هنا … وهناك
تفسير حلم١
صوت السودان
شعر الأسُود
القمر والظلام
صداح الأثير٥
•••
•••
•••
•••
إلى المستمع العربي بلندن٧
•••
•••
بين التعب والراحة
قال المعري:
ويقول صاحب الديوان:
هذا هو التاريخ
النقد
الظن
رأي الناس
بين همٍّ وسآمة
الطيش والحزم
يا كتبي
في ختام الجزء الأول من الأجزاء الأربعة المجموعة في مجلد واحد قصيدة بهذا العنوان، جاء منها هذه الأبيات:
وختمت القصيدة بهذا البيت:
والقصيدة الجديدة في هذا الديوان تشير إلى تلك الأبيات بما ورد فيها من المقابلة، وهذه هي:
عجز أو قدرة
جواب جميل
قال جميل بن معمر صاحب بثينة:
وأجيب بلسان أحد النوام:
وقد سأل جميل بلسان الحال:
وقد أجيب بذلك اللسان:
الفقير
ويلنا
سيان
أتمنى
الصرف والمزيج
خداع النفس
كيمياء وصيرفي
قال ابن الرومي:
ولم يقل:
جنة الخيام
•••
•••
•••
•••
•••
•••
بيجو
«… صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية، كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ.
وستبقى ما قُدِّر لها البقاء.
وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف، يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي «بيجو» الذي فقدناه هناك.
وإني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوا من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل، وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. فكم من مبجَّل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا، وكم من محقَّر بينهم، ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار.
وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الجديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين. فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أيامًا في القاهرة، وأيامًا في الأسكندرية من كل أسبوع، ولم أصطحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الرحلة الثانية، ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف؛ اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة، وأن أعود إليه كل أسبوع، ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها؛ لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في المرحلة الثانية، وزاده إصرارًا على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد طاهينا القديم، الذي يعرفه قراء كتابي «في عالم السدود والقيود».
والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يُكثر الصلاة والوضوء، ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار. وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تَبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى، فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا «يا شيخ أحمد»، فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد.
فلما استحال التوفيق بينهما، واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين في الذهاب والإياب، وأصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له يتألف منها تاريخ وجيز، ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم، الذي كان فاشيًا فيها، واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكانًا أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه.
وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي، وخدش يكاد لا يبين. ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعًا في ركنه يرفع إليَّ رأسه بجهد ثقيل، وينظر إليَّ نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار، أحسَّ المسكين وطأة الموت، فتحامل على نفسه وخطا من حجرته، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته، وفتحت له وهو لا يزيد على النظر والسكوت.
كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنةٍ لوجوده حتى وجد، وشاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة؛ ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به، وعطف عليه لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته. ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصحبها أكثر من سنتين.
سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى وسيزول منها ما يزول، ولكني لا أحسبني ناسيًا ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل، يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذرًا كافيًا لإقلاق صديقه.
ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا يُنسى، فإن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظًّا من الخلائق الإنسانية؛ لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيدًا من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب …»
•••
… أنا أكتب هذا المقال عن «بيجو»، وهو ينظر إليَّ ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى، ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره. وكل ما يدريه أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.
ففي كل مكان في البيت يراني مستعدًّا لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته. أو يراني مستعدًّا للإشارة إليه واستدعائه، فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة، وأحييه بعبارات التودد والمساجلة … ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب، فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسائل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلَّما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه، وغاب هنيهة، ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء، ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه، ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبطونه.
وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إليَّ قليلًا، ثم غادر المكان الملعون يائسًا عابسًا دون أن يلح في الانتظار والمناورة؛ لأنه تعَلَّم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبُّر ولا تأمُّل ولا إطالة، والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين.
وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته، فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به مناديًا: بيجو بيجو تعال! إن كتابتي اليوم تعنيك، ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال، كأنه يريد حقًّا أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذي يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون، كما ظننته لأول وهلة.
ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة؛ لأنه هو والتمزيق في عُرفه شيء واحد، وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب، وأرسلته في الدهليز وعدت إلى المكتب فأقفلته، ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب.
ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي «بيجو» ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوى والاغتصاب، أو كلب صديقي العزيز «فيفي» الذي لا يجاوز السنتين إلا منذ شهرين. ولا إخاله إلا مطالبي به قريبًا بعد أن زال الموجب لإقصائه، وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك من مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.
والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما، كما افترق فيفي وصديقه بيجو. ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها — أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها — فمعاذ الله أن يُتهم كلب بخيانة الأصدقاء.
كان بيجو يرى «فيفي» على سريره ساكنًا من التعب والإعياء، فلا يحسب أن شيئًا تغير بينه وبين مولاه. ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة ومولاه في شاغل عن ذلك، ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلًا أهم من تلك الخدمات المرفوضات.
وإذا أقبل الطبيب وصرخ «فيفي» من مقاربته وجسه وفحصه، كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء، فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر، وإذا بأنياب «بيجو» توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يُبكيه، أما إذا ربطوه اتقاءً لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه.
لهذا عوقب «بيجو» على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه أثناء توعكه وانحراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه.
وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح «بيجو» شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالًا لم يفرضها عليه أحد، ولكنه يغضب ويتذمر إذا قاطعته فيها أو عوَّقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقًا عاطلًا لا يصلح لعمل، ولا يؤمَن على واجب … عرف عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه، فتظاهر بعضِّه والوثوب عليه.
ومن عجائب ذكائه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب، ولم يفعل كما تعوَّد أن يفعل حين يسمع جرس التليفون. مع أن جرس الباب يدق في المطبخ، حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه، ولعله عرف أن فتح الباب المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على إثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات.
ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنسانًا، ولا حيوانًا يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب، فيعدو أمامي ويعود إليَّ ولا يزال يرقص، ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه. ألأجل الطعام يهش لي «بيجو» هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التأليف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلُّقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضًا في أن الكلاب تفهم للمودة أسبابًا غير الطعام، وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع.
وأوضح دليل على ذلك أن «بيجو» يعتبر نفسه تابعًا لمولاه «فيفي»، ولا يعتبر نفسه تبعًا لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما «فيفي» فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه، أو يضع أصبعه في عينيه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله، ولا يفتأ متعلقًا بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.
فلما زارني «فيفي» مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخف «بيجو» إلى الأب الكبير، الذي يُعنى بإطعامه وإيوائه ويشمله بمودته. غير أنه التفت أول ما التفت إلى «فيفي» العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه، ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنينًا من فرط حنينه وفرحه، وجهدنا جهدًا شديدًا في التنحية بينه وبين مولاه الصغير؛ لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الاطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور. فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب، ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجاراة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعًا للطفل، ولا يحسب نفسه تابعًا لأبيه؟ إنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير؛ ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة، والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب.
ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن «بيجو» لا يطيق «الطاهي» أحمد حمزة، ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على اسمه حتى يحسبه تهديدًا له بالعقوبة والإقصاء … وهو مع هذا يألف فرَّاش المنزل «محمدًا»، ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. فلِمَ كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه «محمد» بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحيانًا، وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي «أحمد حمزة» يتحاشى «بيجو» خوفًا من النجاسة، فيشعر «بيجو» بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.
ومن إدراكه «للمعاني» الفكريه أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها، فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضبًا أو قاصدًا لعقابه. ولكنه إذا التفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسُّل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير الضرب وألمه، وهو استياء سيده وإعداده له عدة العقاب.
والخلاصة أن «بيجو» مخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يمقتها ويستثقل ظلها؛ لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة، وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.
يقول علم النفس إن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجح من تبادل الأفكار، وبيجو يؤكد لي ذلك؛ لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلمًا من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك. وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعليم؛ لأنها عاشرت الإنسان طويلًا فاتصلت بينه وبينها العاطفة، وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.
ويقول علماء الاجتماع من أنصار «الفاشية» إن الغرائز لا تتبدل وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة، وبيجو يدحض ذلك أيما إدحاض؛ لأنه قد تحدَّر من سلالة الذئاب، فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحِملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.
ويعد «بيجو» بحق من أحسن الشُّرَّاح للعالم الروسي «بافلوف» صاحب التجارب المشهورة في إخوان بيجو من الكلاب الروسية، فإنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلَّب كذلك كلما دق الجرس، ولو لم تصحبه رؤية طعام.
فبنى على ذلك مذهبه في مقارنات العواطف، ومصاحبات الشعور وظواهره الجسدية.
وجاء علماء النفس والتربية، فاستفادوا من ذلك فوائد شتى في علاج الخوف والجشع والعادات الذميمة التي يصعب علاجها في بعض الأطفال، فجعلوا يقرنون الشيء المخيف بالشيء المحبوب؛ ليعوِّدوا الطفل أن يسكن إليه ولا يخشاه، ويقرنون الشيء المرذول الذي يحبه الطفل بالشيء المزعج الذي يقصيه عنه وينفره من إتيانه؛ ليقلع عن ذميم الخلال بداهة وعفوًا بغير أمر ولا إلحاح.
بيجو خير مفسِّر لهذا المذهب النافع الذي كان الفضل الأول فيه لواحد من أبناء جنسه، فقد عهدته في منزله الأول، وليس أبغض إليه من السلسلة والطوق؛ لأنهم كانوا يقيدونه بهما في حديقة الدار كلما أضجرهم بعبثه وفضوله.
فلما جاء عندي وليس للمنزل حديقة واسعة أُطلقه فيها أصبحت السلسلة والطوق من أحب الأشياء إليه، وأدعاهما إلى طربه وابتهاجه؛ لأنه تعوَّد كلما رُبط بالسلسلة والطوق أن يخرج مع الخادم لغشيان الطريق، وقضاء ساعته المنذورة للمرح والرياضة في الخلاء.
ولبيجو فنون أخرى يشارك في تفسيرها وتفهمها، وفضائل شتى يتبرع بهداياها ومزاياها، وإن في بعض هذا لما هو حسبنا من تقدير للأستاذ بيجو، والصديق بيجو والزائر الكريم بيجو الذي نخشى أن نسطو عليه لفرط ما نستفيد منه ونأنس إليه.
والآن وقد عرف القارئ من هو «بيجو» لا أراني بحاجة إلى اعتذار من الحزن عليه، والوفاء لذكراه، فإنه لم يخطئ في وفائه ولم يخطئ في خلقته. ولم يخلق إنسانًا فدنس الإنسانية بالغدر، ولكنه خلق كلبًا فشرَّف الحيوانية بالوفاء.
بيجو
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••