر للأجيال القادمة بعد وراثة المخطوط من مالك إلى مالك وعن حكمة الحياة تقابلًا
أو
تشافعًا، إيقاظًا للنائمين، وتنبيهًا للغافلين، ومثل كل المؤلفات، تبدأ الحكمة الخالدة،
وتنتهي بالبسملة والحمدلة وطلب العون والصلاة على الرسول وآله، وطلب التوبة من الله وليِّ
الخيرات والمُثيب على الحسنات. فلا قوة إلا بالله، بيده مفاتيح الخيرات والعِصمة والتوفيق،
وهو نعم الوكيل مع تحديد تاريخ النسخة ومالكها وتحديد وضعه الشرعي مملوكًا أم حرًّا وطلب
الرحمة له.
٢٦
وهناك عدة أشكال من أفعال القول في حكم العرب خاصة عندما يكون القول مجهولًا. هو
تحليل
مبدئي حتى يأتيَ جيل قادم فيقوم بتحليل أدق وأشمل للنصوص الفلسفية، كما هو الحال في النصوص
الأدبية والسياسية. وتنوع أشكال فعل القول يدلُّ على أن «قال أرسطو» التي أصبحت عنوانًا
للنقل بمعنى التبعية إنما هي عادة وأسلوب قرآني أولًا ثم تراثي ثانيًا؛ للتركيز على أهمية
القول في أشكاله المتعددة في الشخص الثالث، مبنيًّا للمعلوم أو للمجهول، مفردًا أو جمعًا
أو
وصف نوع القول وأنواع الكلام مثل الدعاء والتعزية.
٢٧ ولا يَنفرِد فعل القول بل تتبادَل معه أفعال الإيضاح والسؤال أو أفعال الشعور
المعرفي مثل تكلم، وصف، وحي، حكم، فعل.
٢٨
وتتكرَّر نفس أفعال القول في رواية كل حكمة من حكم الشعوب. ففي حكم الفرس يظلُّ فعل
القول هو الأغلب.
٢٩ ثم تأتي مُشتقات السؤال في المبني للمجهول مثل أحكام السؤال والجواب في علم
أصول الفقه.
٣٠ وفي حكم أنوشروان يقلب لفظ القول أكثر من السؤال.
٣١ وفي آداب برزجمهر تَطغى أفعال القول الشرطية وهو أسلوب إسلامي لتوقُّع المعترض
والرد عليه سلفًا، وأحيانًا يكون القول مثل أحكام السؤال والجواب مباشرة دون ما حاجة
إلى
سؤال أو اعتراض. وفي آداب الروم تَتراوح أفعال القول بين قال وسأل في المبني للمعلوم
أو
للمجهول، مرة في الماضي ومرة في المضارع. وبالنسبة لأفعال القول للإسلاميين المُحدثين
يغلب
عليها الشخص الأول الجمع في المضارع «نقول»، ونادرًا «قال».
٣٢
وللفَواصل أهميتها في معرفة مسار الفكر واتجاهه ومراحله ومقدماته ونهاياته واستدلالاته
أهم من مضمونه. فصورة الفِكر تكشف عن آليات الإبداع. وإن تقطيع الناسخ للنص كنوع من الإخراج
يدلُّ على أن الكتابة مشروع مشترك بين المؤلِّف والناسخ والقارئ الذي يضع تعليقاته على
الهوامش والمالك الذي يضع ختمَه وأشعاره على الصفحات الأخيرة. وأحيانًا تكون الفقرات
قصيرة
للغاية عبارة واحدة.
٣٣ وتدلُّ حكاية كتاب جاويداد وخرد على كيفية التحوُّل من النقل إلى الإبداع من
شعب إلى شعب، وليس على مُستوى الفرد وحده بل أيضًا على مستوى الشعوب والحضارات.
ويتجلَّى الإبداع في العرض في اقتناص الأنفع والأفيد والأكثر دلالة وترك ما لا يفيد،
أخذ الأصل وترك الفرع، الجوهر دون العرض، الفكرة دون حواشيها، المعنى دون ألفاظه حتى
يُمكن
تمثُّله والبناء عليه وتطويره حتى ولو بدت الاقتباسات متقطعة غير متَّصلة. يتم إسقاط
كثير
من الكلام المتقطِّع حتى يكون المعنى واضحًا. فالمعنى هو الذي يضبط النص بصرف النظر عن
تنظيم الأوراق. فالكيف يضبط الكم، والغرض الانتفاع.
٣٤
وتتَّسم الحكمة الشعبية بالتفصيل والتقسيم للفضائل والعد والإحصاء للخِصال ما دامت
غايتها تربوية تهذيبية للأفراد والجماعات. وأحيانًا تجتمع كلها في خصلة واحدة هي أم
الفضائل، ومثلها في الرذائل، قسمتها وعدها وإحصاؤها ثم جمعها في واحدة هي رأس الرذائل
كلها.
ثم تتفاوت الأعداد بين خمسة وعشرين قسمًا لحكم بهمن الملك في أمور الدنيا في خمس مجموعات
كل
منها خمس، بالقضاء والقدر، وبالاجتهاد والعمل، وبالعادة، وبالجوهر، وبالوراثة، واجتناب
عشرة
عيوب، وتمثل ثمانية وعشرين خصلة فقط. وعند حكيم آخر من فارس الخصال أربع، والغالب القسمة
الرباعية والثلاثية. وأحيانًا تكون خمسة أو سبعة وكأنها باستمرار عدد فردي؛ خمسة أشياء
من
سجايا العلماء، خمسة أشياء تقبح بأهلها، سبعة خصال من طباع الجهال. وقد تزداد الأقسام
ويكثر
العدد الإحصاء، والحقيقة أن هذا التقسيم العملي هي البنية النظرية للموضوع إذا ما تحوَّلت
إلى فلسفة عملية، فقراتها أقرب إلى القصر منها إلى الطول كما هو الحال في صياغات الأمثال.
٣٥ وقد يَصعب إيجاد نسقٍ لها وكل يَنتظِم الأجزاء على عكس حكمة الهند التي يُمكن
معرفة نسقها الذي ينتظم حكمها المتفرِّقة. وقد يأتي الرقم من خصال الحيوانات. فالحكمة
في
الإنسان وفي الحيوان وفي النبات وفي الطبيعة حكمة الكون. لذلك أعجب الجاحظ صاحب كتاب
«الحيوان» بحكمة فارس التي وضع البعض منها، كما هو الحال في حكمة الهند، على لسان الحيوانات.
٣٦
والحكمة الشعبية أيضًا تجربة مُشتركة بين المؤلِّف والقارئ. فالتأليف للقارئ لهدف
مُشترَك وقصد عام من أجل ثقة القارئ بنفسه وقدرته على الإبداع وفتح الطريق له، لذلك تأتي
الحكمة طلبًا للإيضاح استفسار عن قول وإجابة لسؤال.
٣٧
(د) الوافد الشرقي (فارس والهند)
وتبدأ حكمة فارس من التاريخ ولا تنتهي إليه.
فالتاريخ خيال واقع يتحوَّل إلى مثال. فإذا كان ملوك الفرس وحكماؤهم ينطقون بالتوحيد
فلماذا
انتشر لديهم الإسلام وفتحهم المسلمون الأوائل؟ ولماذا انهزم الفرس أمام المسلمين وعندهم
كل
هذه الحكم التي تدعو إلى التوحيد؟ ربما كانت حكمة الخاصة مثل الدين الجديد. إنما جاء
الإسلام ضد نظام العبودية لكسرى. فبداية التاريخ بالطوفان كبداية للحكمة قراءة إسلامية
لحضارة فارس، تَنتقي حكمتها برؤية إسلامية. هي تأليف إسلامي غير مباشر. الصياغة إسلامية،
والألفاظ إسلامية مثل وصايا لقمان لابنه وهو يعظُه في مواعظ أذرباذ الذي قال لابنه وهو
يعظه. والترجمة أيضًا في ثقافة عربية إسلامية، والاختيار طبقًا لمقاييس إسلامية حتى يبدو
الاتِّفاق بين الحكمتَين، حكمة فارس وحكمة الإسلام. كما حاول الفلاسفة الذين يتعامَلون
مع
الوافد الغربي بيان الاتِّفاق بين حكمة اليونان وحكمة الإسلام. فإذا كان العلم فضيلة
في
الإسلام، وإذا طلب الرسول العلم في فارس فإنَّ أنوشروان يأخذ صورة الخلفاء والأمراء الذين
يُجالسُون العلماء ويَمدحون العلم ويحثُّون عليه. ويختم حديثه بحسبان الله والتوكُّل
عليه.
وكان الملك بهمن مشغوفًا بحلو الكلام مع أهل زمانه من أهل العلم والمعرفة وكأنه خليفة
عربي.
٣٨
وفي مادة الكتاب يختلط الواقع بالخيال، التاريخ بالأسطورة. فأوشهنج أول من عمر الأرض،
وأمر بقتْل السباع واتخاذ اللباس والفرش من جلودها. وهي صور قرآنية مثل صور حي بن يقظان،
صورة أسطورية له في التراث الإيراني مثل هرمس عند اليونان، نسب إليه دين خاص مثل الروايات
حول نقل الكتُب الأجنبية إلى العالم العربي لتبرير التعرُّف على الآخر إيجابًا أم سلبًا،
وتشويقًا للقارئ وحثه على الاطلاع عليه مثل رواية «كليلة ودمنة» في الحصول على كتب الهند،
وحلم المأمون في معرفة كتب اليونان، ومثل «جهار مقالة» للعروض السمرقندي، و«تذكرة الأولياء»
للعطار و«نفحات الأنس» للجامي. وهو نفس أسلوب القصص القرآني الذي تغلب على الحضارة كلها
على
عكس النزعة التاريخية التي سادت الغرب في القرن الماضي، وهو جزء من الآداب الساسانية
في كتب
المواعظ، كتب الشرق المقدسة. كما تحوَّل برزجمهر إلى شخصية مثالية في الحضارة الإسلامية،
الحكيم الذكي الذي أدخل الشطرنج، وترجم كليلة ودمنة.
ويضمُّ كتاب «الحكمة الخالدة» عدة نصوص، بل إن نص «جاويدان خرد» الذي أعطى الكتاب
كل
عنوانه هو جزء يُعطي الكل عنوانه.
٣٩ وهو الجزء الأول من حكم الفرس التي تضمُّ تسعة فصول أخرى ولا يزيد على الربع.
آداب الفرس متنوعة وكثيرة، ولبرزجمهر كتابات. ثم يأتي بعدهما من حيث الكم حكم أنوشروان،
بعضها معروف صاحبه مثل برزجمهر، كسرى قباذ، أنوشروان، بهمن، أربعة في مقابل أربعة أخرى
مجهولة، أصغرها صفحة واحدة. وقد ترك العنوان معربًا «جاويدان خرد» لارتباطه بالثقافة
الفارسية، ثقافة المؤلِّف الأولى. ويضع معها العنوان المترجم عبارة بأكملها تُشير إلى
إضافة
حكم الفرس والهند والعرب والروم، انتقالًا من الخاص إلى العام، وربما من المركز إلى الأطراف.
٤٠ كما تكثر أسماء الأعلام مثل تأليف أوشهنج، وترجمة كيخور من اللغة الفهلوية
القديمة إلى اللغة الفارسية ثم ترجمة الحسن بن سهل إلى العربية، وهو أخو الفضل بن سهل
صاحب
الرياستين، الدنيا والآخرة. فالمُترجِم يُعرِّف بأخيه المؤلف. وتعني «تمَّمه» جمعه ونسق
بنية واختار واقتبس منه وربما نقحه. فالكتاب بين الترجمة والاقتباس، في مرحلة التحوُّل
من
النقل إلى الإبداع.
٤١
وحكم الهند لا تفصيل فيها، وأقل حكم الشعوب كمًّا، وموضوعة في العنوان الفرعي تحت
«جاويدان خرد» وكأن الهند حالة خاصة لفارس تُقاس عليها.
٤٢ وهو نصٌّ واحد تقريبًا وليس مجموعة نصوص كما هو الحال في حكم الفرس. وتُوضع تحت
عنوان واحد فقط «شرائط صحبة السلطان» بالرغم من تقسيمه إلى عدة موضوعات. لم تُذكَر الهند
إلا مرة واحدة بعكس الفرس التي ذكرت عدة مرات.
٤٣ ولا تذكر أعلام هندية كما ذكرت أعلام فارسية. وتقسم الحكمة فيها ثلاثة وهي
أكثرها ثم رباعية ثم سداسية وعشرية ثم سباعية ثم خماسية وهي أقلها.
٤٤ وواضح أن القسمة المُثلى التي يعيها الذهن وتكشف عن بنية الموضوع هي الثلاثية
والرباعية ومجموعها ٣٨ حكمة بالإضافة إلى ستِّ حِكَم أخرى مُتناثِرة لا تدخل في الإحصاء.
وأحيانًا يتكرَّر نفس الموضوع مثل الحزن مرة إيجابًا في ثلاثة، ومرة سلبًا في أربعة.
ومع
ذلك فالسلب أقل من الإيجاب في جدل افعل ولا تفعل.
٤٥ وقد تمَّت صياغة الأحاديث النبوية على نفس المنوال في البدء بالقِسمة العددية
مثل الثلاث «لا يُظلهم الله …» وموضوعاتها المقدَّسات الثلاث في الثقافة الشعبية: الدِّين
والسلطة والجنس. ويشمل الدين الأخلاق والمعاد وأثره الأخلاقي. وتشمل السلطة الحرب. ويتناول
الجنس وهو الأكثر شيوعًا المرأة الجميلة التي يَتركها الذِّكر فتشبع نفسها أثناء غيابه.
فإذا غلبت السياسة في حكمة فارس يغلب الجنس في حكمة الهند، وربما ضمَّ العرب المقدسات
الثلاث، المحرَّمات في الظاهر والمباحات في الباطن في جدل واحد، رؤية الآخر في مرآة الأنا
ورؤية الأنا في مرآة الآخر، المرآة المزدوجة في الحضارات المقارنة.
(ﻫ) الوافد الغربي (الروم)
أما حكمة الرُّوم فهي حكمة اليونان. وقد سمَّى مسكوَيه اليونان الروم ربما لأنَّ صورة
اليونان في فارس هي روما نظرًا للصراع بين الإمبراطوريتَين الفارسية والرومانية، وربما
لانتقال الفلسفة من اليونان إلى الرومان طبقًا لحكم المحدِّثين. والحقيقة أن وضع حكمة
الروم
مع حكمة فارس لا تَعني صراعًا بين أنصار الفرس وأنصار اليونان في الحضارة الإسلامية كما
يُروِّج لذلك الاستشراق وامتداداته في الدراسات العربية الإسلامية المعاصِرة بل التوازن
بين
الجناحين الرئيسيين للحضارة الإسلامية ومركزها في القلب في الجزيرة العربية شمالًا وجنوبًا.
وأحيانًا يتمُّ التمييز بين اليونان والروم عند المتأخِّرين مثل الشهرزوري، والحقيقة
أن لا
خلاف بين الفلسفتين من حيث الجوهر، العقل والطبيعة والقانون.
وتتضمَّن حكمة الروم ثلاثة عشر نصًّا لأفلاطون وأرسطو وسقراط، ولهرمس وديوجانس وبطليموس
وفيثاغورس وقابس، ونص مجهول من الأدب.
٤٦ مما يدلُّ على سيطرة أفلاطون وأرسطو من جملة سبعة أعلام، وأولوية أفلاطون على
أرسطو، والإشراق على العقل، والشرق على اليونان. وتختلف فيما بينها كمًّا. أطولها نصُّ
قابس
الأفلاطوني، وأصغرها نص ديوجانس ونص بطليموس.
٤٧ وأحيانًا يذكر اسم العلم فقط وأحيانًا أخرى يذكر ما يَحكي عنه، ما حفظ عنه،
وصيه، ذكر، حكايات عن، آداب، رسول، مما يدلُّ على طابع الانتحال من خلال الروايات
التاريخية. وأحيانًا يكون العلم واحدًا مثل سقراط وهرمس وديوجانس وبطليموس وفيثاغورس
وقابس
وأفلاطون، وأحيانًا علمَين، وصية أفلاطون لتلميذه أرسطوطاليس أو وصية أرسطوطاليس للإسكندر
أو آداب لأرسطوطاليس كتبها في صحيفة ليُعلِّمها للإسكندر أو رسول أرسطو والإسكندر، والعلاقة
الثنائية عادة ما تكون علاقة الأستاذ بالتلميذ مثل أفلاطون وأرسطو، وأرسطو والإسكندر
طبقًا
لعلاقة الشيخ بالمريد في الثقافة الإسلامية وطبقًا للنماذج الشعبية في علاقة المعلِّم
والمتعلِّم أو الفيلسوف بالقائد أو النبي بالصحابة أو المسيح بالحواريين، سقراط وأفلاطون،
أفلاطون وأرسطو، أرسطو والإسكندر. والنوع الأدبي الغالب هو الوصية (أربعة) اثنان منهما
لأفلاطون: أفلاطون لأرسطو، وأفلاطون في تأديب الأحداث، وواحدة لأرسطو للإسكندر، وواحدة
لفيثاغورس. وأحيانًا يذكر المترجم حنين بن إسحاق الذي نقل وصية أفلاطون في شريعة
الأحداث.
ما تمَّ تقديمه على أنه حكمة الروم هو قراءة إسلامية للفلسفة اليونانية إما في الانتحال
أو في مقاييس الاختيار من المنحول أو في إدخال بعض الموروث داخل عرض الوافد مثل الحس
البصري، فتقسيم الحكمة بين الشعوب ليس حدًّا فاصلًا مطلقًا. وقد يكون أحد المقاصد
الإسلامية، الوحدة من خلال التعدُّد، أحد الدوافع،
وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. فأفلوطين هو الشيخ اليوناني، صورة الآخر في
مرآة الأنا.
٤٨ ولم تُذكَر له أقوال ربما لأنَّ فلسفته لم تتحوَّل إلى أمثال. كما أن صياغة
المنحول تمَّت في تصور إسلامي لعلاقة الشيخ بالمريد، علاقة أرسطو بأفلاطون في وصية أفلاطون
لتلميذِه أرسطوطاليس وعلاقة أرسطو بتلميذه الإسكندر أو علاقة الإسكندر الأستاذ بأمِّه
في
التعلم وهو يُوصيها بمعانٍ قرآنية
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ
مَعَنَا،
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
قَرْحٌ مِثْلُهُ. لا يهمُّ الموضوع بقدر صِلة الذات بالموضوع. ولا يهمُّ الزمان
ولا المكان. ففي نطاق الحكمة الخالدة يَتناظر جميع الحكماء عبر العصور. فديوجانس تلميذ
أفلوطين في الحكمة وإن لم يكن كذلك في التاريخ. وأفلوطين تلميذ سقراط مثل ديوجانس يبحث
عن الإنسان.
٤٩
وفي النصوص الثلاثة عشر من المنتحَلات التي تُقدِّم الغرب في صورة الشرق، واليونان
في
ثوب فارس كل نقْل قراءة. وقد ساعد المنقول نفسه على ذلك نظرًا للطابع الشرقي الصوفي
لأفلاطون وسقراط وهرمس وديوجانس وفيثاغورس وقابس. كما أنَّ هذه المنتحَلات قد تمَّت من
قبل
في العصر الهلينستي حيث أخذ مسار الفلسفة اليونانية طابعًا شرقيًّا جعلتْها أقرب إلى
الشرق
منها إلى الغرب، وأكثر تعبيرًا عن فارس منها إلى اليونان.
فالانتحال ليس ترخيصًا إجراميًّا لتغيير النص ابتغاءً لتصحيح مزعوم فرَضَه الجهل
وأملاه
ضيق الثقافة. ليست القضية في الانتحال أنه تزييف لوثائق تاريخية طبقًا للنزعة التاريخية
التي كانت سائدة في القرن الماضي في الغرب والتي سادت الاستشراق هناك والذي قام بنشر
هذه
النصوص، والذي تابَعه الاستشراق العربي تقليدًا للغرب موطن العلم وتعالُمًا على المجتمعات
العربية البادئة في تكوين علومها وأبحاثها، اعتزازًا بالعنصرية الغربية الثقافية العقلية
في
مقابل الشرق الصوفي الإشراقي، معلومات لكسب الشهرة. دون فهم جديد. النقل سهل، والتأصيل
صعب.
٥٠
والمنتحَلات كثيرة تُعبِّر عن روح الحضارة المنقول إليها وقدرتها على الإبداع، البداية
بالنقل والنهاية بالإبداع.
٥١ ولا يهمُّ الزمان والتاريخ بل الإبداع الفكري عبر العصور. تجتمع الفلاسفة من
عصور مختلفة وأماكن متعدِّدة، وتتحاور فيما بينها مثل آلهة الأولمب أو حلقة الجامع بما
في
ذلك النبي، لا فرق بين حكم البشر وحكم الأنبياء. كلاهما إبداع حضاري، لا فرق بين ما ينسب
إلى الله وما يُعزى إلى الأنبياء وما يروى عن الحكماء. وهناك زيادات في الترجمة العربية
عن
الأصول اليونانية المنتحَلة. فكل حضارة تبدع ما تريد وما تشعر بحاجة إليه. ليس الانتحال
شرقيًّا فقط في التعامل مع الغرب بل غربي أيضًا في التعامل مع نفسه، وشرقي أيضًا في التعامل
مع نفسه بما في ذلك الأحاديث النبوية. والأسلوب عربي سليم، أدبي رصين. وتبرز المصطلحات
الإسلامية لتُوحي بالجو العربي الإسلامي وإن كان النص يونانيًّا مُنتحلًا، تأليفًا لا
نقلًا. والفقرات طويلة وليسَت مجرد حكم وأمثال قصيرة. وأرسطو أديب يَستشهد بأشعار أوميروس
وليس فقط واضع المنطق، وكثير من النصوص وصايا متصلة غير متقطِّعة وأخرى متقطِّعة.
٥٢
ونموذج آخر للانتحال، الإخراج اليوناني والتأليف الإسلامي، وصية أفلاطون في تأديب
الأحداث. وقد أحال إليها مسكوَيه في تهذيب الأخلاق. وهي تجميع النصوص وليست فقط أقوالًا
مُتناثِرة، وقد تمَّت صياغتها أيضًا طبقًا لوصايا الشيخ للمريد في النموذج الإسلامي،
عباراتها طويلة، والأهم مضمونها وتقسيم الأخلاق طبقًا للطبقات، العُليا والوسطى والدنيا،
فلكلِّ طبقة أخلاقها، ويظل السؤال: ما مقياس الطبقة: المال أم السلطة، الاقتصاد أم السياسة؟
وهل العلماء طبقة؟ ويُخاطب أفلاطون الأجيال القادمة بضرورة التوسط بين الأجيال وبين
الطبقات، فيُرقي الطبقة العالية، ويؤدب الطبقة الدنيا دون أن يتعسف مع الأولى أو أن يبكت
الثانية. لا يكرم الأولى ولا يخيف الثانية، لا يتساهل مع الأولى ولا يقسو مع الثانية.
يستعمل مقياسًا واحدًا للطبقتين المؤدية والمؤدبة، وتَنتهي الوصية بحمد الله على نعمته
والصلوات على الرسول وآله الطاهِرين. فالتربية عملية مُتواصِلة بين الأجيال وعمل مشترك
بين
الحضارات، بدأها أفلاطون، واستمرَّ فيها المسلمون، والمجال ما زال مفتوحًا. وليس عند
المسلمين القول الفصل.
٥٣
ورسالة أرسطوطاليس إلى الإسكندر في السياسة أيضًا من المنتحَلات. في أولها التوقف
عن
الإعجاب بمناقب الإسكندر نظرًا لتواتُرها فصارت معروفة ومشهورة، أما الجديد فهو موضع
إعجاب
بعد ظفر الإسكندر بدارٍ. وعند العامة لا يكذب ثناء، إحساسًا بالانتحال. وتبدو بعض مصطلحات
الموروث مثل النسخ، وبعض الخيال الشَّعبي في تواتُر الصورة المثالية للإسكندر في الثقافة
الشعبية عند العامة. وتتضمَّن دعاء يعقوب نبي الله مما يُشير إلى البيئة الدينية التي
يتمُّ
فيها الانتحال، ونقل بطولة الأنبياء على بطولة الإسكندر. كما تنقد الرسالة المرأة كجزء
من
الثقافة الشعبية، ضلعة عوجاء في حاجة إلى استقامة ولو بالكسر. وتذكر المصادر التي يتمُّ
منها الانتحال مثل الحسن بن إبراهيم الخالدي. وتنتهي الوثيقة بالملكية الشرعية وتواضُع
مالكها ورجاء الإحسان له والعفو عنه، والبسملة والحمدلة والثناء على الله والصلاة على
النبي
وآله الطيبين الأخيار.
٥٤
وما قيل على لسان قابس الأفلاطوني في «أمر لوح وجد موضوعًا في هيكل زحل كان منسوبًا
إلى
رجل فيه يدل على الهدى» كأنه كتاب مُستقل لشخصية تاريخية يونانية خيالها إسلامي.
٥٥ يستعمل أسلوب المُحاورات الأفلاطونية ويأخذ كنية الأفلاطوني للدلالة على اتجاه
الفكر، الأفلاطونية الإشراقية، اليونانية الشرقية. واللوحة صورة فنية مثل الأناجيل بها
عناصر الإخراج: رموز الدولة، فالمدينة رمز الدولة، والملك والحجاب والوزراء، ثنائية الخير
والشر، الفضيلة والرذيلة، النقاء والغواية، نساء في الداخل ورجال في الخارج، عضو الأنثى
بالداخل وعضو الرجل بالخارج، الصلة بين الفن والأخلاق، ويُحيل إلى موقف القرآن من الشعر،
ويُمكن وصف آليات الإبداع، البداية اليونانية والنهاية الإسلامية، التاريخ اليوناني
والدلالة الإسلامية، الأنا والآخر في وضع اليونانيين في مقابل الغرباء. الموضوع نفسه
إسلامي، التصوير ووجوده في الديانات القديمة، والمعركة حول الأيقونات في القرن الخامس
الميلادي وإن كان الإسلام قد قضى على الأصنام والتماثيل والتصاوير إلا أنه أبقى على الشعائر
والحركات، وإن كان القسم ما زال بحق هرقليس. وبالرغم من أن إيرقليس لم يشأ تفسير اللغز
إلا
أن المُترجم قدمه لما فيه من فوائد للعقل المؤيد للإنسان، طالبًا التوفيق والعصمة من
الله.
ويتمُّ تحميل هذه اللوحة التي بها هذا اللغز بالمعاني الإسلامية مثل رفض النحت والشهوة
والدنيا والمال والبنون والسلطة، ورفض الشره والشبق والملق والخداع والبذخ والنهب والسرقة
والتعدي على الحرمات واليمين الكاذبة والسعي والنميمة، والدفاع عن الحسن والقُبح العقليين،
والدفاع عن المساجد والسقايات. وفي النهاية يتمُّ مخاطبة القارئ ووصايته طبقًا للأسلوب
الإسلامي في الفكر كتَجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ. المضمون أخلاقي اجتماعي، فردي
أكثر
منه اجتماعيًّا، على عكس حكمة الفرس التي يغلب عليها الطابع السياسي، في ظاهرها يونانية
وفي
حقيقتها إسلامية.
٥٦
(و) العرب والإسلاميون المحدثون
أما حكم العرب فهي أكبر حكم الشعوب الأربعة. ولا يوجد تحيُّز خاص للعرب في جدل الأنا
الفارسي والآخر العربي، بل تَتساوى الشعوب الأربعة. إنما يتمُّ الحديث عنهم كغائب مثل
الهند
وفارس والروم، ولهم مرحلتان: ما قبل الإسلام في أمثال العرب وما بعد الإسلام في أقوال
الرسول والصحابة والصوفية. الرسول عربي، والإسلام عربي، والصحابة عرب مما قد يُوحي ببعض
الشعوبية المقلوبة. ومع ذلك فقد ذكرت حكم أنوشروان مع حكم العرب بعد أن تمَّ تعريبه وتعريب
أقواله لدرجة أنها أصبحت عربية. وان وضع العرب بعد فارس والهند قد يَعني أن العرب ورثوا
حضارة القدماء ثم صب ذلك كله في الحضارة الإسلامية الحديثة.
وهي حكم مُتفرِّقة وقصيرة وأحيانًا طويلة في أربعة وعشرين مجموعة، كل مجموعة لها
عنوان.
نصفها من النص والنصف الآخر من الناشر من مضمونه. بعضها عام مثل حكم للعرب وأمثال سائرة
وبعضها خاص يعبر عن المضمون مثل ذمِّ الهدية. أكبرها الكلمات المتفرقة. عناوين البعض
أسماء
وأعلام مثل علي، لقمان، قس بن ساعدة، أكثم بن صيفي، الحسن البصري.
٥٧ لا فرقَ بين عربيٍّ ونصراني؛ فكلاهما عربي. ولا فرق بين جاهلي وإسلامي، بين ما
قبل الإسلام وبعده وليس كما يَشيع في عصرنا من التعارُض بين الجاهلية والإسلام.
وبالرغم من أن علي بن أبي طالب عنوان المجموعة إلا أنَّ حِكَمه تظهر في باقي المجموعات.
ومن حيث الأهمية يأتي بعد الرسول مباشرة مما يدل على تشعُّبه في الحكمة الشعبية وانتشاره
فيها وتداخُل الحضور الشيعي مع السنِّي مع إبراز صورته وصفاته الخاصة في الثقافة الشعبية.
ويُثني عليه بعبارة «عليه السلام» وليس «رضي الله عنه» أو «كرم الله وجهه». يظهر مع الرسول
والصحابة والصوفية مما قد يكشف عن هوى التشيع، الرسول ثم الإمام، وفارس مهد التشيُّع،
وهو
العربي الأول بعد الرسول بالرغم من تشيُّع فارس وسنة العرب. وأحيانًا يذكر أمير المؤمنين
عليه السلام دون ذكر اسم علي مما قد يحدث خلطًا بينه وبين جعفر الصادق. فهو أيضًا يُثني
عليه بعليه السلام.
٥٨
وتأتي حِكَم الحسن البصري في المقدمة؛ حيث الكم والكيف بعد علي بن أبي طالب كصوفي
وليس
مُتكلمًا. ثمَّ تأتي أقوال الصوفية. فهم أقرب الفرق إلى ضرب الأمثال واستعمال الرموز
دون
غيرهم من المُتكلِّمين والفقهاء نظرًا لارتباط التشيع بالتصوف أم أن التصوف هو علم الأخلاق
الإسلامية، أقوال للحجاج، ونصائح للحكم؛ فالأنبياء والملوك والصوفية والأدباء واللغويون
والصحابة والخلفاء كلهم أصحاب حكم وأمثال في الثقافة الشعبية ومعها حكايات ونوادر مثل
تلك
المنسوبة إلى الفلاسفة والتي ترجمها حنين ويختتم بالحمدلة.
والموضوع الغالب عليها الأخلاق الاجتماعية، الكمال الفردي والاجتماعي، والاغتراب أي
التوجه نحو الآخرة بعيدًا عن الدنيا. أما السياسة، العنصر الغالب في حكمة فارس، والجنس،
العنصر الغالب في حكمة الهند فنادِران على عكس ما هو معروف في ألف ليلة وليلة ربما لانتصار
الدولة السنية التي لا تحتاج إلى نصائح الملوك وربما خوفًا من السلطان. وربما غاب الجنس
لغلبة أقوال الصحابة والصوفية. كما تظهر قيم العلم والثراء على المستوى الإنساني وليس
الاغتراب الديني أو الدُّنيوي في الجنس.
وتغيب الآيات القرآنية مع أنها أيضًا بلسان عربي مُبين لا بمفردها ولا من خلال
الأحاديث. وتبدأ الحكم عند العرب بالأحاديث النبوية.
٥٩ فالنَّبي عربي، وأوتي جوامع الكلم. وأحاديثه أمثال عربية محورة ومُكمَّلة
ومُتممة بالتصور الإسلامي مثل «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا». وهي أحاديث تصور حياة العرب
والبيئة البدوية بما بها من إبل ونخيل وخيل وكأنها أحاديث على نمط أمثال العرب. تتَّسم
بالقصر حتى تصبح أمثالًا يسهل تذكرها. ويُمكن تصنيفها طبقًا لموضوعاتها وألفاظها. وكما
بدأ
مسكويه حكم العرب بأحاديث الرسول أنهاها بأشعارهم في أنصاف أبيات. فالأحاديث مثل الشعر.
٦٠ كما تذكر حكم الأنبياء مثل وصايا لقمان لابنه بصرف النظر عن مصادرها إسلامية أو
من الإسرائيليات. وكثير من الحكم غير مشخصة تذكر فقط أنها من كلام الحكماء أو الصوفية
أو
العرب في الجاهلية أو من قديم كلام العرب أو العرب فقط أو الصوفية والنساك أو البعض أو
مجرَّد مبني للمجهول في صيغة «قيل». وغالبًا ما يستعمل العدد والإحصاء في الحكم والأمثال
وقسمة الناس والخصال، فضائل أو رذائل، قسمة ثلاثية أو رباعية أو خماسية والأغلب الثلاثية.
٦١ وتَمتزِج في حكم العرب الواقع بالأسطورة، الحقيقة بالخيال، التاريخ بالانتحال
كما هو الحال في حكم الروم. فالانتحال ليس في الوافد فقط، بل في الموروث أيضًا لأنَّ
روح
الإبداع في الحضارة، وتنسج الحكم والأقوال في أنماط إسلامية مثل وصية قس بن ساعدة لابنِه
على منوال وصايا لقمان لابنه.
٦٢
أما حكم الإسلاميين المحدثين فإنها استئناف لحكم العرب. والعنوان من الناشر مُستقًى
من
النص. والمحدثون من الفلاسفة والعلماء والباحثين من طلب العلم من الإسلاميين. فالإسلاميون
ورثة العرب الذين ورثوا الروم الذين ورثوا الهند التي ورثت فارس. وهم في نفس الوقت موروثون
من أجيال جديدة من طلاب العلم، وتتضمَّن أقسامًا خمسة: وصية وفصلان غير منسوبين إلى أحد
ثم
آداب ابن المقفع ووصاياه ثم كلام الفارابي من وصاياه. وأكبرها كلام ابن المقفع ثم الفارابي.
والخاتمة تضم ثلاثة أقوال لأفلاطون والعامري والجاحظ وقولًا رابعًا غير منسوب إلى أحد.
وأكبرها كلام العامري، وكأن حكم المسلمين المحدثين من ثلاثة، ابن المقفع والعامري
والفارابي، والثلاثة من غير العرب.
٦٣ وهي نصوص طويلة وليس مجرد مجموعة من الأقوال المتفرِّقة، من الحكمة الشعبية
وليست من الحكمة العقلية الرفيعة للكندي وابن سينا. والعجيب أن تعود حكمة اليونان من
جديد،
أفلاطون نموذجًا في الخاتمة مع العامري والجاحظ مما يدلُّ على أن أفلاطون أصبح جزءًا
من
الحكمة الشعبية، ولم يَعُد جزءًا من الثقافة العالمة. قبل الجاحظ ثقافة العرب، وقبل العامري
ثقافة المسلمين. وقد اختارت الخاتمة مُمثلًا لحكمة اليونان وليس للهند أو فارس، ربما
لبيان
مدى التقارب بين المسلمين المُحدثين واليونان بالرغم من أن مسكويه فارسي الأصل. والحديث
عن
طبقات الناس عند الفارابي تدلُّ على رؤية صائبة لفكره كما عرضه في آراء أهل المدينة
الفاضلة. وربما السبب هو الخاتمة ببعض النوادر والحكايات لا يهمُّ مصدرها، اليونان أو
العرب
أو المسلمون المحدثون مما يدلُّ على وحدة الحكمة الشعبية.
٦٤
وابن المقفع فارس أو هندي الأصل.
٦٥ واختياره من المسلمين المحدثين يَدلُّ على أن الثقافة الإسلامية الحديثة لها
جذورها في حكم فارس أو الهند. وهو مترجم «كليلة ودمنة» من الأدب الهندي، وعلم من أعلام
الأدب العربي، ونموذج التقاء حكمة الشعوب. نصوصه مقتبسة من الأدب الكبير. فتجميع مسكويه
من
الفلسفة والأدب والشعر والتصوف. تغلب على حكمه السياسة، نصائح للوالي وللمواطن في علاقاته
مع السلطان والوالي. ولا توجد نصائح مباشرة للسلطان خوفًا أو طمعًا. والنصائح للوالي
أكثر،
وهي الوظيفة العامة والنصائح للمواطن عند السلطان، وعند الوالي وعند النساء. ولا توجد
نصائح
دينية. ويستعمل ابن المقفع السلطان بمعنًى مجازي، سلطان البطن وسلطان اللسان وسلطان الفرج.
السلطة هو اللفظ الموجه. قد تكون مصادر النصائح فارسية أو هندية أو نتيجة لتجارب ابن
المقفع
الخاصة ومحنة البرامكة.
٦٦
ويحدث التراكم الفلسفي الداخلي بإحالة مسكوَيه إلى الفارابي؛ فكلاهما فيلسوف الإنسان
وليس ابن سينا المتعالي عليه. الفارابي وسط بين الفلسفة المتعالِمة والفلسفة الشعبية.
وتتوجَّه وصاياه، وهو من أصل تركي صنو الفارسي، إلى جميع طبقات الناس. فيُحلِّل الأخلاق
تحليلًا طبقيًّا، أخلاق الطبقة العليا وأخلاق الطبقة الوسطى وأخلاق الطبقة الدنيا، العليا
للقهر، والوُسطى للنظام والقانون، والدنيا للطاعة أو المعصية للاستِسلام أو الثورة، والغرض
من هذا التقسيم الطبقي منافسة العليا، والفضل على الوسطى، وعدم الانحطاط إلى الدنيا أي
الصعود الاجتماعي للفرد وليس لإحداث تغيُّرٍ طبقي في المجتمع. ويقوم التقسيم الثلاثي
الاجتماعي الطبقي على قسمة أخلاقية ثنائية لقوى الإنسان العاقلة والبهيمية، وللقانون
المحمود والمذموم، وللدين الله والعالم. أما السياسة فإنها تأمل في النفس وفي أحوال الغير،
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ. وبصرف النظر عن الصحة التاريخية لهذا النص، تاريخيًّا أو منحولًا،
حرفيًّا أم معنويًّا، موجود أو ضائعًا، كاملًا أو ناقصًا إلا أنه يُعبِّر عن روح الفارابي
وتصوره الهرمي للعالم.
٦٧
وأما أبو الحسن العامري (٣٨٠ﻫ) الذي يُمثل مرحلة انتقال من الفارابي إلى ابن سينا
فتُمثل آدابه ووصاياه حكمة المسلمين المحدثين، حملها المسلمون من أصل ثقافي فارسي يجمع
بين
الفلسفة والأدب مثل أبي حيان، وأقرب إلى الأمثال والحكم القصيرة منه إلى النثر والفقرات
الطويلة، ضمن المشروع الحضاري العام لتحويل الموروث إلى حكمة شاملة، تبدأ ببيان على الديانة
وتصحيح الاعتقاد والنسك العقلي والبرهان وخلق الأفعال.
٦٨ والنص مأخوذ من منتخب صوان الحكمة للسجستاني. فالحكمة الشعبية سلسلة واحدة تبدأ
بالسجستاني (٣٣١ﻫ) إلى العامري (٣٨٠ﻫ) إلى التوحيدي (٤٠١ﻫ) إلى مسكويه (٤٢٠ﻫ). وجزء منها
بالفارسية. غايتها الدفاع عن الموروث ضد شبهات المُلحدين واعتراضات الطبيعيين وشكوك
المتكلِّمين ومطاعن أعداء الدين، وهو الدور الذي يقوم به الفقهاء، وفي آخر الحكمة تظهر
الأمثال والحكم والعبارات القصيرة.
٦٩
ولم يشأ مسكوَيه ترك حكم الشعوب مُتجاورة ومتشابهة دون أن يبين طريق وحدتها وكشف
اتفاقها اعتمادًا على الموروث، تأملًا في النفس، واكتشافًا لله، الاتجاه إلى الداخل من
أجل
الاتجاه إلى أعلى، «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ومن الخارج إلى الداخل
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ، بعيدًا عن رجال الدين، واقترابًا من أهل الحكمة. وهنا يظهر فعل القول
في صيغة ضمير المتكلِّم المفرد «أقول». فالهدف هو تغيير العصر، ومن الانغماس في العصر
يتمُّ
اكتشاف النفس، والطريق هو جدل السلب والإيجاب، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، النفس
والبدن، الروح والجسم، الله والشيطان، الطاعة والعصيان. وهي الثنائية الدينية التي تقوم
عليها ديانات فارس، المانوية والمجوسية والزرادشتية والتي أصبحت أساس كل حياة دينية بما
في
ذلك دين التوحيد، والحكمة طريق إلى الله، ورأس الحكمة مخافة الله، والدين هو الحسنات
وحسن
النية، والقول والفعل، وليس دين العقائد والشعائر والحدود والنظم الدين طهارة القلب،
وتُمثِّل الفضائل مثل العقل والعفاف والصبر والرجاء والدين والنصيحة، والبُعد عن الرذائل
مثل البخل والحسد، والسيطرة على الأهواء بدل إن يَظفر الشيطان بها. إرادة الله من الناس
أن
يعرفوه، فإن عرفُوه أطاعوه. وإرادة الشيطان من الناس أن يجهلوه، فإن عرفوه عصَوه. يُحسن
العاقل الثقة بالله، ولا بِرَّ أبلغ من الإخلاص والشكر لله، وتطهير النية من الفساد.
رأس
الفضائل طاعة الله، وإيثار الآخرة على الدنيا. ورأس الكبائر الاستهانة بحدود الله. يحصي
العاقل مساوئ نفسه في الدين والرأي والأدب، ويُكملها بالعلم والدين والأخلاق في الحكمة
الشعبية تتحول الفلسفة إلى نصائح، والحكمة إلى آداب، والنظر إلى عمل، والعقل إلى سلوك.
وتنتقل من الخاصة إلى العامة، ومن الدوائر المغلقة إلى قارعة الطريق.
٧٠
ثم يَفصل مسكوَيه هذا التيار الديني الصوفي الإشراقي الأخلاقي العملي في الأصول الأولى
للموروث، القرآن والحديث. ويختار منها ما يؤيد رؤيته واختياره، اكتشاف النفس من أجل اكتشاف
الله، وهو ما عرف عند اليونان باسم الأفلاطونية.
٧١ كلام الله هو حديث النفس، والأحاديث النبوية يَرويها القلب كما هو الحال عند
الصوفية، وكأنَّ مسكوَيه يكتب رسالة قشيرية أخرى، ويعتمد على تفسيرات الأئمة من آل البيت
مثل محمد بن الحنفية وعلى مُفسرين آخرين مثل سهل بن أسلم العدوي، ومجاهد، والحسن، وهشام
بن عبد الملك، ويونس بن حبيب النحوي، وأبي يزيد البسطامي، والشِّبلي، وعبد الله بن مسعود،
وعبد الملك بن مروان، فبعض الأمويين أتقياء. ويبدو التفسير أقرب إلى التفسير بالمأثور
حتى
ولو كان تفسيرًا مجازيًّا مثل
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا
تَنْهَرْ، أي السؤال ليس عن الطعام بل عن العلم. القرآن به السؤال والجواب،
البداية والنهاية، هو النفس والله والعالم. والله عالم الغيب والشهادة، الآخرة مع الدنيا،
العقل مع الحس. الغيب كل ما غاب عن الحس، غيب على العامة وشهادة الخاصة. ويأتي التفسير
الباطني للقرآن من الصوفية ومن مسكويه مباشرة ومن بعض الأمويين الأتقياء ربما كأحد وسائل
المقاومة الشيعية للحاكم الأموي بسلاح لا يُمكن رده، نفس السلاح الذي تعتمد عليه شرعية
السلطة.
٧٢
وتدور معظم الأحاديث حول نفس المَحاور الثلاثة: معرفة النفس، معرفة الله، ثم معرفة
المجتمع والدنيا، علاقة الإنسان بنفسه أي العمق، ومعرفة الإنسان بالله أي التعالي الرأسي،
ثم معرفة الإنسان بالآخرين أي التعالي الأفقي، ومع معرفة النفس يظهر التفسير الصوفي
للأحاديث، من معرفة النفس إلى معرفة الله، ومن معرفة الله إلى السعادة. فالإنسان موقف
بينه
وبين الله في الزمان. قوة النفس اطمئنان. وبلاؤها تذهبه العافية من الله والزهد طريق
إلى
الله وإلى الناس، والعبادة طريق إلى الجنة. والوحي ليس لجمع المال بل للتسبيح والسجود.
وغض
النظر طريق إلى التقوى على عكس حكمة الهند. فالمرأة ليست فقط موضوعًا بل ذات. والسلطان
ظل
الله في الأرض يأوي إليه المظلوم، إنَّ عدل وجب على الرعية الشكر، وإن ظلم وجب عليها
الصبر
طبقًا للأموية وطاعة الحكام في الثقافة الشعبية ولا يعتمد مسكويه على أحد في تفسير الأحاديث
أو صحَّتها فكلها صحيحة وواضحة.
٧٣
أما التعالي الرأسي فإنه في الظاهر ديني وفي حقيقته كمال فردي واجتماعي؛ إذ لا يُمكن
الفصل بين التعالي الرأسي والتعالي الأفقي، بين الإيمان الديني والكمال الخلقي الفردي
أو
الاجتماعي. في التعالي الرأسي ينزل الكرم والجود، ويُعطي الثواب، ويوفق للطاعة والمغفرة،
والتذكر بالموت، والشكر لله وكأننا في أحوال الصوفية ومقاماتهم، عندئذ يُصبح الدين تقوي
باطنية وحسن طوية بعيدًا عن الشعائر والطقوس والمراسم، السمات المعروفة في الدين الشعبي،
وأحيانًا يقصر الحديث كالمثل، وأحيانًا يطول كرواية مما يفقدها قيمتها في الأثر الشعبي
المباشر، وتختلط الأحاديث بالأقوال المأثورة، وتروي بلا إسناد ودون حكم على درجة صحتها.
والعدد والإحصاء فيها قليل؛ ومن ثمَّ يَصعُب استيعابها وتذكرها.
٧٤
أما الكمال الفردي فإنَّ الأحاديث فيه تركز على يقظة الشعور وطلب العلم وتحقيقه في
العمل والتعبير عنه بسحر البيان، الكمال البدني من حيث الصحة ثم الفعل والتخلص من الرذائل،
البخل والذل، ثم مجاهدة النفس، الدنيا والبخل، ومعرفة قدر الرجال والكمال الخلقي، والتخلِّي
عن الدنيا، والحنث باليمين. والأحاديث أيضًا غير مسندة، ولا تعرف درجاتها من الصحة. وشكلها
الأدبي الغالب هو الجملة الخبرية. ويتطلَّب الكمال الفردي نوعًا من التأويل، وتجاوز الظاهر
إلى الباطن وما يرمز إلى ذلك من حياة البدو ومثل الخيل والنخل، بطون الخيل وظهورها وجذور
النخل وثمارها، والقلة الخيرة والكثرة الضالة، والسهر والنوم، والعقل والإيمان.
٧٥
ويضمُّ الكمال الاجتماعي عدة أحاديث تبدأ بالكمال الفردي ثم بالكمال الأسرى ثم بالكمال
الاجتماعي. ويتمثل الكمال الفردي في الكرم وقول الخير أو الصمت وخشية الله والعلم والعدل
والشكر. وتُبين عدة أحاديث مدى التراحم الأسري، الأخ بأخيه، حقيقة أم مجازًا، والإنسان
بمن
يعول، والاحترام الواجب لرب الأسرة، والتحرُّر من سلطة الولد بحيث لا يبحث على الجُبن
والبخل وطاعة الأمهات، واحترام الأخوات، وتربية الولدان، وصلة الرحم، ورعاية الصبيان.
والمجموعة الثالثة للكمال الإنساني رعاية الأمة، وضرورة الأمانة، وغض الأبصار، ورد السلام،
وهدْي الضال، وعون الضعيف، وعبادة الله، والاعتصام بحبله، وعدم التفرُّق، والنصيحة لولاة
الأمور، وكراهية القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، والتهادي من أجل المحبة،
والمصارحة من أجل البقاء، ورحمة الأعزاء بعد ذل، والفقراء بعد غنًى، والعلماء بعد جهل،
والحب المتبادَل، ودور الأجيال المتعاقِبة، والخدعة في الحرب، وهناك مجموعة أخيرة من
الأحاديث تُوجِّه علاقة الإنسان بالعالم وبالمال حتى لا يخرج عن حدود التعفف. فلا عيب
في
فقر التاجر الصديق. ولا حاجة لما يزيد عن الطعام واللباس والصدقة، وأهمية الفضل للناس
وإيتاء الزكاة. وتُذكَر الأحاديث دون تبويب ودون تفسير وكأنها أمثال شعبية. لا تُسند
ولا
تُبيَّن درجة صحتها، ولا يُنقد متنها مثل «علِّق سوطك حيث يراه أهلك.» والذي يتعارَض
مع
أحاديث الرحمة والتعاطف بين أفراد الأسرة.
٧٦
ولا يَقتصِر على الاستشهاد بالقرآن والحديث بل يمتد الاستشهاد إلى ما وراء ذلك بنصوص
الوحي القديم. فالحكمة الخالدة واحدة. والوحي واحد، لا فرق بين أنبياء العهد القديم ونبي
العهد الجديد وخاتم الأنبياء لمعرفة النفس واكتشاف الله استئنافًا لرُوح إخوان الصفا
ولمقاصد الصوفية والترجمة العربية القديمة عن اللغة الأصلية أفضل من الترجمات اللبنانية
الحديثة عن اللغات الأوربية، وأحيانًا يتم التمييز بين الوحي القديم من ناحية، والتوراة
والزبور من ناحية أخرى، ويتم عرض ذلك كله داخل حكم العرب قبل الإسلام وبعده. كما تتم
الإحالة إلى الكتب المنزَّلة. والمعنى المذكور وارد في عديد آخر من النصوص الدينية
والدنيوية، الإلهية والبشرية.
٧٧
ويخصُّ السيد المسيح عيسى ابن مريم بأقوالٍ منه في معرفة النفس وإنقاذها أفضل من
كسب
العالم وخسارة النفس، وعدم النطق إلا بالخير، وعدم الاستعجال بالأجر في الدنيا، وعدم
الارتباط بأي شيء فيها حتى ولو كانت قطعة حجر. وكل ذنب يُغفر لصاحبه، ومن يستبطئ الرزق
يفتح
الله عليه الدنيا. فليس لرجل من قلبين في جوفه. الغني يخاف الموت، والفقير يطلبه ويشتاق
إليه.
٧٨
وأحيانًا يذكر بعض الأنبياء على الإطلاق دون تحديد من الوحي القديم أو من الوحي الجديد
عن اعتراض الإنسان إذا ما استخار الله واستجاب الله لاستخارته واختار، وأن مَن قصَد الله
وصل إليه. وأحيانًا يتحدَّد النبي داود حين يطلب الله منه أن يطهر ثيابه الباطنة لا
الظاهرة. فالجنة خير من الدنيا، وكشف الحجاب أفضل من الجنة، وبشرى للمذنبين؛ لأن الله
يغفر
لهم، وإنذارٌ للصدِّيقين لو دخلهم العجب والخُيَلاء بأعمالهم. كما يَقبل الله الثورة
على
الأنبياء ونقدَهم احترامًا لاختيار الإنسان الحر وتصديقًا للنبي، كما أوحى الله لبعض
الأنبياء وحدة الدِّين والعقل والعلم؛ أي الوحي والعقل والطبيعة. واختيار العقل وحده
يَرفع
الدِّين والعلم، ويكون بلا وحيٍ وبلا طبيعة، بلا ضَمان وبلا موضوع، لذلك لا يتَّفق العقل
والسُّكر. فالسُّكر يُذهب العقل ويقضي عليه، وواضح أنها كلها أقوال مُنتحَلة بدليل عدم
تحديد الأنبياء والكتاب، وإنما هي معانٍ وقيم إسلامية على لسان السلطة النبوية.
٧٩