الحرب السورية الثانية
كان الملك «أنتيوكوس الثاني» نشطًا حازمًا وكان أول عمل قام به هو السعي في استقرار
الأحوال في ملكه الشاسع، ومع ذلك قامت الحرب السورية الثانية في عهده، غير أننا لا
نعرف
شيئًا عن أصلها ولا عن سيرها وتقلباتها، ولن نبالغ إذا قلنا إن حقبة عشر السنوات
التي
تلت موت «أنتيوكوس الأول» تعد أظلم فترة في تاريخ هذا العصر، فلم يمكن حتى سرد حوادثها،
وكل ما يستطيع المؤرخ عمله في هذه الحالة هو أن يشير إلى حوادث مختلفة وما نتج عنها
في
تلك الفترة وحسب.
وتدل الظواهر على أن كلًّا من «أنتيوكوس الثاني» و«أنتيجونوس» كان له حساب عسير لا
بد
من تصفيته مع «بطليموس الثاني»، ومن أجل ذلك شد كل واحد منهما أزْرَ الآخر للانتقام
من
عدوهما المشترك، وعلى الرغم من أن «أنتيجونوس» كان المنتصر في حرب «كريمونيدس» فإنه
لم
يكن في استطاعته القضاء على مصر؛ لأنها كانت لا تزال صاحبة السيادة في البحار، غير
أن
«ديمتريوس» كما هو معلوم كان في وقت ما صاحب السيادة في البحر، وقد عزم «أنتيجونوس»
أن
يستعيد ممتلكات والده «ديمتريوس»، ومن أجل ذلك فإن التقريع الذي وجهه إليه «بتروكليس»
أمير البحر قد شحذ من عزيمته، فأفاد بطبيعة الحال من صلح عام ٢٦١ق.م، لينشئ لنفسه
أسطولًا، وكان في استطاعته أن يتعلم من «سيراكوزه» في قاعدته البحرية في «كورنثه»
تفاصيل الأسطول الذي كانت تبنيه روما، غير أن مخاطراته في الحرب مع بطليموس الثاني
كانت
أكثر من مخاطرات روما، وذلك لأن عدد أسطول بطليموس في وقت ما على ما يظهر كان يربو
على
ثلاثمائة سفينة حربية كان من بينها عدد كبير من السفن الضخمة لدرجة أن متوسط سفن
هذا
الأسطول كانت من التي لها خمسة أسطح، وهذا متوسط لم يصل إليه «ديمتريوس» أو «روما»
من
قبل، هذا فضلًا عن أنه كان يسيطر على «فينيقيا» التي كانت تورِّد إلى «ديمتريوس»
أحسن
سفنه، وإذا كان عدد أسطول بطليموس مبالغًا فيه بعض الشيء فإن إمكانيات «أنتيجونوس»
من
حيث موارد بلاده ومن حيث التقاليد كانت لا تجعله يأمل في أن يجهز لنفسه أسطولًا يربو
على مائة سفينة أو على أكثر من مائة وعشرين من التي لها خمسة أسطح، وعلى أية حال
فإنه
كان يفوق خصمه في أمر واحد، وذلك أن «كورنثه» التي كانت في قبضة يده كان مثلها كمثل
«سيراكوزه» لها طريقتها التقليدية في حرب البحار، ففي حين أن كلًّا من «أثينا» وفينيقيا
تفضل في صنع سفنها السرعة في تحريك المجداف بمهارة فإنها من جهة أخرى كانت تعتقد
في
أهمية السفن الثقيلة في المعارك الحربية، وكما أن «سيراكوزه» قد علمت «روما» فإن
«أنتيجونوس» لا بد كان قد تعلم فن بناء السفن من «كورنثه» وعلى ذلك فإنه إذا كان
في
استطاعة الأسطول المقدوني الهجوم على الأسطول المصري فإن النصر لا محالة يكون في
جانبه،
والواقع أنه لم يكن لدى بطليموس قوى بحرية يمكنها أن تقف في وجه المقدونيين، هذا
وكان
«أنتيجونوس» يعتمد في حروبه البحرية على اقتحام سطح مراكب عدوه، ولا أدل على ذلك
مما
قامت به سفينة قائد بحريته الشهيرة؛ فلقد كانت كل السفن الحربية الكبيرة وقتئذ ذات
طابع
خاص؛ إذ كانت جوانب السفينة تعلو سطحها لحماية المُجدفِينَ من قذائف العدو.
ومن المحتمل أن الحرب كانت قد بدأت في «آسيا»، وذلك عندما أعلن «بطليماوس» العصيان،
فقد فطن أنه بخيبة مصر في حربها مع «أنتيجونوس» قد ضاعت أمامه كل فرصة في الحصول
على
تاج مقدونيا سواء أكان بطليموس عند إبرام الصلح مع عدوه قد نزل عن حقه أم لا، ولكنه
فكر
في أن ابن «ليزيماكوس» كان لا يزال له مطمع في «أونيا» Ionia؛ فقد قام في عام ٢٦٠ق.م في «أفيسوس» بثورة على «بطليموس
الثاني» وقد رحب «أنتيجونوس» بهذه الثورة وأرسل إليه طائفة من الجنود التراقيين،
وفضلًا
عن ذلك ساعده قائده «تيماركوس» مُواطن «أيتوليا» في «ميليتوس» وفي هذا العام أصبح
«أبوللو» ثانية حاكم «ميليتوس» وأطلق عليه اسم العام، وقد استولى «تيماركوس» بجسارة
على
جزيرة «ساموس» التي كانت إحدى القواعد البحرية المصرية، وذلك بطبيعة الحال عندما
كان
أسطولها في البحر، غير أن «بطليماوس» لم يكن في استطاعته المقاومة، ومن المحتمل أن
ذلك
كان بمناسبة قيام ثورة عليه قام بها أنصار السليوكسيين، ومن ثم استولى «أنتيوكوس»
على
«أفيسوس» ثانية (عام ٢٥٩ق.م)، وبعد ذلك فرض «تيماركوس» نفسه حاكمًا مطلقًا على
«ميليتوس» ونهب الشعب، ولكن «أنتيوكوس» قضى عليه في باكورة عام ٢٥٨ق.م، واستولى ثانية
على «ميليتوس» حيث كُرمت زوجه «لاؤديس» Laodice وبعد
ذلك استولى على جزيرة «ساموس» وطرد مصر من «أونيا» وأعاد للمدن الإغريقية حريتها
وحُكمها الذاتي، وقد سماه المواطنون في هذه المدن اعترافًا بجميله «الإله»، وهذه
علامة
تدل على أن مركزه بالنسبة لهؤلاء الحلفاء الأحرار كان كمركز «الإسكندر الأكبر»، وأن
مركزه بينهم يتوقف على تأليهه، أما «إيمنيس» ملك «برجامم» وحليف بطليموس فلم يكن
في
استطاعته مساعدته، وذلك لأنه كان مكبل الأيدي في ثورة قام بها أحد أقاربه الذي يُدعَى
إيمنيس أيضًا، ولا بد من أن «أنيتوكوس» كان هو المحرِّضَ عليها، يضاف إلى ذلك أن
جنوده
المرتزقة كانوا قد قاموا بعصيان عليه، وفيما بعد نجد أن «أنتيوكوس» طرد مصر من «كليكيا»
و«بامفيليا»، وبذلك استرد كل ما فقده والده في هذه المديريات، ولكنه لم يستولِ على
«ليسيا»، والظاهر أن مصر قد حافظت على أملاكها في «كاريا»، وعلى أية حال نجد أنه
استولى
على «ساموتراس» وأماكن مختلفة في تراقيا، وهدد «بيزنتيوم»، ولكن «هيراكليا» أرسلت
مددًا
إلى السفن البيزنطية وهو أسطولها القوي، وعلى ذلك أقلع «أنتيوكوس» عن محاربتها، أما
في
«سوريا» فقد استولى «أنتيوكوس» على كل فينيقيا إلى شمالي «صيدا» ومنح «أرادوس» حريتها،
وقد أضاف لها «سيلوكوس الثاني» فيما بعد امتيازات مادية كبيرة جدًّا، ومن ثم نرى
أن
«أنتيوكوس» قد انتقم لوالده انتقامًا تامًّا من الهجوم الذي قام به بطليموس عليه،
وذلك
في المحيط الآسيوي.
أما في «أفريقيا» فنجد أن الأحداث فيها قد فتحت له بابًا للتدخل، وذلك أن «ماجاس»
ملك
«سيريني» مات حوالي عام ٢٥٩ق.م وترك خلفه وارثةً له في الرابعة عشرة من عمرها تدعى
«برنيكي»، وكان قد زوجها وهو على فراش الموت من بطليموس بن «بطليموس الثاني»، وهو
الذي
أصبح فيما بعد «بطليموس الثالث»، وقد عارض في هذا الزواج الحزب الوطني الكبير في
«سيريني»، وذلك على الرغم من وجود حزب مصري هناك.
وكان الحزب الوطني على رأسه الملكة أم وارثة العرش، وكانت بدورها في عنفوان الشباب
وتدعى «أباما» أخت «أنتيوكوس»، وكانت هذه الملكة ترغب في استقلال بلادها، ومن أجل
ذلك
قدمت عرش ملك زوجها لأخي «أنتيجونوس» المسمى «ديمتريوس الجميل» وكان بدوره حفيد
«بطليموس الأول» من جهة أمه «بطليمايس» وكان من المنتظر ألا يقبله الحزب الموالي
لمصر،
وقد حضر «ديمتريوس» فعلًا إلى «سيريني» وتولى عرش الملك، ولا شك في أن ذلك أغضب الحزب
المصري، هذا فضلًا عن أن الملك الجديد قد أبعد «برنيكي» عنه لوقوعه في غرام أمها
التي
كانت تأمل بدورها أن تصبح ثانية ملكة على البلاد، وأخيرًا نصبت له «برنيكي» كمينًا
قتلته وهو في فراش والدتها حوالي عام ٢٥٨ق.م، ومن المحتمل أن هذا الحادث كان قد وقع
بعد
ذلك بعدة سنوات كما جاء في رواية أخرى، ومنذ ذلك الحادث قامت الخصومة بين الحزبين
المتعاديين في «سيريني»، وفي عام ٢٥١ق.م انتصر الحزب الوطني، ولكن نجد أنه قبل أن
يلقب
«بطليموس الثالث» بلقب «أيرجيتيس» بمدة استولى ثانية على «سيريني»، وكان لا بد من
الاستيلاء على مدينة «أيهسبيريدس» Euhesperides على
الأقل، وقد سميت من جديد «برنيكي».
وقد كانت الحادثة الفاصلة على ما يظهر في هذه الحروب في عرض البحر، وذلك أن كلًّا
من
«أنتيجونوس» و«أنتيوكوس» قد توصل إلى محالفة «رودس»، وكانت الأخيرة على الرغم من
مصادقتها لمصر تَعتبر اعتداءات «بطليموس» المستمرة بمثابة خطر على التوازن الدولي،
وعلى
الرغم من أن أسطول «رودس» كان صغيرًا فإنه كان أحسن أسطول مُعَدٍّ في بحر «إيجه»،
ونجد
في أوائل الحرب أن قِطَع الأسطول المصري الذي كان يحمي «أفيسوس» بقيادة «كريمونيديس»
الأثيني المنفي قد هزمها أمير البحر الروديسي المسمى «أجاتوستراتوس» Agathostratus وكان يساعد وقتئذ «أنتيوكوس» على استرجاع «أفيسوس»
(عام ٢٥٩ق.م)، وفي هذه الفترة تقابل الأسطول المصري الرئيسي مع الأسطول المقدوني
على
مسافة من جزيرة «كوس»، وكان الأسطول المقدوني يقوده «أنتيجونوس» بنفسه على ظهر سفينته،
وقد دار بين الأسطوليين القتال في أثناء ألعاب البرزخ الرياضية، والظاهر أن الواقعة
وقعت في عام ٢٥٨ق.م لا في عام ٢٥٦ق.م كما يظن بعض المؤرخين، ويرجع السبب في ذلك إلى
أن
بعض انتصارات «أنتيوكوس» توحي بأن مصر كانت قد كُسرت شوكتها في البحر، وعلى الرغم
من أن
الأسطول المصري كان يفوق كثيرًا أسطول «أنتيوكوس» فإن الأخير قد انتصر انتصارًا تامًّا
على عدوه مما جعل في يده قيادة البحر، وقد انتهت الحرب بأن ضاعت على مصر فرصة جعْل
بحر
إيجه بحيرة مصرية.
وفي عام ٢٥٥ق.م عقد بطليموس الثاني صلحًا مع «أنتيجونوس»، هذا ولدينا قصة تحدثنا
أن
سفيره «سوستراتوس» مُواطن «كنيدوس» وهو مهندس العمارة الذي قام ببناء منارة الإسكندرية
وبناء الخارجة المعلقة في «كنيدوس» قد حصل له على شروط صلح كريمة من «أنتيجونوس»
وذلك
بفضل الاقتباس الذي ذكره هذا المهندس بمناسبة الصلح من إلياذة «هومر» وهو اقتباس
مناسب للمقام،
١ فاستمع إليه: «إن القلب العظيم يرق.» غير أنه جاء في هذا الاقتباس كذلك ما
معناه: على الرغم من أن أنتيجونوس كان «بوزيدون» (أي إله البحر الأبيض المتوسط) فإن
بطليموس كان لا يزال «زيوس» (أي أخَا بوزيدون).
وقد نزل في هذا الصلح «بطليموس الثاني» لأنتيجونوس عن جزر الحلف، ولكنه استبقى لنفسه
تيرا Thera وقد أصبحت فيما بعد قاعدة بحرية مصرية
في بحر إيجه، ولا نزاع في أن «أنتيوكوس» قد حافظ على فتوحه باشتراكه في هذا الصلح،
غير
أن بعضهم يقول إنه قد استمر في الحرب مع بطليموس الثاني حتى عام ٢٥٢ق.م، ولكنَّ ذلك
كان
أمرًا مستحيلًا؛ لأنه لو كان «أنتيجونوس» قد تخلى عنه في عام ٢٥٥ق.م، فإن علاقاتهم
الودية لا بد كانت قد انتهت، في حين أنه في عام ٢٥٣ق.م نجد أن «ستراتونيس» أخت
«أنتيوكوس» قد تزوجت من «ديمتريوس» بن «أنتيجونوس».
وقد أثبت «أنتيجونوس» أمام العالم بانتصاره هذا استرداد سلطانه على البحر الذي كان
يعده إرثًا ورثه عن أجداده، بإقامة خارجة ذات عُمُد على ديلوس تحمل اسمه، وهناك أقام
أثرًا نقش عليه شجرة نسبه نحت في الرخام، ويحتوي على خمسة عشر تمثالًا لأجداده في
حين
أن «ديلوس» نفسها أقامت تمثالًا للملكة زوجة «فيلا» كما أقام خلف الجزيرة تمثالًا
«لأجاتوستراتوس» أمير البحر الروديسي، غير أن معظم أحفاله كانت تتركز حول سفينته
الحربية التي كانت تحمل علم البلاد، وهي التي كان قد نذرها الملك للإله «أبولو» قبل
المعركة في حالة النصر.
٢