على الرغم من الكثير الذي نعرفه عن عهد البطالمة في نواحٍ شتَّى من حياتهم فإنه
تنقصنا المعلومات الأكيدة المحددة عن نظام الحكم في مصر في عهدهم، والواقع أن معلوماتنا
في هذا الباب ليست واضحة جلية كالمعلومات التي وصلت إلينا عن عهد الرومان في مصر،
وعلى
ذلك فإن كل وصف لهذا النظام سيكون ناقصًا إلى أن تُكشف لنا عن معلومات جديدة تسد
هذا
النقص، وذلك لأن خيوطه سواء أكانت إدارية أو اقتصادية تتجه نحو الإسكندرية، ولسوء
الحظ
لا نعرف شيئًا عن الإدارات الرئيسية في هذه المدينة العظيمة لقلة المصادر عنها.
ومن الغريب أن هذا النظام في بلاط الملك كان له نظيره عند كبار الموظفين وهذا
يُذكِّرنا بحكَّام الإقطاع في مصر في كثير من عهودها، غير أن الفرق بين الاثنين كان
كبيرًا، وأبرز مثال لدينا في عهد البطالمة هو النظام الذي كان يسير عليه بلاط وزير
مالية بطليموس الثاني المسمى «أبوللونيوس».
وهذا الوزير الذي يعد أكبر شخصية في عهد بطليموس الثاني معروف لنا تمامًا من
المراسلات التي كانت تدور بينه وبين مساعده المخلص، وإن شئت قل مدير ماليته «زينون»
وقد
تحدثنا عن الأحوال التي عُثر فيها على هذه المراسلات.
وقد شغل «زينون» هذا وظيفة مدير أعمال للوزير «أبوللونيوس» مدة الخمس عشرة سنة التي
كان فيها «أبوللونيوس» وزير مالية بطليموس الثاني وعندما تبتدئ المراسلات بينهما
نجد أن
زينون كان على سفر في الخارج يقوم ببعض أعمال التجارة لسيده وتصريف شئونه، وفيما
بعد
نجده يرافقه في سياحات طويلة في داخل مصر، وفي نهاية الأمر نجد «أبوللونيوس» في عام
٢٥٦ق.م يأوي إلى فيلادلفيا حيث كان لا يملك إلا ضيعة كبيرة كان قد وهبها له الملك
أو
أقرضها له مدة حياته، ولحسن الحظ أحضر «زينون» معه كل الأوراق التي كان قد جمعها
طوال
مدة خدمته «أبوللونيوس» ويبلغ عددها أكثر من ألفَيْ بردية ثم أخذ يضيف إليها ما كان
يصله من مكاتبات حتى عهد بطليموس الثالث، ومن هذه المراسلات يمكن أحيانًا أن نتبع
بوضوح
أحوال هذا الوزير «أبوللونيوس» من سنة إلى أخرى، ومن المحتمل أنه مات في فيلادلفيا،
وعلى أية حال فإنه سواء كان قد مات في هذه القرية أم هاجر إلى أخرى فإن الأوراق التي
جمعها زينون قد ظلت مدفونة في تربة مصر لم تُمَسَّ حيث تركها أكثر من عشرين قرنًا
من
الزمان.
وعلى أية حال فإن هذا النظام قد ضمن للبطالمة جيشًا ثابتًا من الجنود المدربين السواد
الأعظم فيه من الإغريق أو من غيرهم من الذين صُبغوا بالصبغة الهيلانية الظاهرة كاليهود
وغيرهم، والواقع أنهم كانوا قد دُربوا منذ الطفولة على فنون الحرب، وكان المفروض
أنهم
منذ نعومة أظفارهم قد شربوا مع لَبان أمهاتهم كأس الحب الخالص لأسرة البطالمة التي
كانوا مدينين لها بسعادتهم ومكانتهم الممتازة، وعلى الرغم من اختلاط الإغريق بالمصريين
فإن الإغريق كانوا يحتقرون المصريين الذين كانت قيمتهم الحربية في نظر الإغريق تقاس
بملكياتهم الصغيرة التي منحتها لهم الحكومة، ولكن بعد مدة قصيرة نجد أن الجيش الذي
كان
أفراده يملكون أطيانًا واسعة قد فقد رجاله صفاتهم الحربية وأصبحوا مثل زملائهم من
المصريين الذين يحتقرونهم، وهذا ما كان يحدث عادة للجنود الذين اتخذوا لأنفسهم مستعمرات
يعيشون من ثمراتها، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الجنود المرتزقين لم يستمر عددهم كبيرًا
بل
أخذ في النقصان، ويرجع ذلك إلى أنه عندما أخذت الأراضي الزراعية التي كانت توزع عليهم
في النقصان فإن مساحة الأراضي التي كانت لكل جندي أخذت تنقص بطبيعة الحال، وعلى ذلك
فإن
الجنود المرتزقين الذين كانوا يفدون على البلاد من الخارج بسبب الأرض وامتلاكها قد
نقص
عددهم، ولا أدل على ذلك من أن الجنود المرتزقين قد قل عددهم شيئًا فشيئًا في سوق
القرن
الثاني قبل الميلاد، ومن أجل ذلك لم يكن لدى البطالمة مصدر لتجنيد جيش لمحاربة أعدائهم
إلا من السكان المصريين الذين أخذ عددهم يزداد في الجيش بصورة مُحَسَّة، هذا على
الرغم
من أن البطالمة كانوا لا يثقون بالجندي المصري من حيث الولاء ومن حيث الكفاية
الحربية.
وقد استمر هذا النظام في مصر حتى القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كان كل جندي يملك
قطعة أرض مساحتها حوالي تسعة أفدنة ونصف الفدان من الأراضي الصالحة للزراعة، وكان
يعد
نفسه عائشًا في رغد من العيش،
٨ حيث نجد أنه منذ بداية الألف سنة الأولى قبل الميلاد كان كل جندي من الجنود
المرتزقة من اللوبيين وغيرهم يشغل وظيفة متوارثة وكان يسمى «مي» وهي كلمة مختصرة
لاسم
القبيلة اللوبية المعروفة باسم مشوش، وهذا الاسم الأخير حرَّفه اليونان فأصبح
ماشيموي
Machimoi وكان هؤلاء الجنود ينقسمون
فرقتين إحداهما تسمى «هرموتبير» والأخرى تدعى «كلازيري» وكان جنودهم يسكنون في مستعمرات
حربية مغلقة أي قائمة بذاتها في مقاطعات الدلتا، وكان كل جندي يملك إقطاعية من الأرض
معفاة من الضرائب تبلغ مساحتها اثني عشر أرورا، وفي عهد بسمتيك الأول الذي أخذ يستعمل
الجنود المرتزقة من الإغريق وغيرهم كان يُقطعهم إقطاعات تغريهم على البقاء في مصر.
٩
وعلى أية حال كانت هذه الفِيَلة محمية بدروع، ومعظمها من التي صِيدَ في أفريقيا، وكان
صيدها وتدريبها ينظمه البطالمة.
وأخيرًا نجد أنه بجانب الجيش العامل قواتٌ من الجنود المرتزقة أما المستحفظون
المصريون فكانوا يُستخدمون لنقل مهمات الجيش.
الأسطول
لم تصل إلينا معلومات أصيلة عن الأسطول المصري في عهد البطالمة، والواقع أن كل ما
نعلمه عن الأسطول في هذه الفترة مستمد من الإشارات التي وردت عنه في مختلف الحروب،
وهذه بدورها معلومات ناقصة جدًّا لا تشفي غلة.
وعلى أية حال نعلم من أوراق زينون
١٦ أنه كان يوجد أسطول ملكي يعده نواة للأسطول البطلمي، كانت تساعده سفن
أجرة أو أساطيل، ومن المحتمل أن هذه السفن كانت مصرية يديرها بحَّارة مرتزقة من
الإغريق، وكان لزامًا على البطالمة محافظة على أملاكهم التي وراء البحار ومحافظة
على الإسكندرية وعلى تجارتهم الخارجية أن يكون لهم أسطول عظيم، فنجد أنه منذ بداية
العصر الهيلانستيكي كان الملوك قد أخذوا في المسابقة في التسليح البحري ليكون لهم
التفوق على مناهضيهم من الدول الأخرى المنافِسة لهم، والواقع أن المسابقة في
التسليح البحري بين «أنتيجونوس» وأسرة البطالمة كان يشبه التسليح البحري الذي نراه
بين الدول الكبرى في عصرنا الذي نعيش فيه، ولا أدل على ذلك من أنه كان قد أصدر
الأوامر ببناء سفن حربية من طراز جديد، والواقع أنه قد فاق كل ملوك عصره من حيث
أهمية التسليح البحري.
١٧
وكان بطليموس يملك سفينتين في كل منهما ثلاثون صفًّا من المُجدِّفين، هذا ويصف «كاليكسين»،
١٨ في كتابه الأول عن الإسكندرية سفينة تحتوي على أربعين صفًّا من
المجدفين، وهي التي أمر بطليموس «فليوباتور» ببنائها في مصنع السفن، ويبلغ طولها
حوالي ٢٨٠ ذراعًا، وكان تناسب أجزائها مدهشًا، وكانت مُزيَّنة بأشكال فخمة في
المقدمة ومزخرفة بأكاليل من أزهار مختلفة ألوانها، وهذه السفينة العظيمة كانت تشتمل
على أكثر من ثلاثة آلاف مُجدِّف وعلى حوالي ثلاثة آلاف جندي مقاتل، غير أن مصر في
هذا العهد كانت قد فقدت سيادتها البحرية، وعلى ذلك فإن مثل هذه السفينة الجبارة
لم
تكن إلا مجرد سفينة استعراض صنعها ملك مريض يحب العظمة والفخفخة الجوفاء.
والواقع أن كل ما يمكن معرفته عن الأسطول في عهد البطالمة هو ما أمكن جمعه من
تاريخ حروبهم كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ومع ذلك فإن هذا المصدر لا يكاد يسعفنا
كثيرًا،
١٩ ففي خلال القرن الثالث قبل الميلاد لم تقم أية حرب في الواقع إلا ظهرت
فيها السفن المصرية، وكانت وظيفتها حماية البحر في حين كانت الجيوش البرية تسير
على
السواحل، وكان أول من وضع هذه الخطة في تاريخ العالم أي السير بمحاذاة الشاطئ
لحماية الجيش البري ومعاونته هو تحتمس الثالث.
٢٠
وكان الأسطول الذي حارب به بطليموس الأول الملك «ديمتريوس» في موقعة «سلاميس»
(سلامين) في رودس يبلغ عدد سفنه مائتي سفينة، وقد هُزم بطليموس الأول في هذه
الموقعة هزيمة منكرة كما تحدثنا عن ذلك من قبل.
٢١
هذا ونلحظ فيما بعد عام ٢٩٦ق.م عندما كان «ديمتريوس» قد أوقع «أتيكا» في شَرَك
الحصار أرسل «بطليموس الأول» مائة وخمسين سفينة لتحتل «أثينا»،
٢٢ وليمهد سبيلًا لحمولة الغلال التي كانت ستعود على مصر تجاريًّا بفائدة
كبيرة، والقصة التي يقصها علينا «بلوتارخ» عن هذه المحاولة الفاشلة تقدم لنا مقدار
ما كان لحرية البحار من أهمية عظمى لإسعاد مصر وثرائها، ولا نزاع في أن أهمية
السيطرة البحرية على مستقبل مصر من الوجهة السياسية وكذلك من الوجهة التجارية
والاقتصادية كانت عظيمة، ولا ريب في أن أكبر نقطة ضعف عند المصريين من حيث التجارة
البحرية كانت منحصرة في سفنها، وقد كان أعداؤها يعرفون موطن الضعف هذا جيدًا، ومن
ثم نجد أن «أنتيجونوس» الذي كان يريد أن يجبر أهل «رودس» على الدخول معه في إبرام
معاهدة قد نصح سفنها التجارية التي كانت تقلع نحو مصر ألا تتَّجر معها كما أشرنا
إلى ذلك من قبل، ولكن «ديمتريوس» كان يُعدُّ أكبر عدو تهابه مصر في عرض البحار،
ففي
عام ٢٨٧ق.م قام ببناء أسطول يبلغ عدده خمسمائة سفينة في عدة أحواض خاصة ببناء السفن
في بلاد الإغريق وأوصى بألا تقل عدد السفن المصرية في جمالها أو طولها، يضاف إلى
ذلك أنها لم تكن مجهزة كالسفن المصرية بأجهزة لا فائدة منها، وأقل ما يقال عنها
إنها كانت أقل في سرعتها عن السفن المصرية وأكثر فائدة، وفوق ذلك لم تكن هناك قوة
بحرية لمقاومة خطر هذا الأسطول حتى لو عملت أساطيل «بطليموس» و«ليزيماكوس»
و«سيلوكوس» و«بيروس» مجتمعة، وكل هؤلاء كانوا يتنازعون السلطة على بحر «إيجه».
٢٣
هذا ولا بد أن نعلم أنه لحماية السيطرة المصرية التي فُرضت شيئًا فشيئًا على مدن
ساحل آسيا الصغرى كانت من عمل السياسة والأسطول؛ ففي أثناء انشغال «أنتيوكوس» في
حروب مع الغاليين كان على ملك مصر الذي صار مسيطرًا على البحار أن يمد يد المساعدة
لمدن الساحل وذلك لفائدته هو،
٢٤ وفي عام ٢٧٢ق.م ونعلم أن الأسطول المصري أثناء الحرب التي أعلنها
«أنتيوكوس» أن بطليموس الثاني بعد أن ضمن لنفسه فتح كل «ليسيا» و«كاريا» أقلع
بأسطوله إلى الساحل وحرض المدن الإغريقية الخائفة على الخروج على «أنتيوكوس» وقد
اتخذ جزيرة «ساموس» قاعدة له وبذلك هدد كل من «ميليتوس» و«أفيسوس»،
٢٥ هذا ونعرف أن بطليموس الثاني لضمان السيادة على الجزر ولحماية المدن
التي كان يسيطر عليها، وكذلك للمحافظة على لوبيا، وزع على إمبراطوريته فيما وراء
البحار أكثر من أربعمائة سفينة،
٢٦ ولكن على الرغم من المجهود الذي بذله بطليموس الثاني فإنه لم يكن
كافيًا لنيل غرضه، وذلك لأن سيادة البحار المصرية كانت قد تحطمت؛ فقد هزم
«أنتيجونوس» أسطولًا مصريًّا بالقرب من «كوس» في عام ٢٥٦ق.م، أكثر عددًا من أسطوله.
٢٧
وكانت هذه الواقعة هي نهاية السيادة البحرية المصرية في بحر إيجه،
٢٨ وبعد ذلك لم نسمع قط بهزائم تكبدتها مصر، وذلك على الرغم من أنه في
المناوشات التي سبقت موقعة «رفح» رأينا أن القائد المصري «نيكولاوس»
Nicolaos كان يساعده أسطول مؤلف من ثلاثين
سفينة مجهزة بكباري، هذا بالإضافة إلى أكثر من أربعمائة ناقلة، والواقع أن تاريخ
البحرية في عهد البطالمة يحتوي على النقاط الهامة في تاريخ مصر في عهد هذه الأسرة،
هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن مصر كانت تراقب في هذه الفترة البحر الأحمر؛ فقد كانت
حراسته موكلة إلى قائد إقليم طيبة، وهو الذي كان عليه خلافًا لذلك حراسةُ البحر
الهندي، ويرجع ذلك إلى «أيودوكوس» أحد أهالي «سيزيكوس»
Eudoxus
Cyzicus الجغرافي الذي جاء إلى مصر من وطنه وسكن الإسكندرية
وقد استخدمه بطليموس أيرجيتيس وزوجه كليوبترا في سياحات إلى الهند ولكن فيما بعد
صرف كل متاعه في عهد «بطليموس الثامن سوتر الثاني
لاتيروس»
Lathyrus، وقد انحدر في سياحته في البحر الأحمر حتى «جاديس»
Gades، وقد حاول فيما بعد أن يدور حول أفريقيا من
الجهة المقابلة ولكنه لم يفلح،
٢٩ ومن المحتمل أنه عاش حتى عام ١٣٠ق.م.
والواقع أن الأسطول المصري كان لازمًا للبطالمة بسبب ما كانت تحتاج إليه البلاد
من وقاية للمحافظة على ممتلكاتها خارج مصر، هذا بالإضافة لما كانت في حاجة إليه
من
خشب وقطران وزفت وحديد، ومن أجل ذلك نفهم لماذا كان يُحتم بطليموس الثاني فرض توريد
سفن على مدن آسيا، وهذا هو ما استخلصناه من وثيقة ضمن أوراق زينون، وهي توضح لنا
بجلاء فرض توريد سفينة على مدينة «هليكارناس» لملك مصر،
٣٠ على أنه ليس من الغريب أن نجد البطالمة على اتصال ببلاد شرقي البحر
الأبيض المتوسط؛ لأن ذلك ليس بالأمر المستحدث فقد دلت البحوث الأثرية على أن مصر
كانت لها علاقة بجيرانها الآسيويين منذ عهد ما قبل التاريخ، وبعبارة أصح منذ العهد
الجرزي.
٣١
وفي الأزمان التاريخية يمكننا أن نعيد بناء السياسة المصرية للعلاقات المصرية مع
«آسيا» على الأقل في خطوطها العريضة، وذلك على الرغم من أن المصادر التي في
متناولنا ليست جلية تمامًا من حيث التفضيلات الفنية، ومن ثم لم يظهر لنا بصورة
واضحة إلى عهد الدولة الحديثة إلى أي حد لعب الأسطول المصري دورًا حاسمًا في نشاط
مصر البحري.
والباحث في تاريخ مصر القديمة يجد أن السياسة المصرية في آسيا كان مرماها
مزدوجًا، وأعني بذلك تأمين الحدود المصرية من جهة والحصول على المحاصيل الآسيوية
(سوريا) من جهة أخرى، فنجد في العلاقات التي كانت قائمة في سوريا أن المصالح
التجارية كانت أكثر أهمية من غيرها، في حين نجد أن فلسطين كانت أهميتها لمصر تنحصر
بوجه خاص في موقعها الاستراتيجي من الوجهة الحربية، وقد كانت أهمية بلاد آسيا لا
تَقِلُّ في نظر مصر عن أهمية بلاد السودان، ومن أجل ذلك كان يقيم في الأخيرة نائب
ملك مصر الذي كان يسمى ابن الملك ونائب الملك في بلاد كوش، غير أن سيطرة مصر على
الجزء الآسيوي من إمبراطوريتها عندما كانت تُفقد بسبب تراخي الحاكم هناك يُعرِّض
مصر إلى خطر عظيم، وهذا هو نفس ما وجدناه في عهد البطالمة الأول، ويُلحظ أنه كانت
هناك مراقبة ملحوظة في فلسطين كما كانت توجد في سوريا في فترات، وهذه المراقبة كانت
تتمثل في إقامة معاقل أو حاميات في البلاد الهامة،
٣٢ وذلك بمساعدة رؤساء المدن الذين نصبهم فرعون؛ لأنهم كانوا مرتبطين معه
بالمواثيق والهبات التي كان يقدمها لهم، وكذلك بالرهائن التي كانت في الواقع من
فائدة أبناء هؤلاء الحكام،
٣٣ وهذا هو نفس ما نجده في عهد البطالمة، ومما تجدر ملاحظته هنا أنه لم
تدخل في هذه الأصقاع الآسيوية أية إدارة مصرية خالصة بالمعنى الذي نفهمه
الآن.
هذا وكان المصريون مهتمين بالحصول على الخشب الذي كان مصدره بلاد «لبنان» وبخاصة
من بلدة «ببلوص» الواقعة على الساحل، وكانت أحسن ميناء لتصدير الخشب في هذا
الإقليم؛ فقد كان لها نشاط تجاري عظيم مع مصر يرجع إلى العهد الطيني، كما تدل على
ذلك البراهين الأثرية،
٣٤ ولا نزاع في أن هذه المواصلات كانت عن طريق البحر، وقد جاء على حجر
«بلرم» أن الملك «سنفرو» قد أحضر أربعين سفينة محملة بخشب «عش» من هذه الجهة،
٣٥ هذا ولدينا رأس بلْطَة للملك «خوفو» أو «سحورع» وُجد في «سوريا» جاء
عليه اسم بحَّار مصري،
٣٦ وفضلًا عن ذلك نجد سفنًا مصرية مصورة في معبد سحورع، ولا نزاع في أنها
كانت قادمة إلى مصر من السواحل السورية،
٣٧ وأهمية هذه التجارة البحرية بالنسبة لجبيل يمكن أن تُفهم من أن السفن
التي كانت تمخر عُباب البحر في الرحلات إلى بلاد «بنت» كانت تسمى غالبًا سفن «جبيل»
نسبة إلى البلدة التي صُنعت فيها، هذا ونجد في تحذير حكيم مصري
٣٨ الفقرة الشهيرة التي تشير إلى انقطاع هذه التجارة في العصر المتوسط
الأول من تاريخ مصر، وهو العهد الذي قامت فيه أول ثورة اجتماعية في تاريخ البشرية
حيث يقول: إن القوم لا يسيحون شمالًا إلى «ببلوص» (جبيل) اليوم فماذا سنعمل من أجل
خشب الصنوبر (عش) وهو الذي يُحنط به الرؤساء حتى «كفتيو» (أي كريت)؟
والواقع أنه كان لا بد لتيسير وجود المواصلات النشطة بين مصر و«ببلوص» أن يكون
هناك اتصال عن طريق البحر؛ لأنه كان من الصعب أن تُسلَك الطريق برًّا بوساطة
«فلسطين»، فكان لا بد للوصول إلى هذه الجهة من وجود سيطرة قوية على كل الساحل حتى
«ببلوص»، وذلك لأن طريق البر كانت وعرة لقلة الماء فيها، هذا فضلًا عن وعورة الشعاب
والممرات الجبلية التي تعترض الإنسان في سيره حتى يصل إلى جبيل أو غيرها من البلدان.
٣٩ ولا نزاع في أن الأسطول المصري كان من حين لآخر على الأقل يُستعمَل في
الحروب في فلسطين لتجنب وعثاء السير على الأقدام في الصحراء، ولا أدل على ذلك مما
نقرؤه في النقوش التي تركها لنا القائد «وني» وهي التي دوَّنها على لوحته المشهورة،
ويرجع عهدها إلى الأسرة الخامسة المصرية؛ فقد ذكر لنا أن جنوده المصريين قد أُرسلوا
إلى ساحل فلسطين في سفن خاصة للقضاء على عصابات هناك كما أشير إلى ذلك من قبل، هذا
ولا نعرف إلا القليل عن التفاصيل الخاصة بحروب الدولة الوسطى المصرية في «سوريا»،
ومن أجل ذلك لم يمكن معرفة الدور الذي قام به الأسطول المصري فيها، وفي خلال العصر
المتوسط الثاني يمكننا أن نرى من البراهين الأثرية وبخاصة من أواني «تل اليهودية»
العظيمة الانتشار في ذلك الوقت أنه كانت هناك اتصالات غاية في النشاط بين مصر
وآسيا، ولكن دون أن نعرف أي شيء عن التفاصيل الفنية، وهذا ينطبق كذلك على النشاط
المصري بين البلدين في خلال الجزء الأول من الأسرة الثامنة عشرة في عهد ملوكها
الأُوَل؛ فقد ذكرت لنا النقوش أن ملوك مصر كانوا نشطين في آسيا وأن «تحتمس الأول»
كان في استطاعته أن يصل إلى نهر الفرات، وكان رئيس المُجدِّفين «أحمس بن أبانا»
قد
اشترك في الحملة التي قام بها «تحتمس الأول» على «نهرين»، غير أنه لا يكاد يكون
لنا
الحق في أن نظن أن الأسطول قد قام بدور حاسم في هذه الحملة، والظاهر أنها كانت مجرد
غارة عابرة أكثر منها محاولة جدية قُصد منها جعل كل هذا الإقليم تحت سلطان مصر،
بل
كان المقصود على ما يظهر مطاردة «الهكسوس» إلى أقصى حد ممكن لإبعادهم جملة عن
الديار المصرية، وعلى أية حال فإنه كان على «تحتمس الثالث» أن يبتدئ فتح هذه البلاد
من جديد، وذلك لقلة نشاط «حتشبسوت» في العمليات الحربية بوجه عام.
وحملات «تحتمس الثالث» معروفة لنا جيدًا ولا داعي لتحليلها هنا بالتفصيل ويكفي أن
نقول إنه أولًا هدَّأ الأحوال في فلسطين وعلى ساحل سوريا، ومن هذه القاعدة نجح في
تخريب بلدة «قادش» التي كانت من أشد المدن مقاومة له، ثم ضرب قوم «ميتني» ضربة
قاسية، وكانت هذه البلاد أقوى أعدائه وأخطرهم عليه، والواقع أنه خرب بلادهم على
كلا
جانبَيْ نهر الفرات، ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن هذا النجاح في
شمالي سوريا يرجع بوجه خاص إلى استراتيجية جديدة أدخلت في عام ٣٠ من حكم هذا
الفرعون، والواقع أن الحملة التي قام بها تحتمس الثالث في هذا العام وهي التي انتهت
بتخريب «قادش» يُعتقد أنها أول حملة استُعملت فيها السفن لتنقل جنود الجيش، ومن
ثم
قد تكون هذه أول عملية بحرية عُرفت في تاريخ العالم أجمع، ومع ذلك فإن البراهين
المباشرة على ذلك قليلة لدينا، فقد أشير إلى هذه الحملة في تواريخ تحتمس الثالث
بكلمة «حملة»، وقد خُصصت هذه الكلمة بصورة سفينة مما يدل على أن تحتمس قد قام بهذه
الحملة عن طريق البحر إلى سوريا، ومن ثم بدأت قوة مصر البحرية تزداد اتصالًا ببلاد
فلسطين حتى نهاية الأسرة الثامنة عشرة إلى أن جاء عهد إخناتون ففقدت في تلك الفترة
سلطانها البحري كما فقدت كل ممتلكاتها في الجزء الشمالي من إمبراطوريتها الآسيوية،
وقد حل محلها السوريون، وعندما أخذت مصر تُفيق من سباتها كان الوقت متأخرًا لأن
تعود إلى مصر سيادتها البحرية من جديد؛ لأن المواقع الحربية كانت تدور في فلسطين
وجنوبي سوريا، ولم يكن هناك أي أمل في استرجاع المديريات الشمالية التي فتحها تحتمس
الثالث وأخلافه، كما أن الأسطول الذي كان يُستعمل فيما بعد لنقل الجنود ومُعَدَّات
الحرب لم يكن ضروريًّا كما كانت الحال من قبل، وذلك لأنه في الحروب التي جاءت بعد
ذلك لم نسمع عنه أبدًا فقد سار «سيتي الأول» بجيشه مخترقًا الصحراء في فلسطين،
والظاهر كذلك أن «رعمسيس الثاني» لم يستعمل أسطولًا لنقل جنوده عندما شن الحرب على
«الخيتا»، هذا إلى أن «رعمسيس الثالث» قد قابل سفن أقوام البحر عند مصب النيل وقضى
عليهم بمساعدة سفن نيلية ومعاضدة الرماة الذين كان يرمون سفن العدو من الشاطئ بالنبال،
٤٠ وأخيرًا يُفهم من قصة «ونآمون» الشهيرة أن قوة مصر البحرية التي كانت
في يوم من الأيام سيدة الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط قد قُضِيَ عليها قضاء
مُبرَمًا.
٤١
وقد ظلت الحال كذلك إلى أن جاء عهد الأسرة السادسة والعشرين وهو عصر النهضة
المصرية، وفيه أخذت مصر تتصل ببلاد الإغريق اتصالًا وثيقًا وبدأت تستخدم الجنود
الإغريق والبحارة الإغريق في حروبها برًّا وبحرًا مع بابل ثم فارس، وقد اضطرت
الأحوال العالمية الملك «نيكاو» ثاني ملوك الأسرة السادسة والعشرين (٦٠٩–٥٩٤ق.م)
أن
يعزز قوة بلاده البحرية في البحر الأبيض المتوسط وكذلك في البحر الأحمر، وذلك ببناء
سفن من ذوات ثلاثة الأسطح على كل سطح منها صف من المُجدِّفين، وذلك على غرار السفن
الإغريقية، وقد لوحظ أنه في السنين الأولى من حكمه قد بدأ بداية حسنة في تقوية
أسطوله لدرجة أن الفينيقيين المعروفين وقتئذ بمهارتهم البحرية قد أصبحوا تحت
سلطانه، هذا إلى أنه قد عمل على إعادة الطرق المائية التي كانت تربط بين البحرين
الأبيض المتوسط والأحمر، وهي التي على أرجح الأقوال كانت موجودة من قبل منذ الأسرة
الثانية عشرة على الأقل، وهي عبارة عن قناة تأخذ ماءها من فرع النيل البلوزي الذي
يصب في البحر الأبيض ويوصل إلى البحر الأحمر،
٤٢ غير أنه لسوء الحظ لم يتم حفر هذه القناة التي توصل بين البحرين، وعلى
أية حال فإن الأسطول الذي بناه «نيكاو الثاني» كان النواة الأولى في تجديد مجد مصر
البحري في خلال الأسرة السادسة والعشرين، ونجد كذلك أنه بعد أن استولى الفرس على
مصر ثم جُلُوا عنها أخذت مصر تعيد بناء أسطولها الذي حاربت به الفرس وساعدت به
الإغريق على قهر الفرس، ولا غرابة إذن أن نجد أن «بطليموس الأول» أخذ في إعادة بناء
أسطول مصري ليتسلط به على البلاد الآسيوية التي كان لا غنى لمصر عنها لحفظ كيانها
السياسي والإبقاء على حدودها سليمة ومد تجارتها في كل أنحاء شرقي البحر الأبيض
المتوسط والهند وجنوب أفريقيا كما فصلنا في ذلك القول فيما سبق.