حرب «كريمونيديس»
لقد ترك موت «أرسنوي» في نفس «بطليموس الثاني» أثرا عميقًا لدرجة أنه ألَّهها؛ فقد
وجدناه منذ شهر بشنس من السنة الخامسة عشرة من حكمه؛ أي بعد موتها مباشرة يؤلهها
ويقيم
لها الشعائر على حسب الطريقة المصرية في معبد «تيس منديس» كما يشاهَد ذلك على لوحة
«منديس» (Mendes Stele L. 11. 31)؛ إذ نرى في الجزء
الأعلى من هذه اللوحة «بطليموس الثاني» ممثَّلًا وهو يقدم الطاعة للتيس وقد صفَّت
خلفه
عدة آلهة وفي نهاية الصف ترى «أرسنوي» في هيئة إلهة، هذا ونشاهده في السنة التالية
في
لوحة «بتوم» (تل المسخوطة) وهو منهمك في إدخال عبادة زوجه «فيلادلفس» في معبد آتوم
وقد
أقام في مدينة «أرسنوي» الجديدة معبدًا له ولأخته «أرسنوي»، وهذه المدينة أسسها على
مياه «كمور» (إقليم البحيرات المرة) (راجع مصر القديمة الجزء الثالث عشر)، وكانت
الأحفال الافتتاحية لإقامة شعائر عبادة «أرسنوي» تتتابع سنويًّا في معابد مصر المختلفة
على الطريقة المصرية، أما في الإسكندرية فقد أقام لها عبادة خاصة على حسب الشعائر
الإغريقية يقيمها كهنة خاصين ولم تلبث إلا قليلًا حتى انتشرت عبادة الإلهة «فيلادلفس»
في كل البلاد الإغريقية كما ذكرنا من قبل.
والواقع أن روح هذه الملكة المؤلهة باسم «أرسنوي فيلادلفس» قد استمرت تبعث قوتها في
السياسة المصرية، وأنها لو امتد بها الأجل لكان للسياسة المصرية شأن آخر، ولَمَا
حلَّت
بها الهزائم التي انتابتها بعد موتها.
ومما يؤسف له جد الأسف أن السنين التي أعقبت موتها جاءنا تاريخها غامضًا لدرجة بعيدة،
ولذلك فإن ما سنذكره هنا بعدُ، عن الحروب التي قامت في تلك الفترة بين «بطليموس الثاني»
وخصومه لا يعتمد على وثائق أصلية وأن الحدْس والتخمين قد لعبا دورًا في قصتها.
وعلى أية حال يظهر أن «بطليموس الثاني» بعد موت «أرسنوي» أخذ في حل المسائل العويصة
في سياسة البلاد وهي التي كانت تسعى «أرسنوي» إلى أن تحلها على حسب آرائها الخاصة
وخططها الماكرة، ففي عام ٢٧٢ق.م مات «بيروس» في الحرب التي شنها على «أنتيجونوس»،
وقد
كان ذلك سببًا في تقوية مركز الأخير، ومن ثم أصبح واضحًا أنه إذا قويت مقدونيا فإن
ذلك
معناه تهديد لمصر، ومن ثم كان لا بد من إيقافه عند حده، وكانت «أرسنوي» تطمع في أكثر
من
ذلك؛ إذ كانت ترمي إلى الاستيلاء على عرش مقدونيا لابنها «بطوليمايوس» بن «ليزيماكوس»،
ومن المحتمل أنها كانت تحلم في جمع شمل إمبراطورية «ليزيماكوس» من جديد وتنصيب ابنها
على عرش والده الذي مات غدرًا، على أنه كان هناك خطر إذا ما أصبح «بطليمايوس» ملكًا
على
مقدونيا؛ إذ كان من الممكن أن ينحاز إلى المقدونيين في عدائهم لمصر، وعلى ذلك فإنه
من
الجائز تفاديًا لذلك أن نجد «بطليموس الثاني» عندما رأى أنه لا مناص من الحرب أشرك
«بطليمايوس» هذا معه في الملك عام ٢٧٦ق.م، وبذلك كان يحكم كذلك أملاك «ليزيماكوس»
السابقة، وتدل الظواهر على أن «أرسنوي» كانت قد كونت حلفًا من بلاد اليونان لمحاربة
«أنتيجونوس»، غير أن الحلف لم يقمْ بمحاربة الأخير إلا بعد موت «أرسنوي»، وذلك لأن
«بطليموس» كان يسير على هدى سياستها، وكانت الخطة التي وُضعت لهذه الحروب هي مهاجمة
«أنتيجونوس» بحلف إغريقي قوي تمده مصر بالمساعدة.
وقد جاءت مبادرة الحرب من ناحية «أثينا»، وذلك أنه على الرغم من أن أصدقاء
«أنتيجونوس» كانوا يحكمونها فيها حوالي عام ٢٧١ق.م، هذا وكان أهل «أثينا» يبغون التحرر
التام والتخلص من نِير مقدونيا، ومما يجب ملاحظته هنا أن أثينا كانت في حاجة إلى
الغلال
من الخارج، ولم يكن له وقتئذ مصدر للحصول على هذه المادة إلا عن طريق مقدونيا أو
مصر،
ولذلك لم يكن في مقدور الأثينيين أن يهاجموا مقدونيا إلا إذا وثقوا من معونة مصر
لهم
واتفق أنه في تلك الفترة زارت بعثة مصرية «أثينا»، وقد دُعِيَ لاستقبالها فلاسفة
مختلفون من بينهم «زينو» والظاهر أن الحديث الذي دار بين المصريين والفلاسفة الأثينيين
كان ينطوي على عداء للمقدونيين بدرجة عظيمة، ولا أدل على ذلك من أن أحد المبعوثين
سأل
«زينو» في حفلة غذاء، وكان ملازمًا الصمت: «ما الذي يريد أن ينقله عنهم للفرعون بطليموس
الثاني؟» فأجابه «زينو»: «خبِّرْه أن هناك رجلًا واحدًا في «أثينا» يعرف كيف يحفظ
لسانه.»
وفي عام ٢٦٧ق.م سقط الحزب الموالي لمقدونيا وبذلك أصبح الحكم في أيدي الحزب الوطني
وهو الذي تحالف مع مصر، وكان قائد هذا الحزب جلوكون
Glaucon ابن «إتوكليس»
Etocles وكان
أخوه الصغير المسمى «كريمونيديس»
Chremonides أحد
تلاميذ الفيلسوف «زينو» وأكبر داعية لإعلان الحرب على المقدونيين، ومن أجل ذلك سميت
هذه
الحرب باسمه (حرب كريمونيديس)، وقد انضم إلى مصر في هذه الحرب «إسبرتا» ومعها
«إليس»
Elis وأخايا
Achaea و«أركاديا» الشرقية وتجيا
Tegea ومانتينيا
Mantinea
و«أوركومنوس»
Orchomenus و«كافيا»
Caphyae وفيجالا
Phigalea هذا بالإضافة إلى عدة مدن كورنثية طوتها السياسة المصرية إلى
جانبها، ولكن على الرغم من أن هذا التغيير السياسي كان بوجه خاص من عمل الفيلسوف
الرواقي «جلوكون» وأخيه الصغير «كريمونيديس» وهما من تلاميذ «زينو» كما ذكرنا من
قبل
فإنه قد ظل مع ذلك صديق «أنتيجونوس» وفي سبتمر عام ٢٦٧ق.م حرض «كريمونيديس» الحِلف
على
محاربة «أنتيجونوس» واتخذ قرارًا كان بمثابة إعلان لتخليص البلاد من نِير الاستعباد
المقدوني، ولا يزال لدينا متن إعلان الحرب على حسب اقتراح «كريمونيديس».
١
وقد جاء في مقدمة هذه الوثيقة بعد الإشارة إلى الأعمال العظيمة التي قامت بها كل من
«إسبرتا» و«أثينا» معًا لمقاومة طغيان الفرس، أن نفس الأيام السود قد عادت ثانية
إلى
بلاد الإغريق على يد رجال كانوا يسعون في القضاء على القوانين كما عملوا على تحطيم
دساتير الأجداد في كل مدينة إغريقية، وأن الملك «بطليموس الثاني» قد عزم على تحرير
الإغريق متبعًا في ذلك سياسة والده وأخته «أرسنوي الثانية»، وبعد اتخاذ هذا القرار
تقرر
عقد محالفة بين «أثينا» و«إسبرتا» وحلفائهما وبذلك تكون كل بلاد الإغريق يدًا واحدة
لتحارب إلى جانب «بطليموس» ضد أولئك الذين خانوا الأمانة في المدن الإغريقية وحرموها
استقلالها، وبذلك يمكنهم أن يخلِّصوا «هيلاس» من ربق العبودية.
على أن هذا القرار الذي اتُّخِذ كان يخفي في طياته أنه إذا انتصرت «أثينا» فإنها
ستصبح بمثابة تابعة لمصر، وقصارى القول أن المعاهدة التي أُبرمت بين «أثينا» ومصر
لم
تكن وافية بالغرض الذي أبرمت من أجله، فقد كانت «بوشيا» Boeotia و«أيتوليا» Aetolia على
الحياد، بل وعلى ود مع «أنتيجونوس» في حين أن «أرجوس» و«ميجالوبوليس» Megalopolis كانتا في جانبه وفضلًا عن ذلك كانت ترزح بلاد اليونان
في قبضة يده.
والظاهر أن «أنتيجونوس» لم يكن يرغب في الحرب، غير أنه اضطُر إلى خوضها دفاعًا عن
مصالحه؛ ففي عام ٢٦٦ق.م نجده يغزو «أتيكا» بقوة من جيشه في حين كان «آريوس» ملك
«إسبرتا» قد خف من جهة الشمال بجيشه لملاقاة عدو البلاد، أما «بطليموس» فقد أمر أسطوله
الذي كان بقيادة «بتروكلوس» Patroclus المقدوني الذي
خلف «كاليكراتيس»، وكان كاهن «الإسكندر» في عام ٢٧٠ق.م، أن يسير لمساعدة الإغريق
فَرَسَا عند جزيرة صغيرة بعيدة عن رأس «سونيوم» Sunium
وقد عُرفت لمدة طويلة باسم معسكر «بتروكلوس»، ومن ثم كان في استطاعة هذا الأسطول
أن
يشرف على خليج «سارونيك»، وكانت قاعدة الأسطول الأمامية بلدة «بويسا» Poissa في جزيرة «سيوس» Ceos أما
«أنتيجونوس» فلم يكن لديه أسطول كافٍ للدخول في حرب مع «بطليموس»، ولكن من جهة أخرى
لم
يكن لدي «بتروكلوس» جنود للحرب، وعلى ذلك فإنه لم يكن في استطاعته أن يفعل شيئًا
إلا
معاكسة طرق مواصلات «أنتيجونوس»، ولكنه أخبر «آريوس» أنه إذا هاجم «أنتيجونوس» فإنه
على
ذلك سيُنزل بحارته لينقضَّ عليه من الخلف، ولكن في تلك الأثناء كان «كراتيروس» أخو
«أنتيجونوس» وقائده في «كورنثه» قد حصن خطوط دفاعه على البرزخ الذي لم يكن في استطاعة
«آريوس» أن يعبُرَه، هذا ولم يسهل «بتروكليس» لجيش «آريوس» العبور ليحط بكورنثه،
ويحتمل
أن سبب ذلك هو سيطرة «أنتيجونوس» على كل مَرسًى في هذه الجهة، هذا وقد زحف «أنتيجونوس»
نفسه في داخل «مجريد» Magrid لمقابلة «آيوس» ولكنَّ
جنوده الغاليين ثاروا عليه، وعلى الرغم من أنه قضى عليهم فإن عملياته الحربية فشلت،
وقد
عاد في خريف هذا العام كل من «آريوس» و«بتروكليس» إلى بلاده، ثم عاد «آريوس» ثانية
في
العام التالي ٢٦٥ق.م فهزمه «أنتيجونوس» وقتله بعد معركة عنيفة دارت خارج «كورنثه»،
ومن
المحتمل أنه قُتل في خلال هذه المعركة «هالسيونوس» Halcyoneus ابن «أنتيجونوس».
وكان من نتائج هذه الكارثة انتقاض محالفة «البلوبونيز» وسلمت «آخيا»
Achaea وانضمت «مانتينيا»
Mantinea إلى حلف «أركاديا»، هذا ولا نعرف ماذا فعل «بتروكليس»
وقتئذ، ومن المحتمل أن «بطليموس الثاني» لم يكن يرغب كثيرًا في القضاء على «أنتيجونوس»
خوفًا من «بطلوليمايوس»، هذا ونعرف أن «بتروكليس» قد استولى على «متانا»
Methana «أرجوليد» التي ظلت في حوزة مصر مدة قرن من
الزمان وقد سُميت «آرسنوي»، هذا ولم تدوَّن لهذا القائد البحري أعمال أخرى إلا استيلاؤه
على مُؤَن «أنتيجونوس»، وعلى إثر ذلك أرسل إليه هدية مؤلفة من سمك وتين أي غذاء
الأغنياء والفقراء، وقد أخبر «أنتيجونوس» مجلسه أن هذه الهدية معناها أنْ لا بد له
أن
يسيطر على البحر أو يموت جوعًا، ولم ينسَ الملك ذلك، وقد كان من سوء تصرف «بطليموس»
أن
أصبح في استطاعة «أنتيجونوس» أن يتناول أعداءه كُلًّا على حدة، فنجد أن الإسكندر
ملك
«أبيروس» كان مشغولًا بعد وفاة والده في حرب «ميتيلوس»
Mitylus ملك «الليريا»
Illyria،
ولكنه في النهاية هزمه واستولى على أملاك «بيروس» في «الليريا»، ولحسن حظ «أنتيجونوس»
أنه لم يدخل الحرب ويغزو جزءًا من مقدونيا إلا بعد موت «أريوس» حوالي عام ٢٦٤ق.م،
هذا
وقد اقتضت الأحوال أن يترك «أنتيجونوس» بلاد الإغريق، غير أنه كان على ما يظهر في
استطاعته أن يترك أمور الدفاع خلفه لجيشه المدافع عن وطنه وهو الجيش الذي كان يرأسه
اسميًّا ابنه «ديمتريوس» بن «فيلا» ولم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره، فهزم
«الإسكندر» ملك «أبيروس» وأجاله عنها، وحوالي عام ٢٦٣ق.م تحول الأسطول المصري إلى
«آسيا
الصغرى» وتُركت «أثينا» تحارب وحدها دون مساعدة أمام قوة «أنتيجونوس»، هذا وقد حُفظت
لنا قصة عن آخر أيام «أثينا» بوصفها دولة في الصدارة، وذلك أن الشاعر «فيلمون»
Philemon المسن الذي كان في مقدوره أن يذكر
«ديموستين» وقد مات أثناء حصار المدينة، روي لنا أنه رأى في منام تسع عذارى يغادرن
بيته، وعندما سألهن إذا كنَّ قد ذهبن إلى «الميوزس» أجبنه أنه يجب عليهن البقاء لرؤية
سقوط «أثينا»، وقد قاومت المدينة إلى آخر ما لديها من قوة، ولكنها سلَّمتْ جوعًا
في
نهاية عام ٢٦٢ق.م، وفي عام ٢٦١ق.م عقد كل من «بطليموس» و«أنتيجونوس» صلحًا قصير الأمد،
٢ وقد اتخذ «أنتيجونوس» احيتاطاته خوفًا من قيام ثورة أخرى، فوضع حاميات حتى
في المدينة نفسها وفي «الميوزيون» وطرد أصحاب المؤامرات، أما «كريمونيديس» وأخوه
«جلوكون» فإنهما استجارا «ببلطيموس» فأجارهما، يضاف إلى ذلك أن الأثري «فيلوكريس»
الذي
كان يوقد نار الوطنية في صدور الأثينيين لمحاربة أعداء الحرية قد حُكم عليه بالإعدام
لموالاته «لبطليموس الثاني».
٣
وقد ادعى «أنتيجونوس» أن الثورة التي قامت في «أثينا» لم تكن إلا نتيجة دسائس مغرضة
قام بها ملك مصر «بطليموس الثاني» (خريف عام ٢٦٣ق.م)، والواقع أن عدم قيام بطليموس
في
هذه الحروب بدور بارز كان يعتبر خيانة لحلفائه، وقد أسف بدوره لذلك فيما بعد أسفًا
شديدًا؛ ففي الوقت الذي كان فيه أسطوله لا نشاط له على حسب أوامره إلا ملاحظة
«الأرخبيل» وأخذ المؤن لنفسه من «آسيا الصغرى»، كان «أنتيجونوس» يستعد لمهاجمته،
والواقع أنه لم تكن تنقصه السفن، وكان في إمكانه أن يبني سفنًا في أحواض «تسالونيك»
و«كاليس» و«كورنثه» بل وفي «بيروس» أيضًا، يضاف إلى ذلك أنه في تلك الفترة كان في
مقدور
«بطليموس» أن يرسل أسطوله على أعدائه في الأرخبيل الذي كان يعتبر وقتئذ بحيرة مصرية،
ولكن مما يؤسف له جد الأسف أننا لا نعرف شيئًا عن هذه الحملة تقريبًا، وكل ما نعرفه
من
نتائجها لا يخرج عن تلميحات متناثرة هنا وهناك، فقد انتصر «أنتيجونوس» بالقرب من
«كوس»
عند رأس «لوكولا» انتصارًا حاسمًا على أسطول مصري أكثر عددًا من أسطوله،
٤ وقد أحدثت هذه الواقعة دَوِيًّا في العالم الهيلانستيكي، وكان من جرائها أن
شهرة «بطليموس» الفائقة قد ضاعت ولم تسترد مكانتها الأولى ثانية قط، والواقع أن هزيمته
وسقوطه كان أكثر مما عبَّر عنه «كاليماكوس» في شعره عن «كوس» إذ قد أصبح سخرية وهزءًا،
وقد اعتنى «أنتيجونوس» بأن يستغل هذا النصر، وأن يجعل منه حادثًا يمكن قرنه بالانتصار
الذي أحرزه والده على والد «بطليموس الثاني»، وذلك أن شعار موقعة «سلاميس» السالفة
الذكر هو تاج الملك وتمثال «نيكا-ساموتراس» أما شعائر انتصار «كوس» فقد أقيم على
المرتفَع الذي يواجه الجزيرة في حرم «أبولون
تريوبين»
Apollon Triopien الذي كان يعتبر مركز الحلف الدوري، وقد كان ذلك يمثل
بالسفينة ذات الثلاث أسطح التي أصبحت منذ ذلك الوقت مقدسة فهي السفينة التي هزم من
على
ظهرها قواد «بطليموس الثاني»،
٥ هذا وقد أتم «أنتيجونوس» صلواته وقربانه في «ديلوس» الواقعة في وسط خلف
الجزائر، ولا نعلم إذا كان قد استغل انتصاره هذا ليضع قدمه في «آسيا الصغرى» بحجة
تحرير
المدن التي كان يسيطر عليها عدوه، والواقع أن «أنتيجونوس» كان قد عركته تقلبات الدهر
ومفاجآته فلم يدخل في مخاطرات جديدة غير مضمونة العاقبة، وقد رأى أن الدخول في حرب
جديدة قد يؤدي إلى ارتباكات جديدة في بلاد الإغريق أو مقدونيا.
وتدل شواهد الأحوال على أن المناوشات بعد موقعة «كوس» قد أُوقفت دون عقد صلح أو حتى
مفاوضات لإبرام معاهدة، وذلك على ما يظهر حرصًا من ناحية الغالب واستسلامًا من ناحية
المغلوب، وهذا التسليم من جانب «بطليموس الثاني» قد بدا أمرًا غريبًا من ملك محب
للزَّهْو والفخَار، والواقع أنه قد خرج من هذه المعركة وهو مجروح بفقدان سيطرته على
البحار، غير أن الخسارة التي لحقت بأسطوله كان من الممكن إصلاحها، ولم يكن ينقصه
غير
المال، وكان بطبيعة الحال يهمه أن يثأر لنفسه، غير أن الحزم الذي كانت تصحبه قوة
الإرادة الجبارة التي كانت عند والده قد تحولت عنده إلى جبن وخَوَر، هذا إلى أنه
كان
يخشى بعد هذه الهزيمة من قيام محالفة هجومية بين «أنتيوكوس» و«أنتيجونوس»، وفضلًا
عن
ذلك كان يعد نفسه سعيدًا أن يرى «سيلوكوس» يلقي السلاح مبكرًا جدًّا أو أن ينشغل
في
الاستيلاء من جديد على «برجامم» بوصفه وريثًا «لفيلتروس» الذي كانت قد عاجلته المنية
(عام ٢٦٣ق.م) حتى يمكنه أن يبتدئ الحرب في «سوريا» من جديد، ولما كان لدى «أنتيجونوس»
من الأسباب القوية ما يجعله يكف عن الهجوم فإن الأحوال قد ظلت على ما هي عليه، وأخذ
كل
منهما يقوم بتدبير أموره على حسب مقتضيات الأحوال.
وعلى ذلك نرى «بطليموس الثاني» قد وجد لديه في خلال حكمه بضع سنين استراحت فيها
البلاد من أهوال الحروب فصرفها في الاهتمام بشعرائه وعلمائه وفي بناء صرح ماليته
وإعادة
تنظيمها على أسس جديدة امتاز بها هو، وكذلك أخذ في العمل على اتساع رقعة بلاده من
جهة
البحر الأحمر حيث أقام عدة مؤسسات لتنمية علاقاته التجارية مع الهند وجنوب أفريقيا،
والواقع أنه حوالي هذه الفترة اخترق قواده بلاد «التروجلوديت» وتعمقوا في داخل بلاد
«أثيوبيا» بوصفهم روادًا فاتحين، وقد أفاد العلم من كل هذه الحملات كما ذكرنا في
غير
هذا المكان، فقد وجدنا أن ضباط «بطليموس» مثل «تيموستنيس» Timosthenes قد جمعوا ملحوظات ومقاييس استعملها علماء العلوم
الطبيعية والجغرافية الذين كانوا يعملون في «ميوزيون» «الإسكندرية»، هذا وقد رفض
«بطليموس الثاني» أن ينغمس في الحروب التي كانت مشتعلة بين «روما» وقرطاجنة» (حوالي
عام
٢٦٤ق.م) وكان صديق «روما»، غير أنه لم يُرِدْ أن
يجعل علاقته تسوء مع «القرطاجنيين» الذين كان في يدهم طرق التجارة البحرية، وكان
في
وسعهم أن يتفاهموا مع «السيرينيين»، هذا وقد طلب إليه «القرطاجنيون» أن يقرضهم ألفَيْ
تالنتا ولكنه لم يقرضهم شيئًا إلا توسطه بينهم وبين عدوهم قائلًا إنه صديق الطرفين
وسنتحدث عن ذلك فيما بعد.