تولي «بطليموس الثاني» الملك
تولى «بطليموس الثاني» عرش أرض الكنانة وهو لا يزال لين العود غض الإهاب لم يتجاوز
الخامسة والعشرين من عمره، ومما يؤسف له جد الأسف أن معلوماتنا المباشرة عن حكمه
ضئيلة
هزيلة عديمة الجدوى لا تقدم لنا مادة صالحة إلا لأولئك الذين ينقبون وراء القصص الغريبة
والأوصاف الخيالية الخارجة عن حد المألوف؛ فقد روي عنه أنه كان رجلًا منعَّمًا تعاطى
من
كل علم طرفًا، ولكن لم يكن صاحب عمق في أي علم فكان إذن رجلًا سطحيًّا، كما وُصف
بأنه
كان صديقًا لليهود، وقد كافأه أحد كُتابهم بأن وصفه بأنه ملك مثالي، والواقع أن من
أراد
أن يعرف شيئًا أصيلًا عن «بطليموس الثاني» فلا بد من الرجوع إلى أعماله في كل مدة
حكمه،
وحتى من درس ذلك لا يستطيع أن يحكم عليه حكمًا صحيحًا، وذلك لأن التاريخ لم يذكر
لنا
مساوئ الحكام وما كانت تنطوي عليه نفس كل حاكم من أشياء خفية، وربما كان في مقدور
المؤرخ أن يصل إلى شيء عن أخلاقه بما جاء في رسائله، وإذا وازنَّا بينه وبين والده
نجد
فرقًا واضحًا؛ فبطليموس الأول كان رجل حرب فيه خشونة الجندي وشدة بأسه، وهذا ما لم
نجده
في ابنه الذي نشأ في أحضان الترف والبذخ والكتب والعلم، ومن ثم نجد فيه نعومة الحياة
والدعة والترف التي نجدها ظاهرة مُحَسَّة في الملوك البطالمة الذين أتوا بعده.
ومع ذلك فإن دراسة أخلاقه قد كشفت لنا عن ناحيتين مميزتين من أخلاقه؛ فقد كان من
جهةٍ
ملكًا طموحًا صاحب إمارة وكبرياء محبًّا للسلطان والفخفخة والملذات مِضياعًا مِتلافًا
للمال سخي الكف على شهواته، ومن جهة أخرى كان محبًّا للعلوم والآداب، هذا فضلًا عن
أنه
كان أول سياسي في عصره، كما كان رجل قيادة في الصناعات التي تدر عليه المال، فكان
يجري
وراء إنجاز المشاريع الاقتصادية المبتكرة بدرجة عظيمة، هذا إلى أنه كان صاحب ملحوظات
دقيقة في أصغر الأمور، ولا غرابة في ذلك؛ فقد تلقى علومه على يد نخبة من علماء عصره
من
أفاضل نوابغ العهد الهيلانستيكي نخص بالذكر منهم «فيليتاس» الشاعر واللغوي وهو من
مواطني جزيرة كوس، وقد تلقى على «فيليتاس» هذا كثيرٌ من علماء هذا العصر علومهم،
ونخص
بالذكر من بينهم «زنودوتوس» Zendotus الذي أصبح أمينًا
لمكتبة الإسكندرية، وكذلك علَّمه «ستراتو» أحد عظماء رجال العلم الذين كانوا يمثلون
مدرسة «أرسطوطل» في ذلك العهد، وقد كان آخر عالم إغريقي اعتنى بعلم الطبيعة ودراسته،
هذا إلى أن غرام «بطليموس الثاني» وشغفه بعلم الجغرافيا وعلم الحيوان قد شجعه على
دراستهما، وقد انكب تلاميذ «أرسطوطل» على درس هذه العلوم، ولا نزاع في أن تعلم
«بطليموس» على أيدي أمثال هؤلاء العلماء كان يعني بطبيعة الحال السير قدمًا بالعلوم
والآداب، ولم يقصد بذلك قط الفلسفة الأخلاقية أو علوم ما وراء الطبيعة، ولا غرابة
في
ذلك؛ فإن شواهد الأحوال تدل على أن الإسكندرية مهد العلم في عصره كانت مهتمة بدراسة
الآداب والعلوم بوجه خاص وبذلك لم يكن للفلسفة مجال يذكر فيها.
أما عن حب «بطليموس الثاني» لمتع الحياة ومباهجها فالأمثلة كثيرة ولا أدل على ذلك
من
أن أسطوله النيلي الذي خصصه لمتعه ولياليه الحمراء، وكذلك ما كان يملك من محاظٍ،
هذا
بالإضافة إلى الأمراء الذين جُردوا من أملاكهم وأصبحوا يعيشون في بلاطه، والأعياد
الفخمة التي كان يحتفل بها وإيوانه الأنيق الذي أقامه خصيصًا لهذه الأعياد البَهِجَة،
وسفنه الحربية الضخمة التي كانت تمخر عباب البحار، والاستعراض الإسكندري الذي كانت
تسير
فيه من انفلات الفجر حتى غسق الليل مواكب الجنود والممثلين والعبيد، كان يصل هذا
الملك
كل ذلك ليمثل للشعب ما كان عليه من سلطان وثراء، هذا وكان حبه وحمايته لأهل الفكر
أمر
طبيعي لأنه جُبِل على حب العلم قبل أن يعتلي كرسي الملك، وبين هؤلاء «سوستراتوس»
مواطن
«كنيدوس» وهو الذي أقام منارة «الإسكندرية» والخارجات المعلقة في «كنيدوس» نفسها،
وقد
أرسله كذلك «بطليموس» عام ٢٥٥ق.م مبعوثًا من قِبَلِه «لأنتيجونوس» لمفاوضته في الصلح
فنال منه صلحًا في صالح مصر.
١
وتُحدثنا أوراق البردي أنه كان مغرمًا بالعلوم الزراعية، هذا وقد نَقَلت إلينا عنه
التقاليد الأدبية أنه كان مولعًا بجمع الحيوانات الغريبة والطيور الإفريقية والهندية،
فكانت حديقة حيوانه تحتوي على فهود ونمور وعَناق الأرض، وجاموس أفريقي وهندي وزراف
وحمير وحشية من «سوريا» وثعبان أثيوبي طوله خمس وأربعون قدمًا، ووحيد القرن، ودُب
أبيض
من القطب مما يدل على أن قبيلة من قبائل القطب قد سمعت عنه وهو لم يسمع عنها.
ومن أعظم ما يلفت النظر في أمر هذا الملك الذي كان يجمع بين كل هذه الأشياء أنه كان
يمتاز بعقل رياضي يستطيع أن يحسب الأرباح والفوائد المئوية كأنه أمهر تاجر يعمل على
نطاق واسع، والواقع أن أية عملية مهما كانت لا تعد كبيرة أمامه، كما كان يلتفت إلى
أن
أي دخل مهما قل مقداره، ومن ثم كان واليهود في هذه الناحية فَرَسَيْ رِهَانٍ.
حقًّا كان هناك من يساعده على تنفيذ تفاصيل النظام الاقتصادي الذي خلقه هو، غير أن
الإصلاحات الرئيسية التي تحتاج إلى إصلاح كان هو الذي يضع أسسها، وذلك بسبب أنه لم
يكن
هناك من يجرؤ على عملها غيره، ولا غرابة إذن أن نسمع كثيرًا إشارات عابرة تدل على
اعتلال صحته، والواقع أن الرجل الذي يقوم بكل هذه الأعمال التي ينوء بحملها عدة رجال
لا
يمكن أن يجمع بين هذه الأعمال الضخمة وصحة الجسم، ومن أجل ذلك يتساءل المؤرخ «تارن»
فيما إذا كان هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل بطليموس ينصرف عن قيادة جيشه بنفسه في
ساحة
القتال، وواقع الأمر في هذا أنه لم يكن لديه موهبة حربية تؤهله للقيادة الحربية.
٢