الإسكندرية في عهد بطليموس الأول
وضع «الإسكندر الأكبر» حجر الأساس لمدينة «الإسكندرية» ولم يمهله الأجل ليرى مدينته
التي أتمها من بعده «بطليموس الأول» وجعلها عروس البحر الأبيض المتوسط وزينة الدنيا
من
حيث المباني، كما أضحت قبلة العالم الهيلانستيكي من حيث العلوم والمعارف في عصره
وفي
عصر أخلافه، وقد تميزت «الإسكندرية» عن سائر مدن مصر حتى أصبحت تُعرف باسم «المدينة»،
وذلك على غرار مدينة «طيبة» في عهد الفراعنة فكانت تعرف باسم «نو» أي المدينة وفي
عصرنا
تعرف «يثرب» وهي مدينة الرسول محمد
ﷺ باسم «المدينة».
١
وتقع «الإسكندرية» على لسان من الأرض بين البحر وبحيرة «مريوط»، وعلى كل من جانبي
هذا
اللسان ميناء، وقد وضع تصميمها المهندس «دينوكراتيس»
Dienocrates المقدوني على شكل مستطيل وهو الشكل العادي الذي كان
متبعًا في تصميم المدن الهيلانية، ومن المحتمل أن سور الإسكندرية المحيط بها كان
يبلغ
عشرة أميال، وهذا النوع من التصميم الهندسي كان يوجد في القرى الإغريقية التي أقيمت
في
«الفيوم»، ولكن الطرق التي كُشف عنها في «الإسكندرية» بخارجاتها المنيرة ليلًا ترجع
فعلًا إلى العهد الروماني، والواقع أن كل ما نعرفه عن المدن الإغريقية في هذا العهد
يرجع أصله بوجه خاص إلى ما كتبه «إسترابون» الجغرافي الذي عاش في القرن الأول بعد
الميلاد، فقد وصف لنا شارعًا كبيرًا في الإسكندرية فقال: إن عرضه مائة قدم ويمتد
من
الشرق إلى الغرب ويتقاطع بزوايا مستقيمة بشارع آخر ويؤديان إلى بوابات المدينة الأربع،
وذكر أن عددًا كبيرًا من الشوارع يحمل أسماء العبادة للملكة «أرسنوي» الثانية زوجة
«بطليموس الثاني».
٢
وقد ربط الإسكندر جزيرة «فاروس» إلى اليابسة بواسطة «طوار» طوله سبعة أثمان الميل
وأطلق عليه اسمهيبتاستاديون Heptastadion وكوَّن ميناء
مزدوجًا، وفي شرقي الرصيف يوجد حوض طبيعي قد أُهمل الآن، وفي الغرب ميناء من صنع
الإنسان تسمى «إينوستوس» Eunostos ألفت بإقامة طوار في
الماء، وتتصل ببحيرة مريوط بقناة، وكان لكل منهما ميناء صغير داخلي مغلق ينفتح منها،
فمن الميناء الشرقية كانت ميناء «بطليموس» الخاصة، ومن «إينوستوس» الميناء الحربية
المسماة «كيبوتوس» Kibotos، وكانت الميناء التي على
بحيرة «مريوط» تدخل فيها تجارة النيل، ويقال إنها كانت تتسع لحمولة كبيرة أكثر من
ميناءَيِ البحر، وهناك كان يرسو أسطول النزهة الفاخر الذي بناه «بطليموس الثاني»،
وفيما
بعد أقيم هناك القصر الفاخر الذي أقامه «بطليموس فيلوباتور» الرابع على عوامة، وهو
عبارة عن قصر فاخر (فيلا أو كَرمة مؤلفة من قاعات ومحاريب محاطة بعُمُد).
وعلى شاطئ الميناء الشرقية كان يقع الحي الملكي المسمى بروشيون Brucheion حيث يشاهد في وسط المعابد والبساتين الشاسعة القصر الملكي
والمتحف والمكتبة ومعبد اليهود وربوع الحرس ومقابر البطالمة والضريح الفاخر الذي
أقيم
لموارة جثمان «الإسكندر» في عهد «بطليموس الثاني» عندما أحضره من منف على حسب إحدى
الروايات، ولا يزال أباطرة الرومان يعدون هذا القبر مكانًا مقدسًا يحج إليه الناس،
فمن
بين الذين وفدوا إليه الإمبراطور «كراكلا».
وكان يشرف على كل هذه المباني مبنى «الفاروس» أو «منارة الإسكندرية» التي أقامها
«سوستراتوس» مواطن بلدة «كنيدوس» وذلك لتأمين البحَّارة وسفنهم في عرض البحر، وقد
بنيت
هذه المنارة على شكل برج يتألف من ثلاث طبقات بعضها فوق بعض متناقضة في الحجم من
أسفل
إلى أعلى ويبلغ ارتفاعها جميعًا حوالي ٤٠٠ قدم، وهذا المبنى كان منقطع النظير في
تلك
الفترة، وكان الطابق الثالث الذي فيه المصباح يتألف من ثمانية عُمُد يرتكز عليها
قبوة
مشتعلة تحتها نار خشب راتنجي، ومن المحتمل أن النور كان ينعكس بواسطة مرآة مقعَّرة
كانت
تضيء الطريق للسفن ويصل إليه الإنسان بواسطة مصعد، ومن المحتمل أن العرب قد أخذوا
عن
هذا البرج المدرج تصميم المآذن التي تقام في المساجد.
وكان بداخل المدينة المباني التي كانت تحتوي على مصالح كل إدارات البلاد والمخازن
الرئيسية للغلال والزيت والمحاصيل الأخرى ومحكمة العدل والجمنازيوم، ويقع «الأستوديوم»
خلف البوابة الشرقية وحظيرة عربات السباق «هيبودروم»
Hippodrum، وفي الغرب على مقربة من الحي الوطني يقع مبنى «بريميتيسكوس»،
٣ وهو عبارة عن معبد «سيرابيس» العظيم، هذا ويوجد هناك ربوة صناعية مهداة
للإله «بان»
Pan كانت تشرف على كل المدينة، وكانت
الحوانيت والأسواق مقامة صفًّا صفًّا على جانبي الشوارع الرئيسية كما كان مقامًا
فيها
مئات البيوت التي تتألف من عدة طبقات عالية، وكانت الفنادق معروفة في الإسكندرية
يديريها عبيد لأسيادهم، وكان يجلب للأهلين المياه بقناة تأخذ مياهها من النيل، وتوزع
بواسطة مجارٍ تملأ حياضًا تحت الأرض تأخذ منها الناس ما تحتاج إليه من الماء بالضخ،
وقد
تعدت المدينة سورها من كِلا الجانبين؛ ففي الجهة الغربية كان الحي الوطني المصري،
وفي
الشرق خلف ضاحية «إليوزيس»
Elusis غُرست حدائق غنَّاء
امتدت حتى «كانوبس» (أبو قير) التي كانت تعد ملعب الإسكندرية، كما كانت تحتوي على
الأضرحة المزخرفة، وكان يقطن المدينة مجتمع غريب مؤلف من الملك وبلاطه والجيش وكبار
الموظفين والحكام والكهنة أعضاء مجلس المدينة والعلماء والشعراء والكُتاب وفلاسفة
«الميوزيوم»، والمكتبة والمعلمين والتلاميذ والبنات وكهنة من الإغريق والوطنيين ورجال
أعمال أغنياء من رعايا الملك أو أجانب وأصحاب حوانيت متوسطي الحال وأصحاب حرف وبائعين
جائلين ومشعلي المصابيح وعمال المواني وبحَّارة وعبيد.
وكان يتحدث فيها السكان لغات عدة فكانت اللغة الإغريقية بكل لهجاتها هي اللغة
السائدة، ولكن في الأحياء الوطنية كان الحديث باللغة المصرية، في حين كان اليهود
يتحدثون باللغة العبرية والآرامية التي كانت لا تزال اللغة السائدة عندهم، وخلافًا
للُّغة العبرية كانت هناك لغة ساميَّة أخرى، ومن المحتمل أنه كانت هناك بعض لهجات
هندية.
ولم يحُلَّ عام ٢٠٠ق.م، حتى أصبحت «الإسكندرية» أكبر مدينة في العالم المعروف، ولم
تَفُقْهَا روما إلا فيما بعد، وقد بلغ عدد سكانها ما يقرب من مليون نسمة
٤ (وقد جعلها المؤرخ «بيلوخ» أقل بكثير من مليون).
وفي محاورة دُوِّنت على بردية كُشِفَ عنها حديثًا ادَّعى أحد المتحمسين أن
«الإسكندرية» هي الدنيا، فالأرض قاطبة هي أرض المدينة والمدن الأخرى ليست إلا قراها
وحسب.
٥
والواقع أننا لا نعرف شيئًا عن تاريخ الإسكندرية المبكر، والظاهر أن «الإسكندر
الأكبر» لم يكن لديه أية فكرة عند تأسيسها لجعلها عاصمة المُلك.
ومن المحتمل أن الحكام الذين نصَّبهم على مصر قبل مغادرته إياها كانوا يحكمون البلاد
من «منف» العاصمة المصرية القديمة، هذا ونعلم أن «بطليموس بن لاجوس» عندما حصل على
مصر
بوصفها الشطربية التي يحكمها من قِبَل الإمبراطور «فليب أريداوس» قد اتخذ عاصمة ملكه
مدينة «منف» كذلك حيث كان يثوي جثمان «الإسكندر» الذي حصل عليه بعد موته كما شرحنا
ذلك
آنفًا، ولم ينقل «بطليموس» مقر ملكه إلى «الإسكندرية» إلا بعد مرور سنين عدة، وذلك
بسبب
تغيير سياسته،
٦ وقد ترك «بطليموس» سياسة «الإسكندر» الرشيدة في الحكم ونهج بدوره في حكم
المصريين سياسة الغالب للمغلوب، وهي السياسة التي انتهجها أخلافه إلى أن أجبرهم ضعف
البلاد المتزايد إلى النزول عن بعض الحقوق للشعب المغلوب على أمره، وقد كانت العلامات
الظاهرة الدالة على هذا النهج هي نقل مقر الحكم إلى «الإسكندرية» وإقامة عبادة الإله
الجديد «سيرابيس» الذي ترجع أصل عبادته إلى مدينة «منف» (وهو الإله الذي جعله «بطليموس
الأول» نقطة تقابُل الإغريق والمصريين في عبادة واحدة)، ومن ثم أصبح بصورة ما الإله
القومي لممتلكاته، وقد أصبح هذا الإله موضع عبادة عظيمة يدير شئونها رئيس كهنته في
«الإسكندرية»، يضاف إلى ذلك أنه نقل جثمان «الإسكندر» إلى «الإسكندرية» في عهده أو
عهد
«بطليموس الثاني» على أرجح الأقوال، وكان في الإسكندرية مقدونيون يحتمل أنهم كانوا
فيها
من العهد الأول الهيلانستيكي ولم يكونوا منفصلين عن المدنيين العاديين، ولكنهم كانوا
يؤلفون طبقة من السكان بما لديهم من امتيازات.
ويقول أحد المؤرخين:
٧ إن السكان الأصليين لا بد كانوا يتألفون من مقدونيين وإغريق، غير أن السؤال
المعضل في هذا الصدد هو كيف تمكن «الإسكندر الأكبر» من أن يجمع الأسر التي ألَّفت
النواة الأولى لسكان «الإسكندرية»؟ وهذا ما نجهله تمامًا، والحقيقة أن السواد الأعظم
من
السكان كان من المدنيين الإغريق، ولكن من الجائز أنهم كانوا يشملون ممثلين من سلالات
غير إغريقية، ولا نزاع في أن الإغريق قد وفدوا على الإسكندرية من أجزاء عدة من العالم
الإغريقي، وقد كانت تُسمع في شوارع «الإسكندرية» عدة لهجات إلى أن حلت محلها لهجة
خاصة
من العهد الهيلانستيكي، وبهذه المناسبة يذكر الإنسان المناقشات التي نجدها في المقطوعة
الخامسة عشرة من شعر للشاعر «تيوكريتيوس»،
٨ حيث نجد الأجنبي عندما أحفظَهُ ثرثرة «براكسينوا»
Praxinoa وصاحبها يصيح قائلًا: «يا سيدتي الفاضلة كفِّي عن هذا
الهذيان الذي لا ينفد والذي يشبه هديل زوج الحمام.» إنهما يجعلاني أخرج عن طوقي
بلهجتهما الدورية العريضة، فتجيبه «براكسينوا» قائلة: يا لله من أين أتى الزميل؟
وما
عليك إذا كنا نهذي إنك تشتري عبيدك قبل أن توصي عليهم وإن من تعطيهم أوامرك هم من
أهل
«سراقوسة» وكنت أود أن تعلم أننا «كورنثيا» الأصل مثل «بلرفون»
Bellrphon كما تعلم، ونحن نتكلم «بالبلوبونيزية» (لغة أسرته) وأظن أن
الدوريين مسموح لهم أن يتكلموا باللغة الدورية (أي باللغة العريضة).
هذا ونجد في ورقة تحتوي على وثيقة خاصة بحملة تجارية ببلاد «بنت» لشراء أفاويه (بهارات)
٩ أفرادًا من بين الجماعات والضامنين لهم من «إسبرته» و«إليا»
Ilea في إيطاليا وقرطاجنة ومرسيليا وآخر يظهر أنه
روماني، ونجد كذلك في عقد خاص بقرض في السنة ٢٢٥ق.م فارسيًّا من الحرس الملكي،
ورومانيًّا وثلاثة أفراد من «برقة».
وخلافًا للمواطنين الذين يتمتعون بحقوق المواطن الكاملة، كان يوجد في العهد الأول
على
وجه التقريب، وفي العهد الذي تلاه على وجه التأكيد، أناس لم يكونوا يتمتعون بحقوق
المواطن الإسكندري، هذا وكان يوجد في المدينة فضلًا عن ذلك يهود قد ازداد عددهم فيما
بعد بدرجة عظيمة، ويشك بعض المؤرخين،
١٠ فيما أدلى به «جوسيفس» من أن «الإسكندر» قد شجع اليهود بوجه خاص على سكنى
الإسكندرية، وأنه أعطاهم حقوق المواطن الإسكندري، وذلك بسبب أن اليهود في هذه الفترة
لم
يكونوا كاليهود الذين أتوا بعد، وهم الذين كانوا متعلقين تعلقًا وثيقًا بالمال وكسبه،
١١ ومن البَدَهِيِّ أن الإغريق كانوا قومًا تجارًا ممتازين في هذه الأيام، ومع
ذلك فإن اليهود سواء أكانوا في «الإسكندرية» من أول تأسيسها أم رحلوا إليها من جبال
يهودة المنعزلة كانوا قد أعدوا (بسبب تجاربهم العظيمة في أثناء أسرهم في بلاد بابل)
لنشر اختلاطهم بالأجانب والعيش في الخارج، ومن ثم انهمكوا بِشَرَهٍ في التجارة، وقد
كانت الإسكندرية هي العامل الرئيسي في صبغهم بالصبغة الهيلانستيكية.
وتدل شواهد الأحوال على أن الإسكندرية كانت تضم أكبر عدد من اليهود في كل العالم
وهناك تعلموا معظم تجاربهم الأولى بوصفهم رجال مصارف وسماسرة في العالم المتمدين.
١٢
ولم تكن الإسكندرية والأراضي التي تحيط بها تعتبر جزءًا من مصر بل كانت تعد مجاورة
لها، ولذلك نجد في الأوراق البردية أن القوم كانوا يتحدثون عن القيام بسياحة من
«الإسكندرية» إلى مصر، وهذه العبارة غاية في الأهمية، وقد وصل سكان الإسكندرية في
العهد
الأخير من عصر البطالمة إلى حوالي أقل من مليون نسمة كما ذكرنا آنفًا، ولكن سكان
الإسكندرية بغضِّ النظر عن عدد الأجانب الزائرين كانوا يعدون أنفسهم بأنفة الإسكندريين،
وقد ذكر «ديودور» أن عدد المواطنين في الإسكندرية في آخر عهد البطالمة بلغ ثلاثمائة
ألف
نسمة، وكان كل المواطنين الأصليين من المصريين بطبيعة الحال، وهم الذين بلغوا عددًا
عظيمًا في الأزمان المتأخرة لا يعدون من سكان المدينة، ويحتمل كذلك أن اليهود الذين
كانوا يسكنون فيها لا يعدون من سكان الإسكندرية الأصليين، غير أن هذا فيه شك، وسنتحدث
عن اليهود في الإسكندرية ومصر فيما بعد.
وكان السكان الإغريق يعتبرون أنفسهم بأنهم يؤلفون مجتمعًا إغريقيًّا أصليًّا ويتمتعون
بالمنافع والنظام الاجتماعي الذي كان يتمتع به المواطن الإغريقي في بلاده الأصلية،
وكان
سكان الإسكندرية يعتبرون أنفسهم إغريقًا مقدونيين، ومن المرجح كثيرًا أنه لم يكن
هناك
اختلاط عظيم من جهة الدم بين المصريين الأصليين والإسكندريين، وذلك لأنه في «نقراش»
وكانت بلدة إغريقية في قلب مصر منذ حوالي القرن السابع قبل الميلاد، كان زواج الإغريقي
من المصرية يعتبر أمرًا غير شرعي،
١٣ ومن المحتمل أن الحالة كانت كذلك في «الإسكندرية» وفي بطليمايس،
١٤ وقد ذكر لنا المؤرخ «بوليبيوس»
Polybius١٥ في فقرة من كتابه أن الإسكندرية في الأيام الأخيرة من عهد أسرة البطالمة
كانت تحتوي على عناصر ثلاثة من الناس:
- أولًا: العنصر المصري الوطني وكان حاد الذكاء طيِّعًا للحياة
المدنية.
- ثانيًا: الجنود المرتزقين الذين كانوا عصاة وعلى استعداد لفرض إرادتهم على
الحكومة.
- ثالثًا: الإسكندريين وكانوا يميلون بعض الشيء للخروج على حدود النظام المدني
غير أنهم كانوا أقل خروجًا من الجنود المرتزقة، وذلك لأنهم كانوا
إغريقًا في أصلهم ولم ينسوا أسلوب حياتهم الإغريقية.
على أن هذا التقسيم الذي قسمه «بوليبيوس» غير مضبوط؛ إذ إنه لم يذكر أي شيء عن الجيش
النظامي، والظاهر أنه قد أدخل تحت لفظة الإسكندريين كل المدنيين الإغريق الأحرار
من
السكان سواء أكانوا من المدنيين أم من غيرهم، ولم يذكر اليهود، ومن المحتمل أنه على
الرغم من أنهم كانوا قد صبغوا بالصبغة الإغريقية من حيث اللغة والملبس لم يكن من
السهل
تمييزهم بمظهرهم الإغريقي.
هذا، وقد تحدث كل من «بوليبيوس» و«فيلو»
Philo عن
الإسكندريين بوصفهم قومًا من دم مختلط، ولكن المرجح أن المقصود هنا أن جماعة المواطنين
الإسكندريين كانوا خليطًا من الإغريق من كل صنف، فكان منهم «الأيونيون» و«الدوريون»
و«أيوليون»
Aeolians وكذلك إغريق من «هيلاس»
وإغريق من كل المدن الخارجة عنها شرقًا وغربًا وهم الذين لم يكن دمهم مختلطًا بالدم
المصري.
١٦
ويُلحَظ كذلك أن السكان الإغريق في الإسكندرية كانوا ضمن جماعة المواطنين
الإسكندريين، ويعتقد المؤرخ «شوبارت» بحق أن جماعة المواطنين في الإسكندرية كانوا
يشملون أقلية من السكان الإغريق القاطنين في هذا البلد، والجم الغفير من الناس الذين
كانوا يدعون أنفسهم هيلانيين كانوا يتكلمون الإغريقية ويعيشون عيشة الإغريق، غير
أنهم
لم يتمتعوا بامتيازات المواطن الإغريقي مثل الإغريق المهاجرين الذين كانوا يسكنون
في
«أثينا» أو في أي بلدة إغريقية أخرى، والمحتمل أنهم كانوا لدرجة كبيرة ليسوا من دم
إغريقي بل كانوا نتاجًا من زواج إغريقي من نساء مصريَّات في المنطقة التي خارج
الإسكندرية وقد أتوا ليستوطنوا في المدينة، ومن المحتمل أن كل الإغريق كانت لهم
امتيازات معينة تميزهم عن المصريين الأصليين، فمثلًا كان من الممكن معاقبة المصري
بالضرب والعصا في حين أن الإسكندري كما حدثَنا بذلك «فيلو» كان يُضرب بعصا مفرطحة،
١٧ وكان اليهود يحسبون هنا مع «الإسكندريين» ومن المحتمل أن المقصود
بالإسكندريين هنا هم كل السكان الإغريق الذين ليسوا أعضاء فقط في جماعة المواطنين،
وكانت جماعة الإغريق المواطنين في كل مدينة من طراز إغريقي منظم في جماعات اجتماعية
صغيرة، ففي «أثينا» مثلًا كان السكان ينقسمون عشر قبائل موزعين على ما بين مائة ومائة
وتسعين حيًّا (قسمًا)، وكانت الإسكندرية مقسمة على هذا النمط قبائل وأحياء من حيث
جماعة
المواطنين الإغريق، وذلك في بداية القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان الزواج على
أية
حال بين أعضاء الأحياء والإغريق أو حتى بين الفرس الذين خارج الأقسام كان على ما
يظهر
منظمًا تمامًا.
أما عن دستور الإسكندرية فمعلوماتنا عنه قليلة، والواقع أن موضوع وجود مجلس شيوخ
للإسكندرية في فترة العهد الهيلانستيكي لا يزال موضوع نقاش، وعلى أية حال فإن وجود
مجلس
شيوخ في الإسكندرية عندما دخلها «أغسطس» وأنه ألغاه في الحال فلا يزال موضوع نقاش،
١٨ غير أنه من المؤكد أنه لم يكن لها مجلس شيوخ في العهد الروماني حتى حكم
الإمبراطور «سبتيميوس سيفرس»
Septimius Severus، وأكثر
النظريات احتمالًا هي أن «الإسكندر» قد منح المدينة مجلس شيوخ ثم ألغاه أحد البطالمة،
ومن المحتمل أن هذا قد حدث على إثر انتهاء إحدى الحروب الأهلية التي انضمت فيها
الإسكندرية إلى الفريق الخاسر، ومن المحتمل أنه كان للإسكندرية «إكليزيا»
Ecclesia أي جمعية عمومية غير أنها كانت قليلة
المفعول، وكان لها حكام عاديون أي الجمنازيارك
Gymnasiareh أي رئيس الجمنازيوم (والجمنازيوم هو مكان عام أو مبنى
حيث كان يُمرَّن الشباب الإغريقي فيه على الجري ويحتوي على ملاعب مصارعة وحمامات
وقاعات
محادثة)، و«الأكزيجيتيس»
Exegetes وهو موظف صاحب رتبة
عالية يقوم بوظائف منوعة بما في ذلك حفظ سجل المواطنين والإيتنيارك
Eutheniarch وكان موكلًا إليه توريد الطعام، و«الكوزميتيس»
Cosmetes وهو قائد الأفيبي
Ephebi أو المواطنين الشبان (المستحفظ من الجند).
ولما كانت «الجمنازيوم» تعتبر مركز الحياة الاجتماعية للمدنية الإغريقية، فإن
«الجمنازيارك» كان من جهة هو الرئيس الاجتماعي لجماعة المواطنين، وفي العهد الروماني
كانت تقوم ثورات متكررة بين الإغريق ويهود «الإسكندرية»، وكان «الجمنازيارك» هو الذي
يمثل المواطنين الإغريق كما كان يتزعمهم في روما لقضاء مطالبهم أمام الإمبراطور ويدافع
عن حرية الإغريق والمحافظة على الحكم الجمهوري، ولا بد أن «جمنازيارك» الإسكندرية
كان
شخصية صاحبة مكانة هامة في عهد البطالمة، هذا وكان يمكن الحصول على حقوق المواطن
في
الإسكندرية بالانخراط بين صفوف «الأفيبي» (المواطنين الشبان)، هذا ولدينا سجل لانخراط
هؤلاء الشبان يرجع تاريخه إلى العهد الإمبراطوري.
١٩
ومما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن عقاب الذين يُزَوِّرون في تجنيد الشباب للحصول
على
الجنسية الإغريقية لأولئك الذين لم يكن لديهم المؤهلات التي تعدُّهم لذلك من حيث
المولد
للحصول على هذا الشرف بالحكم على كل مُزور بمصادرة سدس دخله.
هذا وكان للإسكندرية فضلًا عن ذلك محاكمها الخاصة بها وقانونها الذي كان يُعرف باسم
القانون المدني، وهذه المحاكم والقوانين كان معترفًا بها حتى في المحاكم الملكية،
وكان
قانون الإسكندرية مؤسسًا على نظام القوانين «الأتيكية» مع تغيرات مأخوذة من نظم أخرى،
هذا بالإضافة إلى الأحوال الخاصة بالإسكندرية، وقد كان يضاف إلى هذه القوانين من
وقت
لآخر مراسيم ومنشورات خاصة بالمواطنين الإسكندريين.
وكانت المدينة في موقف غير متجانس بعض الشيء بوصفها مركزًا ملكيًّا وعاصمة
للإمبراطورية، وتفسير ذلك أنه كان يوجد بجانب الموظفين الحاكمين للمدينة موظفون ملكيون
وبجانب المنشورات الخاصة بالمدينة كانت الأهالي معرضة فضلًا عن ذلك لإطاعة المنشورات
الملكية التي لم تصدرها، والواقع أنه في أي مدينة إغريقية كان يوجد فيها في الوقت
نفسه
مقر بلاط مستبد وحكومة ذاتية فإنها تكون في الواقع تحت سلطان البلاط الملكي بوجه
عام
كما كانت الحال في «برجاموم» Pergamum، ولا بد أنه قد
حدثت إصلاحات في دستور الإسكندرية على ما يُظن في عهد مبكر جدًّا من عصر البطالمة
الأول، وعلى أية حال فإنه على الرغم من تمزيق قوة المدينة الإغريقية بالسلطة الملكية
فإن جماعة المواطنين فيها كانوا يؤلفون إحدى الدعائم الرئيسية التي قامت عليها المدنية
الهيلانستيكية.
ومهما يكن من أمر فإن الملوك كانوا هم المشجعين للثقافة الإغريقية فيها، وكان مركز
هذه الثقافة المكتبة و«الميوزيوم»، وهما مؤسستان ملكيتان متصلتان بمباني القصر الملكي
(وسنتحدث عنهما فيما بعد) وفيهما نجد السمات الأصلية للمدنية الهيلانستيكية بالإسكندرية
والمدنية الهيلانستيكية لكل مصر.
وقد كانت هذه المدنية قائمة على قوة الملوك التي كانت متضاربة مع الماضي وحتى مع
الحاضر لبلاد الإغريق، ولكن كان تأثيرها على آداب الإسكندرية وفكرها غاية في الأهمية
فقد فقدت الفلسفة فائدتها بالنسبة لمصير الدولة وغرست مثالية الرجل الحكيم والمواطن
العالم، وقد كان الأدب هو أدب البلاط، وكان الأدب الإسكندري لا يحتمل قَرْنه بأدب
العصر
الكلاسيكي، ولكن كانت له أهمية حقيقية، وكان الأدب الكلاسيكي مسيطرًا على الإسكندريين
في العهد الأول فيما يخص صور شعرهم، ولأجل أن يوازنوا بين «الشعر الهيلانستيكي» و«الشعر
الكلاسيكي» نجدهم قد عمدوا إلى التجديد في الموضوعات وطرق تناولها، فكانوا باستمرار
يصبون نبيذًا جديدًا في زجاجات قديمة، ولكن نتائج ذلك كانت خطيرة مؤسفة، ومع ذلك
فإن
أناشيد الشاعر «كاليماكوس» وملاحم «أبولونيوس» المواطن «الروديسي» كانت لها ميزات
حقيقية كما أن مقطوعات «تيوكريتوس» الشعرية تقدم لنا نوعًا جديدًا من الشعر لم يضارعه
فيه أحد من قبل في تناوله، هذا وكان عباقرة الشعر العظام في هذا الوقت وهم «تيوكريتوس»،
و«كاليماكوس» و«أبولونيوس» الروديسي هم شعراء البلاط، وقد كانت طبيعة إلهامهم إغريقية
محضة فلم يكادوا يعرفون أو يقولون شيئًا عن مصر؛ لأنهم كانوا يكتبون إلى دائرة إغريقية
الأصل وهم رجال البلاط الذين لم يظهر بينهم المصريون إلا فيما بعد من مواطني المدن
الذين كانوا يتجنبون الاختلاط بأهل الأرياف ولم يتزاوجوا معهم.
٢٠
ومع ذلك فإنه بجانب هذا الشعر الإسكندري الحقيقي كان يوجد أدب تام من نوع آخر يشبه
الكتابات الإغريقية نبع من سكان المقاطعات المختلطين ويشمل قصصًا وروايات مملوءة
بالسحر
والأسرار كان بعضها من نوع خشن، ولا بد أن إغريق الإسكندرية كانوا قد تأثروا بعالمية
سكان المدينة الذين كانوا من أجناس مختلفة، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كانت الإسكندرية
ملتقى أجناس العالم، هذا ولم يكن بين الإسكندريين صلة تزاوج بالأهلين، ولكن من الممكن
أن تكون بينهم هذه الصلة مع إغريق القرى وهؤلاء كانوا قد تمصروا بطبيعة الحال،
والإنشاءات الأصلية الحقيقية التي أوجدها الفكر الإسكندري لها صبغة إغريقية شرقية،
يضاف
إلى ذلك أن الملكية البطلمية لم تكن وطنية النزعة، وذلك لأن البطالمة لم يريدوا أن
يعملوا على إحياء القومية المصرية أو ينشئوا دولة قومية مقدونية أو إغريقية، وتدل
الأحوال على أنهم أخذوا عن مصر مبدأ الحق الإلهي للملوك كما أخذوا عنهم نظام
«البيروقراطية» في الدولة أي نظام الحكم المتمركز في سلسلة متدرجة من الموظفين مسئولين
فقط أمام رؤسائهم ويسيطر على كل تفصيل في الحياة العامة والخاصة، غير أن العالم قد
اجتذب إلى تيار المدنية الإغريقية واتخذ الملوك لأنفسهم هذه الثقافة، وقد كان إتمام
عملهم يتوقف على مساعدة الإغريق لهم، ومن أجل ذلك نجد أنهم قد أُعطوا مكانًا هامًّا،
ولكنه محدود في مملكتهم للمدينة، وقد نشروا المدنية الهيلانستيكية بمساعدة الاستعمار
الزراعي مع مراعاة عدم تجمع المستعمرين في مراكز مستقلة كما كانت الحال في
المدن.
ولأجل أن يصبغوا مملكتهم بالصبغة «الهيلانستيكية» نجد أنهم قد اختاروا هذه الأنظمة
السابقة للمدينة وهي التي كانت تعليمية الصبغة أكثر منها سياسية.