المدنية في عهد بطليموس الأول
مقدمة
تدل الأعمال التي أنشأها «بطليموس الأول» والخطط التي ترسَّم خطاها منذ وطئت قدماه أرض مصر حاكمًا على أنه كان رجل سياسة ماهرًا كما كان رجل حرب وقيادة؛ فقد اتبع في سياسة حكم البلاد في الخارج والداخل خططًا وطرقًا أدت به إلى الفوز في الميدانين إلى درجة عظيمة، فقد رأينا أنه لم يتَّبع من الشعب المصري العريق في المجد العنفَ والشدة لتنفيذ مآربه وإصلاحاته الداخلية، فلم نرَ أنه حاول أن يفرض على الأهلين اعتناق العقائد والعادات والأخلاق الإغريقية، والشعب المصري كانت له معتقداته وعاداته وطبائعه التي لم يحِدْ عنها منذ آلاف السنين، لذلك نجد أن «بطليموس» قد رأى بثاقب رأيه وحسن ذكائه النافذ أن يترك الشعب المصري على ما فُطر عليه دون أن يجرح شعوره أو يسيطر على عاداته، وبخاصة من الناحية الدينية، وسنرى بعدُ أن هذه السياسة التي رسمها «بطليموس» في معاملة الشعب المصري هي التي سار على نهجها إلى حد ما معظم ملوك البطالمة في معظم الأحيان، وسنرى أنهم عندما كانوا يحيدون عن هذه الخطط كانوا يُحدثون بذلك فِتَنًا وقلاقل تنتهي بانتصار الشعب عليهم.
سياسة بطليموس الأول الداخلية
تدل شواهد الأحوال على أن «بطليموس الأول» كان قد عزم منذ أن وطئت قدماه أرض الكنانة على أن ينظر إلى مصر من الوجهة الدينية نظرة «الإسكندر»؛ فقد كان الأخير إذا صدقنا الظواهر يدين بالدين المصري القديم ويعتقد أنه ابن الإله «آمون رع»، وأنه خليفته على أرض مصر.
والواقع أن «الإسكندر» كان يرى بعد أن اتسعت فتوحه ألا يقف في وجه أي شعب من الناحية الدينية؛ لأنه كان يأمل في آخر الأمر لو طال به العمر أن يوحد بين شعوب العالم ويجعل نفسه بوصفه ابن «آمون» المسيطر عليها من قِبَله.
وخلاصة القول أَنَّ ملوك «الفرس» العظام وبخاصة «دارا» و«أكزركزس» قد أظهرا احترامًا عظيمًا للديانة المصرية القديمة والتقاليد الفرعونية الموروثة، وقد قاموا بمجهودات لربط مصر ببقية إمبراطوريتهم مع عالم البحر الأبيض المتوسط، ولدينا برهان عظيم على ذلك وهو تمام القناة العظيمة التي بدأ حفرها الملك «نبكاو» الثاني أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين وهي التي ربطت النيل بالبحر الأحمر، وكذلك أبقوا بلدة «نقراش» مفتوحة للتجار الإغريق الذين أتى معظمهم من «أثينا» والبلاد اليونانية الأخرى، وأخيرًا سعوا في تحسين الإدارة المصرية بمحاربة النظام الإقطاعي الذي كان منتشرًا هناك قبل الفتح الفارسي وكذلك الحد من سلطة الكهنة الذين كانوا مهيمنين على جزء عظيم من ثروة البلاد.
وعندما تولى «بطليموس الأول» حكم البلاد المصرية سارع على نهج سياسة إرضاء الكهنة عندما تولى شطربية مصر، فقد قدم سلفة مقدارها خمسون تالنتا مساعدة لتكاليف دفن عجل «أبيس»، وقد أبى أن يستردها فكان هذا العمل من جانبه بداية وضع علاقات طيبة بينه وبين الكهنة المصريين وإظهارًا بأنه ليس أقل من «الفرس» في مراعاة شعور القوم الدينية واحترام معبوداتهم، ولم تكن هذه هي الفرصة الوحيدة التي أظهر فيها «بطليموس» تقديره للآلهة المصريين وتلبية نداء الكهنة لما لحقهم من ظلم وجور، كما ادَّعوا في الفترة الأخيرة من حكم «الفرس» لمصر، وآية ذلك أنه عُثر كما ذكرنا من قبل على لوحة من عهد الفرعون «الإسكندر الثاني» إمبراطور دولة «الإسكندر الأكبر» مؤرَّخة بالسنة السابعة من حكمه.
والواقع أن «بطليموس» شطربة مصر في ذلك الوقت هو الذي أقام هذه اللوحة وقد تحدث فيها أولًا عن مناقب «الإسكندر الثاني» بوصفه فرعون مصر وألقابه كما جرت العادة في كل النقوش الملكية التي كانت تقام في المعابد الكبرى.
ويطيب لنا أن نذكر هنا أن «الإسكندر الثاني» هذا لم يأتِ إلى مصر ولم يرَها طوال حياته، هذا بالإضافة إلى أن «بطليموس» نفسه عندما تولى عرش الفراعنة لم يعترف لا بمدة حكمه ولا بمدة حكم سلفه «فليب أريداوس» ولكنه احترامًا للمصريين الذين لا يمكن أن يعيشوا دون فرعون يحكم بلادهم على حسب التقاليد الموروثة قد اعترف بهما مؤقتًا، وعند موت «الإسكندر الثاني» وتوليه هو العرش أخذ يؤرخ حكمه لمصر منذ أن تولى حكمها بوصفه شطربة، ومما يلفت النظر في هذا الصدد أنه بعد موت «الإسكندر الثاني» بقيت مصر دون فرعون يحكمها بوصفه ابن الإله «رع» ولكن المصريين قد أصروا على تأريخ وثائقهم بعهد «الإسكندر الثاني» حتى تولى «بطليموس» الملك سنة ٣٠٤ق.م وذلك لأن «الإسكندر الثاني» في نظرهم هو ابن الإله «رع» أو هو بمثابة «حور» بن «أوزير» فكان لا يزال في نظرهم حيًّا باقيًا إلى أن يتولى «حور» آخر ليحل محله، وقد تحدثنا عن ذلك من قبل.
وقد رأينا أنه حتى في عهد الإسكندر أخذ وزير المالية يُغِير على أملاك المعابد ويجبي منها الضرائب قسرًا مما أغضب الشعب، وعلى أية حال نجد أن النظام الذي اتَّبعه البطالمة هو النظام الذي وجدناه قائمًا في عهد «بطليموس الثاني» لحفظ أملاك المعابد والكهنة، هذا ونجد أن عدم فرض الضرائب على المعابد والكهنة له نظيره في عهد الفراعنة، ومن الجائز أنه يرجع إلى زمنهم.