بداية الحرب السورية الثالثة
لم يصبر «بطليموس الثاني» على الهزيمة التي مُنِيَ بها في عرض البحر على يد
«أنتيجونوس» بل أخذ يعمل على استرداد سيادة مصر البحرية، فكان أول عمل قام به لتحقيق
أمنيته هو أنه في أواخر عام ٢٥٣ أو بداية عام ٢٥٢ق.م حرض أو ساعد «الإسكندر» ملك
كورنثه
على القيام بثورة في وجه «أنتيجونوس»، وكانت النتيجة أن حُرِم من قاعدتيه الحربيتين
في
بلاد الإغريق وهما «كورنثه» و«كالسيس»، ويحتمل كذلك أنه استولى على أسطوله هناك،
وبذلك
أصبح مشلول اليد في البحر، على أننا لا نعرف ما الذي حدث في عرض البحر؟ لقلة المصادر
التي في متناولنا، ومن المحتمل أن «أنتيجونوس» كان لا يزال حتى عام ٢٥٠ق.م مسيطرًا
على
«ديلوس»، وعلى الرغم من أن بطليموس الثاني قد استعاد هذه الجزيرة الأخيرة في عام
٢٤٩
عندما أسس عيد الآنية المسمى «بطولمييا» Ptolemaieia
فإن «حلف الجزيرة» قد شتت شمله حوالي هذه الفترة، وهذا يعني أن «أنتيجونوس» قد أفلح
في
الاحتفاظ ببعض الجزر، وعلى ذلك فإن انتصار بطليموس الثاني في البحر لم يكن على ما
يُظن
انتصارًا حاسمًا.
ولكن من جهة أخرى نجد أن «بطليموس الثاني» على أية حال قد نال انتصارًا سياسيًّا،
وذلك لأنه حوالي ٢٥٣ق.م قد أفلح في كسب «أنتيوكوس» إلى جانبه؛ فقد تزوج الأخير ابنة
عمه
لاؤديس Laodice بنت «آخايوس» Achaeus وهو أخ أصغر للملك أنتيوكوس الأول، وقد أنجبت منه ذكرين
وابنتين وكانت امرأة صاحبة شخصية مسيطرة، وقد أفلح بطليموس في إغرائه إغراءً تامًّا
على
التزوج من ابنته «برنيكي» التي كان أصغر منها سنًّا، وقد زاد في إغرائه بأنه سيقدم
له
مبلغًا عظيمًا من المال مهرًا لها، والظاهر أن هذا المهر كان مَضْرِب الأمثال في
تلك
الفترة، ولكن بشرط أن يئول ملك «أنتيوكوس» لابن «برنيكي» إن هي أنجبت ذكرًا، والواقع
أن
هذه الصفقة كانت مكسبًا منقطع القرين للملك بطليموس، غير أن السؤال المحير في هذا
الموضوع هو: لماذا قَبِل «أنتيوكوس» هذا العرض؟ وعلى أية حال فإنه على إثر قبول
«أنتيوكوس» عرض «بطليموس» أرسل الأول زوجه «لاؤديس» وأولادها إلى «أفيسوس»، وبعد
ذلك
جاءت «برنيكي» إلى «فينيقيا» عن طريق البحر في أواخر عام ٢٥٣ق.م وتم الزواج في العام
التالي.
والآن يتساءل المرء فيما إذا كان «بطليموس الثاني» يأمل في أن يبذر بذور الشقاق بين
أسرة سوريا الملكية على حساب ابنته، ويعمل على أنه لو حدث أن «أنتيوكوس» لم ينجب
ذكرًا
من زواجه الجديد فإن حقوق أولاد «لاؤديس» يمكن أن تكون دائمًا موضع نزاع، ومهما يكن
من
أمر فإن المؤرخ «هيرنوم» قد حدثنا أن بطليموس صَاحَبَ ابنَتَهُ حتى «بلوز»، وأنها
دخلت
أنطاكية في موكب فاخر، وأن الشائعة كانت عظيمة عن الثروة التي حملتها هذه الأميرة
لزوجها،١ وقد حُكي عن عظمة هذه الأميرة الرفيعة الشأن العظيمة القوة أنها لا تشرب
إلا من ماء النيل الذي كان يرسله إليها والدها بمصاريف باهظة،٢ ويجب علينا ألا نَغْمط «لاؤديس» حقها؛ فقد كانت تُعتبر قبل زواجها إلهة،
هذا إلى الغَبن الذي لحق بأولادها، وعلى أية حال فإن كبرياء «لاؤديس» المنحدرة من
ظهر
ملك قد أبى عليها أن تكون حظِيَّة وحسب، وقد ظن «أنتيوكوس» بما فُطر عليه من صفات
مخزية
حرمته الحس الخلقي الرفيع، أن «لاؤديس» ستدخل معه في مغامرات السياسة النفعية وتخضع
لمشيئته وترضى بما عرضه عليها من ثراء ونعيم مقيم أثناء إقامتها في «أفيسوس» مقرها
الذي
أرسلها إليه، وقد كان «أنتيوكوس» مع ذلك لا يشك في الحقد الدفين الذي يكمن في صدر
هذه
المرأة، وبالثمن الذي سيدفعه يومًا ما جزاء خيانته لها ولأولادها عندما تحين الفرصة،
والواقع أن «بطليموس» الذي ظن أنه قد عمل عملًا سياسيًّا يعد نسيجَ وحْدِهِ لم يكن
قد
فكر في أنه أرسل ابنته لتلقى حتفها، وأن مؤامرته المصطنعة سيُقضى عليها بضربة واحدة
من
يد الزوجة التي دِيس شرفها وحُطَّ من كرامتها، أما ما كان من أمر «برنيكي» فإنها
رُزقت
ابنًا من «أنتيوكوس»، وبحلول عام ٢٥٠ق.م ظهرت مصر وكأنها قد كسبت بالمال والسياسة
ما لم
يكن في مقدورها أن تكسبه بحد السيف غير أن مشروعات بطليموس قد أصابها الفشل لوقوع
ثلاث
وفيات؛ أولاها موت «الإسكندر» ملك «كورنثه» الذي وقع في عام ٢٤٧ق.م، وعلى إثر ذلك
لم
يمض عام ٢٤٦ حتى استرد «أنتيجونوس» «كورنثه» وسفنه التي كانت فيها، وعلى حسب ما لدينا
من معلومات يمكن أن يكون «أنتيوكوس» قد مات ما بين أكتوبر ٢٤٧ق.م ويناير سنة ٢٤٧ق.م
وهذه هي الوفاة الثانية، أما الوفاة الثالثة فكانت وفاة «بطليموس الثاني» نفسه في
يناير
٢٤٦ق.م وخلفه على عرش الملك ابنه بطليموس الثالث أيرجيتيس.
هذا ولم يكن لدى بطليموس الثاني في آخر أيامه شيء يشغل باله إلا شيخوخته؛ فقد اعتلت
صحته وانحطت قواه، وأين المفر؟ ومع ذلك نسمع أنه انكب على النساء، وعلى الرغم من
ثقافته
العالية وحبه للعلوم الطبيعية وبحثه فيها فإن حبه لنفسه وتمسكه بأهداب الحياة وطول
البقاء قد حوله إلى رجل مغفل يصدق ما يقال له ما دام خاصًّا بصحته، فقد كان يطلب
إلى
الدجالين ما لم يجسر أطباؤه على الوعد به، وفي الحق بلغ هذا الملك مبلغًا عظيمًا
من
البدانة والرخاوة مما أتلف صحته وأقعده، وقد كان الوهم يسيطر على نفسه لدرجة أنه
كان
يحسب أنه سيعيش مخلدًا، وأنه هو الوحيد الذي عرف سر الخلود،٣ والواقع أن بنيته التي لم تكن يومًا من الأيام قوية قد بدأت تنوء تحت عبء
السنين التي عاشها ولم يكن يعرف في خلالها قط الزهد أو الاعتدال، فمما يحكى عنه أنه
ذات
يوم عندما كان يعاني آلام النقرس الذي كان سببه الإفراط الفاحش، نظر من نافذة فرأى
مصريين يتناولون وجبة غذائهما على شاطئ النهر بما كان لديهم من طعام، وقد قعدوا على
الرمل في حرية تامة والصحة بادية عليهما، وعندئذ صاح بطليموس قائلًا: ما أتعسني ليتني
كنت واحدًا من هؤلاء الناس!٤ على أنه ليس لدينا حاجة لذكر مثل هذه الأساطير التي كثيرًا ما نسمعها عن
أصحاب اليسار الذي أصابتهم الأمراض؛ لأجل أن نقتنع بأن «بطليموس الثاني» عندما حلت
به
الشيخوخة كان يحس أحيانًا أن الثراء ضار وأن الصحة والعافية مفضلتان على الثراء،
وعلى
أية حال فإن الموت الذي كان يرهب شبحه، والذي حلم من أجل تحاشيه سنين طويلة كلها
أملًا
بطول العمر قد وافاه وهو في التاسعة والثلاثين من سني حكمه والثالثة والستين من سني
حياته (عام ٢٤٦ق.م)، وافاه في الوقت المناسب فقد خلصه من خيبة أمل كانت لا بد نازلة
به
فتصيبه في كبريائه وعظمته.
وتدل الأحوال على أن «بطليموس الثاني» على أرجح الأقوال قد دُفن مع والديه الإلهيين
في «سيما» Sema الإسكندرية، وذلك قبل أن يشهد المصائب
التي حلت بابنته برنيكي زوج «أنتيوكوس» وابنه الصغير، وكان «بطليموس الثاني» يشبه
أمنحتب الثالث في ثروته ورخاء البلاد في عصره،٥ وكذلك من حيث الفخفخة، كما كان مثله منكبًّا على النساء والوقوع تحت تأثيرهن،٦ والواقع أن الكُتاب الإغريق قد ذكروا لنا فيما كتبوه عن عدد من حظياته ونخص
بالذكر منهم مصرية تُدعى باسم إغريقي ديدم Didyme
وأخرى تدعى «ميرتيون» Myrtion وكانت تعمل في مسرح
كوميديا وهي من أصل وضيع فلما تعلق بها بطليموس واستولت على لُبه كان بيتها يعد من
أجمل
بيوت الإسكندرية، وكذلك كان بيتا حظيتيه «منيسيس» Mnesis و«بوتين» Pothine وهما
مغنيتان صاحبتا شهرة عظيمة معروفتان بمظهريهما، وكان له حظِيَّة أخرى تدعى «كليو»
وقد
أقبل القوم على شراء تماثيلها الصغيرة والكبيرة بشغف، وقد مُثِّلت وهي ترتدي قيمصًا
قصيرًا فقط حاملة قرن الكثرة تمثُّلًا بالملكة «أرسنوي».٧
ومن حظيات بطليموس الثاني كذلك «سترتونيس» وتعرف بضريحها الفاخر في «إلوسيس» Eleusis المُقام بالقرب من الإسكندرية، أما أشهر
حظيات هذا الملك فهي «بيليستيش» Bilistiche، غير أن
اسمها لا يدل على أنها إغريقية الأصل، وذلك على الرغم من أنها على ما يُظن إغريقية
المنبت، فيقول «بلوتارخ» إنها كانت أجنبية اشتُرِيَت من أحد الأسواق،٨ أما المؤرخ «باوزانيوس» فيقول إنها جُلبت من ساحل بحر مقدونيا،٩ ويقص علينا أتناوس١٠ أنها من أهالي «أرجيف» من أسرة كريمة منحدرة من أتريوس Atreus وسواء أكان نسبها يرجع إلى أصل وضيع نُسب إليها حقدًا وحسدًا
أم من أصل رفيع قد اخُتْرِعَ لها من باب الملق، فإنه لا جدوى من الرجم بالغيب في
هذا
الموضوع الآن، وقد ذُكر عنها أنها جرت في سباق الخيل بعربتها التي كان تجرها كرائم
الخيل، وكسبت الرهان في ألعاب أولمبيا في عام ٢٦٨ق.م، ومن المحتمل أن «بيليستيش»
هذه هي
ابنة فيلو التي كانت تعمل كاهنة Kanephoros للملكة
«أرسنوي الثانية» عام ٢٦٠-٢٥٩ق.م.١١
ومن المحتمل أن بطليموس الثاني لولوعه الشديد بها أعلن أنها إلهة، وقد أُقيمت لها المحاريب وقُدمت لها القرابين باسم «أفروديت بيليستيش».
١
راجع: Hierion, In Daniel C X I.
٢
راجع: Polyb, ap. Athen. II. P. 45, b.
c.
٣
راجع: Phylarch. Ap. Athen. XII. P. 536; Mahaffy, Empire of
the Ptolemies. P. 163.
٤
راجع: Phylarch. Ioc. cit.
٥
راجع مصر القديمة الجزء الخامس.
٦
راجع مصر القديمة الجزء الخامس.
٧
راجع: Chronique d’Egypte, XXXIII (1957 & Bevan. P.
77).
٨
راجع: Plut. Amator, 9.
٩
راجع: Paus. V, 8, 11.
١٠
راجع: Athen. XIII, 59.
١١
راجع: Edgar. Zen. Pap. No. 46; see Wilcken Archiv. VI. P.
453.