النضال بين بطليموس الثاني وإخوته
على الرغم من أن «بطليموس الأول» قد مهد لابنه «بطليموس الثاني» (الذي يُدعَى خطأً
فيلادلفس) المُلك فإنه ترك وراءه مناضلين ومنازعين له في العرش، والواقع أن أولاد
الملكة «أيريديكي» الذين كان يُنتظر منهم أن يقفوا في وجه «بطليموس الثاني»، قد تركوا
على ما يظهر «الإسكندرية» قبل أن يحرمهم والدهم وراثة العرش، فنجد أن بِكر أولاد
«بطليموس كرانيوس» (الصاعقة) الذي كان صاحب الحق شرعًا في الملك قد استجار «بليزيماكوس»
ملك «تراقيا» فأجاره، وهناك اجتمع بأختيه الأولى وكانت زوج «أجاتوكليس» بن «لزيماكوس»
واسمها «ليسندرا» وهي أخته من أمه «أيريديكي» والثانية تدعى «أرسنوي» وكانت زوج
«ليزيماكوس» وهي ابنة «برنيكي» وقد كان «بطليموس كرانيوس» هذا عازمًا على أن يسترد
حقه
في ملك مصر الذي حرمه منه والده «بطليموس الأول».
وقد شاءت الأقدار أن تحبك مؤامرة محزنة كان لها نتائج بعيدة المدى بين أفراد أسرة
«ليزيماكوس»، وذلك أن «أرسنوي» اتهمت ابن زوجها «أجاتوكليس» بالتآمر على قتل والده
«ليزيماكوس» وكان لها سلطان عظيم على زوجها المسن كما كانت في الوقت نفسه مكروهة
في
بلاط زوجها، فقد قيل عنها إنها كانت تَسْلَح في وجه كل من يقف في سبيلها أو يعصي
لها
أمرًا، كما كان الهَجْو الذي تَفْتَرُّ عنه شفتاها كالصواعق، وقد انخدع «ليزيماكوس»
وضعُف أمامها فصدق وشايتها في ابنه وبخاصة أن «أجاتوكليس» كان محبوبًا عند جمهرة
الشعب،
فادعت عليه أنه تآمر على قتل والده، وانتهى الأمر بأن قُبض عليه ووُضع تحت تصرف
«أرسنوي» لتقضي عليه بالطريقة التي تحلو لها، فقتلته سرًّا وألقت بجثته بعد ذلك في
غياهب جب عام ٢٨٤ق.م غير أن سر قتله لم يلبث أن فُضح في الحال، ولم تكد تسمع «ليسندرا»
بهذه الفاجعة حتى آثرت الهرب مع أولادها إلى «سيلوكوس» مستجيرة به فأجارها، وقد هرب
معها أخو الإسكندر خوفًا من الموت،
١ وانضم «بطليموس كرانيوس» إلى المطالبين بدم «أجاتوكليس»، وقد رحَّب به
«سيلوكوس» في «أنطاكية» وعامله معاملة بوصفه الوارث الحقيقي لعرش مصر، وقد كان
«سيلوكوس» ملك «سوريا» ينتظر موت «بطليموس الأول» الذي كان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا؛
ليخلع «بطليموس الثاني» من عرش الملك ويسلمه إلى ابنه البكر الذي استجار به، هذا
وكان
«كرانيوس» قد بنى آماله على ذلك، ومن ثم أخذ «بطليموس» حذره من نوايا جاره، غير أن
«كرانيوس» صُدم صدمة عنيفة عندما علم أن «سيلوكوس» بعد موت «بطليموس الأول» الذي
كان
يرقبه بفارغ الصبر فضَّل غزو بلاد «آسيا الصغرى» على غزو مصر، وبذلك لم يَفِ بوعده
لكرانيوس، ومن ثم كان «كرانيوس» في يأس قاتل من أمره.
هذا وكان حاكم «برجامم» المسمى «فيليتاروس» يخاف شر «أرسنوي»، فحرض «سيلوكوس» على
الأخذ بثأر «أجاتوكليس» وعرض عليه أن يخلي له «برجامم» بما فيها من كنوز،
٢ وفي تلك الفترة أخذت الفوضى تشيع في كل بلاد آسيا الصغرى، وهناك التقى
«سيلوكوس» بجيش «ليزيماكوس» في موقعة «كوروبديون
Koroupedion» في ربيع عام ٢٨١ق.م وكان من نتائجها أن سقط «ليزيماكوس»
صريعًا في ساحة القتال، وبذلك أصبح كل ما كان يملكه في «آسيا الصغرى» نظريًّا مِلْك
«سيلوكوس»، وعندما علمت «أرسنوي» بموت زوجها فرت من «أفيسوس» خوفًا من انتقام «ليسندرا»
التي أرادت الانتقام لزوجها «أجاتوكليس» بالتمثيل بجثة «ليزيماكوس» أشنع تمثيل وذلك
بعد
دفنها، هذا ولم تكن مطامع «سيلوكوس» لتقف عند هذا الحد؛ إذ كان يريد أن يضم إلى أملاكه
كل «آسيا الصغرى» و«تراقيا» ليقدمها لأولاد «أجاتوكليس» ويحفظ لنفسه بلاد مقدونيا
حتى
يُمْضي البقية الباقية من حياته فيها، وقد نسي أن بجانبه «كرانيوس» الذي لم يَفِ
بوعده
له وهو تنصيبه ملكًا على مصر، ومن أجل ذلك تحين «كرانيوس» الفرصة للقضاء عليه فطعنه
وهو
في طريقه إلى «ليزيماكا» عاصمة ملكه، ثم ذهب في الحال إلى العاصمة واستولى على تاج
الملك وقد لقي تَرحابًا من جانب الجنود، وبخاصة أنه قد أغدق عليهم مالًا وفيرًا،
وهكذا
لقي «سيلوكوس» الذي كان يعتبر وقتئذ آخر رفيق «للإسكندر الأكبر» حتفه في نهاية عام
٢٨١ق.م، ولما كان «كرانيوس» يخشى انتقام «أنتيوكوس بوليورسيت» فإنه أخذ في طلب ود
أخيه
«بطليموس الثاني» قائلا له: إنه لا يحمل في صدره أي حقد عليه بسبب حرمانه من عرش
الملك،
ولا يطلب إليه إلا أن يساعده على حفظ ما كسبه من عدو والدهما «بطليموس الأول»، والواقع
أن «بطليموس الثاني» قد رحب بهذا العرض، ومن المحتمل أنه قد أخذ وقتئذ في تجهيز حملة
لاسترداد «سوريا الجوفاء» التي كانت فيما سبق إقليمًا مصريًّا، وقد كان دائمًا يرفض
«سيلوكوس» أن يعيدها إلى «بطليموس الأول» ومن المحتمل أنه كان قد أغار عليها «بطليموس
الثاني»، أما «أنتيوكس» فكان في موقف لا يُحسد عليه؛ إذ كانت مملكته على شفا جُرُف
هارٍ
لأن كل بلاد «آسيا الصغرى» قد قامت تطالب بحريتها التي سلبها منها «سيلوكوس»، وقد
استقل
فعلًا معظم حكامها، هذا فضلًا عن أن المدن الإغريقية قد حذت حذو هؤلاء الحكام وقاموا
بثورات وانضم «الهيراكليوتيون» إلى «الكسديين» و«بيزنطة» إلى «ميتراديس» من جهة ومن
جهة
أخرى قدموا أسطولهم إلى «كرانيوس» ليصبح جزءًا من أسطول سد البسفور،
٣ وقد أراد «أنتيوكوس» أن يلحق «بطليموس»، غير أنه كان عليه في تلك الفترة أن
يهدئ الأحوال في «آسيا الصغرى»، ولكن لسوء الحظ أرسل جيشًا بقيادة «باتروكليس»
Patrocles إليها كان مصيره الفشل،
٤
وخلاصة القول نجد أن «أنتيوكوس» قد أصبح أمام كل هذه المخاطر الجبارة لا يدري ماذا
يفعل، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان يعمل في جانب «كرانيوس»، وبعد مناوشات ومحاولات
بائسة عقد «أنتيوكوس» صلحًا مع «بطليموس كرانيوس» في نهاية عام ٢٨٠ق.م، ومنذ هذه
اللحظة
أخذ «كرانيوس» يعمل على القضاء على أرسنوي وأولادها الذين لم ينزلوا حتى الآن عن
حقهم
في ملك والدهم «ليزيماكوس»، وكان كل من أرسنوي و«كرانيوس» يعرف ما انطوت عليه نفس
خصمه
من مكر ودهاء وسوء نية، وقد اقترح «كرانيوس» على «أرسنوي» أن يتزوج منها ويتبنى
أولادها، غير أنها بقيت على حذر منه وظلت مقيمة حبيسة في «كاسندريا»، وقد حاول
«كرانيوس» أن يبدد مخاوفها فلعب معها دور العاشق المدله بحبها، وقدم لها كل المواثيق
على إخلاصه وفي نهاية الأمر قبلت «أرسنوي» الزواج منه ولكن بعيدًا عن «كاسندريا»
حيث
تركت أولادها، وبعد أن تم الزواج وسط تهليل الجيش وابتهاجه تبنى أولاد أخته وزوجه،
بعد
ذلك دعا «أرسنوي» للحضور إلى «كاسدريا» وهناك انقض على أولادها من «ليزيماكوس» وهم
بين
ذراعيها وقتلهم، وعلى إثر ذلك هربت «أرسنوي» إلى «ساموتراس» حيث ندمت على عدم موتها
مع أولادها،
٥ وقد أسف «كرانيوس» على أنه لم يأتِ على أكبر أولادها الذي قُدِّر له أن
يعيش عيشة هادئة بعيدًا عن عرش الملك.
والآن بعد أن ارتكب «كرانيوس» كل هذه الآثام جاء دور انتقام العدالة الإلهية منه،
فنراه طُعن طعنة نجلاء وهو في ساحة القتال يحارب «الغاليين»، وقد اختار بعده المقدونيون
أخاه «ميليجر»
Meleager ملكًا عليهم، غير أنه لم يكن
كفْئًا فعزلوه بعد أن حكمهم ستة أشهر، وبعد ذلك تولى فرد آخر يُدعَى «أنتيباتر» عرش
مقدونيا وهو ابن «كاسندر» لمدة أشهر قلائل ثم عُزل واحتمى «بالإسكندرية» بعد خلعه،
وكان
يلقَّب بالخمسيني (وهو الهواء الذي يهب خمسة وأربعين يومًا)، وقد كشفت لنا عن حقيقته
بردية جاء فيها عن طريق الصدفة أنه كان حاميًا لصناع زهر الطاولة المصنوع من عظام
الأصابع.
٦
هذا وقد حاول «أنتيوكوس الأول» بن «سيلوكوس» والأميرة الفارسية «أباما» في «آسيا
الصغرى» أن ينصب نفسه ملكًا مكان والده، ولكنه لا يمكنه توطيد سلطانه إلا بحرب تنشب
هناك بقوى جديدة قام بها الأمراء الوطنيون والأسر الفارسية القديمة، على إمارة «برجامم»
الإغريقية وكانت صاحبة نفوذ وقوة هناك.
وعلى أية حال نجد في نهاية الأمر بعد انقضاء نصف قرن على موت «الإسكندر الأكبر» كانت
فيه أحوال الإمبراطورية جِدَّ مُرْتَبِكَة، إن عالَم شرقي البحر الأبيض المتوسط قد
استقرت أحواله وتألفت فيه مجاميع من الدول القوية، فنشاهد في مقدونيا «أنتيجونوس»
كما
أصبح شمالي «سوريا» وجزء كبير من «آسيا الصغرى»، و«مسوبوتاميا» وبابل الفُرس في قبضة
بيت «سيلوكوس».
هذا ونرى في أجزاء أخرى قيام ملوك صغار جدد محليين، أما «مصر» و«فلسطين» و«سيريني»
و«قبرص» فكان على رأسها ملوك أسرة البطالمة، يضاف إلى ذلك أن بلاد الإغريق نفسها
والجزائر وسواحل بحر إيجه وشاطئ «البوسفور» والبحر الأسود، ومدن الإغريق القديمة
قد
بقيت كلها تتمتع بشيء من الحرية على حسب ما تساعدهم به الأحوال للتخلص من عبودية
الممالك العظيمة التي كانت تحيط بها.
وقد حدثت بين هذه الدول العظام أحداث عظيمة حربية وسياسية في عهد «بطليموس الثاني»
غير أنه مما يؤسف له جد الأسف أنه تعوزنا في هذه الفترة بالذات المعلومات التاريخية،
وبخاصة لأنه الوقت الذي وصلت فيه مصر إلى أوْج عزها وعظمتها، والواقع أن المصادر
التاريخية التي في متناولنا لم تسعفنا إلا بالنزر اليسير، هذا بالإضافة إلى أن ترتيب
الحوادث التي نستقيها مما لدينا من مصادر غير مؤكدة في هذه الفترة، وعلى ذلك فإن
كل ما
ذُكر عنها لا يخرج عن الحدْس والتخمين ولا يضع أمامنا الحقيقة الناصعة أو ما يقرب
منها
وبخاصة في الحروب التي سنذكرها فيما يلي …