طراز الحكم الذي سار على نهجه «بطليموس الثاني»
على الرغم من أن «بطليموس الأول» قد وضع لابنه ووريثه «بطليموس الثاني» طراز الحكم
الذي سار عليه فإن قوة ملوك البطالمة وطراز حكمهم قد انعكست صورته في الوثائق التي
لدينا من عهد «بطليموس الثاني»، ومن جاء بعده، وذلك في ثلاثة وجوه مختلفة؛ أولًا
اعتقادهم أنهم ورثة «الإسكندر الأكبر»، ومن أجل ذلك عملوا أن يكون بينهم وبينه صلة
نسب
مباشرة باختراع شجرة نسب تتفق مع هذا الرأي فزعموا أنهم كانوا ملوك جالية المقدونيين
الذين كانوا معه في مصر، وكانوا في الأصل جنودًا في جيش «الإسكندر الأكبر»، وهم الذين
ساعدوه على فتح أرض الكنانة.
وقد كانت مصر من وجهة البطالمة ملكًا للملوك المقدونيين، وكانت في نظر جيشهم المقدوني
بلادًا اكتُسبت بحد السيف أو بعبارة أخرى كانت ضيعة لملوك مقدونيا، ولم وُطِّد سلطان
البطالمة في مصر حذوا حذو «الإسكندر الأكبر» في ادعائهم أنهم الخلفاء الشرعيون لفراعنة
مصر، وقد اعترف بهم رؤساء الكهنة المصريون فراعنة شرعيين، ولم يكن لديهم وسيلة غير
التسليم بالأمر الواقع، وذلك تمشيًا مع الفكرة القديمة الدينية والسياسية التي كانت
مسيطرة على البلاد من حيث الملكية، وهيَ أن الفرعون كان يعد ابن الإله «آمون رع»،
وأنه
كان يعتبر إلهًا عائشًا على الأرض مدة حياته وبعد موته يعد «أوزيرا» يحكم في عالم
الأموات، ومن أجل ذلك كان هو المسيطر على كل أوراق البلاد ومرافق حياتها جميعًا،
وكان
المصريون قد قبلوا هذا النوع من الحكم عن طيب خاطر منذ أن نشأت الملكية بسبب نظرية
قديمة بقيت مسيطرة على عقول الشعب المصري بدأت منذ عهد «مينا» على ما يقال واستمرت
حتى
نهاية العهد الفرعوني، ولا نزاع في أن البطالمة قد أخذوا عن المصريين هذه الفكرة
وساروا
على نهجها في حكم مصر، ومضمون هذه النظرية أو بعبارة أصح الأسطورة هو أن المصريين
كانوا
يعتقدون أن أول ملك حكم على الأرض هو إله الشمس «رع» الذي وضع نظامًا لحكومته على
الأرض
سماه «ماعت»، ومعنى هذا اللفظ لا يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة، وذلك لأنه كان يعبر
عن
نظام أو قانون يشمل في طياته العدالة والصدق والحق والمساواة والعدالة الاجتماعية
بين
الناس، وقد سار أبناؤه من بعده يحكمون على حسب قانون «ماعت» بعد أن ارتفع «رع» إلى
السماء، وكان المفهوم أن كل ملك جاء بعد «رع» لا يحيد عن «ماعت» فإذا حاد عنه فهو
ليس
«ابن رع» وليس له الحق في حكم مصر، وقد سارت البلاد على هذا النهج، وتدل الظواهر
على
أنه منذ عهد «مينا» موحد الأرضين كان الملوك يحكمون على حسب نظام «ماعت» حتى نهاية
الدولة القديمة بوصفهم أبناء «رع»، وفي نهاية هذه الفترة قام الشعب المصري بثورته
الاجتماعية على مليكهم الذي حاد عن قانون «ماعت» وخلعوه عن عرش الملك وأخذت البلاد
تتخبط في ظلام دامس حتى قيض الله لها من نشلها من وهدتها على يد ملك جديد من أبناء
«رع»
أعاد لها نظامها القديم فأخذ القوم يخضعون لسلطانه في باكورة الدولة الوسطى.
١
ولقد رضي الشعب المصري بهذا النظام من الحكم الذي على حسب زعمهم كان الفرعون فيه ليس
إلا ممثلًا للإله «رع» ومنفذ قانون والده، فهو لا يملك من الأمر شيئًا، ومن ثم تدل
شواهد الأحوال على أن الحكم الملكي المطلق لم يكن مفروضًا على الشعب المصري مِنْ
قِبَل
ملك بعينه بل كان حُكمًا إلهيًّا عادلًا ينفذه ابن «رع»، وهكذا بقيت نظرية نظام «ماعت»
مسيطرة على عقول الشعب المصري مدة تاريخه الطويل الأمد، ولا يريد عنها بديلًا مهما
كانت
الأحوال، وذلك لأن حكم هؤلاء الملوك كان حكمًا إلهيًّا وليس لهم فيه من الأمر شيءٌ
إلا
تنفيذ القانون الذي وضعه «رع» والدهم، ومن أجل ذلك كان الملك في نظر الشعب المصري
لا
يخطئ، وإن قوله هو القانون المنزَّل، ولقد كانت الثورات تقوم في مصر من وقت لآخر
عندما
كان الملوك ينحرفون عن طريق قانون «ماعت»، فإذا ما عادت الأمور إلى نصابها سارت البلاد
في سبيلها السوية على حسب قانون «ماعت»، والواقع أن الفرعون كان هو الحكومة في كل
مظاهرها، وعندما تولى البطالمة حكومة مصر لم يكونوا يعرفون هذا النوع من الحكم بل
كانت
الملكية عندهم مقيدة بشروط وقيود فكان الجيش مثلًا هو الذي ينتخب الملك عندما يصبح
عرش
الملك خاليًا، وذلك على حسب تقاليدهم القديمة في مقدونيا، وقد رأينا أن «بطليموس
الأول»
عندما تولى عرش مصر لم ينتخبه أحد بل اعتلى أريكة الملك على الطريقة المصرية بوصفه
ابن
«رع»، فما هو السبب الذي دعا إلى ذلك يا ترى؟ ويجيب المؤرخون الذين كتبوا تاريخ هذا
العصر بأن بطليموس كان شطربة مصر من قِبَل «الإسكندر الثاني» فرعون مصر وعند موت
الأخير
ادعى «بطليموس» لنفسه عرش مصر بوصفها بلادًا فُتحت بحد السيف وبحكم القانون المقدوني
كانت حقًّا له، ولكن هذا التفسير يعد مغالطة وتشويهًا للحقائق ولا يتفق مع مجريات
الأمور في مصر، وذلك أن «الإسكندر الثاني» كان فرعونًا على مصر، وعلى الرغم من أن
قدمه
لم تطأ أرض مصر فإنه كان يُدعَى ابن «رع» على الآثار المصرية، ومن ثم نفهم أن المصريين
أو بعبارة أدق رجال الدين نصَّبوه فرعونًا على البلاد ولقبوه بكل ألقاب الملك وعلى
رأسها لقب «ابن رع»، يضاف إلى ذلك أنه كان قد تولى من قَبْلِه بنفس هذه الطريقة «فليب
أريداوس» ولم يكن قد أتى إلى مصر قط، وكان «الإسكندر الأكبر» كما سبق إيضاحه قد فطن
إلى
هذا الأمر عندما دخل مصر فاتحًا فكان أول عمل قام به هو أنه توج نفسه فرعونًا في
«منف»
وذهب إلى واحة «سيوة» حيث لقبه الكهنة ابن «آمون رع» من صلبه.
والواقع أن كل من أراد أن يحكم مصر ويصبح فرعونًا عليها كان لا بد أن يكون ابن «رع»
من صلبه، ومن ثم نفهم أنه كان لزامًا على «بطليموس الأول» أن يكون «ابن رع» ومنحدرًا
من
صلبه، ولكن الوثائق التي في متناولنا من عصره لم تحدثنا بحديث تولِّيه عرش الفراعنة،
وذلك على الرغم من أنها تذكر لنا ألقابه الفرعونية، وأنه «ابن رع»، وسنرى أن ابنه
«بطليموس الثاني» هو الذي وضع تاريخ أسرة البطالمة ونسبتها للإله «رع» لأن كل الأحوال
كانت ممهدة له كما سنرى بعد القيام بذلك، وقد اتخذ «بطليموس الثاني» لنفسه كل الحقوق
التي كان يتمتع بها فرعون مصر في كل نواحي الحياة المصرية في الداخل والخارج، فقد
كان
مطلق التصرف في كل شيء، ولكن وجود عنصر جديد في البلاد المصرية قد غير الأوضاع بعض
الشيء، وأعني بذلك الجنود المقدونيين والإغريق المستعمرين الذين وفدوا على البلاد
مع
البطالمة أو بدعوة منهم، ومع كل ذلك إذا استثنينا المدن التي كان يسكنها الإغريق
وهي
«نقراش» و«الإسكندرية» و«بطليمايس» (موقعها المنشية القريبة من سوهاج) التي كانت
تتمتع
ببعض الامتيازات فإن «بطليموس الثاني» كان مسيطرًا سيطرة تامة على كل شبر من أرض
الكنانة بما في ذلك أراضي المعابد وأراضي الأشراف أصحاب الإقطاع الذين قضى عليهم
«بطليموس الأول»، كما كان هو أمير الأسطول وقائد الجيش، والمنبع الذي يصدر منه القانون،
كما كان كل مكتوب يصدر منه له قوة القانون، وذلك على حسب ما كان يسير عليه ملوك مصر
القدامى، هذا وكان الوزراء والموظفون من صنع يده يعزل منهم من يشاء ويُوَلِّي من
يشاء،
وقد كان لكل مواطن من رعاياه الحق في أن يقدم له شكايته شخصيًّا، وعلى الرغم من أن
بعض
التظلمات لم تكن تتعدى حاكم المركز أو القرية فإن بعضها كانت تصل إلى القصر الملكي،
وكان الملك يفحصها بنفسه.
٢