خلاصة سياسة بطليموس الأول ونتائجها في داخل البلاد وخارجها
من المستطاع الآن بعد أن استعرضنا ما قام به «بطليموس الأول» في داخل البلاد المصرية
وخارجها أن نقرر هنا أن أعظم نصر ناله هذا العاهل الحازم كان في ميدان السياسة لا
في
ميدان الحرب، وذلك على الرغم من أنه كان قبل كل شيء جنديًّا ماهرًا أظهر بطولة في
مواقف
عدة مع سيده ورفيق صباه الإسكندر في الحروب الطاحنة التي خاض غمارها الأخير وأحرز
فيها
الانتصار تلو الانتصار بصورة لم يسبقه فيها ولم يلحقه قائد في كل عصور التاريخ، وكان
«بطليموس» في كل هذه الحروب ظِل «الإسكندر» وساعده الأيمن.
وعندما تولى بطليموس بن «لاجوس» شئون مصر بعد موت «الإسكندر» ظهرت مواهبه الاجتماعية
بنجاح في تحسين حالة البلاد الداخلية وبخاصة بالنسبة لمواطنيه من المقدونيين والإغريق،
ولقد كان من جراء هذه السياسة أن أصبحت «الإسكندرية» في آخر فترة حكمه عاصمة البلاد
الجديدة ولقد عرف «بطليموس الأول» كيف يبني وراء حدود مصر الصعبة المنال من عناصر
غير
متجانسة ولا متآلفة مملكة ثابتة الأركان قوية البنيان في ظاهرها حتى أصبحت تسير في
ركب
الظروف التي فرضها الفتح المقدوني وتندفع في تيار الحياة السياسية التي كانت سائدة
في
هذه الفترة من تاريخ العالم، ولا نزاع في أن العمل الذي بدأه وأتمه في مصر ليس بالعمل
السهل؛ إذ الواقع أن مصر كانت منذ فجر تاريخها في مقدورها على مر الأحقاب أن تهضم
في
جوفها أي أسرة أو قوم وفدوا عليها ليستوطنوها أو ليغزوها من الخارج، غير أنه عند
دخول
أسرة البطالمة وأتباعها من المقدونيين والإغريق كان الغزاة يتطلبون منها أكثر من
ذلك؛
إذ كان عليها أن تقبل تسلط سيطرة ثقافة أجنبية وقوم أجانب في آن واحد، مما لم يسبق
له
مثيل في تاريخ أرض الكنانة، وحقيقة الأمر أن المسألة التي كانت قد وُضعت أمام
إمبراطورية «الإسكندر» بعد وفاته كان لا بد من حلها في مجموعها بوساطة كل من الدول
التي
تشعبت إليها هذه الإمبراطورية التي انهارت على إثر وفاته، والواقع أن ما كان يرمي
إليه
«الإسكندر» هو أن يكون تحت سلطانه دول مؤلفة من عدة شعوب مختلفة وأن يسمح للأقوام
الشرقيين أو على الأقل لبعضهم أن يصبحوا في منزلة تكاد تتساوى مع منزلة الإغريق
والمقدونيين، وذلك مع المحافظة على ميراث الفاتحين وسيادة الحضارة الهيلانستيكية
ونشرها
في كل بقاع إمبراطوريته.
ولا بد أن نذكر هنا أن «الإسكندر» لم يقم بأية تفرقة من أي نوع بين رعاياه الشرقيين،
وعندما يتحدث المؤرخون عن المساواة بين الإغريق والأجانب فإن المقصود به بوجه خاص
الأجانب الفُرس أو بعبارة أعم الإيرانيون، غير أن «الإسكندر» منذ مروره بمصر أي قبل
أن
تتبلور في ذهنه سياسته في ضم الأمم بعضها إلى بعض كما حدث بعد فتحه لآسيا نجد أنه
قد
طبقها على المصريين الذين لم يعاملهم معاملة المقهورين، والواقع كما رأينا من قبل
أنه
ترك لهم إدارة البلاد في أيديهم كأنها إدارة مستقلة،
١ وتدل شواهد الأحوال على أن «الإسكندر» قد عظم آلهة البلاد واحترم مؤسساتها
الوطنية، ولا غرابة في ذلك فقد كان يُعِدُّ نفسه فرعونًا مصريًّا، وإذا فرضنا أن
«بطليموس الأول» أراد أن ينكر هذه السياسة، فإنه كان من الصعب عليه جدًّا أن يقاطعها
دفعة واحدة، ويقول بعض المؤرخين إن «بطليموس» شطربة مصر قد أراد أن يحقق سياسة
«الإسكندر» الكريمة فيما يتعلق بصَهْر مصر ودمجها بالبلاد الهيلانستيكية، وهي السياسة
التي كان يرمي ويعمل من أجلها هذا الفاتح، ولكن «بطليموس» ترك هذه السياسة منذ حوالي
٣١٢-٣١١ق.م ومنذ ذلك العهد اتَّبع سياسة «سيلوكوس» حاكم بابل، وكان يعد أول من ميز
بين
رعاياه من المقدونيين والإغريق والأجانب وذلك بتمييز المقدونيين والإغريق على من
سواهم عامة.
٢
ويُلحَظ أن «بطليموس الأول» عندما تولى ولاية مصر صُدِم في بادئ الأمر في شعوره
الوطني وفي منفعته الذاتية من جراء الإجراءات المالية التي اتخذها الشطربة الأول
«كليومنيس» الإغريقي الذي كان قبله يقبض بوجه خاص على زمام الأمور في الديار المصرية،
فكان أول عمل قام به هو محاربة «برديكاس» صديق «كليومنيس» ثم من بعده «أنتيجونوس
الأعور».
ومن أجل ذلك كان عليه أن يحسب حساب شعور رعاياه، وهؤلاء الرعايا لم يكونوا الشعب
المصري وحسب، بل كانت هناك طبقة من الأشراف الذين كانت في يدهم إدارة البلاد، هذا
فضلًا
عن رجال الدين، وهؤلاء كانوا جميعًا مخلصين للذكرى الفاخرة التي تركها آخر فرعون
من
فراعنة مصر المستقلة،
٣ وقد رأى «بطليموس» أنه من الحكمة وسداد الرأي ليجعل نفسه مقبولًا عند الشعب
المصري ألَّا يحكم البلاد على غير رغبة الأهالي ولا بدونها، ولحسن الحظ وجد ضالته
ونجدته في فكرة اتِّباع نظام الحكم الفرعوني وذلك لأن الفراعنة كانوا يحكمون البلاد
في
هدوء وسكينة دون قيام أية ثورات؛ لأن كل فرعون كان يُعَدُّ في نظر الشعب إلهًا وأنه
ابن
«رع» أو ابن «آمون رع» ووارثه وبهذه الصفة كان سيد مصر الذي لا منازع له من كل
الوجوه.
وقد اعتنق «الإسكندر» هذه العقيدة من قبله وآمن بها وقد وضحت في أسماء الفرعون
الخمسة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وقد حمل هذه الألقاب أو الأسماء من بعده «فليب
أريداوس» ثم «الإسكندر الرابع»، وذلك بفضل عناية الشطربة «بطليموس» بن «لاجوس» وحُسن
فهمه لعقلية الشعب المصري وعادته، وعندما أصبح «بطليموس» فرعونًا بدوره أدخل نفسه
ضمن
أعضاء الأسرة الإلهية؛ أي إنه أصبح ابن «آمون رع»، وعلى ذلك نجد أنه قد اتخذ الإجراءات
اللازمة لاحترام ديانة القوم التي أصبح هو رئيسها وحاميها على غرار من سبقه من فراعنة
مصر، فسار على نهج أسلافه في إقامة المحاريب وتزيينها وحبس الأوقاف عليها مما أرضى
الآلهة.
غير أنه من السهل عليه إرضاء الآلهة ولكن كان من العسير إرضاء كهنتهم، وسبب ذلك كما
هو معلوم أن الكهنة في مصر كانت تتألف منهم قوة مستقلة في الديار المصرية، وكان هَمُّ
«بطليموس» هو الوصول إلى إخضاعهم دون إبعادهم أو القضاء عليهم، وسنرى فيما بعد كيف
أن
طبقة الكهنة قد خضعوا في نهاية الأمر وأن أملاك الآلهة والأراضي المقدسة التي كانوا
يسيطرون عليها من أقدم العهود قد أصبحت معتبرة هدية من الملك، وأن موظفي الملك هم
الذين
يديرون شئونها، كما أن امتيازات المعابد الشاسعة قد حُددت، وأن الخدمات الدينية تتبعها
الحكومة، وأن الكهنة كان يراقبهم ممثل الملك، وفي مقابل ذلك كانت الحكومة تضمن لجماعة
الكهنة بأوقاف خيرية وبمرتبات ثابتة مكافأة على الخدمات التي كانوا يقومون بها، ولا
نزاع في أن هذا النظام كان معمولًا به منذ عهد «بطليموس الأول» بل يحتمل قبل ذلك
في
العهد الفرعوني (راجع مصر القديمة الجزء السابع) ولكن المهم هو أن نعرف إلى أي حد
كان
هذا النظام متبعًا؟ والواقع أننا نجهل ذلك، والظاهر أن «بطليموس» قد ضاعف من الهبات
التي كان يقدمها للمعابد ليكسب بها الكهنة إلى جانبه، وهذا ما كان يعمله ملوك الأسرة
الثلاثين للكهنة كما أوضحنا ذلك في غير هذا المكان (راجع مصر القديمة الجزء ١٣) يضاف
إلى ذلك ما نجده في لوحة الشطربة المشهورة؛ فقد جاء في نصها تثبيت ملكية ضيعة «باتانون»
لآلهة «ب» و«دب»، فقد كان «دارا الثالث» قد اغتصبها وأعادها إلى الملك المصري «خباباشا»
الذي ثار على الفرس واستقل بالبلاد فترة، وبكل أسف هذا هو كل ما نعلمه عن هذه اللوحة
من
هذه الوجهة، كما أوضحنا ذلك فيما سبق، والواقع أن مركز «بطليموس» كان دون أي شك دقيقًا،
فقد كان من واجبه أن يفهم أن الفراعنة أنفسهم كانوا فيما مضى قد فطنوا إلى مقدار
نفوذ
الكهنة فكانوا لا يطلبون منهم أكثر مما يجب.
والظاهر أنه في خلال القرن الرابع قبل الميلاد في عهد حكم الفرس كانت الأسر الكبيرة
أصحاب الضياع الشاسعة هي المسيطرة على الأرض القابلة للزراعة وعلى الوظائف الإدارية
في
البلاد، أما الفرعون نفسه فكان يُنتخب من إحدى هذه الأسر الشريفة، ولم يكن في مقدور
«بطليموس» أن يحكم دون أن يكون له أملاك وحوله جماعة من الموظفين الأمناء، ولذلك
فإن
أول عمل قام به هو وضْع يده على الأراضي الملكية، وكان بدون شك لديه الفرصة في تنميتها
وذلك بنزع أملاك من آخرين بطرق شتى، ولم يكن أمامه إلا أن يعمل على حسب مبدأ النظرية
القائلة أن الملك هو المالك لكل الأراضي المصرية، ومن ثم كان هو الواهب لكل ملكية
جديدة
وأصبح كل شيء ملكه، غير أن هذا المبدأ لم ينفَّذ بكل حذافيره إذ قامت في وجهه معارضات
شديدة جدًّا، ولذلك فإن «بطليموس» ترك للعظماء أملاكهم كما نزل لهم عن جزء من إدارة
البلاد، والآن يتساءل المرء عن سياسية «بطليموس» تجاه الأسر الكبيرة، والواقع أن
هذه
الأسر كان لها تأثير كبير جدًّا في الشرق، وقد كان على الملوك أن يعملوا لها حسابًا،
فنجد مثلًا أن «بطليموس» عندما أخذ على عاتقه حكومة البلاد قد وجد فيها أسرًا قوية
الجاه بعضها مصري وبعضها الآخر إغريقي، وذلك لأن الإغريق كانوا قد استوطنوا مصر منذ
«بسمتيك الأول» كما أسلفنا، وليس من باب العلم أن نقول أن «كليومنيس» النقراشي كان
ضمن
هذه الأسر الأرستقراطية،هذا ونعلم من نقوش مقبرة «بتوزيريس» أن صاحبها كان من أسرة
مصرية عريقة رجالها من طبقة الكهنة، وتدل نقوش هذه المقبرة على أن «بتوزيريس» كان
يملك
أراضي شاسعة، وكذلك «نقطانب» ابن أخي الفرعون «نقطانب الثاني» آخر فراعنة مصر كان
لا
يزال على قيد الحياة في عهد «بطليموس الأول»، وكان يمثل طبقة الأشراف في الجيش،
٤ ويظن المؤرخ «شور»
W. Schur أن أسرة
«نقطانب» هذا كان لها أملاك واسعة في مقاطعات «بوتو» (وعلى الأرجح في بلوز) و«تانيس»
و«سمنود» ولكن من جهة أخرى لم تحدثنا النقوش التي في متناولنا عن هذه الأملاك، وعلى
ذلك
فإن ما ذكره «شور» ليس إلا من باب الحدْس والتخمين، وعلى أية حال لم تحدثنا النقوش
المعروفة حتى الآن عن أشراف مصر في عهد القرن الثالث قبل الميلاد بعد عهد «بطليموس
الأول» والظاهر أن طبقة الأشراف في مصر كانت قد انقرضت في عهد «بطليموس الثاني» وفي
عهد
«بطليموس إيرجينيس الأول» خلفه، وما ذلك إلا لسياسة جديدة أُدخلت في نهاية شطربية
«بطليموس الأول»، وعلى ذلك كان الهيلانيون فقط في النصف الأول من القرن الثالث هم
الذين
يتكوَّن منهم طبقة الأسياد الأثرياء مثل «أبوللونيوس» آخر وزير مالية في عهد «بطليموس
الثاني» ومثل «كريزموس» الإسكندري
Chryemus في عهد
«أريجيتيس» و«سوسيبيوس» الوزير الأول
Sosibios في عهد
«فيلوبوتر»، وهو ابن «كريزموس»، وغيرهم، والظاهر أن ملوك البطالمة قد حَذَوْا حَذْوَ
جدهم الأكبر «بطليموس الأول» بألا يتركوا الفرصة لعظماء بلادهم بأن يصبحوا أغنياء
أكثر
مما يجب أو تتجمع في أيديهم سلطة كبيرة، هذا ولما كان ملوك مصر يعدون نظريًّا الملاك
الوحيدين لأرض مصر، فإنهم، على ما يُظن، لم يتركوا لغيرهم المجال لامتلاك أراضٍ هامة
جدًّا، وقد ظهرت هذه السياسة في نظام الضيعات كما وصفها لنا المؤرخ الروسي «روستو
فستزف»
A Large Estate. P. 40 وعلى حسب رأي هذا المؤرخ
لم تكن ملكية الضيعة وراثية، والظاهر أن الطبقة المتوسطة بوجه خاص هي التي أراد
البطالمة أن يثبتوها في أرض مصر على مساحات متواضعة مثل رجال الجنود المرتزقين؛ فقد
كان
كل واحد منهم يُمنح قطعة من الأرض مدى الحياة ما دام يعمل في الجندية أو كان يعمل
في
الجندية وبلغ سن التقاعد، وكان نصيب الجندي على حسب جنسيته ومكانته في الجيش، وعلى
أية
حال كانت ملكية الجندي تتراوح ما بين خمسة وستة أرورات (لأهل
البلاد) وكانت تصل إلى مائة أرورة أو أكثر لغير
المصريين وبخاصة المقدونيون والإغريق، هذا ولا يفوتنا أن نذكر هنا أنه كانت توجد
ملكيات
تبلغ آلاف الأرورات،
٥ كما أن بعض ملكيات الجنود المرتزقة قد انتهى بها الأمر أنْ بَقِيَتْ وراثية
في أسر هؤلاء الجنود،
٦ وقد بقيت بعض هذه القطع الكبيرة من الأرض التي كان يملكها هؤلاء الجنود
لأولادهم الذكور وهي التي كانت في الأصل هبة من الملك، ومن ثم أمكن تكوين ضيعات كثيرة
على مر الأيام على حساب الأراضي الملكية (وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في غير هذا
المكان).
وفي القرن الثاني بعد الميلاد قامت الثورات الوطنية في عهد «فيلوباتور الأول» وفي
حكم
«بطليموس إيبفانوس» وظهر في الصف الأول أعضاء الأرستقراطية المصرية أمثال
«ديونوسيوس-بتوسارابيس» الذي قام بثورة في عهد «بطليموس الرابع» «فيلومتور» وهو الذي
كان يلقَّب في البلاد بالسمير،
٧ وكذلك يحتمل مثل «باوس»،
٨ وهو الذي وكل إليه الملك «بطليموس أيرجيتيس» أمر تهدئة إقليم «طيبة»،
وهؤلاء العظماء كانوا مصريين وقد أصبحوا هيلانيين في ميولهم، وقد دخل في صفوف هذه
الطبقة المتوسطة التي أصبحت هيلانية الصبغة أفراد من الذين يسكنون المدن، ومن المحتمل
أنهم كانوا يملكون في القرى الجزء الأعظم من الأراضي المنزرعة، وهذا فضلًا عن الأراضي
الملكية والأراضي المقدسة ملك المعابد، وكان لذلك الضم أثر عظيم في تاريخ مصر في
عهد البطالمة.
٩
وفي عهد «بطليموس الأول» بقيت حال الأهالي على ما هي عليه؛ فقد ظلت البلاد مقسمة
مقاطعاتٍ على رأس كل واحدة منها حاكم مقاطعة، غير أن المقاطعة أصبحت فقط دائرة حربية
يديرها ضابط وهو القائد الذي كان يشرف على الشرطة والإدارة، وهذا القائد كان في العادة
مقدوني الأصل، أو إغريقي المنبت، وكان حاكم المقاطعة في أغلب الأحيان مصريًّا وذلك
حسب
السنة التي سنها الإسكندر في بعض شطربياته، وذلك أنه كان يضع بجانب القائد المقدوني
أو
اليوناني شطربة آسيويًّا، وكان في قدرة حاكم المقاطعة أن يدير شئون الجنود الوطنيين
بالاشتراك مع القائد المقدوني أو الإغريقي، وهذه كانت الحال مع الأمير «نقطانب» السالف
الذكر في مقاطعات الحدود الثلاث للدلتا وهي «بلوز» و«تانيس» و«سمنود».
أما السواد الأعظم من أهل مصر وهم الفلاحون وصغار الصناع في المدن والقرى فقد كانوا
يعملون ويكدحون كما هي العادة لضمان ثراء البلاد، وكان الفلاحون مرتبطين بالأرض التي
يزرعونها بوصفهم زُراعًا لأصحاب الأرض الأغنياء، أو للآلهة، أو للملوك، هذا ولا نعرف
موقف المزارعين الملكيين في عهد «بطليموس الأول»، والظاهر أن حالتهم صارت لا تختلف
عما
كانت عليه فيما مضى من عهد الفراعنة، فقد كانوا يعيشون بمقتضى قانون عقد يربطهم
بواجباتهم مع ضمان أرزاقهم؛ إذ كان لهم بعض مميزات أو بعض فوائد تحفظ كيانهم وتسد
رمقهم، وكانت أحوال هؤلاء مشابهة للتي كانت تجري في الضياع العظيمة، ولا نزاع في
أن
هؤلاء الزراع كانوا يُكَوِّنون السواد الأعظم من المصريين الذين كان عددهم في مصر
المكتظة بالسكان وقتئذ موضع دهشة الإغريق، وسنتحدث عن حالة هذه الطبقة الكادحة وعلاقتها
بالإدارة الإغريقية وبخاصة في الفيوم فيما بعد.
أما من جهة أصحاب الحرف فإنهم كانوا يعملون في المصانع الملكية ولا غرابة في ذلك
فإن
مصر كانت في ذلك تعد البلد العريقة في الاحتكار، والواقع أن هناك أسبابًا قوية تدعو
إلى
الاعتقاد بأن «الإسكندر الأكبر» قد وضع نهاية للاحتكار، وأن «بطليموس الأول» قد أعاده
من جديد وبالغ فيه «بطليموس الثاني» كما سنرى بعد.
١٠
وقد كانت هذه السياسة في صالح العالم الإيجي الذي كان يتنازع وده ومصافاته حكام
إمبراطورية الإسكندر الذين خلفوه، وكانت هذه البلاد تدفع من أجل ذلك أثمانًا بخسة
لشراء
الحبوب المصرية التي كانت تُرَدُّ إلى أسواقها، وكان إلغاء الاحتكار كذلك مفيدًا
لأصحاب
الحرف من المصريين الذين كان عملهم وما يعود عليهم منه من فائدة كبيرة جدًّا بعيدًا
عن
قبضة الحكومة والتحكم في أرزاقهم، حقًّا فقدت خزانة الدولة بذلك موارد غزيرة، وسنرى
أن
«بطليموس الثاني» قد عاد إلى التقاليد القديمة الفرعونية من حيث الاحتكار وغيره من
الشئون المالية، وهي الخطة التي سينتهجها كل أخلافه، ويكفي أن نذكر هنا قوانين الدخل
التي أصدرها «بطليموس الثاني» في السنة السابعة والعشرين من حكمه، غير أن متون هذه
القوانين ليست في الواقع إلا إعادة لنشر إجراءات كانت قائمة من قبل، ويحتمل أنه قد
عمل
فيها بعض تغييرات.
وقد ارتفع من جرَّاء ذلك ثمن ورق البردي منذ بداية حكم «بطليموس الأول» وبعد نزوله
عن
الملك، وقد كان الاحتكار منذ عهد «بطليموس الثاني» ثابتًا شائعًا في أنحاء
البلاد.
ومجمل القول أَنَّ المدن المصرية في عهد حكامها الجدد كانت تعيش عيشتها العادية، ولكن
لما كان «بطليموس الأول» يريد أن يُظهر احترامه لأهل البلاد فإنه اختار أن يجعل مقر
حكمه في «منف» المصرية وبخاصة أن هذه المدينة كانت تواري جثمان «الإسكندر الأكبر»،
وإذا
صدقنا رواية رواها المؤرخ «بوزانياس» فإنه كان في نيته تركها، ولكن «منف» لم تكن
المدينة الملكية الوحيدة، فعلى حسب عادة أسلافه اتخذ مقره في عاصمة ثانية جديدة لتكون
مقرًّا جديدًا لأسرته، وهي قلعة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «الإسكندر الأكبر»
على
شاطئ البحر الأبيض المتوسط وتسمى «راقودة» «الإسكندرية»، والواقع أن اختيار «منف»
عاصمة
للبطالمة كان من الحجج الرئيسية التي أوردها المؤرخ «كورنمان» عن رجحان عقل «بطليموس»
وبعد نظره؛ فقد كان مقر «بطليموس» بن «لاجوس» فيها، وقد كان له فيها قصر، وكذلك نجح
في
دفن «الإسكندر» فيها على حسب أحد الآراء، وعلى ذلك كانت تعد قلب إمبراطوريته، والظاهر
أن بطليموس قد بقي أمينًا على فكرة «الإسكندر» التي كانت ترمي إلى أن تبقى المدن
الشرقية التي تعددت فيها السلالات مثل «بابل» وأن تختلط هذه السلالات بالعالم
الهيلانستيكي وتتحد معه من حيث الثقافة والعلوم، ولا نزاع في أن ما قاله «كورنمان»
في
هذا الصدد يحتوي على الكثير من الحقيقة، ومع ذلك فإننا عندما نتحدث عن اختلاط السلالات
فلا بد لنا من تحديد الكلام عنه، ومن الجائز أن «بطليموس الأول» لم يكن في مقدوره
أو لم
يُرِدْ أن يحكم على غير رغبة الشعب المصري الأصيل، ومن الجائز بل ومن الطبيعي أنه
أراد
أن يخلق روابط بين رعاياه الإغريق ورعاياه المصريين كما سنرى، وعلى أية حال يجب أن
نستخلص من ذلك أنه أبى أن يعطي المقدونيين والإغريق المكانة الأولى، وأنه لم يكن
له
سياسة هيلانية معينة، والواقع أن هذا أمر يبعد تصديقه؛ إذ نجد أنه عَمِل بحزم واعتدال
لم يقلده فيهما أخلافه، ولكن كل ما يمكن أن يُفهم من بين السطور فيما ورد في عهد
أخلافه
يمنعنا أن نحكم أنه كان عنده نفس المقاصد والميول التي كانت تنطوي عليها روح «الإسكندر
الأكبر» بالنسبة للشرقيين، ولا ريب في أن كثيرًا من البيانات التي استعان بها «كورنمان»
ليس فيها من الأدلة ما يبرهن على ما جاء فيها، حقًّا كانت «منف» عاصمة البلاد لها
مركز
ممتاز، غير أننا لا نعرف إذا كان بطليموس سكن فيها بصفة مستديمة عادية.
وقد ذكر لنا «إسترابون» القصور الملكية التي أقيمت فيها على ربوة بها حدائق غنَّاء
وبساتين مثمرة وبحيرة عظيمة،
١١ وهذه كانت موجودة منذ زمن طويل،
١٢ وكانت تعرف باسم (المقر الملكي)،
١٣ وذلك على غرار ما كانت تسمى به الإسكندرية،
١٤ والبردية التي اقتبسنا منها هنا تدل على أن «منف» كانت مسكونة في عهد
«بطليموس الثاني»، في حين أنه بعد هذا التاريخ بمائتين وخمسين سنة قد رآها إسترابون
خَرِبَة، غير أن ذلك لا يكفي لأن يعطي الإسكندرية أهمية عظيمة خارقة لحد المألوف؛
فقد
كان هناك مقرَّات ملكية في كثير من مدن مصر،
١٥ وقد كان بجانب العاصمة الوطنية «الإسكندرية»، وهي العاصمة الإغريقية، وقد
جاء في لوحة الشطربة حرفيًّا أنها كانت عاصمة «بطليموس»، فهل معنى ذلك أن «الإسكندرية»
في هذه اللحظة كانت قد حلت محل «منف»، وأن «بطليموس» قد غير اتجاه سياسته؟ ولوحة
الشطربة هذه تؤرَّخ كما ذكرنا من قبل على أكثر تقدير بالسنة الحادية عشرة بعد
الثلاثمائة ق.م، وهذا الوقت كان مبكرًا جدًّا لأن نفكر في التأثير الذي أحدثته سياسة
«السليوكيين»، وهو التأثير الذي ظنه المؤرخ «كرونمان» كان حاسمًا، وماذا يمكن لإنسان
أن
يقول في رأي الأثري الروسي «ستروف» الذي يرى أن لوحة الشطربة يظهر تمامًا أنها تشير
إلى
الحملة التي قام بها «بطليموس الأول» على بلاد «سوريا» عام ٣٢٠ق.م، وفي عام ٣١٧ق.م.
١٦
ولا بد أن نعترف أن هذا التاريخ يمكن أن يُقبل تمامًا، وذلك إذا حسبنا السنة السابعة
من عهد «الإسكندر الرابع» أنها تبتدئ من أول سنة ولادته كما جاء في ورقة المتحف
البريطاني رقم ١٠١٨٨، لا على حسب الورقة التي جاء فيها تاريخ موت «فليب أريداوس»
كما
جاء في ورقة «الفنتين» رقم ١.
والبرهان الذي استخلصه من وجود مقبرة «الإسكندر» في «منف» له أثر قوي، وبه يمكن أن
نسلم مع «كورنمان» على حسب ما رواه المؤرخ «بوزانياس»
١٧ أن نية «بطليموس» كانت أن تُترك الجثة في العاصمة المصرية.
وذلك على الرغم من أنه كان من الطبيعي أن تُدفن الجثة في المدينة التي وضع أساسها،
ومع ذلك فإنه لو كان هذا الإجراء قد تم بالنسبة لمنف المصرية فإنه لا يمكن أن نرى
فيه
ميلًا غير ملائم للهيلانية؛ إذ الواقع أن كل شيء كان إغريقيًّا حتى في «منف» حول
قبر
«الإسكندر»، فكان الكاهن الموكل بإقامة الشعائر له وهو الذي كان يمكن التاريخ بسنيه
في
الكهانة مثل الفرعون، هو الذي جاء ذكره في ورقة الفنتين رقم واحد، ويظهر أنه كاهن
الإسكندر، وكان يحمل اسمًا إغريقيًّا، وقد احتفل بجنازة «الإسكندر»، هذا ويوضح لنا
المؤرخ «روبنسون».
١٨ أنه لا بد أن نستنبط أن قبر «الإسكندر» في «منف» كان كالمقابر التي أقيمت
في الإسكندرية من هذا العصر، والظاهر أن الإسكندر لم يعامَل كأنه فرعون، وذلك أن
«منف»
كانت تحتوي على أحيائها ومجتمعاتها الإغريقية التي كان لا بد أن يكون لها ميزاتها
الهامة، ولا يمنع ذلك من أن يعتقد المصريون بأنه فرعون منحدر من صلب الإله «آمون
رع»
كما أوضحنا ذلك في حينه، وإن كان الإغريق لا يقرون ذلك.
والرواية التاريخية أو على الأقل بعض الرواية التاريخية التي نجدها فيما كتبه «بوزانياس»
١٩ وذكرها «روبنسون» على ما يظهر
٢٠ قد تأثرت بتعصب بعض الأوساط الإغريقية المقدونية بالنسبة «لبطليموس
الثاني»، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإغريق المقدونيين لم يعدوا اختيار «منف» مضرًّا
لصالح الهيلانيين، والواقع أن الإسكندرية مدينة إغريقية أو على أية حال فإن المدينة
الشاسعة التي كانت تحتوي على خليط من السكان كانت تشمل بلدة إغريقية كانت بطبيعة
الحال
لا بد أن تفرض نفوذها إذا لم تكن تفرض قوانينها على السكان، وذلك لأن بطليموس لم
يكن في
مقدوره أن يؤسس شيئًا ثابتًا دون مساعدة الهيلانيين، كما كانت الحال مع الإسكندر
وأخلافه،
٢١ ولا غرابة في ذلك فقد كان «بطليموس الأول» نفسه مرتبطًا بالثقافة الإغريقية
ولم يكن له معرفة بالشعب المصري إلا معرفة سطحية جدًّا، ولذلك لم يكن في مقدوره أن
يتصور قط أن يكون له حكومة لم يكن للهيلانيين فيها مكانة مرموقة مُحَسَّة.
وسنرى أن أخلاف «بطليموس الأول» الذين جاءوا على أعقابه كانوا يتتبعون سياسة
هيلانستيكية متعصبة انتهت بوضع المصريين أبناء البلاد في منزلة منحطة؛ إذ قد أبعدوهم
عن
الوظائف العالية كما انتقصت أملاكهم الوراثية لفائدة المهاجرين من الإغريق وغيرهم
ممن
وفدوا على مصر في الثراء والغنى، ولا نزاع في أن هذا النظام قد أثر رد فعل عنيف وقيام
ثورات كانت في النهاية سببًا في إضعاف أسرة البطالمة مما سنتحدث عنه في حينه، والآن
يتساءل الإنسان هل رد الفعل هذا كان قد أوجده خالق مصر الفرعونية؟ وهل نستطيع أن
نعرف
الفكرة التي جالت بذهن «بطليموس الأول» ليجعل مصر دولة هيلانية الصبغة؟ وهل رأى أن
تحكم
المدينة نفسها بنفسها على غرار نظم الحكم في المدن الإغريقية لتتحقق للحياة الهيلانية
التي رسمها جميع مقوماتها؟ ولأجل تنفيذ مثل هذا النظام في مصر كان لا بد من تأسيس
مدن
كالمدن الإغريقية في مصر، وقد ترك لنا «الإسكندر» مدينة «نقراش» كما وجدها عند الفتح،
وهي مدينة ميليزية أنشئت في العهد الساوي وأسس مدينة «الإسكندرية» كما أسس «بطليموس
الأول» في إقليم «طيبة» على مقربة من جرجا (المنشية الحالية) مدينة «بطليمايس»، وليس
في
هذا ما ينافي التقليد الفرعوني؛ فقد رأينا «بسماتيك الأول» دعا إلى بلاده الجنود
الإغريق المرتزقين وأسس لهم بلدة قائمة بذاتها كان لها حكومتها الخاصة كأنها حكومة
أخرى
في قلب حكومة البلاد المصرية، على أن الصعوبة في وجود مثل هذه المدن في مصر هي التوفيق
بين سلطة الفرعون وحكومة المدينة المستقلة، والواقع أن القانون الخاص بمدينة «سيريني»
(في لوبيا) قد عُثر عليه، ومن ثم يمكن به توضيح بعض ميول «بطليموس الأول» بالنسبة
للمدن
الإغريقية ونوع الدستور الذي كان يفضله، وبخاصة عندما نعلم أن «سيريني» كانت مدينة
إغريقية لحمًا ودمًا منذ زمن بعيد على الرغم من أنها في «أفريقيا»، وكان دستور هذه
المدينة يتألف من جماعة من المواطنين يُقدَّرون بمائة فرد، ولكن كان عددهم في «سيريني»
أكبر من ذلك؛ إذ يتراوح بين مائة إلى ألف وكانوا يجتمعون في جمعية خاصة، كما كان
للمدينة مجلس شيوخ يتألف من خمسمائة عضو يُنتخَبون بالتصويت، وكانوا مكلَّفين بمراقبة
الإدارة، ومن مجلس مديرين مؤلف من مائة وواحد من القدامى يختارهم عشرة آلاف، ومن
كاهن
تسمى به السنة للإله «أبوللو»، ومن تسعة حكام يُكلَّفون بالسهر على تنفيذ القانون
ومن
خمسة حكام منتخبين لمقاومة سلطان الملك، وكان لهم عليه نفوذ
Ephors ومن اثني عشر قائدًا، ومن بين الحكام الذين كان لهم أهمية عظيمة
أولئك الذين كانوا يديرون شئون البلد وهم القواد وكانوا يُغيَّرون سنويًّا إلا واحدًا
كان يُعيَّن مدى الحياة وهو الشطربة.
٢٢
ولا نزاع في أن جمهورية «سيرين» التي كانت ضمن فتوح «بطليموس الأول»، وقد كان سبب
الاستيلاء عليها الاضطرابات الداخلية التي حدثت فيها كما أسلفنا القول في ذلك، لا
يمكن
تشبيهها بالمدن الحديثة التي أُسست في مصر كما لا يمكن قرنها «بنقراش»، والواقع أنه
على
الرغم من اعترافها بخضوعها لمصر فإنها لم تكن تُكَوِّن جزءًا لا يتجزأ من مصر كالمدن
الأخرى التي نشأت في وادي النيل، وليس بصحيح أن النظام الذي وضعناه الآن لا يمكن
أن
يعبَّر عنه بالأرستقراطية المهذبة.
٢٣
ومن ثم يمكن معرفة نظام الحكم في الإسكندرية؛ ففيها نجد جماعة المواطنين وكانت
المدينة مقسمة أقسامًا إدارية أو أحياء
Demes وكان لها
مجلس شيوخ هو جمعية محدودة العدد من المواطنين، ومن المحتمل كذلك أنه كان لها مجلس
من
القدامى
Gerousia وحكام ومحاكم كما ذكرنا من قبل.
٢٤
أما مدينة «بطليمايس» فكان لها بلا نزاع مجلس شيوخ وجمعية عمومية، وكذلك كان لها
مجلس
مؤلف من ستة حكام بمثابة مديرين كما كان لها
Prytane
وهم الحكام الرئيسيون في كثير من المدن، كما تحدثنا عن ذلك في مكانه، وفي أثينا كان
كل
واحد من الخمسين شيخًا الذين يتألف منهم مجلس «التريبيون» له الحق بدوره في الصدارة،
وكان الملك يحكم المدينة بواسطة مبعوثيه.
٢٥
وكانت كل مدينة من هذه المدن تؤلف بذاتها دنيا صغيرة محددة المعالم، ولم تسمح فيها
القوانين بالاتحاد مع المواطنين المصريين، وكان أهلها يدافعون عن نقاء ثقافتهم ودمهم.
٢٦
والواقع أن مصر كانت لا تطيق إلا تحمل جزء صغير من أرضها ليخصص لهذه الجماعات
الأجنبية، وذلك على شرط أن يكون عدد هذه الجماعة كبير جدًّا، ومما هو جدير بالملاحظة
هنا أن المدن الإغريقية في مصر كانت تنحصر في «نقراش» و«الإسكندرية» و«بطليمايس»،
غير
أن الأثري «ريناخ» يضيف إلى هذه مدينة «براتونيون» (مرسى مطروح).
٢٧
وما أعظم الفرق بين مصر وسوريا في هذا الصدد؛ إذ نجد أنه عندما استولى السليوكيون
على
زمام الأمور فيها بعد عام ٣٠٢ق.م شرع «سليوكيس» في ملء البلاد بمدن إغريقية الصبغة
مثل
أنطاكية و«سليوكيس» و«أباما» وغيرها فقد تجمعت كلها في مساحة واحدة، والظاهر أن نفس
المبادئ كان قد طبقها «بطليموس الأول» على مدينة «بطليمايس» في مصر العليا، غير أنه
على
ما يظهر كره أن يطبقها تطبيقًا كاملًا، فهل معنى ذلك أن «بطليموس الأول» أراد باتباع
هذه الطريقة تسيير أحوال رعاياه المصريين مع بقاء دنيا الإغريق في مصر بعدد قليل
من
سكان مرتبطين بهذه المدن الثلاث التي وُضعت فوق المجتمع المصري الوطني الذي احترمت
مصالحه وعاداته وقوانينه؟ والواقع أن خلفاء «بطليموس الأول» المباشرين لم يزيدوا
في عدد
المدن الإغريقية في مصر، على أن ذلك على ما يظهر لم يكن احترامًا للمصريين، وذلك
لأن
البطالمة قد فضلوا الاستعمار الزراعي للبلاد الذي كان ينفِّذ بتعمق وإتقان على إقامة
المدن، وهذا النظام كان أكثر سهولة لملاءمة الحكم الملكي المستبد، وذلك لأنه كان
من
الممكن أن يعمل بدون المراكز المستقلة أو بعبارة أخرى المدن التي كانت تؤلف حكومات
ذاتية لنفسها، وقد نزل البطالمة عن أراضٍ للمقربين إليهم ولجنودهم المرتزقين وأنشئوا
على بعض الأراضي ضياعًا متوسطة وصغيرة أصبحت وراثية، وذلك لمصلحة الإغريق، وهذه الطريقة
كان ميزاتها أنها تسمح باستقلال البلاد استقلالًا متينًا بواسطة طرق جديدة وبرجال
كانوا
في الوقت نفسه أصحاب نشاط وفير وموارد عظيمة، ولكن لا بد أن نلحظ أن هذه الطريقة
كانت
من الوجهة الإغريقية تعرضهم إلى خطر التأثير الشرقي عليهم، هذا بالإضافة إلى تدهور
سلالتهم بالتزاوج مع المصريين.
على أن هذه الطريقة كانت في الوقت نفسه فيها إجحاف بالمصريين وظلمهم؛ فقد كانوا يرون
أرضهم الطيبة في طوال وادي النيل وعرضه قد أصبحت في يد الأجنبي وقد صار من التزاماتهم
أن ينزلوا له عن جزء من منازلهم لسكناه، وهذا ما كان يجب عليهم للجنود المرتزقين
عندما
كانوا ينزلون في قرية من قرى مصر لهم فيها أراضٍ أَقْطَعَها لهم الملك، وعلى ذلك
فإنه
من الأمور الرئيسية أن نعرف إذا كان الاستعمار الزراعي للأراضي يرجع إلى عهد «بطليموس
الأول» أم لا؟ والواقع أنه على الرغم من عدم كفاية المصادر لدينا فإنه من المؤكد
أن هذا
الاستغلال الزراعي يرجع إلى عهد «بطليموس الأول»؛ فقد كان من نتائج واقعة غزة أن
استولى
«بطليموس» على أكثر من ثمانية آلاف أسير وأرسلهم إلى مصر حيث وزعهم في المديريات
مع
إعطائهم أراضي، وذلك لأنه كان يجندهم في جيشه، وقد كانت أول نواة لسكان «بطليمايس»
مؤلفة من جنود مستعمرين كان كل منهم يملك قطعة أرض مساحتها خمسة وعشرون أرورة،
٢٨ على أن ذلك لم يكن بالعمل الذي يُسمع به من قبل بل نجد ما يقابله في العهد
الفرعوني وقت الدولة الحديثة؛ إذ كان الفرعون يمنح كل جندي ما بين سبعة أو اثني عشرًا
أرورة ليعيش من دخلها، ولكن في الحالة التي نحن بصددها كان هؤلاء المستعمرون الحربيون
من الإغريق، وما نريد أن نقدره حق قدره هو الحِمل الذي كانت تضعه هذه السياسة على
عاتق
البلاد، والواقع أن هذا الإجراء قد لا يكون غريبًا على أهل مصر من العصر الفرعوني
ولا
في غير مصلحة البلاد في العصر البطلمي إذا كان قد طُبِّق في الحالين باعتدال، ومن
المحتمل أن الضمان للاعتدال في عهد البطالمة وبخاصة في عهد «بطليموس الأول» كان موجودًا
إلى حد ما، ولدينا الشواهد التي تدل على حكمة «بطليموس الأول» فيما تركه لنا المؤرخون
في هذا الصدد.
وعلى أية حال فإن الإغريق الذين كانوا منتشرين بالصورة التي وصفناها فيما سلف
بالإقليم المصري لم يكونوا جنودًا وحسب، بل كان الكثير منهم قد غادروا بلادهم الإغريقية
الحقيقية بسبب الموارد العظيمة والخيرات الكثيرة التي كانت تتمتع بها مصر وأهلها،
ومن
ثم نرى أن مستعمرات كاملة كان يعيش أهلها في المدن الكبيرة مثل «منف» ويتمتعون بلا
ريب
بِحُريات وامتيازات شأن كل مستعمر أجنبي قوي، وكان هؤلاء المستعمرون يوجدون حتى في
كل
قرية صغيرة من إقليم طيبة مثل الألفنتين، على أن هؤلاء لم يكونوا دائمًا من إغريق
مدينة
«الإسكندرية» أو «بطليمايس» بل كانوا يأتون من كل بقاع العالم الإغريقي وكانوا مميزين
بسياسة مدنهم الأصلية مثل جيلا Gela و«تيمنون»
و«سيريني» إلخ، وهذا برهان على أن هذه الميزة كانت تمنحهم قانونًا خاصًّا، وكانوا
فعلًا
قد جمعوا أنفسهم في جماعات رسمية معترف بها من قِبَل الحكومة، والظاهر أنهم في بادئ
الأمر لم يختلطوا كثيرًا بسكان البلاد غير أننا سنرى أن الأمر لم يكن كذلك مع نسلهم
في
مصر.
ومن ذلك نرى أن مصر في عهد «بطليموس الأول» قد فتحت أبوابها على مصاريعها للهيلانيين،
وكان من رأي «بطليموس الأول» أنه لا بد من تسلط الإغريق على المصريين، ولكن كان عليه
في
الوقت نفسه أن يعمل على وجود رابطة بين المدنية الإغريقية وبين المدنية المصرية،
وقد
كان انتصار المدنية الإغريقية مُعَدًّا بالصبغة الهيلانستيكية التي كانت سائدة في
بلاط
الإسكندرية، وكان لا بد أن يتلاقى في اتحاد المدنيتين في ديانة سيرابيس كما أوضحنا
ذلك
من قبل.
وقد كان رجال البلاط وكذلك رجال الجيش المقدوني الصبغة والمقدونيين عامة يؤلفون جماعة
مميزة، ولكنَّ هؤلاء المقدونيين كانت ثقافتهم إغريقية، وكان المطلوب وقتئذ أن يجذب
إلى
«الإسكندرية» كل ما في المدنية الهيلانستيكية مِنْ لامِعٍ أخَّاذٍ، ومن ثم نهض «بطليموس
الأول» نهضته العلمية في مصر فأغرقها بعلوم الإغريق وجعل «الإسكندرية» محط رجال العلم
من كل أنحاء العالم الهيلانستيكي كما أسهبنا في ذلك القول في موضعه، غير أن الروح
الذي
كان سائدًا في تحصيل العلوم والآداب ونشرها كان بعيدًا كل البعد عن العلوم المصرية
وديانتها وآدابها إلى درجة أن الإغريق عملوا على تشويه كل مجهود مصري بأن وضعوه في
قالب
إغريقي ممسوخ ولا أدل على ذلك من أن عبادة «أوزير أبيس» قد أصبحت هيلانستيكية، وأصبح
يُدعَى «سيرابيس» وأُلبس لباسًا إغريقيًّا حتى ضاعت معالمه المصرية، ولكنَّ المصريين
حافظوا على صورته وعبادته القديمة ولم يحيدوا عن ذلك قِيد شعرة، وقد أثبتت الحفائر
التي
عُملت في الإسكندرية حديثًا على أن ملوك البطالمة أنفسهم كانوا يمجدون هذا المعبود
في
صورته المصرية فقد عُثر في ودائع أساس من عهد «بطليموس الثالث» أن هذا المعبود كان
يُدعَى «أوزير حابي» فقد وُجدت لوحة عليها نص يؤيد ذلك.
والآن يحق للإنسان بعد بسط سياسة «بطليموس الأول» أن يتساءل هل وصلنا في غرضنا إلى
حقيقة الأمر وأننا لم نَحِدْ عن الواقع في تصويرنا؟ والحقيقة أن بعض المؤرخين أصحاب
الآراء الصافية والنظريات الممتعة قد حاولوا بما لديهم من معلومات ضئيلة عن «بطليموس
الأول» اختراق حجب الظلمات التي كانت تغمر حياته، وقد وصلوا ببحوثهم إلى أنهم أسبغوا
عليه مظهر الوحدة المتماسكة من حيث سياستُه الداخلية والخارجية، غير أن هذه الصورة
التي
رسموها لا تخرج عن كونها سرابًا خدَّاعًا، والواقع أن ظواهر الأحوال تدل على أن
«بطليموس الأول» كان بوده على ما يظهر في بادئ الأمر أن يطبق على شطربيته السياسة
التي
وصى بها الإسكندر، وهي التي كانت في صالح الشرقيين عامة، ولكن هذه السياسة كانت في
تفصيلها أقل اهتمامًا بتأمين السيادة الهيلانستيكية منها على اتحاد أقوام العالم
عامة،
ولكن «بطليموس» لم يَسِرْ شوطًا بعيدًا في تنفيذ هذه السياسة وبخاصة عندما رأى أن
ملك
بابل «سليوكيس» قد نبذ هذه السياسة التي رسمها «الإسكندر» وأخذ يفتح الباب للعنصر
المقدوني الإغريقي لاستعمار بلاده، وقد سار «بطليموس الأول» على نهجه وبخاصة عندما
رأى
الحاجة ماسَّة للجنود المرتزقين من أهل وطنه وبلاد الإغريق، وبعد ذلك نرى أن «بطليموس»
أخذ في توطيد عزمه على أن يعطي السيادة في البلاد المصرية للعنصر المقدوني الإغريقي،
وهذا التطور قد ظهر أثره بجلاء في عبادة الإله «سيرابيس» المصري وهو الذي أصبح
هيلانيًّا مصريًّا في عام ٢٨٦ق.م وذلك عندما ظهر «سيرابيس» في الإسكندرية، والبراهين
التي ترتكز عليها هذه النظرية الهامة ليست بعيدة المنال، ونحن نجهل تمامًا تواريخ
هامة
في هذا الصدد فمثلًا لا نعرف تاريخ تأسيس مدينة «بطليمايس» وكذلك تاريخ ظهور عبادة
الإغريق للمعبود «سيرابيس»، وذلك لأن التواريخ التي قدمها لنا الحساب التأريخي لهذه
الحوادث يمكن أن يطبَّق فقط على إقامة التمثال في المعبد، يضاف إلى ذلك أن التأريخ
الداخلي لمصر في هذا العهد يكان ينقصنا تمامًا.
والحقيقة القائلة بأن الاحتكارات لم تكن قد استقرت نهائيًّا بعد عهد «بطليموس الأول»
تكشف لنا عن ثبات في المبادئ، وذلك أن الفضل يرجع كثيرًا إلى «بطليموس الثاني» في
أنه
هو الذي يمكن أن يكون قد أخذ هذا الاتجاه الجديد، وإذا كان قد حدثت في عهد «بطليموس
سوتر» تغيرات كما هو المحتمل فإنها لم تكن عميقة بدرجة كبيرة كما أنها لم تكن قد
حدثت
فجأة كما يدعي بعض المؤرخين، والواقع أن «بطليموس» لم يكن في مقدوره أن يفعل شيئًا
بدون
الهيلانية، وكان في الوقت نفسه مضطرًّا أن يعامِل بحزم ورفق رعاياه من المصريين،
وهاتان
الضرورتان كانت فرضًا على حسن تصرفه وكياسته في سياسته الحكومية وطوال مدة حكمه،
٢٩ وعلى أية حال نفهم من كل ما سبق على أنه قد رسم لابنه بطليموس الثاني الخطة
التي كان مفروضًا أنه سينتهجها في حكم البلاد غير أن الأخير لم يلبث أن رسم لنفسه
سياسة
في حكم البلاد كان الغرض منها ابتزاز الأموال من الشعب المصري بكل الوسائل لتنفيذ
سياسته الإمبراطورية في الخارج وللصرف منها على ملاذه ومظاهره البراقة في داخل البلاد،
وهذا ما سنراه في العرض الذي يلي هنا.