الخلاف على تولي الملك بعد الإسكندر
لما كان موت الإسكندر قد جاء فجأة في معسكر «بابل» الذي كان عدده عظيمًا فقد حدثت
في
وسطه اضطرابات وخِلافات شديدة بسبب من سيخلف «الإسكندر» على عرش ملكه الشاسع، وكان
العرف والقانون عند موت ملك مقدوني أن يولى الجيش بدلًا منه، ولم يكن «الإسكندر»
قد ترك
وارثًا لعرشه إلا طفلًا يُدعَى «هيراكليس» من حظِيَّته «بازين» وكانت زوجُهُ «روكزانا»
الفارسية وقتئذ حاملًا ويُنتظر أن تضع حملها بعد ثلاثة أشهر، وعندئذ تعقدت الأحوال،
وقد
فكر رجال الجيش في وسط هذه البلبلة في أن ينتظروا ولادة «روكزانا»، غير أن رجال الجيش
وعلى رأسهم «ميلاجر» Meleagre الذي كان يكره «برديكاس»
قد عارض في أن يكون مليكهم من امرأة آسيوية، ومن ثم قامت الحرب بين «برديكاس» وبين
«ميلاجر» وأتباعه، ولولا مهارة «إيمنيس» كاتم أسرار «الإسكندر» الذي توسط بين الطرفين
ووصل إلى اتفاق لتفاقم الخطب.
وذلك أن الإسكندر الأكبر كان له وقتئذ أخ في «بابل» يُدعَى «أريداوس» Arridaeus ابن فليب، وكان بلغ وقتئذ السن التي تؤهله
لتولي عرش الملك، غير أنه كان غير شرعي، وفي الوقت نفسه ضعيف العقل تنتابه نوبات
صرع،
ومع ذلك فإن الجيش فضَّله لأنه ليس فيه دم شرقي، فقد كانت أمه فيلينا Philinna إحدى حظيات «فليب» وكانت أمها من أهالي
«تساليا»، وقد اقترح «برديكاس» الذي يعد أكبر القواد مكانة في جيش الإسكندر أن يُنتظر
ولادة «روكزانا» وهي ابنة شطربة «بكتريان» (فارس) «أوكزيارتس» Bactriane Oxyartes أما القائد «ميلاجر» فقد أراد
أن ينتخب إما «أريداوس» أو «هيراكليس» إمبراطورًا، وكان من جهة أخرى «بطليموس بن
لاجوس»
لا يريد أن يحكمه ابن سفاح مخبول العقل مثل «أريداوس» ولا مثل «هيراكليس»، ولا المولود
المنتظر، بل اقترح أن يترك العرش خاليًا، وأن يُعهد بحكومة الإمبراطورية لرؤساء الجيش
كلٌّ في قطره، وذلك حسب اتفاق يبرم فيما بينهم، وقد كان رأي «برديكاس» هو الرأي السائد
في المجلس العسكري الذي عُقد لهذا الغرض، غير أن المشاة في الجيش رفضوا رأيه، وعلى
إثر
ذلك نصب «أريداوس» الذي أسرع «ميلاجر» بإعلانه إمبراطورًا ومنحه كل حمايته، ومن ثم
قامت
المناوشات بين الفريقين المختلفين في الرأي وانتهى الأمر بالمفاوضة والصلح، وقد كان
«بطليموس» بن «لاجوس» يعمل وسيطًا على ما يُظن، وقد بذل كل ما في وسعه لحل المشكل،
وقد
كان هواه مع «برديكاس» الذي حفظ له هذا الجميل، وقد تم الاتفاق على أن يكون «أريداوس»
ملكًا باسم فليب الرابع، ولكن على شريطة أن يكون لابن «روكزانا» إذا كان ذكرًا الحق
في
الاشتراك في الملك معه، وقد ترك هذا الموضوع معلقًا حتى تضع «روكزانا»، أما «برديكاس»
الذي قيل عنه إن الإسكندر عند مماته قد سلمه الخاتم الملكي فقد نصب بوصفه نائب
الإمبراطورية وقائدها والمشرف على الملك أو على الملكين (بعد وضع «روكزانا») اللذين
خلفا الإسكندر في الإمبراطورية الشاسعة المترامية الأطراف.
وقد قُسمت الإمبراطورية بين عظماء القواد بإشراف «برديكاس»، فأعطى القائد «بطليموس»
بن «لاجوس» شطربية مصر بالإضافة إلى الأجزاء المجاورة لبلاد العرب ولوبيا، على أن
يكون
«كليومنيس النقراشي» الذي كان قد نصبه الإسكندر وكيلًا له لجمع الضرائب في مصر وملاحظة
أعمال البناء في الإسكندرية، غير أن بطليموس حينما نصب شطربة على مصر أراد أن يكون
المسيطر الوحيد في شطربيته، وبعد تولي بطليموس على مصر غادر «بابل» غير أنه كان عليه
أن
ينتظر حتى تضع «روكزانا» مولودها الذي كان يؤمل أن يشترك في حكم الإمبراطورية، وكان
بطليموس يُعتبر وقتئذ تلميذ برديكاس، وكانت سوريا من نصيب «لأميدون» Laomedon وولى فيلوتاس Philotas
حكم بلاد «كليكيا»، وكان من نصيب «أنتيجونوس» أقطار «يامفيليا» و«ليكيا» والجزء الأعظم
من «فريجيا»، وتولى شئون «كارياميناندر» وأعطى ليوناتوس Leonnatus حكم «فرجياهلسبونت» Hellespontine Phrygia وحكم «أيمتيس» قطرَيْ «كابودوشيا» وبافلاجونيا Paphlagonia وتولى حكم ميديا القائد «بثيون» Pithon، أما الشطربيات الشرقية فقد بقيت في يد حكامها
الذين كانوا يحكمونها قبل موت الإسكندر، وفي أوروبا أُعطيت «تراقيا» و«خرسونيس» Chrsonese القائد «ليزيماكوس» Lysimachus تراقيا، بما في ذلك مقدونيا وبلاد الإغريق، وكان يشاركه
في حكم هذه البلاد «كراتيروس» Kraterus (راجع:
Grote History of Greece XII. P. 238-9). وهكذا
نشاهد أن المدن الإغريقية قد فقدت استقلالها وتولى عليها حكام جدد بوصفها أجزاء من
الضيعة العظيمة التي تركها «الإسكندر» دون وصية أوصاها.
ومما تجدر ملاحظته أن كل هؤلاء الحكام الذين ذكرناهم هنا كانوا يُعدون وكلاء يقومون
بإدارة أجزاء إمبراطورية واحدة لا تتجزأ يحكمها جميعًا «أريداوس»، وكان أبرز الضباط
الذين يتمتعون بسلطان مركزي يشمل كل الإمبراطورية اثنان وهما «برديكاس» ويحمل لقب
شيليارك Chiliark، وهذا اللقب صعب الترجمة ومعناه
على العموم «نائب» ثم «سيلوكوس» وكان يحمل لقب قائد حرس الخيل، ولم يكن يدور بخَلَد
واحد من الحكام وقتئذ التحدث عن تقسيم الإمبراطورية.
ولكن لم يمضِ طويل زمن حتى ظهر أن «برديكاس» أراد أن يستغل ضعف «أريداوس»، ومن ثم
عزم
على أن يجرده من كل سلطان ويجعله إمبراطورًا بالاسم وحسب، ويستولي لنفسه على كل السلطة،
غير أن حكام الأقاليم فطنوا لذلك وأخذوا يقاومون «برديكاس» وعلى أية حال فإن مصر
كانت
على ما يظهر بعيدة عن المخاوف لأن «برديكاس» كان على مصافاة وود مع «بطليموس»، ولا
نزاع
في أنها كانت البلاد التي اختارها «بطليموس» لنفسه، فقد ذكر لنا في مذكراته التي
خلفها
لنا تفاصيل عن الحملة التي قام بها الإسكندر على مصر وعن الرحلة التي قام بها إلى
واحة
آمون، ومن ثم يجوز أنه صحب الإسكندر في رحلته هذه، ومما تجدر ملاحظته هنا أن موقع
مصر
التي تبعد عن الإقليمين اللذين يمكن أن يكونا مركزًا لإمبراطورية الإسكندر، وأعني
بذلك
«بابل» وبلاد «مقدونيا» كان ملائمًا من الوجهة السياسية بالنسبة «لبطليموس»، ويقول
المؤرخ «تارن»: (راجع: W. W. Tarn J. H. S. XLI (1921), P.
5).
إنه لا بد كانت هناك مساومات بين «برديكاس» و«بطليموس» فكان ثمن اعتراف «بطليموس»
في
أن يكون «برديكاس» مشرفًا وحارسًا على الملك الجديد هو شطربية مصر، هذا بالإضافة
إلى أن
يكون «أريداوس» أحد المقدونيين هو الذي يقوم بمراقبة ترتيبات جنازة الإسكندر، والواقع
أنه كان من جرَّاء إخلاص «بطليموس» لصديقه «برديكاس» واتباع منهجه أن ضحى الأخير
بصديقه
الوفي «كليومنيس» الذي كان وقتئذ قد عُين شطربة على مصر قبل تولي «بطليموس» لهذا
المنصب، وأصبح الأول وكيلًا في شطربية مصر.
والواقع أنه كان الحاكم المصري للديار المصرية وقتئذ، ولما تولى بطليموس حكم مصر كان
لزامًا على «كليومنيس» أن يشغل المكانة الثانية في أرض الكنانة، وعلى ذلك أصبح وكيل
«بطليموس» وسنرى فيما بعد أن سياسة «كليومنيس» المالية في مصر قد أغضبت المصريين
مما
دعا «بطليموس» إلى قتله، وبعبارة أدق إلى التخلص منه، وتدل الظواهر على أن بطليموس
كان
يحرص على إمارته على مصر أشد الحرص، ولذلك كان من حسن حظه بل من أكبر سعوده وتوفيقه
أن
الإسكندر الأكبر كان قد أوصى بأن يدفن جثمانه في معبد والده الإلهي «آمون» في واحة
سيوة، والواقع على حسب ما جاء في «ديودور الصقلي» أنه كان ضمن القرارات التي قطع
فيها
رؤساء الجيش المقدوني برأي في «بابل» على إثر موت الإسكندر أن يدفن جثمان «الإسكندر»
في
واحة «سيوة» بمعبد «آمون» ويعتبر هذا القرار أكبر برهان على أن الإسكندر كان يؤمن
ببنوته الإلهية وتشبثه باعتقاده في نسبته للإله آمون حتى آخر أيام حياته بعد مماته،
والواقع أنه كان يعتبر نفسه فرعونًا، وبعبارة أخرى أنه ابن الإله «رع» أو «آمون رع»
أي
إن مثله كان كمثل الفرعون يعتبر إلهًا يُعبد في حياته وبعد مماته.
وقد وكل بإعداد تجهيز موكب الاحتفال بنقله ودفنه إلى «أريداوس» أحد رؤساء رجال بلاطه
في «بابل» وقتئذ، وكان «أريداوس» هذا قد كُلف بصنع عربة جنازية كما كُلف بترتيب حفل
منقطع النظير، ولقد كان من أكبر أماني «بطليموس» بن «لاجوس» بطبيعة الحال أن يُدفن
الإسكندر في البلاد تحت إمرته حتى يكون ذلك سببًا في ازدياد نفوذه وقوته وتصبح إمارته
محط أنظار العالم كله، على أن المكان الطبيعي لاحتواء رفات الإسكندر البطل العظيم
كان
«إيجا» في أرض وطن أسرة «الإسكندر» وقد كان من الجائز كما قيل إن هذا المكان هو المكان
الأصلي لدفن جثمان الإسكندر لا واحة «سيوة»، وإنه لمن الصعب أن نصل إلى كنه الحقيقة
مما
جاء في التقاليد القديمة، فهل أراد الإسكندر حقًّا أن يكون قبره في معبد والده «آمون»؟
وهل كان هذا هو قرار مجلس «بابل»؟ وهل يمكننا من باب أولى أن نظن أن مقدونِيِّي الجيش
كانوا يتوقعون أن يروا جثمان مليكهم يُحمل إلى «إيجا» ليُدفن في قبر أسرته؟ والواقع
أن
الإسكندر كان له مصلحة أكثر مما يمكن أن يتصور الناس فهمها في أن يطوى جثمانه في
الواحة
كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
وعلى أية حال كان هذا الرأي في نهاية الأمر هو التصميم النهائي الذي ارتآه «برديكاس»
أي دفْنه في واحة «سيوة» غير أن «بطليموس» حاكم دمشق قد سبق الحوادث وحوَّل مجرى
الأمور، وذلك أنه عندما كان «برديكاس» في «آسيا» الصغرى يعمل على وفاق مع «بطليموس»
ابن
لاجوس قام من بابل موكب الجنازة في طريقه لمصر، وفي هذه الحالة إذا كان جثمان الإسكندر
سيُحمل إلى سيوة فإنه كان على أية حال لا بد أن يمر أولًا بمدينة «منف» اللهم إذا
كان
الموكب سيذهب مباشرة من «مرسى مطروح» إلى «سيوة» ومن الجائز أن «أريداوس» عندما غادر
«بابل» قد عدل عن فكرة نقل الجثمان إلى واحة «سيوة» وتقول المصادر التي في متناولنا
إن
«بطليموس» قابل رفات الإسكندر وبصحبته حاشية من الجنود قوية وأخذ بزمام الموقف في
يده،
وعندما وصل الرفات إلى منف أبقاه فيها ولم يتجه به إلى سيوة، هذا ولا نعلم حتى الآن
ما
إذا كان «بطليموس» قد قرر أن يكون مثوى رفات «الإسكندر» في الإسكندرية أم لا، وقد
قص
علينا المؤرخ «بوزانياس» أن رفات الإسكندر قد بقيت في «منف» إلى أن نقله «بطليموس
الثاني» بعد تاريخ وصوله بأربعين سنة إلى الإسكندرية (راجع: Athen.
Metteilung XXII (1897), P. 187-8).
غير أن كلًّا من المؤرخين «ديودور» الصقلي (راجع: Diod XVIII,
28) و«إسترابون» (راجع: Strabo XVII. P.
794) يقول إن بطليموس الأول هو الذي دُفِن الإسكندر الأكبر في
«سما» Sama «بالإسكندرية» حيث كانت لا تزال رفاته
موجودة حتى عهد الرومان، والمعتقد أن «بطليموس الأول» دفن الإسكندر في مدينة منف
العاصمة الدينية للبلاد في هذا العهد وهي التي توج فيها الإسكندر فرعونًا على مصر
وأصبح
بعد ذلك يُدعَى ابن «رع» أو ابن «آمون رع»، هذا بالإضافة إلى أن «منف» كانت المدينة
الدينية التي يُتوَّج فيها كل ملوك مصر منذ فجر التاريخ، ولذلك كان دفْن «الإسكندر»
فيها يعد من الأمور البالغة الأهمية عند «بطليموس الأول» وقتئذ، وذلك لأن وجود جثمان
«الإسكندر الأكبر» فرعون مصر في «منف» بالذات كان له أهمية بالغة؛ لأنها كانت تعتبر
واسطة العِقد بالنسبة للملكة المصرية مما زاد في قوة «بطليموس» في أعين حكام
الإمبراطورية المقدونية، كما عظم من نفوذه في أعين الشعب المصري، ومن الجائز كذلك
أن
جثمان الإسكندر قد نُقل إلى الإسكندرية بعد أن أخذت هذه المدينة تنمو وتعمر بالسكان،
وكذلك بعد أن أقام «بطليموس» مدفنًا يتفق مع عظمة «الإسكندر» ومكانته العالمية في
عاصمة
ملكه الجديدة، غير أن المؤرخ «بوزانياس» قد قرر بصورة قاطعة أن نقل «بطليموس الثاني»
لجثمان «الإسكندر» من منف إلى الإسكندرية يعد من المساوئ التي ارتكبها في حياته،
ويؤخذ
من قول «بوزانياس» هذا أنه نقل ما رواه عن نقل رفات الإسكندر إلى الإسكندرية من مصادر
موثوق بها، ومهما يكن من أمر فإن هناك حقيقة ثابتة وهي أنه كانت تقام شعائر دينية
للإسكندر على حسب المراسيم المصرية القديمة في منف، وكان للإسكندر كاهن روح خاص به
كما
كان للفراعنة القدامى، وتدل شواهد الأحوال على أن شرف القيام بوظيفة كاهن الإسكندر
أُسندت لأخ الملك المسمى «منلاوس» وإن كان ذلك لم يُذكر صراحة، وقد جاءت الإشارة
إلى
ذلك في وثيقتين (راجع: Elephant. 2, Hibeh 84a; Bell in Archiv. VII,
(1923), P. 27–29; Plaumann in Paulywissowa Article,
“Hiereis”).