معركةٌ في الظلام!
لم تكن «إلهام» و«زبيدة» في حاجة إلى أيِّ تحذير أمام الخطر المحدق بهما، وفي حركة واحدة بارعة تشابكَت أيديهما وقفزتَا لأعلى فطاشَت كلُّ الرصاصات التي صُوِّبَت إليهما.
وما إن لامسَت أقدامُهما الأرضَ ثانية، حتى تدحرجتَا كما لو كانتَا لاعبتَين من لاعبات الأكروبات الماهرات، واستقامتَا معًا وقد صوَّبَت كلٌّ منهما ضربةً قوية إلى أقرب الأشخاص لهما … وترنَّح اثنان من المسلَّحين وتهاويَا إلى الخلف، وطارَت «إلهام» و«زبيدة» بنفس السرعة لتُصيبَا اثنَين آخرَين …
لكن رصاصة مرقَت من جوار «إلهام» وخدشَت كتفَها، فقفزَت بحركةٍ بارعةٍ لتحتميَ خلف أحد الأعمدة الصخرية في المكان ومعها «زبيدة» … تعالَت طلقاتُ الرصاص التي انهمرَت على المكان وقد حوصرَت «إلهام» و«زبيدة» في مكانهما، وطلقات الرصاص تقترب وتقترب … وهمسَت «زبيدة» في قلق: لقد حوصرنا ولا أملَ لنا …
لكن «إلهام» تأملَت المكانَ حولها وهمسَت لرفيقتها: إنَّ لديَّ فكرة.
في الحال شرعَت الاثنتان في تنفيذها … وعندما أطبق الرجال الستة بمدافعهم الرشاشة من الخلف توقَّفوا ذاهلين؛ فقد كان المكان خاليًا من الشيطانتَين.
هتف أحدُ المسلحين في غضب: أين ذهبَت هاتان الفتاتان؟
جاءَته الإجابةُ سريعًا على شكلِ شيءٍ سقَط فوق رأسه من أعلى فأطاح به بعيدًا … كانت هي «إلهام» التي استولَت على سلاحه بعد أن تعلَّقَت بأعلى الكوبري، وسقطَت في اللحظة المناسبة ومعها «زبيدة».
وسرعان ما كان الرصاص ينطلق من مدفعَي الشيطانتَين. وصرخ رجالُ العصابة في ألمٍ وهم يزحفون متراجعين بعد أن أصابَهم الرصاص … ثم تلاشَت أصواتُهم بعد لحظةٍ وتعالَى صوتُ هديرِ محرك سيارة يمرق مبتعدًا.
مسحَت «زبيدة» حبَّات العَرَق التي التمعَت فوق جبهتها قائلةً: إنَّني لا أصدِّق أنَّنا تمكَّنَّا من هزيمة هؤلاء الأشرار المسلحين.
قالَت «إلهام» باسمةً: ولِمَ لا؟ … لقد أثبتنا لهم أنَّنا لسنا بالصيد السهل، ولا شك أنَّ الجولة التالية ستكون أعنف.
قطَّبَت «زبيدة» حاجبَيها قائلة: ولكن ما يُدهشني هو اختفاءُ «سالي» الذي حدث بطريقة مفاجئة أثناء المعركة … ولا أظن أنَّها خافَت على حياتها فبادرَت بالهرب.
إلهام: معك حقٌّ يا «زبيدة» … ولا بد أنَّ اختفاءَها كان لسببٍ ما نجهله.
زبيدة: إنَّ ما حدث من «المرأة الجهنمية» يدل على تخطيطٍ بارعٍ وأنَّها أخطرُ مما تصورنا وأنَّ عصابة «سادة العالم» لها من الأتباع والأعوان في هذه المدينة أكثر مما قدرنا وإلا ما أمكنَهم تدبير تلك الحوادث بهذه السرعة.
إلهام: إنَّني أشعر ببعض التعب بعد سفرنا الطويل، وأرغب في الحصول على قسط من النوم. وفجأة، جاء صوت من الخلف يقول: فليكن هذا هو نومكما الأخير.
دوَّت طلقات الرصاص تشقُّ السكون … فارتمَت «إلهام» و«زبيدة» ثانيةً على الأرض، وراحتَا تزحفان مقتربتَين من أيِّ ساتر تحتميان به.
وقالَت «زبيدة» في غضب: هذه الشيطانة … لقد ظننا أنَّها غادرَت المكان ولكنَّها كانت تختفي خلفنا طوال الوقت.
إلهام: لقد حان الأوان لتلقين هذه الشريرة درسًا، لن تصلح بعده ولا حتى لتمشيط شعرها. واندفعَت «إلهام» في قلب الظلام تجاه المكان الذي انطلق منه الرصاص، وصاحَت «زبيدة» في قلق: حاذري يا «إلهام» … قد يكون كمينًا.
لكن «إلهام» توقَّفَت لاهثةً، وقد انكشف لها المكان الذي انطلقَت منه الرصاصات خاليًا لا أثر لأحد فيه …
ثم تنبَّهَت إلى نفس الخدعة، وبطرف عينَيها لمحَت بأعلى «المرأة الجهنمية» مختفية فوق حاجز الكوبري، فألقت «إلهام» بنفسها في الهواء وطارَت بعيدًا عن مكانها الذي مزَّق فراغه عشرات الرصاصات.
ولكن كل شيء هدأ عندما تعالَت أصواتُ سرينة سيارات الشرطة التي اندفعَت تطوق المكان من كل اتجاه.
أسرعَت «زبيدة» إلى «إلهام» وهمسَت لها في قلق: لقد هربَت «سالي» ووصل رجال الشرطة.
فأجابَتها «إلهام» غاضبة: إنَّ رجال الشرطة في هذه البلاد لا يصلون إلى مكان الجريمة إلا بعد أن يكون المجرم قد هرب!
زبيدة: فلنُسرع بالتخلص من أسلحتنا وإلا فسنواجه مشكلة مع رجال الشرطة.
أسرعَت الاثنتان تُخفيان مدفعَيهما الرشاشَين تحت بعض أكوام القمامة في المكان، واندفع عددٌ من رجال الشرطة شاهرين مسدساتهم وهم يصوِّبون كشافاتِهم اليدوية نحو «إلهام» و«زبيدة»، وصاح أحدهم محذِّرًا: ارفعَا أيديَكما ولا تحاولَا المقاومة وإلا فسنضطر لإطلاق الرصاص!
فصاحَت «إلهام» في سخط برجال الشرطة: وهل تخلَّصنا من اللصوص والمجرمين ليُطلقَ علينا رجالُ الشرطة الرصاصَ بدورهم؟
حدَّق رجال الشرطة في الشيطانَتَين بدهشة، وسألهما أحدهم: ماذا تفعلان هنا؟
زبيدة: هل تظننا جئنا لاستنشاقِ بعضِ الروائح الكريهة في هذا المكان المظلم الخرب! … لقد كنَّا نستقل أحد الباصات إلى قلب المدينة ولكنه توقَّف في هذا المكان بحجة نفاد الوقود وبعدها اندفع هاربًا لتتسلَّمنا عصابةٌ من أوغاد ولصوص هذه المدينة وأرادوا سرقةَ نقودنا وحقائبا.
تساءل أحد رجال الشرطة في شك: وهل سرقوا منكما شيئًا؟
إلهام: لا … فإن الوقت لم يتَّسع لهم ليفعلوا ذلك، بعد أن أعطيناهم علقة ساخنة.
تأمل رجال الشرطة «إلهام» و«زبيدة» في شكٍّ، وقال أحدهم: أنتما أعطيتما بعضَ المجرمين علقة سخنة … يا لَها من نكتة.
أشار بإصبعه إلى «إلهام» و«زبيدة» قائلًا: إنَّ شيئًا ما لا يروقني في كلِّ ما حدث في هذا المكان … فأصواتُ طلقات الرصاص التي انطلقَت كالمطر وسَمِعها الناس على مسافة عدة كيلومترات ووجود فتاتَين في نفس المكان دون إصابةٍ واحدة، كلُّ هذا يجعلني أتشكك في الأمر.
قالت «إلهام» ساخرة: وهل تظنُّ أننا كنَّا شركاءَ لهؤلاء المجرمين واختلفنا معهم على تقسيم الغنائم فرُحْنا نتبادل في إطلاق الرصاص على سبيل التهديد؟
قطَّب رجل الشرطة حاجبَيه قائلًا: سوف نرى الحقيقة في مركز الشرطة … هيا معنا.
تبادلَت «إلهام» و«زبيدة» نظراتٍ متفهمة … ثم جلسَت الاثنتان داخل إحدى سيارات الشرطة التي انطلقَت بهما تنهبُ الطريق.
مدَّ أحدُ رجال الشرطة يدَه بقيدَين حديدَين نحو معصمَي «إلهام» و«زبيدة»، فصاحَت «إلهام» في غضب: ماذا تفعل بنا … إنَّنا ضحايا ولسنا مجرمين.
أجابها الضابط في خشونة: سوف نبحث عن الحقيقة في مركز الشرطة، وعندما تثبت براءَتُكما فسوف نُطلق سراحكما.
أحكم رجالُ الشرطة وضعَ القيود الحديدية في معصمَي «إلهام» و«زبيدة». فهتفَت الأخيرة في غضب: سوف نشكو إلى قنصلية بلادنا من تلك المعاملة المهينة التي لاقَيناها من رجال الشرطة في هذه البلاد.
فأجابها الضابط ساخرًا: لا أظنُّ أنَّكِ ستتمكنين من الشكوى لأي إنسان أيتها الجميلة. تبادلَت «إلهام» و«زبيدة» النظراتِ المندهشة، وكانت سيارة الشرطة تشقُّ طريقَها خارج الأحياء السكنية وتتوغَّل في منطقة مقفرة نائية بأطراف «مانهاتن»، وقد ظهر الشاطئ بعيدًا تنعكس فوق مياهه الأضواء المتألقة من ناطحات السحاب.
تساءلَت «إلهام» في شك: إلى أين تأخذوننا؟
فرفع ضابط الشرطة سلاحَه في وجهها قائلًا بخشونة: أنا لا أحب الأسئلة الفضولية … وعادة لا أحدَ يحاسبني عندما أُطلق الرصاص على أحد المتهمين.
لاذَت «إلهام» بالصمت، وقد وضح لها أنَّ ذلك الضابط يمكن في حالة استثارته أن يُنهيَ حياتَها وزميلتها دون أن يرمش له جفنٌ، وتساءلَت في قلق: هل يمكن أن يكون هذا الضابطُ مشتركًا في مؤامرة مع «سالي» بحيث يُلفق لها وﻟ «زبيدة» تهمةً تنتهي بسجنهما لبضع سنوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية؟
تقابلَت نظراتُها مع «زبيدة» … كانت هي أيضًا قد فكَّرَت في نفس الخاطر …
توقَّفَت سيارة الشرطة أخيرًا على حافة الشاطئ، وغادر ضابط الشرطة السيارة وفوق شفتَيه ابتسامة غامضة.
ومن بعيد لمعَت كشافاتُ سيارة قادمة قد أضاءَت أنوارها عتمة المكان وحوَّلَته إلى نهار … وغادر السيارة قائدها.
واتسعَت عينَا «إلهام» و«زبيدة» من هول المفاجأة. كان قائد السيارة هو «المرأة الجهنمية». وبدَا واضحًا للشيطانتَين أنَّ ما حدث كان مؤامرةً جهنمية لا تخطر على البال، وأنَّ رجال الشرطة لا شك مزيفون أيضًا، وأنَّ حيلة «المرأة الجهنمية» قد جازَت عليهما أيضًا.
وصاحَت «إلهام» في «زبيدة»: إنَّها مؤامرة … إنَّ رجال الشرطة هؤلاء مزيفون وهم أعضاء في عصابة «سادة العالم» مع تلك الشيطانة «سالي».
زبيدة: لنُسرع بمغادرة هذه السيارة.
لكن الأبواب المغلقة من الخارج استعصَت على أيديهما المقيدة … ودقَّ قلب «زبيدة» عنيفًا وهي تتساءل عن المصير الذي ينتظرها مع «إلهام»، وما الذي تنوي تلك الشيطانة الشريرة أن تفعله بهما؟
اقتربَت «سالي» ببطء، ثم وقفَت تحدِّق في «إلهام» و«زبيدة» من الخارج عبر زجاج السيارة المصفحة، وقد تلاعبَت فوق شفتَيها ابتسامةٌ قاسية ساخرة إلى أقصى حد …
ووضح ﻟ «إلهام» أنَّ تلك المعركة التي دارَت تحت الكوبري المظلم لم تكن بهدف قتلهما بل لإقناعهما بركوب سيارة الشرطة المزيفة حيث ينتظرهما مصيرٌ آخر.
وقهقه ضابطُ الشرطة المزيف من الخارج، وهو يقول ﻟ «سالي»: لقد أخبرتهما أنَّهما لن يتمكنا من الشكوى لأيِّ إنسان عمَّا حدث لهما … فالموتى عادة لا يشكون.
أشار إلى بقية رجال الشرطة المزيفين، فاندفعوا نحو السيارة المقفلة يدفعونها ويحرِّكونها تجاه الشاطئ المنحدر لأسفل.
اتسعَت عينَا «إلهام» و«زبيدة» من المفاجأة المذهلة، وقد وضح لهما النهاية التي تنتظرهما. ثم سقطَت السيارة في قلب المياه من أعلى في عنف … وراحَت تغوص ببطء. وراقبَت «سالي» هيكلَ السيارة حتى اختفى بأكمله في قلب الماء … وأمسكَت بمعصمها تُراقب عقربَ الدقائق وهي تقول: لسوف تتسرَّب المياه إلى داخل السيارة وتملؤها خلال ثلاث دقائق فقط فيموت مَن بداخلها مختنقًا بالمياه.
ورفعَت وجهَها، وهي تُضيف بصوت شيطاني: ولسوف ننتظر خمس دقائق أخرى احتياطًا … ثم انفجرَت في ضحكة عالية صاخبة هيستيرية … ضحكة ذئبة تجد متعتَها الوحيدة في القتل وسفك الدماء.
خفتَت ضحكتها في قسوة، وهي تقول: الآن لم يَعُد بإمكانِ أيِّ إنسان إيقافي عما أريد … ولسوف أضع قنبلةً لكلِّ عربي في هذه البلاد، حتى يغادروها جميعًا عائدين إلى بلادهم … أو إلى الجحيم!