حالة البلاد المصرية عند تولي بطليموس حكمها
عندما فتح «الإسكندر الأكبر» البلاد المصرية كانت الأحوال فيها مضطربة بسبب الحروب الطاحنة التي كانت قائمة بينها وبين الإمبراطورية الفارسية منذ زمن بعيد، وقد كان الشعب المصري يَتُوقُ للخلاص من يد «الفرس» بأية حالة من الأحوال، ولذلك نرى أنه عندما دخل «الإسكندر» أرض الكنانة لم يجد مقاومة ما، ولم يكن يدور بخَلَد المصريين أنهم سيصبحون خاضعين لحكم المقدونيين وسيطرتهم، وبخاصة أن الشعب المصري كانت له نظمه وتقاليده الخاصة التي ترجع إلى آلاف السنين، وقد بقي محافظًا عليها في وجه كل مغتصب أو فاتح مهما كانت قوته وجبروته، ولذلك فإن موضوع احتلال مصر وصبغها بالصبغة الإغريقية قد لاقى مقاومة عنيفة وجهدًا جبارًا، وقد كان فلاح البطالمة في بادئ الأمر محدودًا، ولم يلبث الشعب المصري كما سنرى بعد أن اشتدت مقاومته فاسترد قوته وحارب المستعمر حتى أضعفه إلى حد كبير.
والواقع أن الإغريق بَقُوا في مصر غرباء بين جمهور الشعب المصري الكثير العدد إلى أن انتهى به الأمر أن هضم الدخلاء وكاد يفنيهم فيه لولا تدخل الرومان في آخر لحظة.
ولقد كان على «بطليموس الأول» في بادئ حكمه أن يواجه مصاعب جمة في بلد له تقاليده القوية ومدنيته المكينة المنظمة ودينه العريق وحياته الاجتماعية الثابتة فكان عليه أن ينظم هذه الأوضاع على أسس جديدة ومبادئ جديدة على حسب سياسة إغريقية، ولا نزاع في أن هذه الأسس وهذه المبادئ التي كان يرمي إلى إدخالها «بطليموس» كان مرجعها إلى الأحوال الجديدة التي كانت سائدة في الشرق في خلال القرن الرابع بسبب ما حدث في بلاد الإغريق مصدر الحضارات العالمية وقتئذ من نكسة وانهيار سياسي انتابها مما جعل المواطنين الإغريق على تمام الاستعداد للرحيل من بلادهم لأي مكان آخر يطيب لهم فيه العيش بعد أن ضاقت عليهم بلادهم وقلت أرزاقها، وقد رأينا فيما سبق أن الإغريق كانوا راغبين في الذهاب إلى مصر التي رحبت بهم فأقاموا فيها وبخاصة في العهد الساوي؛ حيث أسسوا لأنفسهم مستعمرة هناك واندمج كثير منهم في سلك الجيش المصري من المرتزقين، وقد ساعدوا ملوكها على قهر الآشوريين وطردوهم من أرض الكنانة، وقد ازداد عدد الوافدين إلى مصر من بلاد الإغريق بدرجة عظيمة ما بين عام ٤٠٤ و٣٤١ق.م وذلك عندما كانت مصر مستقلة عن الحكم الفارسي، وفي تلك المدة أخذت مصر تهيئ نفسها لنظام جديد، وذلك أن ما بذلته من جهود للمحافظة على استقلالها قد اضطرها إلى الدخول في حظيرة دول القرن الرابع التي نشأت من إمبراطورية «الإسكندر الأكبر»، وتربط نفسها برباط قوي مع العالم الإغريقي الذي كان يناهض «الفرس» أعداء مصر الألدَّاء، ومعنى ذلك أن «بطليموس الأول» كان يريد أن يصبغ مصر في داخليتها بالصبغة الهيلانية بما فيه مصلحتها، وقد سبقت مصر ملوك البطالمة في هذا الاتجاه بدرجة كبيرة في عهد فراعنة مصر خلال الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين.
فنرى مصر في تلك الفترة قد فتحت أبوابها على مصاريعها في تلك الفترة للجنود الإغريق المرتزقين وللتجار الإغريق بسبب الحاجة إليهم، غير أن فراعنة مصر لم يُفلحوا في الوصول إلى حل يوفِّق هؤلاء المحاربين الإغريق والسكان المصريين الوطنيين؛ فقد كان المصريون لا يطيقون بقاء الإغريق في بلادهم كما كانوا لا يريدون النزول لهم عن شيء من حقوقهم.
يضاف إلى ذلك أنه كان هناك أمر آخر يحدد سياسة «بطليموس» في مصر، وذلك أن مصر كانت جزءًا من إمبراطورية «الإسكندر» القصيرة العمر، وكان «بطليموس بن لاجوس» قد حكمها مدة عشرين سنة بوصفه شطربة باسم الإدارة الرئيسية التي كانت في الواقع في قبضة أحد قواد الإسكندر، وقد رأينا أن هذه المدة كانت مليئة بالحروب والاضطرابات في كل أنحاء الإمبراطورية بين حكام الأقاليم التي كانت تنقسم إليها الإمبراطورية، وقد كان «بطليموس» في وسط هذه المعمعة يَعمل جُهدَهُ كما رأينا ليثبت مركزه في مصر وتكوين جيش وأسطول قويين لا لحماية مصر وحسب، بل كذلك ليقوم بنصيبه في حروب الإمبراطورية، ومع ذلك فإنه أخذ في إنشاء جيش وأسطول قويين ليكونا تحت تصرفه، وكان ذلك له بمثابة حياة أو موت، وقد نجح في تكوين قوة عظيمة تحت تصرفه، وقد بقيت الحال كذلك حتى بعد موقعة «أسوس» عام ٣٠١ق.م وقد ظهر بعدها توازن في القوى الدولية التي قامت وقتئذ في العالم الهيلانستيكي؛ أي إنه تقرر نظام سياسي في أنحاء الإمبراطورية المنحلَّة إلى دول كان الضمان الوحيد فيه لاستقلال أي قطر هو القوة الحربية والاستعداد العسكري، وكان الجيش الوحيد الذي يمكن «بطليموس» أن يعتمد عليه وهو في مأمن كان لا بد أن يؤلَّف من الجنود المرتزقين من المقدونيين والإغريق بقيادة ضباط مدرَّبين على فنون الحرب الإغريقية وتقاليدها، ولا غرابة في ذلك؛ فإن تفوق مثل هذا الجيش الفني قد برهنت على أهمية حملات «الإسكندر» التي فتح بها العالم وكذلك ظهرت براعة الجنود الإغريق في الحروب التي شنها أخلافه من بعده بعضهم على بعض، وفضلًا عن ذلك فإن مهارة هؤلاء الجنود المرتزقين كانت من قبل بارزة في حروب اليونان مع «الفرس» قبل حروب «الإسكندر»، والواقع أن فرق الجنود الشرقيين لم يكونوا مدرَّبين تدريبًا كافيًا كما أنهم لم يكونوا موالين لأي ملك أجنبي حتى يجعلهم عماد قوَّته أو معادلين للمقدونيين والإغريق كما أنه لا يمكن أن يعتمد عليهم كلية حتى يستغني عن الجنود الإغريق.
وربما كان من الممكن «للإسكندر» الذي يعد السيد المسيطر على إمبراطوريته العالمية أن يدرب جنودًا من «الفرس» على فنون الحرب المقدونية ليتغلب بهم على مقاومة المقدونيين والإغريق، وبذلك يحصل على امتزاج شعوب ومدنيات، غير أن «الإسكندر» كان قد مات، على إثر ذلك صارع أخلافه إلى شن الحروب بعضهم على بعض، ولم يجسر واحد منهم على أن يواجه تلك التجربة الطويلة الخطرة ويؤلف جيشًا من الجنود الوطنيين، وعلى ذلك كانوا مجبرين على الاعتماد على جيوشهم المؤلفة من الإغريق والمقدونيين لأجل أن يضمنوا خدمة أمينة وواردًا من الجنود لا ينقطع سيله في مقابل إعطاء عساكرهم مكانة ممتازة لهم وحياة آمنة في الحرب والسلم، ولَعَمْرِي فإن هذه الطريقة كانت متبعة في الجيش المصري، وقد تحدثت عنها المتون المصرية وبخاصة في عهد رعمسيس الثاني عندما أشار إلى ذلك في موقعة «قادش» وهو يخاطب جنوده (راجع مصر القديمة الجزء السادس) بما يشعر أنه كان قد خصص لهم أملاكًا، وقد كان الملوك المقدونيون في حاجة للمال لحفظ كيان ممالكهم، وقد كانت المبالغ الضخمة التي تتطلبها سياسة الحرب وقتئذ في مصر لا يمكن أن يحصل عليها من البلاد وحدها وبخاصة أن معظم اقتصادها كان يرتكز على محاصيلها الطبيعية، وكان لا بد لإعانة نظامها الاقتصادي وتوجيهه من معونة رجال من الإغريق الماهرين، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بجلب رءوس أموال إغريقية ورجال أعمال إغريق، ومن الطبيعي أن هؤلاء كانوا لا يرضون بمكانة أو حقوق متواضعة تجعلهم مع المواطنين المصريين على قدم المساواة، ومن ثم نجد أن «بطليموس الأول» قد فطن لذلك واضطُر إلى فتح أبواب مصر على مصاريعها للجنود المرتزقين والمدنيين من الإغريق على أن يضمن لهم بطرق منوعة إمكانيات الحياة في مصر بالأسلوب الذي يحفظ لهم الأفضلية والسيادة على المواطنين المصريين الأصليين.
وقد كانت «الإسكندرية» وهي العاصمة الجديدة مركز التأثيرات الجديدة التي قامت على أرض الكنانة، فقد كان يسكن فيها الملك وبلاطه وحرسه وضباط جيشه ووزراؤه كما كان يعمل في «الميوزيوم» والمكتبة جنبًا لجنب عظماء رجال الفكر من الإغريق وبخاصة الفلاسفة والعلماء والكُتاب ليضعوا أسس عصر جديد في العلوم والآداب، يضاف إلى ذلك أن الإمكانيات التجارية العظيمة التي كانت تمتاز بها الإسكندرية قد اجتذبت إليها أفواجًا من التجار الإغريق والصناع في حين أن نمو هذه المدينة بوصفها المركز الاقتصادي لمصر قد خلق فيها طبقة متوسطة من الشعب ومن صغار التجار والصناع وما شاكل ذلك، هذا إلى وجود طبقة دولية معظمها من الإغريق، غير أن «بطليموس الأول» حينما فتح أبوابه للإغريق والمقدونيين فإنه وأخلافه من بعده لم يغلقوها في وجوه الأقوام الآخرين، ولا أدل على ذلك من أنه قد ظهر في الإسكندرية مجتمعات من المهاجرين من الشرق نخص بالذكر منهم السوريين والأناضوليين وفي مقدمة الكل اليهود الذين يُعتبرون في تكوينهم الاجتماعي أنهم لا يختلفون كثيرًا عن الإغريق والمقدونيين، أضف إلى هؤلاء أن العنصر المصري كان في ازدياد مع مر الأيام، وكذلك العبيد الذي أُسروا في الحروب أو جُلبوا من «آسيا» و«أفريقيا» وسنرى بعدُ كيف كانت الإسكندرية عاصمة البطالمة مؤلَّفة من خليط من أجناس منوعة.
أما أهل ريف مصر (القرى) فكانوا مزيجًا من الأجناس فمنذ عهد «بسمتيك» الأول مؤسس الأسرة السادسة والعشرين في مصر قد وفد إلى أرض الكنانة جماعات من الإغريق واستوطنوها وبعد ذلك أسسوا لهم مدنًا إغريقية نخص بالذكر منها نقراش و«برتوريم» (مرسى مطروح) كما استوطن بعضهم المدن الكبيرة مثل منف وطيبة، وبعد فتح مصر على يد «الفرس» وفد إلى مصر أعداد متزايدة من اليهود والسوريين، وكذلك الجماعات التي كان يطلق عليها لفظة «فرس» وكانوا يعملون جنودًا وموظفين وجُباة وغير ذلك، وعندما دخل «الإسكندر» مصر ازداد تدفق الأجانب على البلاد، وقد أقيمت حاميات من الجنود الإغريق والمقدونيين في النقط الدفاعية الرئيسية في البلاد، وفي الوجه القبلي أسس «بطليموس سوتر» مدينة «بطليمايس» لتُضارع مدينة «طيبة» القديمة كما كانت «الإسكندرية» تضارع مدينة «منف»، وقد توطن في أنحاء مصر كما سنتحدث عن ذلك بعدُ جنود من الإغريق كان لكل منهم قطعة أرض يملكها، هذا وقد ظهر في طول البلاد وعرضها موظفون إغريق ومقدونيون في حين أنه استوطن في المدن الصغيرة والقرى فئات من التجار وأصحاب الحرف والفلاحين الإغريق والشرقيين.
وعلى أية حال يجب أن نلحظ هنا أن كل هؤلاء السكان من الأجانب لم يكونوا بطبيعة الحال إلا مجرد الجزء العلوي من المبنى الذي يمثل السكان عامة، أما الأساس فكان لا يزال كما كان من قبل في كل عصور التاريخ وعلى الرغم من كل الغزوات الأجنبية، يتألف من السكان الوطنيين أهل البلاد، ومما يؤسف له جد الأسف أننا لا نعلم شيئًا عن مصير الطبقة الأرستقراطية في مصر بعد الفتح الإسكندري لمصر؛ فقد سكتت عنها كل المصادر التي وصلت إلينا حتى الآن ولكن من جهة أخرى نعلم أن المعابد قد ظلت مراكز للحياة الدينية فكانت تعج بالكهنة العديدين كما أن نظمها بقيت ثابتة الأركان وكذلك أسلوب حياتهم التقليدي الذي يرجع إلى آلاف السنين فقد ظل كما هو، وعلى الرغم من أن الإحصاءات تعوزنا فإن البلاد كانت في يد الفلاحين الذين كانوا يسكنون في آلاف من القرى، كما أن الحِرَف والمتاجر في المدن قد بقيت في يد مئات من طوائف الصناع والتجار، هذا ولا بد أن عدد السكان في الفترة الأولى كان يعد بالملايين، والمهاجرين يعدون بالآلاف، هذا وقد كان للمواطنين الأصليين تقاليد ثابتة في الحياة، في حين كان المهاجرون الذين انتُزعوا من أوطانهم لم يكن في مقدورهم أن يبنوا لأنفسهم نظامًا جديدًا في مركزهم الجديد وأحوالهم الجديدة إلا على مهل وببطء وحزم، والواقع أن المسألة الأساسية التي واجهت «بطليموس الأول» عند بداية حكمه هي أن ينظم من جديد مملكته الشرقية الجديدة على قواعد جديدة غريبة مع مراعاة أن المصريين كانوا متمسكين بتقاليدهم الموروثة، وكذلك كان عليه أن يراعي مشاعر رعاياه الجدد وميولهم، وقد وفدوا على مصر من كل حدب وصوب، وكذلك كان عليه أن يذكر دائمًا أن الحصن الرئيسي لحكمه وعماد سياسته لم تكن العناصر الوطنية بل كانت طبقة الحكام الجدد الذين بثهم في أنحاء القُطر ليكونوا أداة لتنفيذ سياسته، وأعني بهؤلاء الإغريق والمقدونيين والأجانب الآخرين، وسنرى فيما بعدُ كيف أن المصريين على الرغم من خضوعهم في بادئ الأمر لعمال البطالمة فإنهم بعد مدة هبوا بانتفاضة جبارة كان من جرائها أنهم أجبروا ملوك البطالمة على الإذعان لإرادة الشعب والخضوع لمشيئته، وليست هذه هي المرة الأولى في تاريخ أرض الكنانة بل سبقتها مواقف مشرفة للشعب المصري أظهر فيها أنه جدير بماضيه الفاخر.
تلك كانت حالة البلاد المصرية عندما تُوج «بطليموس الأول» فرعونًا عليها وسنرى فيما يأتي ما قام به من أعمال تحدد موقفه في التاريخ المصري لهذه الفترة.