الحالة الدولية في العالم عند تولي الإسكندر
(١) مملكة مقدونيا وبلاد الإغريق
على إثر موت «فليب» المقدوني خلفه ابنه الإسكندر على عرش مقدونيا، وكانت تهدده الأخطار من كل النواحي في داخل البلاد وخارجها، وكان أول ما وجه همه إليه هو بلاد اليونان التي قابلت موت والده «فليب» بهتافات الفرح والسرور لأنه سلبها حريتها، ولقد بلغ بأهلها الفرح إلى أنهم أصدروا منشورًا ينص على تعظيم قاتل والدها «فليب الثاني» أخذًا باقتراح الخطيب اليوناني المفوه «دموستين».
ولا غرابة في أن نرى على إثر إعلان موت «فليب» أن المدن اليونانية واحدة بعد أخرى تطرد الحاميات المقدونية من أراضيها وتنفض عن نفسها عبء نير حكم الأسرة المقدونية التي كان على رأسها وقتئذ الإسكندر، غير أن الأخير أخذ يهاجم المدن المنشقة مدينة بعد أخرى حتى أخضعها لسلطانه وأعاد فيها النظام والأمن إلى نصابهما، وبعد أن تم له النصر وهدأت الأحوال انتخبته المدن الإغريقية قائدًا عامًّا عليها ليقود جيوشها لمحاربة بلاد الفرس التي كان والده قد بدأ فعلًا في غزوها، ولقد كان مرمى آمال الإسكندر ومنتهى ما تطمع إليه نفسه عندما قرر الزحف على بلاد الفرس أن يصبح في نهاية أمره على رأس بلاد «هيلاس» بوصفه بطلًا من نسل البطل الإغريقي «أشيل» وأن يصبح خليفته مفضِّلًا ذلك على لقبه «ملك مقدونيا»، ولكن صادفته صعاب كثيرة على الرغم من أن المدن الإغريقية المغلوبة على أمرها قد أمدته بِفِرَق من جنودها كما جعلته قائدها الأعلى، ولكنَّ كثيرًا من هذه المدن لم تكن جادة في ولائها له، وسنرى أن الحلف الذي كونه الإسكندر من مجموع هذه المدن كان في الواقع مقدمة حسنة ساعدت على انتشار الحضارة الهيلانية التي شاءت الأقدار أن يكون انتشارها على يد الإسكندر الأكبر، ومن ثم كانت المدن الإغريقية تعرف به رسميًّا بوصفه الممثل للشعب الإغريقي بكل معنى الكلمة.
(٢) متاعب الإسكندر العائلية
آل الملك بعد «فليب» إلى ابنه «الإسكندر» وكان أول عمل داخلي قام به بين أفراد أسرته هو أنه تخلص بالاشتراك مع والدته من زوج أبيه «كليوبترا» ومن والدها وابنها، فقد أمر بقتل «أتالوس» في آسيا، ولكن الإسكندر لم يكن المسئول عن قتل «كليوبترا» وابنها الطفل؛ إذ إن ذلك كان من عمل «أوليمبياس» والدته التي كانت تتعطش إلى الانتقام، فأوعزت بذبح الطفل في حجر أمه وأجبرت «كليوبترا» على أن تموت مخنوقة بحزامها.
زحف «الإسكندر الأكبر» بعد ذلك بجيشه في ربيع عام ٣٣٤ق.م لغزو بلاد الفرس وكان غرضه فتح بلاد الفرس وإنزال عاهلها العظيم عن عرشه ليعتليه هو، وقد كانت مراحل فتحه ثلاثًا؛ الأولى فتح «آسيا الصغرى»، والثانية فتح «سوريا» و«مصر»، وهذان الفتحان كانا مقدمة لفتحه الثالث، وهو الاستيلاء على «بابل» و«سوس»، وسنرى أن أطماعه لم تقف عند هذا الحد.
والواقع أن بداية فتوح «الإسكندر» المنقطعة القرين كانت نهاية عهد قديم وبداية فصل جديد في تاريخ العالم، وذلك أن غزو بلاد الإغريق على يد «أكزركزس» قد فتح مرحلة جديدة في النضال العالمي بين الشرق والغرب في حين أن فتح «الإسكندر الأكبر» للإمبراطورية الفارسية كان فيه القضاء على هذه المرحلة في هذه التمثيلية التاريخية، والواقع أن الجائحة التي نزلت بالإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر الأكبر كان تعمي وتصم، ولا غرابة في ذلك فقد كانت مملكة الفرس كما شرحنا في الجزء الثالث عشر من هذه الموسوعة غاية في الضعف والوهن والانحلال (راجع مصر القديمة الجزء الثالث عشر) وقد زحف الإسكندر على رأس جيش قوامه ثلاثون ألف راجل وخمسة آلاف فارس، بدأ الإسكندر بفتح «آسيا الصغرى» التي كان يدافع عنها الفرس بجيش عظيم يبلغ نحو أربعين ألف مقاتل فاكتسح الإسكندر الجيش الفارسي أمامه واستولى على بلاد «آسيا الصغرى» الواحدة تلو الأخرى، ووضع في أقاليمها النظام، وتُوِّجَت انتصارات الإسكندر بفوزه الساحق في موقعة «أسوس» التي كان من نتائجها أن بدأ «دارا» في مفاوضة الإسكندر في شروط صلح بعد أن أخذ أمه وزوجه أسيرتين، ولكن الإسكندر لم يقبل منه إلا التسليم التام دون قيد أو شرط، ولقد كان في استطاعة الإسكندر أن يتابع زحفه أثر «دارا» إلى قلب بلاد الفرس نفسها ويقضي عليه قبل أن يؤلف جيشًا آخر لمحاربته، ولكن الإسكندر أظهر عظمته في اتباع خطة تنطوي على حسن روية وتدبر وبُعْد نظر، وذلك لأن أسطوله لم يكن قويًّا بدرجة كافية، وثانيًا أنه من بادئ الأمر رأى أن يُخضِع أولًا «آسيا الصغرى» ثم يُتبِع ذلك فتح سوريا ومصر، وها نحن نراه الآن يَعُدُّ من الحنكة وسداد الرأي أَنْ يستولي على سوريا ومصر قبل أن يسعى إلى فتح بلاد «ما بين النهرين» كان أعظم هدف له في سوريا هو الاستيلاء على بلاد فينيقيا، وبخاصة مدن «صور» و«صيدا» و«أرادوس» وقد خضعت «صيدا» للإسكندر دون عناء، ولكن «صور» قاومت جيوش الإسكندر مقاومة عنيفة.
(٣) الزحف على مصر
وكان أول عمل قام به الإسكندر في أرض الكنانة أنه وضع حامية من جنوده في «بلوز» وأمر أسطوله بالصعود في النيل إلى «منف» وزحف الإسكندر بجيشه البري كذلك إليها، وهناك سلم الشطربة «مازاكس» نفسه كما سلم كل ما في المدينة من كنوز ومتاع، فاستولى الإسكندر على ثمانمائة تالنتا من الذهب وعدد كبير من الأثاث الفاخر، أمضى الإسكندر بعد ذلك بعض الوقت في «منف» حيث تُوِّج ملكًا على مصر في احتفال عظيم قدم في خلاله ضحايا فاخرة للآلهة عامة كما قدم قربانًا للعجل «أبيس» وأقام مباريات رياضية وموسيقية هناك، وأحضر من بلاد الإغريق أشهر المغنين لهذه المباريات بمناسبة عيد تتويجه فرعونًا على مصر، وبذلك أظهر الإسكندر نفسه في دور السياسي الذي يرغب في التقريب بين الشرق والغرب، ولا عجب في أن يقيم احتفال تتويجه في منف؛ فقد كانت منذ أقدم العهود المكان المختار لتتويج فراعنة مصر، وقد ظلت كذلك حتى نهاية العهد الفرعوني، وبعد الاحتفال بتتويجه انحدر الإسكندر من منف في أقصى فروع النيل وهو الفرع الكانوبي حتى مصبه ومن هناك أقلع في اتجاه غربي على الشاطئ ليشاهد كلًّا من جزيرة «فاروس» التي اشتهرت في شعر «هومر» وبحيرة مريوط.
(٤) تأسيس مدينة الإسكندرية
وعلى الرغم من أننا وجدنا الإسكندر الأكبر عام ٣٣١ق.م كان يشعر بضرورة وجود الوحدة بين الشرق والغرب، فإنه كان في قرارة نفسه قبل كل شيء مقدونيًّا لحمًا ودمًا، كما كان في الوقت نفسه القائد الأعلى للشعب الإغريقي وبطل أوروبا المناهض لآسيا، ولكن لما كانت فتوحه قد امتدت بعيدًا في قلب الشرق فإنه على أغلب الظن أخذ يشعر في أعماق قلبه أنه هو خليفة الملك العظيم عاهل الفُرس، وأن بلاد الإغريق ومقدونيا لم تكن إلا جزءًا صغيرًا من ممتلكاته المترامية الأطراف، ومن أجل ذلك فطن إلى أن وجود ميناء على البحر الأبيض المتوسط تربط مباشرة بين أجزاء أملاكه الآسيوية والأوروبية مثل «صور» يمكن أن يكون أكثر فائدة من ميناء آخر بعيد جدًّا مثل الإسكندرية، والواقع أنه عندما لاقى الإسكندر حتفه عام ٣٢٣ق.م كانت الإسكندرية الميناء الذي قدَّر له الحظ أن يكون خلفًا لميناء «صور» من حيث السيادة التجارية في شرقي البحر الأبيض المتوسط، وستسنح لنا الفرص للتحدث عن الإسكندرية في أماكن عدة فيما بعد.
(٥) زيارة الإسكندر الأكبر لِوَاحة سيوة والغرض منها
والواقع أنه لا يوجد كثير من بين القدامى أو الأحداث ممن يفهمون كيف يمكن لإنسان من طراز «بطليموس» أن يصدق مثل هذه الأعجوبة، وقد حاولوا أن يفسروا أمثال هذه الظواهر بوسائل عليا فوق طاقة فهم البشر، وقد كان الأجدر بهم أن يفحصوا عن صحة هذا الحادث وأن الصورة المبالغ فيها وهي التي رواها المؤرخون الذين جاءوا فيما بعد تخفي في طياتها حقيقة بسيطة في الأصل، فقد قص علينا أحد الأوروبيين من القلائل الذين اخترقوا الصحراء في أيامنا قاصدين واحة «آمون» كيف أنه ذات ليلة قد واصل مرشده السير لمدة من الزمن، وبعد ذلك رأى غُرَابَيْنِ يحلِّقان في الفضاء لمدة قصيرة ثم طارا نحو الجنوب الغربي؛ أي في اتجاه واحة «آمون».
ولا نزاع في أن هذا المنظر يعبر عن حقيقة أخاذة لأولئك الذين اعتادوا المناظر الدينية المصرية؛ إذ الواقع أن الحفل والخطاب، كلاهما يتفق مع الشعائر المصرية التي كانت تقام في المعابد، ويمكن الإنسان أن يتتبع تطور هذا الموضوع مرحلة مرحلة في المناظر المصرية القديمة وفي النقوش الهيروغليفية أيضًا.
ولا بد من أن نلحظ هنا أن متن الواحة الخارجة هو المتن الذي يقدم لنا بصفة تامة صورة مفهومة عن عبادة «آمون» في الواحة، ولا بد من أن معابد الواحة كانت قد أُصلِحَت وزِيدَ فيها في العهد الفارسي وما بعده كما ذكرنا آنفًا، ولما كان «آمون» هو نفس الإله الذي كان يعبد هناك في كل بقعة فإن التصميم العام لمعبد «آمون» وترتيب أجزائه هنا كان واحدًا، فقد كان «آمون» يعيش في ظلام دامس في آخر حجرة بالمعبد؛ أي في «قدس الأقداس»، وكان قاربه موضوعًا على مذبح، أو بعبارة أخرى على قاعدة من الحجر أو من الخشب مكعبة الشكل في وسط «قدس الأقداس».
والزمرد الذي كان شائع الاستعمال وقتئذ لم يكن على وجه التأكيد الزمرد الحقيقي الحديث بل كان من «الفلدسبات الأخضر» المصري، وقد كانت تماثيل الوحي تُصنَع بطريقة تجعلها تجيب بعدة حركات كهز الرأس وتحريك الذراعين أو اليدين وفي العادة كانت التماثيل تجيب عن الأسئلة برفع الرأس أو بجعله ينحني بثقل مرتين، وكان يراد من التمثال أن يجيب في حالة الإثبات بكلمة «نعم» ولكن عند النفي كان التمثال يبقى دون حركة.
ولكن الإسكندر لم يكن يعرف شيئًا من كل ذلك وقد فطن الكهنة إلى ذلك ورأَوا أنه من غير الضروري أن يقوم بهذه الشعائر الطويلة الدقيقة بل عاملوه معاملة حاجٍّ عاديٍّ، وفضلًا عن ذلك لم يطالبوه بشعيرة الطهور المعتادة التي كان يقوم بها الأفراد العاديون، ولكنهم فرضوها على رفاقه، وزيادة على ذلك طبقوا عليهم قاعدة تحريم الاقتراب من حجرات المحراب، وهي التي كانت محرمة على الإغريق والأجانب، وعلى ذلك دخل الإسكندر وحده مع قائده المقدس (الكاهن)، وعند أسكفَّة المعبد ألقى الكاهن الخطبة القصيرة التي يلقيها الإله على كل الملوك، وهي: تعال يا بني من صلبي الذي أحبه حتى أمنحك أبدية «رع» وملك «حور». أو كانت تلقى صيغة أخرى تبتدئ بنفس الألفاظ السابقة، ومثل هذه الصيغ نجد رواياتها المختلفة على جدران المعابد، ومن المحتمل أن هذه الصيغة كانت قد أُلقيت بالمصرية ثم تُرجمت للإسكندر باللغة اليونانية على ما يُظَنُّ، وذلك لأن العلاقات بين الواحة ولوبيا والبلاد الهيلانية قد جعلت هذه اللغة متداولة عند أهل هذه الجهة.
ومهما تكن طريقة التعبير فإن الصيغة كانت مصرية ولا تشمل إلا التعبيرات العادية الخاصة بالعقيدة والتي كانت تسمي كل ملك في زمنه «الابن المحبوب من كل الآلهة»، وبعد إلقاء شعيرة السلام كان الكاهن يقدم ضيفه أمام الإله، هذا ولم يكن الإله ينتظر الزيارة في المحراب بل كان يخرج أمام الملك وذلك على حسب العادة المتبعة عندما كان يُستشار في مسألة دقيقة خاصة بالسياسة أو القضاء.
إني أعطيتك الشجاعة، إني أمنحك السيطرة على كل البلاد وكل الأقطار الأجنبية تحت نعليك … إلخ.
وهكذا فإن كل شيء كان يتفق مع الحفل المصري، وعلى ذلك فإن كل الأمور تظهر أنها حقيقية مما وصل إلينا من المناظر التي نشاهدها رأي العين في المعابد والوثائق المصرية القديمة، وقد أصبح «الإسكندر» بحقِّ الفتحِ فرعونًا، وقد استقبله الإله «آمون رع» بنفس الطريقة التي كان يستقبل بها الفراعنة الشرعيين، وعامله الإله بوصفه ابنه واعترف بأنه والده كما اعترف لذلك لكل الفراعنة الذين سبقوه، ولكن يتساءل المرء هل فهم المقدونيون والإسكندر قيمة هذه الأحفال التي نفذت أمامهم، والواقع أنه من المحتمل أن هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم مئونة التعمق في فهم ذلك، بل اقتصروا على تدوين النتيجة وهي الاعتراف بالأبوية الإلهية التي أتوا يبحثون عنها، وقد ترجموها على حسب الآراء الجارية بالنسبة لهذا الموضوع في العالم الإغريقي، ومن المحتمل جدًّا أنهم اعتقدوا أن الرغبة في تملُّق السيد الجديد قد ألهم كهنة الواحة، وهذه العاطفة لها قيمتها في السهولة التي استقبل بها الإسكندر بوصفه «ابن الإله»، ولكن التَّحمس الديني كان له الجزء الأعظم في سلوكه في هذا الموضوع، ويظهر لنا أن هذا الإجراء مهزلة سياسية، ولكنه من المعتقدات اللاهوتية الطيبية المسلَّم بها بل إنه أمر مفروض أن يعمله كل فرعون.
فقد كان الإله «آمون» منذ قرون في طيبة وفي المستعمرات المصرية الإله الأعلى وكذلك الجد الذي يجب أن ينحدر منه كل فرعون حتى يصبح الملك الحقيقي لمصر، ومن البديهي أن هذا الامتياز الذي خُصَّ به «آمون» لم يكن وقفًا عليه في الأصل بل اغتصبه من إله الشمس «رع» إله الدولة الأصلي، ولا نزاع في أن هذا الحفل كان يعقد في الأصل في «هليوبوليس» عند تولية كل فرعون من الأسرة الخامسة فصاعدًا إلى أن ظهرت «طيبة» على «هليوبوليس»، وأصبح إلهها «آمون» إله الدولة، وأطلق عليه اسم «آمون رع» وبذلك أصبح يشارك «رع» في هذا الاحتفال، غير أننا لا نعرف على وجه التأكيد في أي تاريخ حدث ذلك.
- (١)
أن يكون الوارث للعرش ابن ملك وُلد من زواج ملك بأخته، وكلاهما من الدم الملكي الخالص.
- (٢)
أن يكون الوارث ابن ملك وُلد من زواج ملك ليس من الدم الملكي الخالص بابنة ملك من الدم الملكي الخالص.
- (٣)
أن يكون الوارث للعرش رجلًا قويًّا تزوج من ابنة ملك من دم ملكي خالص.
ومما سبق نفهم أن تولية العرش في مصر لم تكن من الأمور الهينة (راجع مصر القديمة الجزء الأول)، وعندما يتزوج رجل قوي من امرأة من الدم الملكي كان لا يقوم بمهام الملك إلا بوصفه زوج الملكة، ومن ثَمَّ يصبح فرعونًا، غير أن أطفالهما لم يكونوا في نظر الشعب من دم ملكي خالص، ولكن الكهنة بما لديهم من حيل رأَوا حلًّا لهذا المشكل وهو أن يتدخل الإله شخصيًّا، وعملوا على أن يكون الطفل الذي سيئول إليه الملك من هذا الزواج ابن الإله «آمون رع» مباشرة، ومن أجل ذلك كان الإله «آمون رع» يتفضل بالنزول على الأرض ويأخذ صورة الملك ويجتمع بالملكة فعلًا، وعلى ذلك فإن الطفل الذي ينتج من هذا الاتصال المباشر الخارق لحد المألوفة يكون الغسل الطاهر من الإله «آمون» أو من الإله «رع»، والآثار الباقية تقدم لنا أمثلة من هذا النوع من الزواج، نذكر منها صور الدير البحري وولادة «حتشبسوت» (راجع مصر القديمة الجزء الرابع) وولادة الملك «منحوتب الثالث» (راجع مصر القديمة الجزء الخامس).
هذا وقد كان كهنة واحة «سيوة» المتفقهون في كل العقائد الدينية وفي كل شعائر «آمون طيبة» مجبرين بحكم تقاليدهم على أن يعترفوا بأن الإسكندر كان ابن إلههم، وأنه ابنه الذي وُلِدَ من اختلاط جنسي حدث مع والدة هذا الفاتح، على أن الأمثلة على ذلك لم تكن قاصرة على ما حدث في أمر ولادة «حتشبسوت» والملك «أمنحوتب الثالث» بل هناك أمثلة أخرى.
وإذا كان الكهنة قد طبقوا هذه الحالات على حالة الإسكندر فإن سلوكهم في ذلك لم يكن عليه غبار فيما يخص ادِّعاء كادِّعاء هذا الفاتح، والواقع أن المسألة قد مُثِّلت أمامهم بمثابة قضية منطقية غاية في البساطة، وذلك أنه كان لا يمكن أن يكون في مصر ملوك شرعيون إلا إذا كانوا من أسرة «رع» أو أولاد «آمون» مباشرين أو غير مباشرين، والواقع أن الإسكندر هو الملك الشرعي لمصر، وذلك لأن الآلهة قد سمحوا له أن يستولي عليها بعد أن قهر الفُرس بأعجوبة، ومن ثم فإن «الإسكندر» بطريقة أو بأخرى كان ينتسب إلى أسرة «رع»، وإنه ابن آمون رع، ولا يقِلُّ في ذلك عن الملوك الذين سبقوه، وقد يقال بلا شك إنه في كل الأمثلة التي اقتُبِسَت كان الآباء الأرضيون للملك الذي يدعون أبوة «آمون رع» هم من أعضاء الأسرة الحاكمة، وإنه لا فرق بينهم إلا في نسبة الدم الإلهي، في حين أن والد الإسكندر وأمه كانا أجنبيين عن أيَّة أسرة من الأسر الملكية المصرية، وحتى عن مصر نفسها، ولكن فطنة الكهنة الطيبيين التي كانت قادرة على حل المشاكل قد توقعت حدوث مثل هذه النظرية التي يكون فيها الملك المؤسس للأسرة الجديدة وزوجه ليس لهما أية صلة بالملوك السابقين، وعلى ذلك أجابوا بنجاح على الاعتراضات التي تقف في وجه هذه النظرية، وذلك أن تاريخ مصر الحقيقي لا يقدم لنا حتى الآن أية حالة من هذا النوع، غير أن هناك أسطورة تحدثنا بصورة واضحة عما سكتت عنه الآثار، ولا أدل على ذلك مما قيل عن أصل ملوك الأسرة الخامسة، فقد قيل عنهم إنهم لا يتصلون بأية حال من الأحوال بملوك الأسرة الرابعة كما جاء في أسطورة ورقة فستكار، وإن كانت الكشوف الحديثة الصلة بينهما، وعلى أية حال قيل عن ملوك الأسرة الرابعة إنهم من والد وأم من البشر، ولكن «رع» قد أتى إلى الأم واجتمع بها، وبذلك أصبح أولادها الذين أنجبتهم من نسل «رع» (راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الأول ص٧٤)، والواقع أن هذه القصة كان الغرض من كتابتها أن تعبر في هذا الموقف كما هي الحال في أي زمان عن الأفكار المتداولة في الزمن الذي كتبت فيه فتظهر بوضوح أن الإله كان في قدرته أن يحدد سلالته بوساطة امرأة من عامة الشعب، وليس لها علاقة بإحدى الأسر المالكة، هذا وكان الإسكندر الأكبر مثله كمثل الملوك الثلاثة الذين وردوا في الأسطورة السالفة فلم تكن أمه أميرة يجري في عروقها الدم الملكي على أن ذلك لم يمنعه مثلهم أن يكون والده هو الإله الذي يجب أن يكون كل ملوك مصر من صلبه، وعلى ذلك يكون له الحق في أن يصبح الفرعون الشرعي.
ومن ثم فإن أصل «أوليمبياس» الهيلاني لم يكن عقبة في أن يجتمع «آمون» بها، على أن مجرد كون الإسكندر يتربع على عرش «حور الأحياء» هو برهان كافٍ لدى الكهنة يؤكد وقوع هذا الاجتماع، وأن ابن «فليب» الذي ليس من صلبه كان في الحقيقة ابن «أوليمبياس» و«آمون».
ومما يطيب ذكره هنا هو أن سكان الإسكندرية كانوا خليطًا من الوطنيين والإغريق وكانوا أقل تعودًا على تلك الأفكار الصبيانية في نظرهم بالنسبة للَّاهوت الطيبي، ومن أجل ذلك أخذوا يشككون في هذا الإله الذي قام في وسطهم في رابعة نهار التاريخ وسمح لنفسه أن يغري أصحاب العقول الساذجة كما كانت الحال في زمان «هومر».
وبعد ذلك أخذ صولجانه واختفى، ولكنه عاد في الليالي التالية كلما رغبت في لقائه، وليس من المهم أن نذكر هنا المعجزات التي ساعد بها «نقطانب» الملكة «أوليمبياس» على أن تجعل «فليب» يقبل حقيقة هذا الزواج الإلهي وبراءته، وقد كان الساحر يوم الوضع بجوار الملكة يفحص السماء، وقد أجبرها مرتين متتاليتين على أن تؤخر الوضع إلى أن يرى لحظة يكون فيها تقابل النجوم يؤكد للطفل ملك العالم قاطبة.
ونفس هذه الطريقة كانت مستعملة منذ أزمان بعيدة عند قدماء المصريين، ولا أدل على ذلك مما حدث في عهد الفرعون رعمسيس الثالث (راجع مصر القديمة الجزء السابع) هذا وهناك تعاويذ سحرية أخرى خاصة بالحب.
وهذه الكلمات هي نفس كلام «نقطانب»، وإذا تأملنا معنى هذه النقوش رأينا أن الملك لأسباب نجهلها قد مَثُلَ على حين غفلة أمام الملكة وقد لبس لهذه المناسبة صورة «آمون» حتى يبقى أمينا لأسطورة الزواج الإلهي: فقد كان الزوج السماوي هو الذي أتم الزواج في صورة الزوج الأرضي، فلم يكن كما نرى تنكر «نقطانب» في صورة «زيوس-آمون» إلا تحقيقًا ماديًّا لما جاء في الشعائر الخاصة بالزواج الإلهي الفرعوني.
وعلى ذلك فإن القصة التي وردت نقلًا عن «كاليستنيس» ليست إلا تطورًا طبيعيًّا للفكرة القائلة إن «الإسكندر الأكبر ملك مصر يجب أن يكون ابن الإله الذي تناسل منه كل الملوك، فإذا اعترف بمبدأ هذا الأصل الشمس، فإن الخيال الشعبي قد حققه بالطرق التي كانت في متناوله، وإنه قد كرر للإسكندر و«أوليمبياس» ما جاء في اللاهوت المصري القديم عن الملوك الذين يجب أن يكون تدخل الإله الأعلى في إنجابهم مباشرًا لأجل أن يُمنحوا طهارة الدم الشمسي.»
وقد كان الإسكندر الأكبر يرتاح كثيرًا عندما ينادى بابن «زيوس» (آمون) وإن لم يكن يجبر الناس على ندائه بهذا اللقب، غير أنه مع ذلك كان يغضب من المتشككين والهازئين الذين ينكرون عليه وحي «آمون».
والآن يتساءل المرء: لماذا اختار الإسكندر أن يسمي نفسه ابن الإله وبالذات ابن الإله «آمون»؟ والجواب عن ذلك يرجع إلى سببين رئيسين أساسهما أرض الكنانة نفسها ومكانتها في العالم القديم وتأثيرها على ما كان يحيط بها من أمم مختلفة من حيث الدين والعلوم وبسطة السلطان، ولأجل أن نفهم ذلك لا بد لنا من أن نرجع إلى الوراء بعيدًا قبل فتح الإسكندر لمصر لنرى ما كان لمصر من فضل ومكانة بين الأمم، وبخاصة بلاد الإغريق وما أخذته الأخيرة عن مصر منذ فجر التاريخ.
(٦) أثر الحضارة المصرية القديمة في الحضارة الإغريقية
من الظواهر الطبيعية العجيبة في الخلق الإنساني أنه عندما ترسخ فكرة في الأذهان البشرية بصورة قوية سواء أكانت هذه الفكرة عقلية أم خُلقية أم أدبية وتكون نشأتها ناتجة عن تقليد قديم خاص بأحوال العالم الدنيوي فإن الإنسان لا يبحث بعد السير على مقتضاها أجيالًا طويلة فيما إذا كانت هذه الفكرة منطقية أو غير منطقية، وبخاصة عندما تصبح هذه الفكرة ضمن دائرة الأفكار والآراء المرعية المسلَّم بها، ومن ثم يفرضها الإنسان على نفسه بأنه عقيدة لا محل لمناقشتها أو الشك فيها.
ولا أدل على ذلك من أن كثيرًا من رجال الفكر وأساطين العلم والفلسفة وكبار الكتَّاب المفكرين قد أعلنوا آراءً وأفكارًا عن أصول المدنية الهيلانية لا تقبل الشك أو الجدل حتى إن أخطاءهم فيها قد أدهشت عقول الذين أخذوا في درس الحضارة الإغريقية ولم يكونوا على علم بتلك الآراء الخاطئة التي وقع فيها من سبقهم ممن درسوا تلك الحضارة على ضوء الكشوف الحديثة.
ومن أفدح الأخطاء الشائعة في عصرنا هذا ما رُوِيَ عن الحضارة الإغريقية من أنها أم الحضارات الغربية وأنها لم تكن في حاجة إلى غيرها من المدنيات التي سبقتها، وأنها على ذلك لم تخضع في أصولها وفي أزمان تطورها فيما بعد على وجه التقريب لأي تأثير وفد عليها من خارج تربتها، والقول السائد الذي يردده حتى الآن السواد الأعظم من رجال العلم أن بلاد الإغريق هي تربة الشعب الذي استقى منه كل العالم جميع عجائب ما أنتجه الفن والأدب والعلم والفلسفة، ولذلك فإنها كانت تُعَدُّ نسيجَ وَحْدِها، وما نرمي إليه الآن في هذا الفصل هو أن نبرهن بصورة مختصرة على أن هذه الفكرة خاطئة من أساسها وأن بلاد الإغريق كغيرها من كثير من البلاد الأخرى كانت من حيث أصول الفلسفة بوجه خاص مدينة لمصر بدرجة عظيمة، حقًّا ستكون براهيننا على صحة هذا الرأي ناقصةً بعضَ الشيء، فلا تبلغ حد الكمال الذي كنا نأمل أن نصل إليه، ومن ثم هذا الموضوع لا يمكن حله بأكمله في هذه العجالة وقد يكون من الخير أن نوضح هنا المقدمات التي لا تعد إلا حجرًا واحدًا في البناء الذي سيقيمه عاليًا أولئك الذين سيتناولون هذا الموضوع عندما تكشف أرض مصر عما في جوفها، وبذلك يتقدم علم الآثار التقدم المأمول فيه نحو هذا الاتجاه من حيث الكشوف.
ومما لا نزاع فيه أن الشعوب التي أسهمت في تقدم المدنية البشرية منذ نشأتها هي الشعب المصري والشعب الكلداني ثم الشعب الهيلاني المبكر، وليس من شك في أن الثقافة الإغريقية الحقيقية مرتبطة بثقافة الشعبين المصري والكلداني ارتباطًا وثيقًا لا لبس فيه ولا إبهام، والواقع أن مصر قد لعبت دورًا هامًّا عظيمًا في الثقافة الهيلانية القديمة وبخاصة في ثقافة القوم الذين كانوا قبل الشعب الهيلاني، وهم الذين ورث عنهم الإغريق حضارتهم وأعني بذلك إغريق الجزر اليونانية وبلاد الإغريق الكلاسيكية، وتؤكد أعمال الحفر المثمرة التي عُمِلَت في جزيرة «كريت» وفي «البليبونيز» وفي آسيا الصغرى في موقع إقليم «طروادة» على وجود مدنيات رفيعة ترجع إلى عهد سحيق في القِدَم أي إلى الألف الثالثة والألف الثانية قبل المسيح، وهذه المدنيات المكشوفة تبرهن على تأثير بارز جاء عن البلاد المجاورة وبخاصة مصر.
وقد كان المصريون يسمون سكان بحر إيجه وسكان بلاد الإغريق نفسها «أقوام الجزر التي في وسط البحر» وذلك لأنهم كانوا لا يعرفون إلا القليل عن أرض الإغريق الرئيسية وقد ظنوا أن كل الأقوام المجاورة قد أتوا من بعض الجزر وكانوا خاضعين لكريت.
أما أهل البحار الذين تحدثنا عنهم كثيرًا في غير هذا المكان (راجع مصر القديمة الجزء السابع) وهم الذين كانوا يسكنون بعيدًا عن «كريت» فلم يكن المصريون يعرفون عنهم شيئًا؛ فقد أتوا إلى مصر مباشرة مع أمتعتهم وكأن كريت لم تكن موجودة، وقد بقيت العلاقات بينهما في سلام لمدة قرن ونصف قرن من الزمان، ولكن في عهد الملك «مرنبتاح» هددت مصر بلاد لوبيا كما هددها حِلف من أقوام البحار (راجع مصر القديمة الجزء السابع)، وقد قضت مصر على هذه الغزوات وبقيت بعد ذلك هادئة، قد تركت هذه الغزوات أثرًا في الشعور المصري وحالته من ناحية الأجانب بدرجة لا يمكن تقديرها، وكانت من عوامل عزلتهم التي تحدث عنها الكُتاب القدامى.
حقًّا لقد ظل أقوام البحار مع مصر في سلام ورعاية لحق الجوار مدة تقرب من قرنين، ومن ثم فإن العداوة التي أظهرها أقوام «إيجه» لا يمكن تفسيرها، وكانت وبالًا عليها إلى أقصى حد؛ لأن معظم كسبهم كان من التجارة.
- أولًا: العداء لكل الأجانب (راجع: Strabo, 17, 1, 6, P. 792) وتجنب العادات الأجنبية (راجع: Herod. II, 41, 7, 91, 1).
- ثانيًا: حاجة مصر للمساعدة في عهد الملوك الساويين؛ أي في خلال الأسرة السادسة والعشرين وقد أدى ذلك إلى السعي في التأثير على الإغريق بما للثقافة المصرية من مكانة رفيعة في العالم.
- ثالثًا: ظهر اتحاد سياسي بين المصريين والإغريق كان سببه عداوتهما المشتركة للفرس.
- رابعًا: السعي للبرهنة على وجود علاقات قديمة بين بلاد الإغريق ومصر أو
بعبارة أخرى ما أخذه الإغريق عن مصر في ميادين العلم، وسنتحدث هنا
عن هذه المراحل.
ما أخذه الإغريق عن المصريين في العصر الساوي:
- (١) أما عن المرحلة الأولى فقد تحدث عنها «هردوت» في
كتابه عن مصر عندما تحدث عن العادات المصرية ومناقضتها
للعادات الإغريقية (راجع: Herod. VI,
35, 25 eq).
ولكن مما يجدر ملاحظته هنا أن «هردوت» قد بالغ في مواضع كثيرة عند قرنه العادات المصرية بالعادات الإغريقية؛ لأنه ارتكن أحيانًا على قول الأدِلَّاء وأقاصيصهم.
- (٢) كانت مصر في العهد الساوي في حاجة إلى مساعدة
الإغريق، حقًّا كانت مصر مغلقة في وجه الزائرين
الإغريق عدة قرون، وذلك منذ أن كانت مصر مهددة بغزو
أقوام البحار لها، ولكن كانت أرض الدلتا على الأقل
معروفة للعالم الإغريقي، فقد ذُكر فنار إسكندرية
المستقبل في أودسي هومر (راجع: Od. IV,
355) فقد كان هناك «أمام مصر» حيث
ربط «منيلاوس» Menelaos، سفينته وأجبر «بروتيوس»
المصري على أن يعلن له طريقه إلى وطنه، وكذلك نجد ذكر
طيبة وبوابات معبدها التي بلغت المائة، في «الإلياذة»
وفي «الأوديسى» (راجع: Illiad IX, 381,
Od. IV, 126) وكان يسكن هناك
الفرعون «بوليبوس» Polybos، عندما غُمِرت «ألكاندرا» Alkandra زوجة
«منيلاوس» بالهدايا.
وفي الأزمان التاريخية الأكثر وضوحًا نجد الميليزين الإغريق على الرغم مما بينهم وبين المصريين من خِلافات في طرق الحياة وكرههم للأجانب، فإنهم قد أفلحوا في خلال النصف الثاني من القرن السابع؛ أي في عهد الفرعون «بسمتيك الأول» في الحصول على مواطئ قدم في مصر، وهناك أسسوا محطة تجارية وهي التي تدعى «الجدار الميليزي»، ولم يمضِ طويل زمن حتى أوغلوا بسفنهم في المقاطعة «الساوية» وأسسوا هناك «نقراتيس» (نقراش) الواقعة على أحد فروع النيل الغربية (راجع مصر القديمة الجزء ١٢) وقد قضت الأحوال وبخاصة وجود الآشورين في مصر بأن يؤتي بجنود مرتزقة إلى مصر من بلاد الإغريق (راجع مصر القديمة الجزء ١٢) ومن هذا الوقت أخذت العلاقات التجارية والحربية تزداد زيادة كبيرة في عهد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وبخاصة في عهد الملك «أحمس الثاني» كما فصلنا القول في ذلك في مصر القديمة (راجع مصر القديمة جزء ١٢).
- (٣) وفي أثناء اختلاط الإغريق بالمصريين اختلاطًا
مُحَسًّا في عهد الأسرة السادسة والعشرين بدأ الإغريق
الذين وفدوا على مصر يحسون مكانتها العلمية بالنسبة
لهم وقد كانت «نقراش» و«دفنة» هما المَركزان اللذان
وصل منهما تأثير الثقافة المصرية إلى بلاد الإغريق،
وقد كان وجود هذين البلدين يعني أن مصر كانت معروفة لا
للسياح، بل كانتا سكنًا لجماعة من الإغريق من مدن
مختلفة، ففي عهد الملك «أمسيس» كان كثير من الإغريق
ينتقلون ذَهابًا وإيابًا بين «نقراش» ومدنهم في بلاد
الإغريق، ولا بد أن تأثير هذا الاتصال كان عظيمًا، فمن
ذلك ما نجده من قبل عهد الفتح الفارسي آثار مصوَّرة
على أكروبول أثينا (راجع: G. Dickins,
Catalgue of the Acropolis Museum, I, 167, on Nos.
144, 146).
منها صورتا كاتبين يلبسان ملابس إغريقية مقلَّدة عن اللباس المصري، وهناك نواة للحقيقة القائلة بأن الإغريق قد أخذوا فلسفتهم عن المصريين وسنتحدث عن ذلك فيما يلي.
هذا ونعلم أن «برياندر» المواطن الكورنثي قد سمى ابن أخيه وخليفته «بسمتيك» حبًّا في «بسمتيك الأول» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وتدل شواهد الأحوال على أن الإغريق قد وصل إليهم عن طريق «نقراش» هدايا ثمينة وبخاصة البردي الذي قُدِّم لهم مادة خفيفة رخيصة لكتابة مؤلفاتهم.
ولا يفوتنا أن نذكر أن رجال الحكمة والفلسفة في بلاد اليونان مثل «بيتاجوراس» (فيثاغور) و«صولون» قد زاروا مصر وأخذوا عن علمائها، ونرى مما كتبه «هردوت» وما تركه لنا سلفه «هيكاته» (٥٥٠ق.م) نتيجة لسياحتهما في مصر قبل الثورة الأيونية، مقدار الأثر الذي تركه المصريون في نفوس الإغريق عندما علموا مقدار إيغال تاريخ مصر في القِدَم بالنسبة لبلادهم (راجع هيكاته: Early Ionian Historians, Oxford, PP. 25 Sq. & PP. 81, on Egypt).ولقد كان من جراء الحروب الفارسية أنها قضت على كل الاتصالات السلمية بين بلاد الإغريق وأرض الفراعنة القديمة لمدة من الزمن، وعلى إثر انتهاء هذه الحروب بالقضاء على ثورة الأمراء المصريين المحليين أخذت البلاد المصرية من جديد تفتح أبوابها للزائرين من الإغريق، فقد زار الفيلسوف «أناكزاجوراس» Anaxagoras القُطْر المصري وفحص فيضان النيل وهبوطه.وتدل شواهد الأحوال على أن هلانيكوس Hellanikos المؤرخ الإغريقي وهو معاصر لهردوت قد زار مصر قبله على ما يظهر، (راجع: Ibid. P. 152, and Especially P. 199) ولكن يرجع الفضل الأكبر فيما كتبه المؤرخ «هردوت» (حوالي ٤٥٠ق.م) إلى معرفة مجهودات المصريين وتأثيرها في الإغريق مما جعله يثبت أن الثقافة المصرية كانت أعلى من ثقافتهم، ولكنه على الرغم من رغبته في قبول تقدير المصريين لثقافتهم هم إلا أنه بقي إغريقيًّا قُحًّا في تفسيره لمصر بعبارات تدل على العقلية الإغريقية، وعلى الرغم من أنه كان مستعدًّا لأن يعترف بأسبقية ثقافات أخرى وباعتبار الأنظمة الإغريقية مأخوذة عن المصرية، فإنه أراد أن يفسر كل ما هو أجنبي بالروح الإغريقية التي كان يعدها معيارًا للبشرية عامة في التعبير.والواقع أن مصرِيِّي عهد «هردوت» كانوا يُظْهِرون بحق نحو الروح الإغريقية شعور التفوق على الإغريق بل الاحتقار لهم، ولا غرابة في أن يكون هذا موقفهم؛ لأن مدينتهم كانت تضرب بأعراقها إلى الماضي البعيد بالنسبة لمدنية الإغريق الحديثة التي لم تكن قد وقفت على قدميها بعد في العلوم والمعرفة، وقد كان المصريون في تلك الفترة يحلمون بماضيهم القديم الذي لم يطرأ عليه أي تغيير من حيث حاصلات البلاد أو موارد نهر النيل (Herod. II, 177)، وقد كان «هردوت» عليمًا بهذا الكبرياء المصري بالنسبة لمجد أجدادهم كما أوضح لنا ذلك خلال محادثته مع كهنة «آمون» طيبة في معبد الكرنك (Herod. Ibid. 143) فقد حدثنا كيف أنه عندما تتبع «هيكاته» الميليزي الإغريقي الذي زار مصر قبل «هردوت» نسب أجداده إلى أن وصل إلى آلِهِ في الجيل السادس عشر، قاده الكهنة إلى داخل المعبد وأطلعوه على ثلاثمائة وأربعة وأربعين تمثالًا منصوبة هناك لأفراد، وكان كل واحد منها ابنًا لما يليه في سلسلة متصلة حتى آخر واحد منها دون أن يصلوا في النهاية إلى آله، وعلى الرغم من الثلاثمائة والخمسة وأربعين جيلًا فإن الرجل الأول كان يريد أن يدلل على أنه رجل نبيل المولد وحسب، وقد عرف «هردوت» طرفًا من تفاخر المصري بماضيه وزهوه بتفوق سلالته على باقي سلالات العالم، هذا ولدينا مثال آخر في المحادثة الشهيرة التي جرت بين «صولون» وكاهن مصري مُسِنٍّ (راجع: Plato. tim. 226, Cf. Joseph, Cont. Ap. I, 7) فتحدث عن الإغريق بأنهم أطفال؛ لأنه ليس لهم ماضٍ سحيق في القِدَم، وقال: «إنكم ستظلون أطفالًا إلى الا بد؛ إذ ليس في بلاد الإغريق رجل مُسن.» - (٤) والمرحلة التالية في العلاقات الإغريقية المصرية
تُظْهِر تغيُّرًا ثابتًا لما هو حسن، فقد قام بين
الأمتين تعاون سياسي بسبب العداوة التي كانت بينهما
وبين الفُرس، وهذا التعاون يفسر الترحاب الذي أظهره
المصريون للإسكندر عند دخوله مصر فاتحًا.
والواقع أن الأسرة السادسة والعشرين لم تكن إلا الأولى من عدد من الفواصل من سلسلة ملوك أجانب بدءوا منذ عام ٧٠٠ق.م يسيطرون على مصر حتى جاءت الثورة الحالية التي أعادت للبلاد مجدها القديم، وقد كان عهد هذه الأسرة بمثابة ولادة جديدة، وذلك عندما قامت المدنية المصرية القديمة من رقادها الطويل وأعادت لمصر تقاليدها القديمة التي كانت تفخر بها على كل العالم، وأهم شخصية بارزة في ملوك هذه الأسرة بالنسبة لعلاقته مع الإغريق هو «أحمس الثاني» الذي اشتهر بحبه للإغريق وتوثيق روابط الألفة معهم.
وقد ظهر ذلك في منحه إياهم «نقراش»، وتكوين حرسه من «الأيونيين» و«الكاريين»، وزواجه من سيدة إغريقية من «سيرني»، وكذلك عقد معاهدة صداقة مع «بوليكراتيس» حاكم «ساموس» (راجع: Herod. II, 39-40) يضاف إلى ذلك أن قوة «أحمس» البحرية كانت هي الأساس للقوة البحرية التي جعلت مصر فيما بعد في عهد البطالمة المسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، هذا، وقد قُطعت العلاقات بين مصر وبلاد الإغريق فجأة لفتح «الفرس» لمصر، وقد قيل إن «الفرس» أهانوا المعبودات المصرية في أثناء سيطرتهم على البلاد، ولكن هذا الزعم باطل كما سيظهر ذلك فيما بعد، وحتى إذا كان ذلك قد حدث في آخر عهدهم فإنه لم يحدث كما قال «هردوت» في أول أمرهم؛ ويطيب أن نذكر هنا أن الأخطاء الماسَّة بالدِّين لم يرتكب مثلها الإغريق؛ لأن الإغريق كانوا يظهرون دائمًا كما أكد ذلك «هردوت» أنهم يرون آلهتهم في الآلهة المصرية لما بين آلهة البلدين من تشابه كبير، وذلك ما فسر لنا فيما بعد النجاح العظيم الذي أحرزه الإغريق في معاملتهم مع المصريين، وقد نالت مصر استقلالها المرة الأخيرة بمساعدة الإغريق لها عندما طُرِد الفرس من مصر عام ٤٠٤ق.م غير أن مصر على الرغم من قيامها بنهضة جبارة في خلال الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين بمساعدة الإغريق لها فإنه في النهاية فقدت استقلالها عام ٣٤٢ق.م، ومنذ ذلك العهد لم نعرف عنها شيئًا مؤكدًا إلى أن دخلها الإسكندر الأكبر عام ٣٣٢ق.م، وذلك لقلة المصادر الأكيدة.
- (١) أما عن المرحلة الأولى فقد تحدث عنها «هردوت» في
كتابه عن مصر عندما تحدث عن العادات المصرية ومناقضتها
للعادات الإغريقية (راجع: Herod. VI,
35, 25 eq).
- خامسا: نجد أن بلاد الإغريق قد أخذت كثيرًا عن مصر وبخاصة العهد
الساوي.
فقد ذكر لنا «هردوت» أن المصريين كانوا قومًا يحسبون زمنهم بالسنين التي تحتوي كل منها على اثني عشر شهرًا، أما في المحيط الديني فنجد أن المصريين هم أول قوم استعملوا تسميات الاثني عشر إلهًا، وهذه التسمية (اقتبسها الإغريق عنهم فيما بعد)، وكذلك عُزِيَ إلى المصريين أنهم هم أول قوم خصوا لآلهتهم العديدين مذابحهم وصورهم ومعابدهم، وأول من حفر الأشكال على الحجر (راجع: Herod. II, 4) ويقول «هردوت» إن اسم «هيراكليس» قد أتى من مصر إلى بلاد «هيلاس» وذلك لأنه كان إلهًا قديمًا في مصر وقد اعتبر واحدًا من بين الاثني عشر إلهًا وذلك منذ سبعة عشر ألف سنة قبل حكم «أحمس» (راجع: Herod. II, 43) وهذا قول مبالغ فيه.يضاف إلى ذلك أن تعاليم ديانة «ديونيسوس» Dionysos قد أتت بطريق غير مباشرة من مصر (راجع: Herod. II, 49) والواقع أن كل أسماء الآلهة تقريبًا قد أتت إلى «هيلاس» من مصر إلا أسماء الآلهة «بوزيدون» Poseidon٩ و«ديوسكوري Dioscuri»،١٠ و«هيرا» Hera١١ و«هستيا» Hestia١٢ و«تميس» Themis١٣ و«الجريس» Graces١٤ و«النريدس» Nerides١٥ (راجع: Ibid. 50).هذا ولم يتعلم الإغريق عملية التنبؤ من الحيوانات المضحاة من مصر وحسب، بل كذلك أقاموا جمعيات مقدسة ومواكب وصلوات، والبرهان على ذلك هو أن الأحفال المصرية قديمة جدًّا في حين أن الأحفال الإغريقية من عهد غير بعيد (Ibid. 58) وفضلًا عن ذلك فإن العقيدة القائلة بأن الروح الإنسانية خالدة وأن تقمص الأرواح جاءت من صنع المصريين ثم نُقِلَت بوساطة بعض الإغريق في وقت مبكر أو متأخر إلى بلاد اليونان (Ibid. 123) وقد تعلم «بيتاجوراس» في مصر ضمن ما تعلمه تقمص الروح في كل مخلوق.وتعلم الإغريق علم مسح الأرض من المصريين، ومنها تطور علم الهندسة الذي برع فيه الإغريق (راجع: J. E. A. Vol. XII, 1926, P. 242 f).وقد أخذ «صولون» الأثيني قانون «أحمس» الذي يقول فيه إنه يجب على كل مصري أن يعلن سنويًّا موارده التي يعيش منها لحاكم مديريته، وإذا عجز عن ذلك أو عجز عن أن يبرهن على أنه يعيش عيشة شريفة عوقب بالموت، وقد قال «هردوت» إن هذا قانون لا غبار عليه (في هذا مغالطة تاريخية لأن «أحمس» كان ملكًا على مصر حوالي عام ٥٦٩ق.م في حين أن «صولون» كان حاكمًا على ما يُظَنُّ في أثينا حوالي عام ٥٩٤-٥٩٣ق.م) هذا ونعلم مما كتبه «ديودور» أن «صولون» قد أخذ بعض القوانين عن مصر (راجع: Diod, Lix, Ixxvii, xcvi, xcvii) على أن ما نسبه «هردوت» من علوم أخذ عنها الإغريق يعد في نظر العلماء الأحداث مغالاة من جانبه، وأنه كان يحقر الإغريق ويميل عليهم ميلة شديدة في نقده.ولكن العلم المصري كان عظيم الانتشار في كل البلاد، هذا فضلًا عن طبقة الكهنة الذين احتكروا العلوم والأدب، ولا أدل على ذلك من أنه كان هناك عدد عظيم من الكُتاب يعملون موظفين في الدولة ويمثلون العنصر المثقف من الشعب، وقد كان في كل مدينة عظيمة مدرسة أو أكثر تابعة للمعبد، وكانت تؤلف كليات لاهوتية، وقد كان أعظم علماء الإغريق وفلاسفتهم يفدون إلى هذه المدن الشهيرة كما تُحَدِّثنا بذلك التقاليد، وأهم هذه المدن هي «سايس» و«بوبسطة» و«تانيس» و«هليوبوليس» و«منف» و«الأشمونين» و«أبيدوس» العرابة المدفونة» و«طيبة»، والواقع أنه كان لكلية عين شمس اللاهوتية شهرة عالمية، وأشهر كبار الهيلانيين الذين أتوا لينهلوا بعض علومها قد دلوا «إسترابون» كما يقول شمبيلون «فيجاك» على الكلية التي تعلم فيها كل من «إيدوكس» Eudoxe و«أفلاطون» في «هليوبوليس».ويقول نفس المؤلف إن «فيثاغور» قد تعلم في مصر كل ما أمكنه تعلُّمُه في أثناء مكثه فيها، فقد عاش على ما يقال في أرض الكنانة حوالي عشرين عامًا، وكذلك تعلم كل من «صولون» و«تاليس» المليزي في مصر ونقلا كل ما تعلماه إلى بلاد الإغريق، وكذلك نعرف المعلمين المصريين الذين تلقى عليهم «أفلاطون» المقدس (راجع: Champollion-Figeac, L’Egypte Ancienne, P. 120-121).هذا وقد ذكر لنا «شمبليون فيجاك» أسماء معلمين كثيرين من المصريين نقلًا عن بروكلوس PrOclus، والواقع أنه في عهد الأسرة السادسة والعشرين كان في مقدور الإغريق أن يزوروا وادي النيل ويقيموا فيه في أحسن حال، وحتى فيما بعد في عهد الفرس لم يكن هناك عائق يمنع السائحين والمؤرخين ورجال السياسة من أن يجوسوا خلال الديار المصرية بطمأنينة ويتعلموا عاداتهم وفنونهم ومعتقداتهم الدينية، وأكبر برهان على ذلك المؤرخ «هردوت»، والواقع أن كل الإغريق الذين أوتوا حظًّا عظيمًا من الذكاء كانوا على استعداد لأن يذهبوا إلى منبع الحكمة المصرية، وقد كان من الطبيعي أنهم أُغْرُوا على ذلك بما كان للمدنية المصرية من شهرة طبقت الآفاق.وبعد أن أظهرنا حقيقة العلاقات العقلية بين المصريين والإغريق بقي علينا أن نحدد طبيعة هذه العلاقات، فمن المفهوم تمامًا أن ما بحثناه هنا لا شأن له إطلاقًا بوضع صلة مباشرة بين أفكار مصرية معلومة وبين تصورات الفلاسفة الإغريق الأُول؛ إذ الواقع أنه لا يمكن بأية حال من الأحوال أن نفكر في ذلك في الحالة الراهنة للمسألة بل نريد أن نبرهن على أن الفكر المصري لا بد قد ترك بعض التأثير في الفكر الإغريقي، وعندما نقول العلم المصري والمعرفة المصرية يجب أن نفهم أن هذه التعابير لا يقصد منها إلا معنى عام جدًّا وألا نرى فيها قط ما يُقصد به من معنى لهذه التعابير في أيامنا، فلا نفهم من عبارة العلم المصري المعلومات الفنية والعلمية والرياضية والفلكية وحسب، بل كذلك مجموع آراء دينية وفلسفية مضافة إلى عقائد وتجارب سحرية، والواقع أن هؤلاء العلماء الذين حضروا إلى مصر وتعلموا فيها ترك كل منهم أثره في علوم الإغريق وعقائدهم بدرجة مُحَسَّة، فمثلًا قد استعمل الإغريق بدون شك عقائد مصرية مسلَّمًا بها خاصة بمصير الإنسان في عالم الآخرة، ويجب أن يتتبعها في حياته الدنيوية وفي موضوع نهاية العالم الذي يعيش فيه نجد الإغريق كالمصريين كانوا يعتقدون في وجود الروح المجنحة وخلودها فنشاهد على الآثار المصرية وفي المقابر أن الروح مُثِّلَت في صورة طائر برأس إنسان، وكذلك نجد الإغريق قد أخذوا فكرة حقول الإليزية (الجنة) الخاصة بالمصريين في مملكة الأموات التي كان يتربع على عرشها أوزير، والكلمة الإغريقية نفسها «إيليزة» تذكرنا بصورة غريبة بالكلمة المصرية «يالو» أو «أيلو» (حقول الجنة)، وكذلك نجد أن النيل والقنوات التي وضعها الخيال في عالم الآخرة إن هي إلا تقليد للنيل الحقيقي، والقنوات الدنيوية قد استخدمت نماذج للأنهُر النارية التي ذكرها الإغريق في أساطيرهم، والأصل المصري للكلمة الإغريقية «رادا منت» تُقابِلُ التعبير المصري «رع أم أمنت» أي الإله رع في الغرب (وكلمة أمنتي معناها الغرب أو عالم الآخرة)، وكذلك الكلمة الإغريقية «كارون» التي تعني «نواتي» الجحيم مشتقة من الكلمة المصرية «كارو» التي تعني القارب أو المرشد في اللغة المصرية، هذا إلى أن محاكمة الأموات أمام محكمة أوزير، وكذلك تمثيل المحاكمة في عالم الآخرة، قد نُقِل إلى العقائد الإغريقية المماثلة، وكذلك وزن الروح الذي كان له قيمة كبيرة في شعر «هومر» مأخوذ برمته عن العقائد المصرية (راجع: Eliade Chant VIII, vers 68–74).ونرى مما سبق أن الإغريق قد أخذوا كثيرًا عن قدماء المصريين ثم هذبوه على طريقتهم ووضعوه في قالب جديد علمي عقلي، وقد قام بذلك سلسلة فلاسفة وعلماء جاءوا إلى مصر قبل عهد سقراط، وهؤلاء يُرتَّبون ترتيبًا تاريخيًّا ما بين القرن السابع ونهاية القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا، والواقع أن تاريخ الفلسفة اليونانية يحتوي على ثلاثة عهود رئيسية وهي عهد التكوين وعهد النضج ثم عهد الشيخوخة، وينقسم عهد التكوين بدوره إلى عهدين أولهما يمتد من أول الفيلسوف «تاليس» Thles حتى عهد السفسطائيين وسقراط وهذا هو عهد الفلاسفة الذي أتوا قبل سقراط، وهو العصر الذي كان فيه العلم والفلسفة موحَّدينِ تمامًا ويشغل حوالي قرنين من الزمان، والعصر الثاني شغل جميعه تعاليم «سقراط» والسفسطائيين، ويعنينا من هذين القسمين الثانويين القسم الأول فقط، وذلك لأنه يشمل طلائع الفلاسفة الذين قبل «سقراط» وهم الذين زاروا مصر للدرس والتعلم.وفلاسفة هذه الفترة قد كونوا مدارس فلسفية وهي مدرسة «أيوني» ومدرسة «إيطاليا» ومدرسة «إلي» Elee ومدرسة «أبديري» Abdiri، ويضاف إلى هذه المدارس أولئك المفكرون الذين يُعَدُّون شبه منعزلين مثل الفيلسوف «أناجزاجوراس»، وكذلك أصحاب الأذهان ذوو النزعات المصلحة والمكونة مثل «أمبيدوكليز» الذي سعى في أن يصب في نظام واحد أصل المذاهب «الأيونية» و«الهيراكلية» و«الأيلية» و«البيثاجورية»، وفلاسفة هذه المدارس وغيرهم ممن جاء قبل سقراط قد زاروا مصر وتأثروا بتعاليم مدارسها وكهانتها ونقلوا كل ما تعلموه إلى بلاد الإغريق فتأثرت بذلك العلوم الإغريقية أيَّما تأثير، وقد أصبح من المؤكد أن فلسفة اليونان وعلومهم في عهودهم الأولى ترجع إلى أصل مصري بحت، وسنحاول هنا أن نذكر كلمة عابرة عن كلٍّ من نظريات هؤلاء الفلاسفة ومقدار تأثرهم بالعلم المصري والفلسفة المصرية، وقصدنا من ذلك إظهار الرابطة المتصلة الحلقات التي كانت بين مصر وبلاد اليونان حتى عهد الإسكندر والبطالمة.
تاليس Thales
أنا كزيماندر Anaximinder
أنا كزيمين Anaximene٢٠ المليزي و«ديوجنيس» الأبوليني Diogones
وهذان الفيلسوفان فكَّرا في أن أصل الأشياء هو الهواء بدلًا من الماء ومن اللانهائية عند «تاليس» و«أناكزيماندر» على التوالي، وتدل شواهد الأحوال على أن هذه الفكرة مأخوذة عن فكرة المصري في أن أصل الحياة هو النفَس الذي يعبر عنه المصري «بنفَس الحياة» وبدونه لا توجد حياة، وقد كان نفس الحياة منتهى أمنية يلتمسها المصري من الفرعون ومن الإله.
بيثوجوراس «فيثاغور Pythogoras»
ولد «بيثوجوراس» في أوائل القرن السادس قبل الميلاد والمحتمل جدًّا التي كانت تسمى باسمه في بلاد اليونان، ولا نزاع في أن سياحة أنه زار مصر ومكث فيها حوالي عشرين عامًا وأخذ علومه هناك عن الكهنة «بيثاجوراس» وإقامته في مصر كان لها فائدة عظيمة؛ إذ الواقع أن أوجه الشبه التي توجد بين بعض العقائد المصرية وتعاليم «بيثاجوراس» عن انتقال الأرواح من مخلوق لآخر لم تكن عفو الخاطر، وقد أورد «هردوت» البراهين على أن هذه الفكرة مأخوذة عن المصريين، هذا ولدينا في كتاب الموتى الأمثلة العدة الدالة على تقمص الأرواح، والنتيجة التي وصلت إليها البحوث الدقيقة المقارنة في أن انتقال الأرواح من مخلوق لآخر قد أخذت عن المصرية وأنها قد تكونت شيئًا فشيئًا في مصر ثم انتهت بأن أصبحت تدرس في مدارس اللاهوت الإغريقية نقلًا عن مصر.
هيراكليتوس Heraclitus
تتحدث فلسفة «هيراكليتوس» كذلك عن مسائل الروح والعلم والله؛ وُلِدَ الفيلسوفُ في «أفيسوس» حوالي منتصف القرن السادس، وفلسفته مبنية على أن النار هي أصل كل شيء، وهذه النار تبرز نفسها في كل الظواهر المادية وفي كل الأشكال التي تقع تحت الحس «أمام النار تغير كل الأشياء نفسها وأمام كل شيء النار، كما تتغير الثروات أمام الذهب والذهب أمام الثروات» ويقول كذلك: «إن تغيرات النار هي أولًا البحر وتغيرات البحر هي نصف أرض، وإلى نصف مادة نارية.»
ومن ثم نرى أن أهم خواص صِفات فلسفة «هيراكليتوس» هي اتحاد المتناقضات، ومن ثم يقول إن المكروه نافع، ولهذا يتألف من المتناقضات أجمل الانسجام، والكل يكون نفسه بالخصام، وكلمة العدل لا تعرف إلا إذا كان هناك ظلم، وهذه الأمثلة كانت ضرورية لأجل أن تقدم عناصر الموازنة بين أفكار «هيراكليتوس» الخاصة والفكرة المصرية، فمما لا نزاع فيه أولًا أنه من المستحيل عدم التعرف على التأثير المصري في الدور الذي نسبه «هيراكليتوس» للنار، والواقع أن شمس هيراكليتوس لم تفسَّر بأنها أحسن مظهر مادي وظاهر للنار وحسب، بل كذلك تفسَّر بأنها النار الخفية المفكرة، وبصورة ما تفسَّر بالنار الروحية التي تعتبر النار المادية صورة منها، فيقول في ذلك «إن الشمس ليست جديدة كل يوم فقط، بل في الواقع إنها دائمًا جديدة دون انقطاع وفي ذلك ما يكفي ليذكرنا بأسطورة الشمس المصرية التي تشرق، أو بعبارة أخرى تولد كل يوم في شرقي أفق السماء باسم «حور أختي» وتغيب أو تموت كل ليلة في الغرب باسم «أتوم» غير أن هذا الموت ليس إلا أمرًا ظاهرًا وحسب.»
أكزنوفون الكلوفني Xenophon Of Colophon
أمبيدوكليز Empydocles
وُلد الفيلسوف «أمبيدوكليز» في «أجريجنت» حوالي عام ٤٨٤ق.م وكان طبيبًا وكاهنًا وخطيبًا وشاعرًا وفيلسوفًا وساحرًا، وأساس عبقريته تنحصر في أنه كان أول من وضع نظرية تكوين العالم من العناصر الأربعة الأرض والماء والهواء والنار، وهذه العناصر في نظره موحدة وأبدية، وفي رأيه أن العناصر تتجمع سويًّا وتنفصل بعضها عن بعض، وذلك بسبب قوتين خارجيتين عنها، وهاتان القوتان هما الأساسان المتضادان اللتان يسميهما «أمبيدوكليز» الحب والبغض، وهذان العنصران لا يُحسَّان ولا يُرَيَان، وهذه الفكرة تتفق مع فكرة الثنائية عند المصريين وقد كانت في بدايتها مادية غير أنها أصبحت فيما بعد خلقية، وأسطورة «أوزير» تقدم لنا مثالًا ممتازًا، فقد كانت في أول الأمر ظاهرة طبيعية أي الحرب بين «حور» و«ست» ثم تدرجت إلى أن أصبحت الحرب بين الطيب والخبيث، وبين النور الذي يضيء أي الروح والظلام الذي يجعلها مظلمة، ومصر كانت أول أمة استعملت الثنائية الخلقية، وعنها أخذ اليونان على يد «أمبيدوكليز» هذه الفكرة.
أناجزاجوارس
ولد هذا الفيلسوف في «كلازومنيس» حوالي عام ٥٠٠ق.م ومات حوالي عام ٤٢٨ق.م وقد جاء فيما كتبه مؤلفو الإغريق أنه ذهب هو وأفلاطون إلى مصر وتعلم فيها علوم اللاهوت والعلوم الطبيعية، ويعتقد «أناجزاجوارس» في أبدية المادة، ولكنه بدلًا من فكرة تكوين العالم من العناصر الأربعة التي نادى بها «أمبيدوكليز» رأى أن كل شيء يحتوي على ذرات صغيرة لا حصر لها، وهي موحدة في طبيعتها بالأشياء التي تكونها وكل واحدة تشابه الأخرى، وعناصر كل شيء تتدخل في تكوين الجسم.
ويقول هذا الفيلسوف إنه في البداية كانت العناصر ممتزجة وكانت الأشياء في حالة فوضى، ثم خرج فجأة العقل أي الروح، وقد قسم العقل العناصر وأدخل الحركة في العالم ووضع فيه الجمال والتناسق (أي إن العقل قد وضع النظام في كل شيء، وبالاختصار قام العقل بدور خالق نظم العالم).
والواقع أنه عندما نفحص نظرية علم نظام العالم وقوانينه عند قدماء المصريين بصورة عامة نجد فيها ما يشابه نظرية «أناجزاجوارس» فمما لا شك فيه أن «نون» (الماء الأزلي) لا بد كان يحتوي في نفسه على قوة خفية دفعته لخلق الكائن «أتوم-رع» بواسطة خبر رع (إله الوجود) الذي يمكن أن يدل عن هذه القوة نفسها وهي تعمل، وعلى ذلك يكون لدينا في علم ما وراء الطبيعية المصري ما يمكن قرنه بالفعل عند «أناجزاجوارس»، والقلب عند قدماء المصريين هو الفهم أو العقل.
«لوسيبي Loucippe» و«ديموكريتوس»
يعتبر «لوسيبي» المؤسس لمدرسة «أبديري» التي تبحث في الذرة، والواقع أنه في مدرسة أبديري يُلحظ أن تجميع العناصر وانفصالها ليس نتيجة لتأثيرين أساسيين مضادين هما الحب والبغض كما صرح بذلك «أمبيدوكليز» أو عقل متحرك كما تصور «أناجزاجوارس» ولكنها نتيجة لحركة الذرة الأبدية، والمهم هنا أن نجد أية صلة بين هذه الفكرة وبين العقيدة المصرية، ومهما يكن الدور الذي لعبه «لوسيبي» فإن أعظم ممثل لنظرية الذرة هو «ديموكريتوس» الذي خلفه.
عاش هذا الفيلسوف مدة طويلة في الخارج وزار خلالها مصر وكلديا، وقد حدثنا أنه غادر بلاده إلى مصر ليكون على مقربة من الكهنة ليتعلم الهندسة، والواقع أنه أمضى عدة سنين تعلم في خلالها شعائر هؤلاء القوم، وقد كان بحرًا فيَّاضًا في معلوماته؛ فقد حوى في صدره كل المعلومات الإنسانية في عهده، ويعد هو و«بيتاجوارس» و«أفلاطون» و«أرسطوطل» من أعظم العبقريات العالمية، فقد تعلم التاريخ الطبيعي والطبيعة والفلك والرياضيات، وكلها بنجاح متعادل، والواقع أنه مدين بجزء من علمه لمصر والشرق، ولا بد أن نشير هنا أن «ديموكريتوس» كان تلميذ المصريين في علم الكيمياء المصرية، وذلك لأن مصر كانت موطن علم «الكيمياء» وعلى ذلك يمكننا أن نؤكد أن «ديموكريتوس» من حيث العلم كان قد تأثر بالأفكار المصرية والعلم المصري، وليس بغريب أن تكون فكرة الذرة جاءت من تعلمه الكيمياء هناك وهذا ما يتفق مع الآراء الحديثة بعض الشيء، فتحويل المعادن الذي كان يجري وراءه المصريون بوساطة الكيمياء يعد من أهم ما تكشف عنه البحوث الذرية في عصرنا.
والخلاصة من الاستعراض الذي سبق يمكن القول صراحة إن مصر قد أثرت في العلوم اليونانية تأثيرًا أساسيًّا، ويمكن تلخيص هذا التأثير فيما يأتي: يمكن أن يتساءل الإنسان أولًا: هل من الممكن ألا تترك حضارة لامعة كالحضارة المصرية التي ظلت مزدهرة عدة قرون أيَّ تأثير على قوم مثل الإغريق الذين كانوا، بفضل موقعهم البحري، لديهم كل التسهيلات للإقلاع في عرض البحار للبحث في البلاد النائية — وبخاصة مصر — عن غذائهم المادي والذهني، وكذلك مواردهم المادية؟ وسنضطر أن نجيب على هذا السؤال الذي فرض علينا فرضًا، لقد ذكرنا فيما سبق لعدم كفاية البراهين القاطعة اقتراحات هي في نظرنا كافية لتخلق في نفس القارئ تأكيدًا أدبيًّا، وعلى أية حال فإن الفكرة القائلة إن بلاد اليونان قد تطورت بذاتها وحدها ولا تدين بشيء للحضارات التي سبقتها لا بد أن تُمحَى كلية.
ولقد كانت مهمتنا في كشف النقاب عما أخذته بلاد اليونان عن مصر تعتمد بقدر الإمكان على الأمثلة التي برهنت على أن مصر تركت تأثيراتها العلمية والفلسفية في بلاد الإغريق كما وضحنا، وكذلك كيف أن أول نظرات للهيلانيين ألقتها على العالم فيما يخص الله والروح والمادة والفهم كانت تحمل في طياتها الطابع المصري دون أن ننتقص من عظمة ذكاء الإغريق وعبقريتهم، وفي الوقت نفسه فإننا على النقيض من رأي معترف به بوجه عام؛ لأنه خاطئ من أساسه، وذلك أنه يوجد فاصل كبير بين الروح المصرية في البحث وهي روح تجريبي وبَدَهي، وبين الروح الإغريقية التي تنطوي على التعقل والمنطق، وعلى ذلك فإن الأولى أمكنها أن تؤثر على الثانية، حقًّا إن الأعمال التي أتت بها العبقرية الإغريقية والتي خطَّت للفكر العالمي العام اتجاهًا جديدًا أسفر عما نسميه بحق المعجزة الإغريقية، تبرز نجاحًا عظيمًا بالنسبة إلى ما أوضحه لنا المفكر الشرقي، ولكن على الرغم من ذلك فإنه من الممكن باتخاذ مصر مثالًا يحتذى به في أن المدنية الشرقية قد احتوت على العناصر التي استعملها الإغريق في بناء نظامهم عن أصل العالم وتنظيمه ونهايته، وكذلك عن طبيعة الإنسان ومصيره.
وعلى أية حال فإنه على الرغم من أن العلم الشرقي يوصف بأنه وصفي وحسب فإنه قد بُذِلَت مجهودات في ترتيب المخلوقات إلى أنواع وفصائل كما يبرهن على ذلك ما كُشف من بحوث في مكتبة «آشور بنيبال» تثبت ذلك.
ومن جهة أخرى فإن الفلسفة الشرقية على الرغم من أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات الدينية والأساطير الخاصة بتناسل الآلهة وعلى الرغم من أنه ليس لها علاقة بالعلم، وعلى ذلك فإنها ليست بالفلسفة بالمعنى الأوروبي، فإنها بصرف النظر عن كل ذلك تتجه نحو تفسير صحيح للأشياء، وبذلك تستحق اسم «ما قبل الفلسفة»، وعلى ذلك فإن النتائج من كل ما سبق هي أن العلوم الشرقية والفلسفة الشرقية وبخاصة العلم والفلسفة المصريين يعتبران الموُجِدَين الأولين للعلوم العالمية، وليس هناك من يعارض في أن المدنية المصرية قد لعبت دورا عظيمًا في أصول الفكر الإغريقي، في عهد كانت مصر وبلاد الإغريق لهما علاقات سياسية وتجارية معا، ومن ثم فإن «الإسكندر» عندما دخل مصر كان يعلم أن علوم الإغريق يرجع نبعها الأصلي إلى مصر، وبهذا كانت مصر تعد مهد العلوم والحكمة والدين في كل العالم، وبخاصة العالم الإغريقي الأول ولا غرابة فإن «أفلاطون» الذي علم «أرسطو» معلم «الإسكندر» كان قد حضر إلى مصر وأخذ من علمائها ما أفاد بلاد الإغريق والحضارة الإغريقية، تلك الحضارة التي عادت ثانية لتبني لنفسها مجدًا جديدًا في عصر البطالمة في أرض النيل التي أخذت عنها في بادئ نشأتها مبادئ علومها ودينها وفلسفتها.
(٧) عودة الإسكندر من واحة سيوة
ولكن العبادة التي كانت تعد حقًّا مفاجأة للعالم كانت العبادة الرسمية للملك وهي التي أسسها «بطليموس الثاني» كما سنتحدث عن ذلك بعد، ويحتمل أن ذلك قد حدث بعد أن تُوِّج ملكًا على مصر، وبعد ذلك أسس «بطليموس» الثاني عام ٢٨٠ق.م في الإسكندرية عيدًا عظيمًا لوالده «بطليموس» الأول وقد حذا حذوه «أنتيوكوس» فإله «سيلوكوس» بوصفه «زيوس نيكاتور»، وبعد ذلك أصبح كل ملك على هذا المبدأ يُؤلَّه رسميًّا بعد موته مثل الإسكندر.
- (١)
«الاسم الحوري» أو اسم «القرين»: ويمثل الملك بوصفه المثيل الأرضى للإله القديم الذي كان يمثل في صورة الصقر «حور» الذي أصبح في الأزمان القديمة جدًّا إله مصر الأسرى وبهذه الصفة وحد بإله الشمس «رع» نفسه، وهذا الاسم كان يكتب عادة في إطار مستطيل وفي أسفله رسم باب وهمي كما نشاهد ذلك في مقابر الدولة القديمة المصرية، وعلى قمة هذا المستطيل يشاهد الصقر الذي يمثل حور، والظاهر أن هذا المستطيل والباب الوهمي الذي في أسفله يمثل القصر الملكي.
- (٢)
الاسم الثاني هو «نبتي»: ومعناه السيدتان، ويظهر الملك بوصفه موحدًا في شخصه الإلهتين الرئيسيتين للبلاد في العهد الذي سبق الأسرة الأولى مباشرة عندما كانت مصر لا تزال مقسمة مملكتين، وهاتان الإلهتان هما العقاب «نخبت» إلهة الوجه القبلي في مدينة الكاب، والإلهة و«اجبت» (أجو) وتمثل في صورة حية للوجه البحري ومقرها مدينة «دب» وهاتان المدينتان كانتا تجاوران مباشرة العاصمتين «نخن» (هيراكليو بوليس) و«ب» على التوالي، وهذا السبب في شهرة هاتين الإلهتين.
- (٣)
الاسم «حور الذهبي»: ومعناه في أول الأمر «حور المصنوع من الذهب» ثم قُصد به في العصر المتأخر حور المنتصر على «ست»، وبعد ذكر نعت حور الذهبي يأتي الاسم الذي كان يصف هذا النعت.
- (٤)
لقب الملك: وهو الذي يسبق اللقب «نسوت بيتي» (أي الخاص بنبات البردي أو الحلفا والنحلة، وذلك أن النبات «سوت» كان يمثل الوجه القبلي والنحلة تمثل الوجه البحري، ومعنى اللقب (نسوت بيتي) ملك الوجه القبلي والبحري ويُكتب اللقب الذي يأتي بعد ذلك في طغراء).
- (٥)
اسم الملك: ويقدَّم بالنعت «ابن رع» أي ابن «إله الشمس» «رع» والاسم الذي يكون في طغراء بعد عبارة «ابن رع» هو الاسم الذي كان ينادى به الملك مثل الإسكندر أو بطليموس أو «تحتمس» … إلخ.
ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم يصلنا من الأسماء الكبيرة الخمسة للإسكندر إلا ثلاثة أسماء نذكر منها اسمه المصنوع من الذهب أو «حور القاهر ست»: وهو الأمير الشجاع الذي استولى على البلاد الأجنبية وحامي مصر، وفي هذا اللقب ما يشعر بما كانت تطمح إليه نفس الإسكندر الأكبر.