شاهدنا فيما سبق أن مصر بعد موت الملكة «أرسنوي الثانية» قد أخت تتدهور من الوجهة
الحربية، وتدل الأحوال على أنها لو امتد بها الأجل لوسعت رقعة الإمبراطورية المصرية،
ولكن لَحَظْنا أنه منذ وفاتها كانت الحروب التي شق غمارها بطليموس الثاني فاشلة،
فقد
رأينا أنه فقد السيادة البحرية كما استولت مقدونيا على جزر «سيكلاديس»، واحتلت أسرة
«سليوكيس» جزءًا كبيرًا من ساحل آسيا الصغرى، وكذلك فقدت مصر سلطانها على قرنيقة،
ولا
غرابة في ذلك؛ فإن بطليموس الثاني كان ماهرًا في كل الميادين الحيوية إلا ميدان القتال،
وكان يشعر هو بذلك بدليل أنه قبل مماته قد حسَّن مركزه بين الدول العظمى عن طريق
السياسة، وتدل شواهد الأحوال على أن كل هذه الحروب التي خاض غمارها والتي لم تخمد
نارها
قط طوال مدة حكمه لم تسبب أضرارًا مادية كثيرة لمصر نفسها.
ولكن من جهة أخرى نجد أنها أوقعت ضررًا آخر بالغ الخطورة، وهو أنه قد عاقت سير
المدنية الإغريقية عن متابعة توطيد أركانها بقوة أكثر في مصر، وقد تضاربت الأقوال
عن
سبب رغبة «بطليموس الثاني» في العمل على توسيع رقعة إمبراطوريته، فهل كان يقصد من
ذلك
مهاجمة أملاك غيره أو كان بقصد الدفاع عن بلاده والمحافظة على تخومها كما فعل من
قبله
ملوك العهد الساوي وملوك الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين؟ وقد تكون الفكرة الأخيرة
هي التي كان يرمي اليها بطليموس الثاني، وذلك أن «سوريا» كانت في الواقع تعد دائمًا
إقليمًا واقيًا لمصر، هذا بالإضافة إلى أن سوريا وجزيرة قبرص كانتا دائمًا اقتصاديًّا
ضروريتين لمصر، ولا غرابة في ذلك لأن مصر كانت لا تنتج أخشابًا ولا معادن إلا الذهب
بدرجة محدودة في تلك الفترة، هذا إلى أن خشب «قبرص»
و«لبنان» كان لازمًا لبناء السفن، كما كان نحاس قبرص ضروريًّا لضرب النقود النحاسية
التي كانت شائعة الاستعمال في مصر، ويميل إليها المصريون الوطنيون للتعامل بها كما
سنرى
بعدُ، ولكن هذه الأماكن كانت فعلًا ضمن أملاك مصر عندما تولى بطليموس الثاني عرش
الكنانة، ومن جهة أخرى نجد أن فتوحه التي قام بها أثناء حكمه في آسيا الصغرى، وكذلك
محاولاته للسيطرة على بلاد بحر إيجه وسواحله لا يمكن أن نعدها لازمة للدفاع عن بلاده،
وقد رأينا أنه هو الذي قام بالمبادرة إلى الاعتداء على هذه البلاد الإغريقية، وعلى
ذلك
فإنه من المؤكد أن عمله على امتداد رقعة إمبراطوريته كان غرضًا ثابتًا في قرارة
نفسه.
ويمكن الإنسان أن يتساءل: هل كان بطليموس الثاني مدفوعًا إلى هذه الفتوح جريًا وراء
أطماع أسرية؟ أو كان يجري وراء أرباح تجارية؟ ولا نزاع في أن التجارة الشرقية والهندية
كانت عاملًا مهمًّا في حياة مصر الاقتصادية، وأن الطرق البرية التجارية العظيمة في
خلال
القرن الثالث قبل الميلاد كانت تصل إلى البحر في «فينيقيا» و«أيونيا» أولًا عن طريق
«صور» و«أفيسوس» غير أن بطليموس كان مسيطرًا على «صور» دون منازع، هذا إلى أنه حصل
على
أهم الفوائد من التجارة الهندية التي كانت تأتي عن طريق البحر إلى جنوب بلاد العرب،
وعلى الرغم من احتمال وجود اعتبارات تجارية دعت لشنه حروبًا، فإنه من المرجَّح أن
بطليموس كان طَموحًا كثير الأطماع؛ إذ كان يرغب في أن يحكم إمبراطورية مترامية الأطراف
ويستغل مواردها بقدر المستطاع في نيل أطماعه، ولا أدل على ذلك من أن كل قطر جديد
كان
يستولي عليه يجعله مصدر ربح، فكان يثقله بالضرائب الفادحة، ولم يكن يفكر قط في عمل
أي
إصلاح لتحسين حالة البلاد المفتوحة إلا إذا كان هذا الإصلاح لصالحه هو، والواقع الذي
لا
مراء فيه أن «بطليموس الثاني» كان يستغل كل منتجات مستعمراته إلى أقصى حدود الاستغلال،
هذا إلى تدخله في الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به المدن الإغريقية قد فاق تدخل الممالك
الهيلانية العظمى الأخرى في زمنه، هذا فضلًا عن أنه قد بذل بعض الجهود في إخضاع تلك
المدن للإدارة المالية المصرية، وقد امتدت علاقاته الخارجية إلى ما وراء العالم
الهيلانستيكي؛ ففي عام ٢٧٣ق.م أرسل بعثًا إلى روما يُحتمل أنه كان لمهامَّ تجاريةٍ،
كما
أرسل رسولًا يُدعى «ديونيسوس» إلى الإمبراطور «الموراني» إمبراطور فندوسارا
Vindusara في بلاد الهند للحصول على مدربين للفِيَلة
من الهنود لأجل تدريب فِيَلَته التي اصطادها من أفريقيا، هذا وقد وجد «بوزيون» هنودًا
في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، والمعتقد أنه شاهد قبرًا عليه عِجْلة البوذي
في الإسكندرية،
١ ومن المحتمل أنه قامت صعوبة في إرسال ديونيسوس إلى بلاد الهند عن طريق
البلاد «سيلوكوس» ويُرجَّح أن بطليموس قد استخدم ضابطًا أعرابيًّا لينقله بطريق البحر
كما فعل «بطليموس سوتر» عندما سُدَّت الطريق في وجهه إلى هذه البلاد فكلف شيخًا
أعرابيًّا ليقود رسولًا مستعجلًا له على ظهور الإبل إلى بابل عن طريق الصحراء.
أما عن علاقات بطليموس الثاني بالعالم العربي فغامضة، ونعلم أنه في عام ٢٧٣ق.م عمل
الاحتياطات لحماية بلدة «هروبوليس» الواقعة بالقرب من السويس من غَدْر بعض العرب
سواء
أكانوا من القبائل المحلية أم من التي عبْر مياه البحر وقد أرسل ضابطًا يُدعى «أريستون»،
٢ ومعه أوامر للكشف عن ساحل البحر حتى المحيط الهندي وقد طاف «أريستون» حول
شبه جزيرة سيناء حتى خليج العقبة، ولكن لا نعرف إلى أي نقطة وصل جنوبًا بعد ذلك.
وقد أرسل بطليموس حملة حربية إلى بعض الأماكن عبر البحر الأحمر فزارت بعض أماكن لم
تُحقَّق حتى الآن في بلاد العرب،
٣ ويحدثنا ديودور،
٤ أنه عندما أخذ البحارة المصريون يختلفون على خليج العقبة هاجمهم النباطيون
من بترا (بلاد العرب) وهم الذين كانوا يُغِيرون على تجارتهم، وينهبونهم حتى طردوهم
من
البحر بأسطول مصري، ومن الجائز جدًّا أن نربط هذا الحادث بحملة بطليموس الثاني، وعلى
ذلك فإنه إذا كان قد صور لنفسه الأمنية التي كان يحلم بها «أنتيجونوس الأول» وهي
السيطرة على «بترا» ورأس طريق القوافل العظيمة من بلاد البخور الواقعة في جنوب بلاد
العرب (بلاد بنت) فإنه بلا شك قد أخفق في تحقيق حلمه، ولقد بدأ «بطليموس» حركة كان
لها
نتائج كبيرة على الجانب الأفريقي للبحر الأحمر.
والواقع أنه اندفع رغبة في الحصول على فِيَلة للحرب فابتدأ في كشف الساحل بصورة
منظمة، فقد أسس ضباطه أثناء ذلك بلادًا ومحاطَّ تجاريةً جنوب «أرسنوي» وهي السويس
الحالية، حتى مدينة بطليمايس الخاصة بصيد الفِيَلة وتقع بالقرب من «سواكن» الحالية،
وقد
استمر أخلافه بثبات في هذا العمل إلى أن وصل ضباطهم إلى قطر البخور في بلاد الصومال
وقرن الجنوب (أي رأس جاردفوي)، وقد أدت هذه الكشوف في النهاية إلى القيام بسياحات
مباشرة من مصر إلى جنوب الهند، وقد كانت فِيَلة بطليموس عندما تصاد تُشحَن إلى «برنيكي»
المقابلة لأسوان في سفن نقل خاصة، ومن ثم كانت تساق إلى قفط على طريقٍ مُعَبَّدَةٍ
مجهَّزة بكل ما يلزم عمله من قبل، ثم تُشحن في النيل حتى «منف»، هذا وقد أدخل بطليموس
الثاني خلافًا للفِيَلة الجَمَل في مصر، وكانت الجِمال تذكر كثيرًا في الوثائق المصرية،
٥ وفيما بعد توجد محطة جِمال تبتدئ من الجنوب حتى الإسكندرية، هذا وقد حفر
بطليموس الثاني قناة جديدة بجوار المحطة التي كان قد حفرها ملك الفرس دارا الأول
ثم
طُمرت فيما بعد، وقد تحدثنا عن قناة بطليموس هذا مليًّا،
٦ وهي القناة التي تربط بين النيل والبحر الأحمر وقد طمرت بدورها ثم حفرها
الإمبراطور هدريان ومن بعد عمرو بن العاص.
الفيوم وفيلادلفيا
أما أعظم شيء عمله لإصلاح الأراضي الزراعية في مصر فهو أنه عين مهندسين إغريقًا
لتجفيف بحيرة موريس، وبذلك كسب مساحة عظيمة من الأراضي الصالحة للزراعة وهي الفيوم
الحالية، وقد أصبحت مركزًا لمستعمرة إغريقية عظيمة، وقد تحدثنا عن الفيوم وما حدث
فيها من إصلاح ومشاريع في مصر القديمة وبخاصة في عهد الأسرة الثانية عشرة في مصر
القديمة الجزء الثالث، وعندما تولى بطليموس الثاني مقاليد الحكم في البلاد كان يعمل
جاهدًا لإصلاح الأراضي الزراعية أينما وُجدت في وادي النيل، وذلك لأجل الحصول على
المال للصرف منه على حروبه ومشاريعه الأخرى، وقد وجد في الفيوم ضالته المنشودة،
وذلك أنه أراد أن يستصلح أراضي زراعية وفي الوقت نفسه ينشئ إقليمًا بِكرًا يقيم
فيه
مستعمرة إغريقية مقدونية في قلب مصر فيقطن فيها جنوده المرتزقة هم وأسرهم، ومن جهة
أخرى لا يحرم الفلاح المصري من أرض كان يزرعها ويستغلها لحساب الملك.
وقد قام بهذا العمل مهندسون في عهد كل من بطليموس الأول وبخاصة في عهد ابنه
بطليموس الثاني، ولم تمضِ أربع سنوات حتى جُفِّفت رقعة عظيمة من بحيرة موريس وزُرعت
بكل أنواع الحبوب والفاكهة والأشجار ورُبيت فيها الحيوانات من كل نوع وجُلبت إليها
أصناف عدة من الأشجار والحيوان من خارج البلاد وثُمرت فيها، والواقع أن مساحة الأرض
الصالحة للزراعة في الفيوم بعد تجفيف جزء كبير من البحيرة قد يبلغ أقل من نصفها
بشيء يسير، ولم يبقَ حتى الآن إلا الجزء الشمالي العميق منها، ولا تزال الأرض التي
أصلحها مهندسو بطليموس الثاني تُزرع حتى الآن في مديرية الفيوم، وكلمة الفيوم كلمة
مصرية قديمة معناها «الماء» وبالعربية «اليم» وبالإغريقية
Helimne أي البحيرة، وقد احتل هذه الأراضي التي
أُصلحت طائفة من الإغريق يزيد عددهم فيها أكثر من أي مديرية أخرى من مديريات مصر،
ولكن اليد العاملة فيها كانت من الفلاحين المصريين، والواقع أن معظم الأوراق
البطلمية المبكرة قد وُجدت في الفيوم مثل الوثائق الثمينة التي وجدها بترى في غراب
وهي التي نشرها المؤرخ مهفي والعالم «سميلي»
Smyly.
٧
ولدينا سلسلة أخرى من أوراق البردي من الفيوم جمعها «جوجيه» و«لفبر» عُثر عليها
في الركن الجنوبي الغربي من الفيوم في الجبانات الواقعة بالقرب من قرية «مجدولا».
٨
ومن المحتمل أنه وُجد كذلك في الفيوم أكبر ورقة من عهد البطالمة وهي ورقة «قوانين
الإيرادات» من عهد بطليموس الثاني وقد نشرها جرنفل،
٩ كل هذه الأوراق وغيرها تلقي ضوءًا على تاريخ مصر في الفترة الأولى من
عهد البطالمة، ولكنه كان لا يزال ضوءًا ضئيلًا، وبخاصة فيما يتعلق بالحياة
الاقتصادية في البلاد والدور الذي لعبه الإغريق والأجانب الآخرون، وكذلك العلاقات
التي كانت بين الوفود الجدد على مصر والسكان المصريين الأصليين، هذا بالإضافة
لأهمية كل من هذين العنصرين في إصلاح القوة الاقتصادية لتلك الدولة الجديدة التي
كانت تتألف من إغريق ومصريين على وجه عام، ولحسن الحظ قد عُثر في تربة الفيوم على
مجموعة جديدة من الأوراق البردية تكشف لنا النقاب لحد ما عن حالة مصر في هذا العهد
المبكر من تاريخ البطالمة، وذلك أنه كُشف في خلال الحرب العالمية الأولى سلسلة من
الأوراق البردية غنية بما فيها من وثائق من القرن الثالث ق.م، عُثر عليها في عام
١٩١٥ في خرابة الجرزة بالفيوم وهي موقع قرية فيلادلفيا القديمة، وهذا الكنز من
الأوراق البردية المدونة باللغة الإغريقية يؤلف وحدة غاية في الأهمية فكل الأوراق
البردية الخاصة بهذا الكنز كانت موضوعة في ملفات عليها ملخصاتها بخط فرد يُدعَى
«زينون» ومن ذلك نفهم أنها كانت تؤلف جزءًا من مراسلاته؛ أي سِجِله الخاص، وقد كان
الكشف عن هذه الأوراق مجرد صدفة، والذين عثروا عليها هم فلاحون مصريون أثناء الحفر
في تلك المنطقة للحصول على سماد لأرضهم، والواقع أنه ليس لدينا أية بيانات حقيقية
عن الأحوال التي كُشفت فيها وبخاصة عندما نعلم أن تجار الآثار لم يُدْلُوا بأية
بيانات عن مصدر هذه الأوراق، وكل ما نعلمه في هذا الصدد قد ذكره الأثري «أدجر» في
مجلة مصلحة الآثار،
١٠ وكما كانت العادة — ولا تزال — استولى تجار الآثار على كل المجموعة
التي لا يعلم عدد وثائقها أحد، وقُسمت فيما بينهم أجزاء عدة وبِيعت هذه الأجزاء
تدريجًا للمشترين، فاستولى متحف «فلورنسه» على جزء كبير منها، واشترى المتحف المصري
جزءًا آخر وحصل المتحف البريطاني على كميتين هامتين كما استولت مكتبة ميشيجان على
كمية منها، وهناك كميات أخرى لم تظهر بعدُ، وعلى أية حال قامت الهيئات العلمية بطبع
الكثير من هذا الكنز وقد لخص لنا محتويات هذه الأوراق جميعها وغيرها مما كُشف عنه
في فيلادلفيا في كتاب فخم ألفه العالم الروسي «روستوفيتزف».
١١
والواقع أن الضيعة الكبيرة التي يقصدها «روستوفيتزف» هي قرية فيلادلفيا، وهذا
الاسم يوحي بأن هذه التربية كانت ضمن القرى التي أُسست في عهد بطليموس الثاني نتيجة
لأعمال التجفيف التي عُملت في بحيرة «موريس» في عهده، ونحن نعلم مقدار اتساع
الأعمال التي قام بها البطالمة في الفيوم وعظم نجاحها، والواقع أن قائمة القرى التي
في الفيوم الموجودة في عهد البطالمة المبكر قد بلغ ١١٤ قرية ومستعمرة منها الكبيرة
ومنها الصغيرة، فمن بين المائة والأربع عشرة قرية السالفة الذكر ست وستون تحمل
أسماء إغريقية وثماني وأربعون تحمل أسماء مصرية، وحتى القرى التي كانت تحمل أسماء
مصرية لم تكن بأية حال من الأحوال كلها قائمة قبل العهد البطلمي بل إن معظمها أنشئ
في العهد البطلمي بالإضافة إلى القرى التي تحمل أسماء إغريقية، ويدل على ذلك أن
كثيرًا منها كان يحمل نفس الأسماء التي تحملها بعض المدن الكبيرة والصغيرة في
الدلتا ومصر الوسطى، والواقع أننا نجد في الفيوم كما هي الحال في الولايات المتحدة
الأمريكية قُطرًا عظيمًا للاستعمار؛ حيث نجد القرية تلو القرية تحمل أسماء موحدة
بأسماء مدن شهيرة في مصر، وفي هذه الحالة التي نحن بصددها نجد هذه المدن تقع في
الوجه البحري ومصر الوسطى بأسمائها التي تحمل جزئيًّا الصبغة الهيلانستيكية
وجزئيًّا الصبغة المصرية الوطنية، ولا نزاع في أن هذه الأسماء تعيد إلى الذاكرة
أسماء الأماكن التي أتى منها المستعمرون الجدد إلى الفيوم، ومن المحتمل أسماء
المقاطعات التي كانوا تابعين لها من قبل هجرتهم، وذلك بسبب أن الأسماء المسجلة هي
أسماء عواصم مقاطعات في الدلتا ومصر الوسطى، هذا ومن المحتمل أن أسماء قرى مصرية
محضة في الفيوم يمكن أن تكون استعيرت بنفس الطريقة من أسماء أماكن أخرى أقل شهرة،
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى فحص أكثر، والمحتمل أن الفرق الوحيد بين المستعمرات
التي تحمل أسماء إغريقية والتي تحمل أسماء مصرية هو أن الأولى كانت أغلبية سكانها
الجدد من الإغريق والأخرى كانت أغلبية سكانها من المصريين؛ أي إن القرى التي تحمل
أسماء إغريقية كان معظم سكانها من الجنود المرتزقين في حين أن القرى التي تحمل
أسماء مصرية كان سكانها فلاحين للتاج.
ومن الغريب أن نجد في إقليم قد احتُلَّ معظمه بجنود مرتزقين أن الأسماء تحتل
فيلادلفيا مكانة استثنائية إذ في الواقع تعد ضمن المستعمرات الجديدة في الفيوم التي
اشتق اسمها من اسم حكام مصر أي البطالمة.
ومن الغريب أن نجد في إقليم قد احتُلَّ معظمه بجنود مرتزقين أن الأسماء الأسرية
تؤلف استثناء، ولكن هذه حقيقة لا مراء فيها ففي كل إقليم الفيوم ليس لدينا إلا أربع
عشرة «كاماي» (قرية) تحمل أسماء أسرية، وذلك من بين ست وستين تحمل أسماء إغريقية
وهي اثنتان تحمل اسم برنيكي واثنتان تحمل اسم «أرسنوي» وواحدة باسم «أيريديكي»
وواحدة باسم «تيادلفيا» وخمس باسم بطليموس، وواحدة باسم فيلوتريس، وواحدة باسم
«فيلوباتور» وواحد باسم فيلادلفيا.
وقد كانت العادة الأكثر شيوعًا أن تسمى القرى بأسماء مشتقة من أسماء الآلهة أو
أسماء لها علاقة بالأسرة الحاكمة وبخاصة الأفراد أصحاب المكان الرفيعة في البلاد،
وعلى ذلك فإنه من المرجح أن قرية «أبوللونيوس» قد سميت باسم وزير المالية الذي كان
يحمل هذا الاسم في عهد بطليموس الثاني، ومن المحتمل أن قلة وجود الأسماء الملكية
بين هذه القرى هو أن التسمية بأسماء ملكية كان يحتاج إلى إذن خاص، وتدل شواهد
الأحوال على أن «فيلادلفيا» قد سُميت بهذا الاسم بتصريح خاص، وهذا الاسم كما نعلم
كان لقبًا على كل من بطليموس الثاني و«أرسنوي» (المحب لأخته).
والواقع أننا لا نعلم إلا القليل جدًّا عن تاريخها المبكر قبل الكشف عن مراسلات
«زينون» فيما عدا أنها أُسست في عهد بطليموس فيلادلفس، وتدل بعض الأوراق التي كشفها
«بترى» على أنه قد نُفِّذت أعمال هامة في محيط فيلادلفيا على يد المهندسَيْنِ
الملكيَّيْنِ «كليون»، و«تيودوروس» وأن هذا المكان كان محاطًا بمستعمرات تحمل أسماء
مصرية، ومن المحتمل أنها مستعمرات كان يسكنها فلاحون ملكيون، وذلك لأن هذه كانت
تسمى بأسماء مشتقة من أماكن شهيرة في الدلتا مثل بوبسطه وتانيس وباستونتيس
Patsonthis وأنها أصبحت مركزًا هامًّا لمحصول النبيذ،
١٢ هذا ونعلم أن فيلادلفيا في عهد الملك «أيرجتيس الأول» كانت عاصمة المركز
Toparchy أي مقر حاكم المركز «توبارك» وفي
عهد الملك «فيلوباتور» نعلم أنه كان يسكن في فيلادلفيا تاجر جملة يملك قطيعًا
عظيمًا من الغنم وكان يسكنها في الوقت نفسه عدد عظيم من الجنود المرتزقة يخدمون
في
فرقة الفرسان، وقد كان سكان فيلادلفيا يدفعون مبالغ كبيرة ضرائب على التجارة
الداخلية وعلى النطرون، وهذا يسمح لنا أن نفرض أن المجتمع فيها كان ناجحًا وأنه
قد
نمى نشاطه التجاري والصناعي إلى حد ما في شئون النسيج مثلًا، وفي النطرون الذي
يُستعمل لغسيل النسيج، وقد كان لهذه القرية نشاط في عهد الرومان لا يدخل في موضوعنا
هنا.
وهكذا نرى أن الفيوم وقُراها التي كان معظمها من عمل عهد بطليموس الثاني كانت
مقاطعة ثرية زادت في ثروة مصر بدرجة مُحَسَّة في تلك الفترة وسنفرد فصلًا خاصًّا
عن
حالة الطبقة الدنيا في مصر على حسب ما جاء في أوراق زينون وعن علاقتهم بالإدارة
الإغريقية.
وخلاصة القول؛ كانت مصر في عهد بطليموس الثاني قد بلغت الذروة من حيث ثروتها
الزراعية والتجارية، ولا غرابة إذن إذا شبهنا عصره كما قلنا بعصر أمنحتب الثالث،
وقد فاخر «تيوكريتوس» بأن بطليموس الثاني حكم ١٣٣٣٣ مدينة، ولكن من المحتمل أن هذا
العدد كان عبارة عن عدد كل البلاد والقرى الصغيرة في كل إمبراطورية بطليموس الثاني،
هذا وقد تنبأ «كليماكوس» بأن بطليموس سيحكم العالم من مشرق الشمس إلى مغربها، وهذا
التعبير هو في الواقع التعبير المصري القديم الذي جاء ذكره كثيرًا في المتون
المصرية القديمة وبخاصة في عهد الدولة الحديثة وما بعدها: إن الفرعون يحكم على كل
ما تحيط به الشمس، ولا يبعد أن هذا التعبير البطلمي مأخوذ من التعبير المصري
القديم.
وقد ظن بعض المؤرخين أن بطليموس الثاني لم يبلغ مثل هذه القوة التي ذكرها «كاليماكوس»،
١٣ غير أننا نرى مما كتبه «هيرونداس» كيف كانت تمثل مصر في عينَيْ رجل
الشارع في تلك الفترة؛ حيث يقول في وصفه الغريب في مصر: إن مصر هي نفس بيت الآلهة،
وذلك لأن كل ما يوجد وكل ما ينتج في العالم موجود في مصر؛ ففيها الكثرة والغنى
وميادين المصارعة، والقوة والسلام والشهرة والمعارض والفلاسفة والمال والشبان وضياع
«الأخوين المؤلهين»، والملك وهو واحد طيب، والميوزيون، والخمر، وكل ما تشتهيه
الأنفس وتلذ الأعين، وهذه هي مصر في عهد بطليموس الثاني، ولا بد أن سكانها قد زادوا
بازدياد ثرائها زيادة عظيمة، وقد قيل إن عدد سكانها بلغ حوالي تسعة ملايين نسمة،
وليس هذا ببعيد إذا صدقنا ما كتبه الأقدمون في أواخر عهد البطالمة.