النظام الاقتصادي في عهد بطليموس الثاني
تحدثنا فيما سبق عن الحكم في عهد بطليموس الثاني من حيث الملكية والجيش والأسطول وأقسام البلاد الجغرافية وما طرأ عليها من تغيير ونظام الحكم في المقاطعات وفي المديريات التي كان يسيطر عليها البطالمة خارج مصر وعلاقته بها وعن الوزير والمهام التي كان يقوم بها، وأخيرًا تحدثنا عن النظم القضائية الإغريقية، والآن يجدر بنا أن نتحدث عن النظام الاقتصادي نفسه الذي كانت تسير عليه البلاد وأساسه تربة مصر التي كانت ملكًا لبطليموس الذي كان في تصرفاته من حيث ملكية الأرض لا يختلف عن تصرفات الفراعنة طوال مدة حكمهم لأرض الكنانة من أول «مينا» مؤسس المملكة المصرية المتحدة حتى نقطانب الثاني آخر من اعتلى عرش الفراعنة، ولما كانت مصر تُعَدُّ دائمًا في الأزمان الغابرة بلدًا زراعيًّا لخصب تربتها فإن جُلَّ هَمِّ بطليموس الثاني الحصول من تربة أرضها على أكبر محصول ممكن، فكان يعطي جزءًا من أراضي مصر لآخرين لزرعه ويقوم هو بزرع جزء كبير لحسابه الخاص، ولا سيما في أرض الدلتا والفيوم التي قام بإصلاح مساحة عظيمة منها بتجفيف جزء كبير من بحيرة قارون وكانت هذه الأراضي في يده فعلًا يقوم بتثميرها له الفلاحون المصريون الذين دُرِّبوا على هذا النوع من العمل منذ أزمان سحيقة، وهذه الأراضي كان يُطلق عليها أراضي الملك كما أن الفلاحين الذين كانوا يقومون بفلاحة الأرض وزرعها يلقبون بالفلاحين الملكيين.
ومما سبق نفهم أن أرض مصر كانت على الأقل نظريًّا ملك بطليموس الثاني كما كانت ملك كل فرعون في العهود القديمة، وكان الفرعون أو بطليموس في كلتا الحالين يمنح آخرين حق القيام بإجراء تجارب معينة فيها، ويمكن القول بصورة عامة إن هذا التصرف كان يتخذ ثلاث طرق رئيسية:
(١) كانت توجد معاملات يقبض بطليموس على زمامها ويدير شئونها هو بنفسه وهذا كان نظام الاحتكار المشهور. (٢) وهناك معاملات أخرى كان له فيها قسط فقط؛ أي إنه كان يأخذ قسطًا من أرباحها ويسمح لأفراد رعيته بأن يأخذوا الباقي من إنتاجها. (٣) وأخيرًا كانت هناك عمليات ليس للملك فيها أي قسط من الربح، ولكن كان له مبلغ معين سواء أكان ذلك جزءًا من المحصول أم دفع مبلغ للترخيص بإجراء أشغال، وهذا يعني أن الملك قد باع لرعاياه حق السماح بالقيام بعمل أو مصلحة.
أما حرية التجارة أو القيام بمزاولة عمل حر فلم يكن على ما يظهر من الأمور المعروفة في مصر البطلمية إلا في ثلاث من المدن الإغريقية وهي «نقراش» و«الإسكندرية»، «بطليمايس»، وهي التي كانت تعتبر مدنًا حرة على غرار المدن الإغريقية إلى حد معين كما شرحنا ذلك من قبل، ومن المحتمل أن تجار التجزئة لم يكونوا إلا عُملاء للحكومة في توزيع السلع وبخاصة في السلع المحتكَرة، هذا وقد كان الفرد يدفع للحكومة ضريبة للحصول على امتياز كسب اللقمة، حقًّا كلنا يدفع ضرائب، ولكن في مصر في عهد البطالمة كان القوم يدفعون ضرائب فادحة تتعدى حدود الضرائب المعقولة، ولم يشذ عن هذا النظام إلا المدن الثلاث السالفة الذكر على ما يُظَنُّ، فقد كانت الأرض التي يستغلونها ملكًا لهم، وكذلك يحتمل أنه كان لهم حق التجارة الحرة بالتجزئة، ومن الجائز أنه كانت في الإسكندرية جمعية تصدير السلع تتمتع ببعض حقوق وحرية خاصة، وذلك لأنه ليس في استطاعة الإنسان أن يفهم كيف كانت الصادرات تسير بغير هذه الطريقة، والواقع أن الحكومة كانت تراقب كل شيء خلافًا لما كانت تتمتع به هذه المدن، وتدل الظواهر على وجود ثلاثة أنظمة كانت تتبعها الحكومة لجمع دخل البلاد؛ وهي، أولًا: مبالغ معينة تدفع للحكومة. وثانيًا: نصيب من أرباح الأفراد يستولي عليه التاج. ثالثًا: دخل ما ينتج من الاحتكار الحكومي لبعض السلع. وكل هذه الأمور كانت تسير جنبًا لجنب فيما يخص ثلاثة أنواع الأغذية الرئيسية وهي القمح والنبيذ والزيت.
ويمكن أن نفحص عن هذه المواد الثلاث لنرى ماذا كان يفعل بطليموس الثاني ومن جاء بعده وسار على منهاجه لجمع المال بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل:
ولكن نجد في الأرض التي كان يقوم الملك بزرعها لحسابه تجديدًا مثيرًا في نصيب الملك فقد كانت العادة منذ أقدم العهود الفرعونية والآسيوية أن يستولي الملك على عُشر المحصول، وهذا كان يعني أنه كان شريكًا أمينًا مع فلاحيه؛ فقد كان ما يأخذه من المحصول لا يزيد عن كسر بسيط وهو العُشر، ومن ثم فإنه كان في السنة التي ينقص فيها المحصول بسبب الآفات أو قلة الماء كان يشارك المزارع في النقص الذي كان يلحق بالأرض التي يزرعها، ولكن نجد أن بطليموس الثاني كان في عهده لا يتحمل أية خسارة من ذلك، فقد كان يأخذ من كل فلاح مقدارًا مُعَيَّنًا من القمح سواء كان المحصول حسنًا أم سيئًا، وعلى ذلك كان الفلاح لا يأخذ أي شيء من محصول أرضه إلا بعد أن يوفي بطليموس نصيبه المحدد، فكان على الفلاح أن ينقل نصيب الملك من جرن القرية إلى مخازن بطليموس، وهناك كان يُوزَن ويتسلم به إيصالًا من الموظفين المختصين، ولا نزاع في أن هذا التغير عما كانت عليه الحال في عهد الفراعنة يُعَدُّ خَرْقًا فظيعًا لما تعوده الفلاح وإجحافًا بحقه، وفي الوقت نفسه كان ربحًا عظيمًا للملك، وقد كان القمح يؤخذ من جرن القرية إلى جرن المقاطعة ثم يُشحن في سفن تسير في النيل إلى مخازن الملك في الإسكندرية ليكون جاهزًا للتصدير، وكان بطليموس الثاني أكبر مُصَدِّر للقمح من بين تجار مصر، هذا وقد حفظ لنفسه كذلك الحق في شراء الفائض من الغلال في البلاد بالثمن الذي كان يحدده هو.
وكان بطليموس الثاني يصدر أمرًا سنويًّا بتحديد مساحة الأرض التي تُزرع قمحًا من الإسكندرية، وعندما كانت تصل القائمة بمقدار الأرض التي كانت ستنبت القمح من الإسكندرية إلى عاصمة المقاطعة كان يبتدئ عمال الملك في توزيع كمية البذور التي ستزرعها كل قرية، والظاهر أن هذا الإجراء كان خاصًّا فقط بأراضي التاج أو الأراضي التي كانت تحت إشرافه كأراضي المعابد، أما الأراضي الأخرى مثل أراضي الجنود المرتزقين فكان مُلَّاكها يتصرفون في زرعها حسبما يشاءون، وذلك في عهد بطليموس الثاني.
(١) موارد الضرائب التي يُشَدِّد عليها الاحتكار
(١-١) احتكار الزيت
هذا وكانت الضريبة المفروضة على «حب الملوك» يدفعها العميل الذي كان يؤجر ضرائب مقاطعة وادي النطرون، ومن ثم نرى أن إدارة الوزير كانت تنظم بين المقاطعات التبادل في المواد الأولية فتمد المدن والأقاليم الفقيرة بما تحتاج إليه، وذلك بأن تفرض على المقاطعات الخصبة مقادير معينة من الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب، هذا ونجد خلافًا للمقاطعة الساوية أن المقاطعة اللوبية (بروبوزيت المقاطعة الرابعة من مقاطعات الوجه البحري) والمقاطعة السمنودية وإقليم طيبة كلها كانت تُزرع نبات «حب الملوك» لتموين الإسكندرية، وكانت تمون «منف» مقاطعة الفيوم، في حين أن مقاطعة وادي النطرون وكذلك المقاطعات غير الصالحة لإنتاج هذا الصنف كانت تأخذ ما تحتاج إليه من جيرانها الغنية في زراعته، وعلى أية حال فإنه إذا كان هناك نظام يسيطر على توزيع مادة أولية في كل أنحاء البلاد فإنه لم تكن مصر بل كانت المقاطعة هي التي تؤلف الكيان الاقتصادي، وذلك لأنه لم تكن تجمع في كل مصر مخازن موحدة عامة لكل محاصيل البلاد، وذلك لأن الشيء المثالي في هذا الصدد كان على العكس هو أن كل مقاطعة كانت تعمل على أن تكفي نفسها بنفسها في حدود مواردها، وأن تستورد أو تصدر قليلًا بقدر المستطاع، وكانت الضمانات أو الالتزامات لتأجير الضرائب تُباع في كل مقاطعة، ولا نزاع في أنه لم يكن في مصر أصحاب رءوس أموال كبيرة من أولئك الذين كانت عندهم القدرة المالية لشراء إيجار كل الأراضي المصرية الخاصة بالاحتكار لصناعة الزيت، وإذا كان «بطليموس الثاني» قد أدار على الفور زرع أراضي هذا النوع من الاحتكار بدلًا من تأجيرها فإنه بذلك كان في مقدوره أن يكون في مصر وحدة اقتصادية ويحقق نظام المركزية التام، ولكن الاتِّجار من جانب الملك كان يكشف عن قصدين يرمي إليهما؛ أولهما: أنه يؤكد ضمانات للدخل. وثانيهما: ألا يربط نفسه برءوس أموال في استغلال الأرض. وهذا الحذر المزدوج — وقد كان بلا شك أمرًا ضروريًّا — يسيطر كما سنرى على طرق إدارة الجزء الأعظم من الدخل، وسنفسر هنا كيف كان يتفق استقلال المقاطعات مع وجود الحكومة المركزية.
هذا وقد ثبتت مسئولية الموظفين بصورة أوضح في قانون الإيرادات فنجد فيه أن حاكم المقاطعة وحاكم المركز ومعهما وكيل الخراج وسكرتيره والمراقب كانوا يُطلعون النائب على زراعة الأرض المستأجرة فإذا لم يجدوا بعد مساحة الأرض أن عدد الأرورات المحدد لهم يبذر فإنه كان على كل من حاكم المقاطعة وحاكم المركز والمحاسب والمراقب أن يدفع غرامة على غلطته للخزانة الملكية قدرها تالنتان، كما كان عليه أن يدفع لأصحاب الضمان غرامة مشروطة قيمتها، وكذلك كان هؤلاء الموظفون مسئولين عما يجب توريده لمؤجري الإقطاعات التي فيها نقص في التوريد، هذا وكانت البذور المحفوظة في مخازن الدولة تباع لموظف خاص بتوزيع البذور سواء أكان حاكم مقاطعة أم حاكم مركز، وكان يدفع ثمنها من النقود التي دفعها له السكرتير المالي، وكانت توزَّع بعد ذلك على الزُّرَّاع قبل ميعاد الحصاد بستين يومًا، وإذا كان موظف التوزيع لم يقم بواجبه لدرجة أن الزراع لم يبذروا المساحة المحددة على حسب القانون فإنه كان يلزم بأن يدفع للمؤجر الغرامة المقررة، ويكون له الحق في الرجوع على الزراع إذا كانوا قد عصوا أوامره، وعلى هذا الوضع كان ينظم بين الموظف والفلاح اختيار المزروعات، ويرجع الفضل في ذلك إلى نظام الإقراض على البذور التي كانت توزع قروضًا.
وكان الأفراد المُعْفَوْنَ من الضرائب وكذلك ملاك الأراضي والقرى بوصفها ضياعًا، وأولئك الذين كان لهم حق التمتع بالأرض بوصفها هبة كل هؤلاء جميعًا كان لهم الحق في استعمال البذور التي احتفظوا بها عندهم من المحصول السابق.
وعندما يقارب المحصول النضج يعلن الزراع رجال إدارة الملك سواء أكان حاكم المقاطعة أم حاكم المركز أم صرَّاف الخزينة، وهؤلاء كانوا يحضرون إلى الحقول مع مؤجر الأرض (الضامن)، ويأخذون في تقدير المحصول، وكان كل المزارعين وهم مزارعو أرض الملك وغيرهم يُقدِّرون المحصول ويكتبون محضرًا بذلك مع الملتزم ويختمونه، أما عن مزارعي الملك فكانوا يعلنون كتابة بعد حلف اليمين كمية الحبوب من كل نوع بذروه والقيمة التي يساويها، ثم يختمون هذا الإعلان الذي يضع عليه مندوب عن حاكم المقاطعة أو حاكم المركز ختمه، وبعد الانتهاء من ذلك كان يباع المحصول للملتزمين بأسعار على حسب التعريفة الموضوعة لذلك، وكان محرمًا على المزارعين بيع الحبوب الدهنية لأي شخص آخر خلاف الملتزم، وكانوا يدفعون عينًا ضريبة تساوي ربع ثمن البيع، ومما يجدر ذكره أن هذه الضريبة لم تكن تحصَّل على الثمار الدهنية التي كانت تورَّد للمقاطعات التي كان محصولها لا يكفيها.
ولا نزاع في أن المراقبة الشديدة التي وصفناها فيما سبق لم يكن لها أي غرض إلا المحافظة على الاحتكار المطلق لصناعة الزيت والاتِّجار فيه؛ إذ كان المقصود من كل ذلك العمل على أن تصادَر الحبوب الدهنية التي أُخذت خلسة وألَّا تُستعمل خفية، وللوصول إلى ذلك كان يوضع تصدير الحبوب الدهنية تحت مراقبة يشرف عليها حاكم القرية فكانت الحبوب لا تخرج من القرية بأية كمية كانت من مادة أولية دون أن تكون قد سُلمت له من مكتب الملتزمين وعمال الملك بمستند عن كل ما ورَّده كل مزارع، وفي حالة وقوع جزاء فإن حاكم القرية كان يدفع غرامة قدرها ألف درخمة للخزانة الملكية كما كان عليه أن يدفع للملتزم خمسة أضعاف الخسارة التي تصيبه.
صناعة الزيت
وكانت آلات صنع الزيت مميزة بنقش تُعرف به، والظاهر أن هذا النقش يعد بمثابة تصريح يضعه الصراف وعامل مالية الملك على الآلة يشاركهما في ذلك المراقب، ومن المحتمل أن الملتزم كان يشاركهم في ذلك؛ لأن هؤلاء كما سنرى بعدُ هُمُ الذين كانوا يختمون الآلات التي تصنع الزيت وهذه المصانع كانت تورَّد على حساب الأفراد، غير أنه كان لا بد من طابع الملك عليها، ومن ثم نرى أن مراقبة الملك كانت قد أُدخلت في اقتصاد منظم، فكان الملك له حق ملكية الجهاز الصناعي في مصر دون أن يستولي عليه أو يدفع ثمنه.
ومما يلفت النظر أن الملك كان يعامل الإغريق الذين من طبقة رفيعة، وبخاصة الذين يساعدونه في تنفيذ مشروعاته وأصحاب الضياع معاملة أخرى، وذلك أنه كان قد وضع اتفاقًا بينه وبينهم، فإذا كانت مراقبة الملك تقف عند حدود أراضيهم فإنهم مع ذلك كانوا لا يصنعون فيها زيتًا، غير أن هذا الإجراء الأخير قد عُدل بعد زمن قصير جدًّا، ومهما يكن من أمر فإنه حتى لو كان نفس النظام المتَّبع في المعابد قد أصبح يشبه الذي في الضياع من حيث الإعفاء، فإن الملك كان لا يعطي المستفيدين من الإغريق بمقدار ما كان يعطي الكهنة؛ إذ في الواقع كان يهبهم امتيازات ضيئلة لا تؤثر بشيء في مراقبة الملك المطلقة.
ومما لا نزاع فيه أن كل المصانع والآلات التي تصنع الزيت كانت ملك الآلهة في المعابد، وكان استيلاء الملك عليها يعتبر مراقبة، أما المصانع الأخرى فكانت طوال مدة قيامها بصنع الزيت تحت مراقبة السكرتير المالي والمراقب والملتزم وكانت سلطتهم في ذلك تحفظية، والواقع أن هؤلاء العمال لم يكونوا بعيدين عن هذه المصانع، ولم تكن حقوق الملتزم إلا لمدة سنتين، وليس له من الحقوق على المصانع إلا حق الاستعمال، والآن يتساءل المرء هل كان للملك حق الملكية على هذه المعاصر الملكية حيث كانت تنقل الآلات التي كان يملكها الأفراد أو كان يؤجرها منهم فقط كان يؤجرها منهم فقط فيسخرها لنفسه؟ والواقع أنه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بموازنة ذلك بمصانع النسيج التي ظلت ملك النساجين، غير أن هذه كانت طريقة غير مؤكدة تمامًا، وعلى ذلك يجب علينا منذ الآن أن نرفض فهم أساس قانون للحق الذي كان يستعمله الملك في صناعة الزيت وهو حق المراقبة أو حق الملكية.
ننتقل الآن إلى نظام العمال؛ كان على السكرتير المالي والمراقب والملتزم ألا يسمحوا للعمال المعينين للعمل في كل مقاطعة بأن ينتقلوا من مقاطعة إلى مقاطعة أخرى، وذلك لمصلحة الملتزم والسكرتير المالي والمراقب، وكان محظورًا على أي فرد أن يجمع عمالًا، وكل شخص يجمع عمالًا عن قصد أو يمتنع عن تسليمهم متحديًا أمرًا صدر بذلك، فإنه كان يدفع غرامة قدرها ثلاثة آلاف درخمة عن كل عامل، كما أنه يصبح عرضة للقبض عليه وسيكون للملتزمين والكاتب الذي ينوب عن السكرتير المالي والمراقب حق التسلط على كل عمال مصانع الزيت في المقاطعة، وكذلك على المصانع نفسها مع كل معداتها ويختمون الآلات في خلال فصل العطلة.
وارتباط العمال بالمقاطعة يجيبنا عن الأمر الأول، فهل في الاستطاعة توحيده بمؤسسة معروفة؟
وقد اتجه التفكير إلى نوع العمال المستديمين؛ أي الذين كانوا مرتبطين بالأرض التي يعملون فيها، ولكن نظام العمال المستديمين نظام متغير وغاية في التعقيد إلى درجة أن مثل هذه المقارنة لا تؤدي إلى أية نتيجة دقيقة، والواقع أننا لا نعلم إذا كانت حالة عامل مصنع الزيت من الحالات الدائمة أو الوراثية، كما لا نعلم إلى أي حد كان الفرد مضطرًّا لمزاولة هذه المهنة، وكذلك لا ينبغي أن نفكر في أنها كانت سخرة، وذلك لأن المهنة كانت تتطلب كفايات خاصة.
والواقع أنه كان يوجد في العقد شرط جزائي يُطَبَّق ينص على كل من تخلف عن العمل الذي اتفق على مزاولته.
تجارة الزيت
وبعد الانتهاء من عصر الزيت كان لا بد أن يصرَف، وفي هذا الصدد تقول قوانين الدخل: كان على السكرتير المالي والمراقب أن يقوما بعمل قائمة بأسماء التجار المحليين وتجار التجزئة، وكان الفرد الذي يستمد منه السكرتير المالي والمراقب سلطانه يقوم بعمل قائمة بالتجار المحليين وتجار التجزئة وباتفاق مع وكلاء المؤسسة يعيَّن نوع زيت السمسم والخرْوع الذي يجب تسلمه للبيع اليومي، وفي الإسكندرية كانوا يبرمون اتفاقًا مع كبار التجار، يضاف إلى ذلك أنهم كانوا ينصون في عقد كل اتفاق من هذه الاتفاقات على تجار الأقاليم الذين يتعاملون كل شهر مع تجار الإسكندرية، وكانت الكمية التي تخصَّص لكل فرد تجهَّز قبل تسلمها بعشرة أيام، وكانت النتيجة تُدَوَّن وتُعلن في خلال عشرة الأيام هذه في عاصمة المقاطعة، وكذلك في القرية، كما كانوا يحررونها في عقد.
هذا وتكشف لنا العوامل التي رفعت سعر الزيوت الرديئة النوع خمسين في المائة على مقدار سيطرة الملك على هذه التجارة؛ فقد كان هو في الواقع المنتج الوحيد والصانع الوحيد والبائع الوحيد لها وكان هو المسيطر على كل العناصر الخاصة بهذه التجارة ما عدَا القوة الشرائية لزبائنه، فقد كانت خارجة عن إرادته وكان الملتزم هو المعرَّض للتأثر بهذا العامل.
والواقع أن ثمن الزيت الذي فُرض بهذه الصورة المرتفعة كان يفوق كثيرًا جدًّا الثمن الذي كان متداولًا في العالم الإغريقي، وتدل وثائق «ديلوس» في العصر الذي نُشرت فيه «قوانين الإيرادات» على أثمان تترواح ما بين ١٧ و٢١ درخمة أتيكي عن كل متريت، ومن ذلك نفهم أن سعر الزيت في مصر كان أعلى بكثير عنه في غيرها، ومن ثم كان لا بد من حماية الأسعار من المنافسة الأجنبية، وكذلك أصدر بطليموس الثاني منشورًا بألا يُسمَح لأي سبب من الأسباب توريد زيت من الإسكندرية إلا إذا كان للمخازن الملكية، وكل من يستورد كمية زيت من الإسكندرية أكثر مما يلزم لاستعمال مدة ثلاثة أيام يُستولَى على بضائعهم ويدفعون فضلًا عن ذلك غرامة قدرها مائة درخمة عن كل متريت، وكذلك كان محرمًا استيراد زيوت لمصر بقصد البيع من الإسكندرية و«بلوز» أو من أي مكان، وكل من فعل ذلك كان يعاقب بغرامات مماثلة، أما الزيت الذي كان للاستعمال الشخصي وهو المجلوب من الإسكندرية إلى مصر فكان لا بد من إعلانه في الإسكندرية، وكان يُدفع عنه ضريبة على حساب اثنتي عشرة درخمة عن كل «متريت»، ولا بد من أخذ إيصال يدل على دفع الضريبة، وكان نفس هذا الإجراء يُتخذ لواردات الزيت التي لم يكن الغرض منها التجارة في «بلوز» وكان العمال يُجْبُون هذه الضريبة في الإسكندرية وفي «بلوز» يدفعونها لحساب المقاطعات التي تورد إليها السلفة، أما أولئك الذين كانوا يستوردون الزيت من الخارج لاستعمالهم الشخصي ولا يدفعون ضرائب فكان يُستولى على زيتهم وتُفرض عليهم غرامة قدرها مائة درخمة عن كل متريت، أما الواردات التي صُرِّح باستصدارها من «بلوز» إلى الإسكندرية من الزيت الأجنبي أو السوري فكان لا يُدفع عليها ضريبة، ولكن كان يتسلم عنها إعلامًا من محصِّل «بلوز» ومن السكرتير المالي كما وضح بالقانون.
والواقع أن الملك كان يجني أرباحًا طائلة من تجارة الزيت المصنوع في داخل البلاد لبيعه للسكان كما كان يربح كثيرًا من الزيت المستورد من الخارج لبيعه في الإسكندرية للسكان الإغريق، وعلى ذلك نجد أن مصر من حيث تجارة الزيت كانت مفصولة تمامًا عن العالم، وذلك لأن الاحتكار الملكي لهذه السلعة قد أدى إلى اقتصاد مغلق لا يتأثر بتقلبات الأسواق الخارجية.
وقد كان من الضروري كذلك ألا يغش التجار الزيت الذي ورد لهم، لأجل أن يحصلوا على ربح أكبر، وهذه العملية كانت تؤدي إلى نقص فيما يبيعه الملك، هذا وكان الملك يراقب شحم الحيوان، فكان على الجزارين أن يبيعوه يوميًّا أمام الملتزم وكان محظورًا عليهم بيع الدهن غير المتبَّل لأي فرد لأي سبب كان، وكذلك كان عليهم ألا يتخذوا مُؤَنًا، وكل فرد يخالف ذلك كان عليه أن يدفع غرامة للملتزم قدرها خمسون درخمة.
الضرائب على الزيت
هذا وكان الملك فضلًا عن الاحتكار المطلق لمادة الزيت يجبي ضرائب على هذه السلعة، وقد ذكرنا من قبل الضرائب التي كانت تحصَّل من المزارعين على المواد الغفل التي يُصنع منها الزيت وعلى الزيوت التي كانت تُستورد، والظاهر أنه كانت توجد ضريبة أخرى لم يُعرف كنهها بعد.
نتائج احتكار الزيت في الاقتصاد البطلمي
الواقع أن الفرق بين نفقات استخراج الزيت وثمن بيعه بالتجزئة كان عظيمًا وقد حددت «قوانين الدخل» السعر الذي يسترده الملك للزيت الذي لم يصرفه الملتزمون، وهذا يدلنا على وجه التقريب على ثمن النفقات، فكانت أثمان البيع المفروضة تفوق أثمان التكاليف بسبعين في المائة في زيت السمسم وثلاثمائة في المائة في زيت الحنظل (المستخرج من لب القرع)، على أن ذلك ليس هو المكسب الصافي الذي يبيع به الملك، وذلك لأن سلسلة من الملتزمين والبائعين للمؤسسة يضيفون مكسبهم في سلسلة عملياتهم التجارية، ذلك إلى أن السلعة كانت خاضعة لعدة ضرائب، والواقع أن دخل الاحتكار كان عظيمًا ومؤكدًا ومنتظمًا؛ لأنه كان مضمونًا بالمستأجرين ومحميًّا من الغش.
ولا نزاع في أن اختيار مادة الزيت للاحتكار في الحضارة المصرية كان من الأعمال التي تدل على مهارة كبيرة جدًّا، وقد كان الملك في الواقع بما يملك من حقول شاسعة وبماله من حق المراقبة على كل أرض مصر يساعده في ذلك رجال إدارة عديدون لديهم إحصاءات هامة وجمهرة من الملتزمين وهم أصحاب رءوس الأموال، يحذقون كل عناصر التجارة على حسب القانون، لا يجد أية مقاومة لهذه التجارة الرابحة إلا المقاومة النفسية، غير أنها كانت عنيفة، وذلك لأنه كان أمامه صعوبة إجبار الفلاحين على زرع المحاصيل التي فرضها هو، يضاف إلى ذلك رغبة العمال في الحصول على حريتهم، وحِيَل المختلسين التي لا يكبح جماحها، وإهمال نواب الملك في أداء أعمالهم وامتيازات المعابد وأصحاب الضياع، كل هذه الأمور النفسية كان لا بد للملك من أن يعالجها، وتلك كانت العقبات التي تقف في سبيل الاحتكار الملكي.
والواقع أنه قد كشف عن أوجه شبه بدهية وعديدة بين الإدارة الرعمسية وإدارة عهد البطالمة خاصة بتثمير الأرض بزرعها قمحًا على حسب تصميم ملكي، ويقول إنه لن يكون جدال في المستقبل عن وجود بعض مبادئ بارزة وتعبيرات بطلمية خاصة بالتصميمات الزراعية أُخذت عن تقليد فرعوني على الرغم من أنها قد تغيرت كثيرًا بالعقلية الإغريقية، وقد تناولتُ هذا الموضوع في كتابي مصر القديمة (الجزء الثامن) وبخاصة الأطيان ونظم زرعها وأنواعها وإيجارها إلخ، غير أن «بريو» تقول إن نظام الاحتكار الذي وضعه بطليموس الثاني على الزيوت في مصر البطلمية كان له نظير في العهد الهيلانستيكي عند السليوكيين في عهد «أنتيجونوس»، ولكنه كان احتكارًا للقمح، وتظن أن بطليموس الثاني قد نقل هذا الاحتكار إلى بلاده، ولكن في الزيت بدلًا من القمح، وذلك لأن القمح المصري في العهد الهيلانستيكي كان يصدَّر إلى بلاد كثيرة في عالم البحر الأبيض، وعلى أية حال لا يمكن الجزم بالرأي القائل إن بطليموس قد قلد «أنتيجونوس» عندما احتكر القمح في بعض أجزاء آسيا الصغرى فأخذ عنه ذلك وطبَّقه على الزيت وبعض موادَّ أخرى.
(١-٢) احتكار ورق البردي
وتدل شواهد الأحوال على أن بطليموس الثاني لم يكتفِ باحتكار الزيوت في مصر بل تعدى ذلك إلى بعض مواد أخرى ولكن بطريقة مخففة، ونخص بالذكر منها الورق.
وتدل شواهد الأحوال على أن الورق الذي كان يُصنع في عهد البطالمة ويصدَّر للخارج من السلع التي كانت تُجلب إلى مصر من الخارج ما كان ينقصها من نقد أجنبي ومعادن مفيدة وخشب.
وعلى الرغم من الرأي السائد القائل إن بطليموس الثاني كان يحتكر تجارة الورق فإنه ليس لدينا وثيقة واحدة تشير إلى أن الملك كان يسيطر على زراعة نبات السقى (البردي)، بل الظاهر أن زراعته كانت خاضعة للقواعد العامة التي كانت تسير على حسبها الزراعة بعامة، ومن المحتمل أن الملك كان يراقب زراعة البردي من الوجهة المالية كالمراقبة التي كان يفرضها على زراعة الكروم والأشجار.
والظاهر أن صناعة البردي كانت تُحَتِّم أن يكون صنعه بالقرب من الأماكن التي يزرع فيها، وذلك لأن الجزء الذي كان يُصنع ورقًا من البردي هو سيقانه، وكان يجب أن تكون هذه السيقات غضة طرية ليمكن صنعها، ومن أجل ذلك كان لا بد أن تكون مصانعه قريبة جدًّا من مزارع البردي حتى لا يحتاج إلى نقل هذه السيقان إلى أماكن بعيدة فتجف، ومن ثم لا تصبح صالحة لصنع الورق، وعلى ذلك فإن هذا لا يمنع وجود مصانع ملكية كبيرة، وعلى أية حال فإنه وإن لم يكن يوجد احتكار ملكي لبيع الورق فإنه كان هناك مراقبة مالية على صناعته وبخاصة أن مصانعه على ما يظهر كانت متفرقة في أنحاء البلاد.
والآن يتساءل المرء هل يوجد في القرن الثالث توزيع التجارة والعُملاء بين الملك والتجار الأحرار وأن الآخرين كانوا مقيدين ويدفعون ضرائب بصورة ما؟
ومهما يكن من أمر فإن قبضة الملك بطليموس الثاني على التجارة الخارجية للورق لم تكن بإدارة مباشرة، فقد كان من المحتمل أن بطليموس الثاني كان يريد أن يتجنب الأخطار بنزوله للمصنع عن حق تصدير الورق واكتفى بفرض حقوق مالية على تصديره.
(١-٣) احتكار الثروة المعدنية
والظاهر أن البطالمة كانوا يطرحون قطع الأحجار في مزاد، وكان المقاول يتسلم أجره من بطليموس نقدًا أو عينًا كالقمح والزيت، وكانت المستودعات الملكية هي التي تمد العمال بالآلات اللازمة لقطع الأحجار وتهذيبها، وكان الملك هو الذي يقوم بنقل الأحجار.
فاستمع إليه وهو يخاطب عماله: «كل واحد منكم عليه عمل شهر ولقد ملأت لكم المخازن من كل شيء من خبز ولحم وفطائر ونعال وملابس وعطور لتعطير رؤسكم كل أسبوع ولأجل كسائكم كل سنة ولأجل أن تكون أخمص أقدامكم صلبة دائمًا، وليس من بينكم من يمضي الليل يئن من الفقر، ولقد عينت خلقًا كثيرًا ليمونوكم من الجوع وكذلك سمَّاكين ليحضروا لكم سمكًا وآخرين بستانيين لينبتوا لكم الكروم، وصُنعت أوانٍ واسعة على عجلة صانع الفخار لتبريد الماء لكم في فصل الصيف، وفي الوجه القبلي يحمل لكم حب للوجه البحري، والوجه البحري يحمل للوجه القبلي قمحًا وملحًا وفولًا بكميات وفيرة، ولقد قمت بعمل كل هذا لأجل أن تسعدوا وأنتم تعملون بقلب واحد.» ولسنا في حاجة إلى التعليق على ما جاء في خطاب «رعمسيس الثاني» هذا؛ فهو حلم العامل الحديث ولا أظن بعد هذا يمكن أن يصدق ما جاء في الأساطير عن ظلم الفراعنة وجبروتهم.
هذا وكان العمل في مناجم المعادن وبخاصة مناجم الذهب قاسيًا؛ فقد صُور لنا بأبشع وأفظع صورة كما سنرى بعد.
- الملح: الواقع أن الملح قد لعب دورًا هامًّا في تاريخ الضرائب في معظم ممالك العالم في الأزمان الحديثة، ولا غرابة إذن أن نجد احتكار الملح في مصر كان شديدًا وعليه مراقبة تامة، غير أننا لا نعلم بكل أسف النظم التي كانت تستعملها البطالمة للحصول على الملح، ولا شك في أنه كان يُحصل عليه من مناجم الملح ومن بحيرات ملحة ومن ماء البحر، ولا نزاع في أن أواني الملح كانت ملك الحكومة، وعلى أية حال لم تكن تجارة الملح حرة فقد كان حق بيعه بالتجزئة يُعلَن في مزاد علني، والوثيقة التي تُحدثنا عن ذلك يرجع عهدها إلى حوالي عام ١٤٢ق.م ولكن تدل شواهد الأحوال على أن هذه العملية كانت ترجع إلى القرن الثالث،٦٣ هذا وكان مثل الملح كمثل السلع الأخرى كالزيت والشعير والنطرون يسلم للتجار بوساطة عمال الملك، هذا ونجد في الوثائق الإغريقية التي عُثر عليها في «الفيوم» وترجع إلى القرن الثالث ضريبة كانت تُضرب على الملح٦٤ تتسلمها الحكومة.
- الشب: ومن المواد التي كانت تجبى عليها ضرائب يفرضها الملك مادة الشب وكان مثلها كمثل المعادن الأخرى التي تُستخرج من أرض مصر، وكانت ملكًا لملكها، وهذه المادة تُستعمل في تثبيت ألوان النسيج، ومما يؤسف له أنه ليس في متناولنا وثائق من العهد الهيلانستيكي تؤكد فرض ضريبة على الشعب، والوثيقة الوحيدة التي لدينا تؤكد دفع ضرائب على الشعب ترجع إلى نهاية النصف الأول من القرن الثاني بعد الميلاد،٦٥ وهذه المادة كانت تستخرج من الواحتين الداخلة والخارجة، هذا وكانت أول إشارة لوجود الشب في مصر قد جاءت على لسان «هردوت» وذلك عندما قال: إن الملك أمسيس الثاني (٥٦٩–٥٢٦ق.م) قد أرسل كمية من الشب لبلاد اليونان، وذلك عند إعادة بناء معبد «دلفي» وقد سُمِّي مادة قابضة.٦٦
- المعادن: ولا نزاع في أن شهرة مصر من حيث المعادن الثمينة كانت تنحصر
في كمية الذهب التي كانت تُستخرج من مناجمها التي كانت عالمية
ويُضرب بها الأمثال، والواقع أن قدماء المصريين قد استغلوا
المناجم الشاسعة الواقعة بين وادي النيل والبحر الأحمر وبخاصة
الصحراء الشرقية جنوبًا من طريق قنا والقصير إلى حدود السودان،
والوديان التي وُجد فيها الذهب كانت مجهزة بطرقٍ مُعَبَّدةٍ
ومَحَاطَّ قديمةٍ حُفرت فيها آبار ماء.٦٧هذا ولا تزال آثار عمليات استخراج الذهب في العهد الفرعوني باقية في أماكن عدة ببلاد النوبة، ونجد كذلك في وادي فواخير بالقرب من مناجم وادي حمامات على الطريق الذي يربط فقط بميناء «لوكوس ليمن» Leuko Limen معبدًا أقامه بطليموس «أيرجيتيس» للإله «مين» وهناك نقوش تدل على أن الإغريق قد جاءوا إلى هذا المكان للبحث عن الذهب،٦٨ وكذلك وُجدت في نقط كثيرة في الصحراء شرقي «إدفو» وفي وادي علاقى ببلاد النوبة آثار لاستغلال البطالمة لمناجم الذهب.٦٩ومن أهم المعادن التي كانت تحتاج إليها مصر الفضة، غير أنها لا توجد في التربة المصرية كثيرًا،٧٠ وقد كُشف أن الذهب يحتوي أحيانًا على جزء من الفضة أما الحديد الذي يُستخرج الآن من الصحراء الغربية فلم يكن معروفًا عند قدماء المصريين، هذا ولا نجد أثرًا للحديد إلا في منجم واحد يرجع إلى عهد قدماء المصريين.٧١أما النحاس الذي كان يوجد في مصر بكثرة في العهد القديم وبخاصة في شبه جزيرة «سيناء» فلم يهتم بالبحث عنه البطالمة لأنه كان يوجد بكثرة في جزيرة قبرص التي كانوا يسيطرون عليها.٧٢وأخيرًا نجد في الصحراء الشرقية بالقرب من برنيكي فلزات زمرد في «سكت» حيث يوجد معبد منحوت في الصخر عليه نقوش إغريقية تشهد بنشاط البطالمة في هذه الجهة.٧٣
وكل هذه الفلزات المعدنية والحجرية تقع في الأقاليم الصحراوية أو في مواقع جبلية وعرة، غير أن المعضلة كانت في كيفية استخراج هذه المواد سواء أكانت مناجم نحاس أم فلزات كوارتز تحتوي على ذهب أم استخراج قطع الزمرد والزبرجد والكورنالين والأمتست والأحجار نصف الكريمة. والواقع أن استخراج هذه المواد من الصحاري والجبال كان يحتاج إلى عمل شاق مُضْنٍ.
- تنظيم العمل: كان لا بد من جمع العمال المهرة المختصين في استخراج هذه
المعادن وإمدادهم بكل ما يلزم في مكان العمل نفسه، كما كان
يحتاج إلى عمال آخرين لنقل هذه الكنوز بعد استخراجها، وهذا كان
من أصعب الأمور، يضاف إلى ذلك أن الأمر كان يحتاج إلى معالجة
هذه المعادن في المكان الذي عثر فيه عليها إلى درجة يمكن بعدها
أن يصبح الشيء الذي سيُنقل أقل ما يمكن من حيث الوزن.
هذا وكان لا بد من تنظيم جماعة من رجال المناجم على أن يكون معسكرهم محروسًا بشرطة خاصين بهم، ويكون لهم رؤساء وآلهة يتعبدون لهم، وأخيرًا كان لا بد من المحافظة على المناجم والطرق المؤدية لها، ومما سبق نفهم ضمنًا أن الملك وحده هو الذي كان في استطاعته القيام بكل ذلك كما كانت الحال في عهد الفراعنة، أما من الناحية المالية فكان الملك يمكنه أن يعطي المشروع لملتزمين من أصحاب المؤسسات المالية الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، ولا نعلم إذا كان البطالمة قد مارسوا مثل هذه العمليات المالية الخاصة باستغلال المناجم أو أنهم لم يمارسوها.
- اليد العاملة: ومما سبق لا يمكننا أن نصف سير العمل في مثل هذه المناجم إلا
التي كانت تحت السلطة الملكية مباشرة، ولحسن الحظ لدينا سلسلة
قصص مما تركها لنا «ديودور» الذي عاش في عهد قيصر وأوغسطس،٧٤ أي إنه كان قريبًا من عهد البطالمة وسأنقل هنا
الصورة التي وضعها «ديودور»، للعمل في مناجم الذهب والمعاملة
التي كان يعامَل بها العمال المصريون في عهد البطالمة، وعلى
القارئ أن يحكم بعدها على هؤلاء البطالمة بعد قرنها بالصورة
التي نقلناها عن رعمسيس الثاني ومعاملته للعمال في مناجم قطع
الأحجار، وهاك ما ذكره ديودور حرفيًّا:
عند نهاية حدود مصر وفي الإقليم المتاخم لكل من بلاد العرب وأثيوبيا يوجد إقليم يحتوي مناجم ذهب كبيرة عدة حيث كان يمكن الحصول على الذهب بكميات عظيمة بعد متاعب كثيرة ومصاريف كبيرة، وذلك لأن الأرض هناك سوادء بطبيعة الحال وتحتوي على طبقات وعروق من حجر الكوارتز، وهي على غير العادة بيضاء وتفوق في نصوع بياضها أي شيء آخر يلمع بإشراق بطبعه، وهنا يحصل المشرف على العمل في المناجم على الذهب بوساطة جَمٍّ غفير من الكادحين، وذلك أن ملك مصر كان يجمع سويًّا لاستخراج الذهب أولئك المدنيين الذين أدينوا بجريمة، هذا بالإضافة إلى أسرى الحرب وأولئك الذين اتُّهموا ظلمًا وألقي بهم في السجن بسبب غضبهم، على أن ذلك لم يقتصر على مثل هؤلاء الأشخاص بل أحيانًا كان يؤخذ معهم كل أقربائهم أيضًا، وبهذه الكيفية لم يكن العقاب يوقَّع على أولئك الذين وُجدوا مجرمين بل كان في الوقت نفسه يجني الملك دخلًا عظيمًا من كدحهم، وهؤلاء المحكوم عليهم بهذه الطريقة — وكانوا جمهرة عظيمة كُبِّلوا كلهم في الأغلال — يكدحون في عملهم دون انقطاعٍ ليلَ نهارَ لا يتمتعون براحة كما أن سبل الهرب قد انقطعت عنهم، وذلك لأنه كان يراقبهم حراس من الجنود الأجانب يتكلمون لغة مختلفة عن لغتهم لدرجة أن الفرد منهم لم يكن في استطاعته بالمحادثة أو التَّحابِّ أن يغوي واحدًا من حراسه، وكانت الأرض التي تحتوي على ذهب وهي أصلب ما يكون تُحرق أولًا بنار حامية وبعد أن يُفتِّتوها بهذه الكيفية يستمرون في العمل فيها باليد، وكان الصخر اللين الذي يمكن التغلب عليه بقوة معتدلة يهشم بمطارق من الحديد يستعملها عشرات الآلاف من أولئك الأشقياء الذي أخطأهم الحظ، وكانت إدارة كل العملية في يد عامل ماهر يعرف كيف يميز الحجر ويريه للعمال، وكان أقوى هؤلاء الذين خُصصوا لهذا العمل المضني هو الذي يوكل إليه كسر صخر الكوارتز بمطارق من حديد، وكان لا يقوم بأي عمل يحتاج إلى مهارة غير مجرد القوة، وكانوا يقطعون النفق في الحجر لا في خط مستقيم بل على حسب ما يقودهم إليه الصخر البرَّاق، وهؤلاء الكادحون الذين كانوا يعملون في الظلام كانوا يحملون مصابيح معقودة على جباههم بسبب الانحناءات والالتفاتات التي في الممرات، ولما كانوا في معظم الوقت يغيرون أوضاع أجسامهم ليتتبعوا طبيعة الحجر فإنهم كانوا يلقون قطع الحجر كلما قطعوها على الأرض، وكانوا يكدحون في هذا العمل دون هوادة خوفًا من صرامة سوط المشرف وضرباته القاسية.
أما الأولاد هناك الذين لم يكونوا قد بلغوا الحُلُم فكانوا يدخلون النفق في الممرات التي نتجت من إزالة الأحجار ويجمعون بمشقة قطع الصخر الملقاة قطعة قطعة ويحملونها إلى الخارج في خارج المدخل، وأما أولئك الذين جاوزوا الثلاثين من عمرهم فكانوا يأخذون هذه الأحجار التي قُطعت ويطحنون مقدارًا مميزًا منها في هاونات من الحجر إلى أن تصبح كل قطعة من حجم حبة الجلبان (مثل الفول) وبعد ذلك كان على النساء والرجال الأكبر سنًّا أن يأخذوا منهم الأحجار التي بهذا الحجم ويلقونها في المطاحن المنصوبة صفًّا هناك ويأخذون أماكنهم في جماعات مؤلفة كل واحدة من شخصين أو ثلاثة عند مقبض كل طاحون ويطحنون هذه الأحجار الصغيرة إلى أن تصبح كالدقيق الناعم جدًّا، ولما لم تكن لدى أي واحد منهم فرصة للعناية بجسمه ولم يكن لديهم كذلك من الملابس ما يستر عورتهم فإنه لم يكن في استطاعة أي فرد أن ينظر إلى هؤلاء النساء دون أن تأخذه الشفقة بسبب الآلام البالغة التي يقاسونها، وذلك أنه لم يكن يمنح أي تساهل أو هدنة من أي نوع لأي فرد أصابه المرض أو بُتِرَ عضو من أعضائه، أو أقعدته الشيخوخة، أما النساء فلم يكن يشفع لهن ضعفهن أو مرضهن بل كان الكل سواء دون استثناء مضطرين تحت تهديد السياط إلى الاستمرار في كدحهم إلى درجة أنهم كانوا يموتون غارقين في آلامهم وعذابهم، ومن ثم فإن هؤلاء الفقراء البائسين كانوا يعتقدون بسبب ما كانوا يلاقون من عقاب صام أن المستقبل سيكون أعظم فظاعة أكثر مما هم فيه الآن، ومن أجل ذلك كانوا يتطلعون إلى الموت على أنه أحب إليهم من الحياة.
وفي آخر خطوة من البحث عن الذهب كان مهرة العمال يتسلمون الحجر الذي طُحن حتى أصبح كالدقيق لآخر مرحلة من معالجته، وذلك أنهم كانوا ينظفون بالفرك قطع الكورتز التي كانت قد وُضعت على لوح عريض مائل بعض الشيء وصب عليه الماء كل الوقت، وعلى ذلك كانت المادة الطينية التي فيه تذوب بفعل الماء وتجري إلى أسفل اللوح المائل في حين أن المادة التي تحتوي على الذهب تبقى على الخشب بسبب ثقلها، وكانت هذه العملية تكرَّر عدة مرات، فكانوا أولًا يفركون المادة برفق بأيديهم ثم يضغطون عليها بإسفنج ذي مسامَّ مفتوحةٍ، وبذلك كانوا يزيلون الأجسام الغريبة ولا يبقى إلا التبر فقط، وبعد ذلك يأخذ عمال آخرون مهرة ما بقي ويضعونه بمكيال ووزن محدودين في أوانٍ من الطين ويخلطونه بكتلة من القصدير مناسبة للمادة وكذلك بقطع من الملح وبعض الصفيح ثم يضاف إلى ذلك نخالة شعير، وبعد ذلك يُسَدُّ الإناء بسدادة محكمة ويوضع عليه ملاط من الطين، ثم يؤخذ إلى الفرن لمدة خمسة أيام متتالية بلياليها، وفي نهاية هذه المدة تبرد الأواني، وبعد فتحها لا يوجد فيها إلا الذهب الخالص، وليس هناك من المواد الغريبة إلا الشيء القليل.
هذا وكان الإشراف على مثل هذه المناجم مُوكَلًا إلى ضباط عظام كان عليهم أن يؤمِّنوا السلع التي كانت تأتي من الشرق كما كان عليهم أن يؤمنوا الطرق المؤدية إلى قطع الأحجار والبحث عن المعادن، وأكبر دليل لدينا على ذلك نقش عُثر عليه للإله «مين» رب «قفط» الذي يحفظ الطريق ويؤمنها للباحثين عن المعادن والأحجار الصلبة.٧٥ومما يؤسف له أن الأوراق البردية لم تكشف لنا عن شيء عن الأعمال الثانوية الخاصة بالقرى التي كان يعيش فيها عمال المناجم من حيث نقلهم وتجهيزهم ونظامهم المدني، ومن المتوقع أن يكون لهم في هذه القرى على الأقل قضاتهم وشرطتهم، والآن يتساءل المرء هل يمكن أن نقرن ذلك بما كان عند قدماء المصريين في مثل هذه الأحوال وأن نفرض أن الأحوال لم تتغير منذ عهد الفراعنة؟ إذا كان ذلك صحيحًا فإن النص الذي تركه لنا رعمسيس الرابع في نقش شهير نعرف منه أنه أرسل بعثتين إلى محاجر «وادي حمامات» الأولى كشفية، والثانية عملية، وتعد أكبر بعثة معروفة لدينا حتى الآن؛ فقد كانت تحتوي على كل ما يلزم على غرار الحملات الحديثة الآن فلم يكن ينقص رجالها شيء قط، وقد تحدثنا عنها بإسهاب في الجزء الثامن من مصر القديمة، ولم تكن هذه هي الحملة الأولى المنظمة التي أُرسلت لقطع الأحجار بل سبقتها حملات.٧٦ - قيمة المناجم: ليس لدينا نقوش تمكننا من تقدير محصول المناجم في عهد البطالمة كالتي وُجدت في عهد الفراعنة، وإن كانت الأخيرة غير شاملة كما جاء في حملات تحتمس الثالث من ذكر محصول مناجم بلاد النوبة من الذهب، غير أن الذهب لم يكن المادة الهامة التي يحتاج إليها ملوك البطالمة كما كانت الحال في عهد الفراعنة، بل إن مقتضيات الأحوال كانت تحتم الحصول على الحديد حتى تقوم بدورها في العالم الهيلانستيكي، وذلك لأن الحديد كان ضروريًّا لصناعة آلات الحرب والزراعة وكان لا بد لهم من الفضة كذلك لأنها كانت تعد المعيار النقدي الإغريقي السائد في تلك الفترة من تاريخ العالم.٧٧
وسنرى بعدُ في السياسة النقدية التي سار على نهجها البطالمة أن مصر استعانت بالذهب الأجنبي وفق سياسة بطليموس الثاني إلى أن زيفت قطع النقود في البلاد، كما نشاهد ذلك في نهاية القرن الثالث مما أفقر البلاد في المعادن الثمينة.
والواقع أن ثمن تكاليف الذهب الذي كان يُستخرج من تربة مصر كان أغلى من الذهب الذي يدخل البلاد بوصفه ثمن بضائع مصدَّرة؛ فقد دل الفحص على أن ثمن تكاليف الدرخمة الواحدة من الذهب المستخرج من أرض مصر لا يساوي أكثر من الذي يبذله الإنسان من تكاليف من مقدار القمح المباع في الخارج في مقابل درخمة من الذهب، وعلى أية حال يظهر أن المصريين القدامى كانوا قد استنفدوا كل مناجم الذهب، فلما جاء البطالمة لم يجدوا فيها ما يساوي النفقات التي تُصرف عليها كما هي الحال في أيامنا.
ولم تقتصر مصادر مصر المعدنية على وادي النيل في عهد البطالمة، وذلك لأنه عندما مد البطالمة سلطانهم في عهد بطليموس الأول ومن بعده ابنه بطليموس الثاني على أقاليم، كانت فيها النقود وفيرة، هذا بالإضافة إلى أن الخراج الذي يُجبى من هذه الأقاليم والأسلاب التي يُستولى عليها بالفتح كان كل ذلك يؤلف دخلًا من المعادن الثمينة عظيمًا لا يكلف مصر شيئًا، يضاف إلى ذلك مقدار ما كانت تجلبه تجارة مصر من ذهب إلى خزانة البلاد، ويقول إسترابون إن الإسكندرية في زمنه كانت تصدِّر أكثر مما تستورد، غير أننا لا نعلم إذا كانت قيمة البضائع المصدرة أقل من المستوردة أم لا، وعلى أية حال فإن الأحوال كانت قد تغيرت في مدة ثلاثة القرون التي حكمها البطالمة حتى العهد الذي كتب فيه «إسترابون»، وأخيرًا يجب علينا كذلك بهذه المناسبة أن نفرق من الوجهة الاقتصادية بين مصر وبين ملك مصر، والواقع أن ريف مصر وقراه في مقدوره أن يعيش باقتصاد مغلق (مكتفٍ ذاتيًّا) في حين أن ملك مصر كان مرتبطًا بالمعاملات الخارجية، ولذلك فإن سكان مصر الأصليين كان لهم تاريخهم وحياتهم التي ورثوها منذ أقدم العهود وظلوا محافظين عليها حتى نهاية العهد الروماني.
وبجانب المصادر الخارجية التي لها علاقة بثروة البلاد المعدنية لا بد أن نشير هنا إلى كنوز المعابد المصرية، فهذه كانت تكدَّس في خزائن الكهنة منذ قرون طويلة، وكانت تعتبر دليلًا على جمود اقتصادي، ومع ذلك نجد على نقود عهد البطالمة خاتم الآلهة كما نجد أن تماثيل العبادة كانت مصنوعة من الذهب ومرصَّعة بالأحجار الكريمة، وكذلك نلحظ أن الأثاث المقدس كان كله مشغولًا بالفضة هذا إلى القرابين التي كان يقدمها الأتقياء للمعابد، وهذه الكنوز هي التي كانت تبهر الغزاة الأجانب من آشوريين وفرس، هذا ولا بد أن نفهم أن ثروة البلاد كانت أحيانًا في يد الملك وأحيانًا في يد المعابد عن طريق القربان والمصادرات، وهنا كذلك نجد دورة في نقل المتاع لم يكن للقرى فيها نصيب.
وسواء أكانت المعادن تأتي عن طريق المناجم أم عن طريق الخراج من البلاد الأجنبية أم كانت تمثل أثمان البضائع المصرية المصدرة إلى الخارج فإنه كان لا يدخل البلاد المصرية إلا القليل من المعادن التي لم تكن معروفة للإدارة الملكية، غير أننا نجهل إذا كان هناك احتكار مطلق لتجارة المعادن الثمينة وبخاصة الطرق التي كان يمكن أن تدخل بوساطتها هذه المعادن في الاقتصاد المصري ولم يكن للملك حق في السيطرة عليها بطرق قانونية مختلفة.
وهاك الأوجه الرئيسية لبيان المصروفات والواردات من الذهب أو المعادن الثمينة كان على الملك أن يدفع مرتبات موظفيه وجيشه والأشغال العامة وشئون العبادة ومصاريف السياسة الأجنبية، غير أنه يجب علينا ألا ننسى أن جزءًا كبيرًا من مرتبات رجال الحكومة كان يُدفع عينًا وذلك إما قمحًا أو مقابل إيجار أرض.
وكان الملك يشتري من الفلاحين منتجات متنوعة كالقمح والنسيج والحبوب الدهنية، ولكن النقود التي كان يدفعها تعود إليه ثانية من وجوه عدة، وذلك أن المنتجين الذين تسلموا هذه النقود كانوا يشترون بها عن طريق الملتزمين منتجات مصنوعة مثل الجعة والزيت، وكانوا يدفعون له فضلًا عن ذلك بعض ضرائب، وفوق كل ذلك كان الملك يشتري منتجات أخرى ويبيعها في الخارج إما بنفسه أو بأشخاص اشتروا حقوق بيعها، ومن جهة أخرى كانت مصر تشتري بضائع من الخارج لا تنتجها مصر، ويقول «إسترابون» إن البضائع التي كانت تصدَّر من الإسكندرية أكثر من التي ترد إليها بدرجة ملحوظة، ولكن لا يغيب عن الذهن أنه على الرغم من أن كثيرًا من البضائع المصدرة كانت قد أتت من الخارج من الجنوب والشرق، فإن الإسكندرية لم تكن ميناء التوريد للشرق بل كانت السلع السورية تأتي عن طريق «بلوز»، وكانت «رودس» على ما يظهر في خلال القرن الثالث مستودع تجارة الشرق.
ومن بين «الدخوليات» التي كانت ترد إلى مصر دون مقابل جزية البلاد البطلمية في البحار النائية في خلال القرن الثالث، وأخيرًا كان الملك مضطرًّا أن يقدم للمعابد هدايا نقدية أو أشياء ثمينة، وكانت هذه عبارة عن حماية إجبارية.
ويبقى بعد ذلك كمية قليلة نسبيًّا تورد للصناعة، والآن يتساءل المرء هل الملك هو صاحب الحق الوحيد في أن يبيع ما يحتاجه الصُّيَّاغ وصناع الجواهر الذين كان عددهم كبيرًا في الإسكندرية وفي المدن الكبيرة من الذهب والفضة والأحجار شبه الكريمة والنحاس والصفيح لصانعي البرونز؟
ويأتي بعد كنز «طوخ القرموص» بمدة قصيرة الكنز الذي عُثر عليه في «ميت رهينة» ويحتوي على قوالب من الجبس مصنوعة من أوانٍ من المعدن وأشياء أخرى من المعدن، ومعظم هذه الأشياء ترجع إلى القرن الثالث ق.م، ولا نزاع في أن هذه القوالب كانت لمصنع مملوء بالمعادن في «منف»، هذا ولا يغيب عن الذهن أنه توجد قوالب ونماذج كثيرة مصنوعة من الجبس والطين والحجر لأشياء مختلفة من المعدن عُثِر عليها في مصر، والعدد الأكبر من هذه القوالب التي يرجع إلى العهد الهيلانستيكي وُجد في مصانع «منف»، والكشوف العديدة التي عُثِر عليها في «منف» تشهد بأهمية هذه المدينة بوصفها مركزًا لصناعات الأدوات المعدنية.
الحديد
ولا بد أن نبحث عن أسباب هذا الاحتكار المشدد، فالواقع أن بطليموس لم يكن يريد من وراء ذلك أن يجني كسبًا بل كان يريد الاقتصاد في هذه المادة إلى وقت الحاجة وبخاصة في الاستعمال الحربي، ولا سيما أن الحديد لم يكن بعدُ مادة غزيرة في مصر في تلك الفترة من تاريخها، وعلى أية حال فإن الحديد لم يكثر وجوده في مصر إلا تدريجًا عن طريق الاستيراد، هذا فضلًا عن أنه لم يبحث عنه بطرق علمية.
(١-٤) احتكار النقد والمصارف في عهد البطالمة الأول
تحدثنا فيما سبق عن المواد والأشياء التي كان يحتكرها بطليموس الثاني وتكلمنا عن احتكار الزيت والبردي ثم الثروة المعدنية وسنتحدث الآن عن احتكار النقود والمصارف في العهد البطلمي، ولكن قبل أن نتحدث عن المصارف والدور الذي لعبته في تاريخ الاقتصاد البطلمي يجدر بنا أن نتحدث عن النقود وتاريخ استعمالها في مصر منذ أقدم عهودها إلى أن أصبحت مادة تُودَع في المصارف التي يراقبها الملك ويحتكر استعمالها، والواقع أننا لم نسمع بوجود مصرف أهلي في العهد البطلمي الأول، ولا غرابة في ذلك فإن البطالمة كانوا هم القابضين على زمام كل ثروة البلاد تقريبًا، ومن ثم كان على الملك أن يختار العيار الذي تُضرب على حسبه النقود، وكان هو الذي يحدد احتكار العملة وإنقاص وزنها وهبوط سعرها كما يشاء.
النقود في مصر القديمة
والدوافع الأولى التي اقتضت ضرب عملة نقدية في مصر كانت في الواقع مفقودة؛ فقد كان انعدام المشاريع الحرة ووحدة البناء الاقتصادي والقوى المنتجة بالإضافة إلى انعزال سكان مصر عن باقي العالم نسبيًّا واحتكار الفراعنة للتجارة وعيشة ملايين الفلاحين الذين يتألف منهم السواد الأعظم من سكان مصر على هامش الاقتصاد، كل هذه الأمور مجتمعة كانت عوامل لا توحي بضرب نقود بل كانت تكتفي البلاد بالمبادلة، ولكن عند قيام الأسرة السادسة والعشرين ونهوضها بالبلاد دفعة واحدة كان قد تغير كثير من هذه العوامل؛ إذ قد تطورت الحياة الاقتصادية في الوجه القبلي بسبب الفتح الفارسي، وأهم من ذلك التأثيرات التي أحدثها التجار الإغريق الذين كان قد شجعهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين على التعامل مع مصر بدرجة مُحَسَّة مما زاد في المعاملات التجارية بين البلدين، غير أنه كان لا بد من وجود دافع أقوى للإسراع إلى ضرب نقود، وقد خُلق هذا الدافع عندما وَجَدَت مصر نفسها في حاجة إلى استخدام جيش قائم من الجنود المرتزقين فقد كان الملك «أوكوريس» ثاني أحد ملوك الأسرة التاسعة والعشرين هو الذي ألف شبه فرقة ثابتة من الجنود المرتزقة من الإغريق في مصر، وذلك عندما أجبر قوة بلاد الفرس الحربية على التحول عن بلاده بالثورة التي هبت في قبرص على يد ملكها «أفاجوراس» وظلت أمدًا طويلًا كما شرحنا ذلك في غير هذا المكان، غير أنه مع ذلك لم يهمل المحافظة على وجود جيش من الجنود المصريين في نفس الوقت، هذا وقد حافظ أخلاف «أوكوريس» في عهد الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين على هذا الجيش الإغريقي أكثر من خمس وأربعين سنة، وكان من جراء ذلك أنه صد غزو الفرس عن البلاد خلال السنين الأولى من عهد كل من نقطانب الأول ونقطانب الثاني.
فالعملة رقم ٢ يمكن أن تكون قد ضُربت في مصر في عهد «نقطانب الأول» والعملتان رقم ٣ و٤ يمكن أن تكونا قد ضُربتا في عهد الملك «تيوس»، في حين أن العملة رقم ٥ يظهر أنها ضُربت في عهد «نقطانب الثاني»، على أن الآراء قد اختلفت في ذلك.
أما العملة الصغيرة التي ضُربت للملك «نقطانب الأول» فيظهر أنها أول عملة يمكن نسبتها للعهد الفرعوني من حيث الأسلوب والطراز، والواقع أن صورة الآلهة «أثينا» الخشنة الصنع التي ظهرت على وجه العملة كان لا يمكن أن تظهر إلا في نقود ضُربت بعد بداية القرن الرابع ق.م بقليل، أما طراز صورة ظهر هذا النقد فهو تنويع لبومتين تمثلان الآلهة «أثينا». أما النقد المصري الصريح فهو الذي أُدخلت في سكِّه علامتان هيروغليفيتان (نفر، نب) على ظهر النقد، وقد ظهرت علامة «نفر» بين بومتين متقابلتين في حين أن علامة «نب» قد ظهرت في الجزء الأسفل، والمعنى الذي تحمله هذه العلامات الهيروغليفية يمكن ترجمته ببعض التصرف هكذا: الكل «فضة» خالصة أو «صالح لكل الأغراض.»
هذا وقد طُبع على ظهر هذا النقد حصان في منتهى الروعة والجمال الفني وهو يثب إلى الأمام بروح عالية، ويطيب لنا أن نذكر هنا أن النقد المصري الذي كان قد ضُرب في بادئ الأمر ليكون حلًّا لدفع أجور الجنود المرتزقة يعتبر نقدًا ذا صبغة أجنبية تمامًا ثم أخذ يتطور شيئًا فشيئًا ليصبح مصري الصبغة في عهد الأسرة الثلاثين إلى أن صار في نهاية الأمر متطوِّرًا إلى عملة ذهبية تعد من القطع الفنية العظيمة القيمة، وهذا التطور الذي جاء شيئًا فشيئًا يظهر أنه كان قد جاء طبقًا لضرورة محلية؛ إذ الظاهر أنه كان يعد شيئًا إضافيًّا لاستمرار ضرب نقود أثينية الطراز وهي التي كان يُحتاج إليها بمثابة قاعدة لدفع أجور الجنود الإغريق المرتزقين.
والواقع أن النقد الذي يحمل اسم «نفر-نب» قد يكون له علاقة بالجيش، وذلك على غرار «الذبابة الذهبية» التي كانت تُمنح نيشانًا للشجاعة عند المصريين؛ فقد وُجدت مرسومة بفَخَار وإعجاب في كثير من القبور المصرية في عهد الدولة الحديثة ولكنها قد أصبحت في العهد المتأخر مهملة، وكانت الحاجة الآن تدعو إلى منح مكافآت من الذهب في صورة أكثر فائدة وأكبر قيمة للجنود المرتزقة، كما كانت أحسن قبولًا عند الشجعان من أبناء الوطن، ومن الجائز إذن أن العملة «نفر-نب» قد استُعملت لهذا الغرض وبخاصة عندما نعلم أن صورة الجواد المتوثب المرسوم على ظهر هذا النقد كان علامة على الشجاعة والإقدام في كثير من ثقافات البحر الأبيض المتوسط في هذا العصر.
- من ٣٩٢–٣٨٠ق.م: كان الملك «أوكوريس» يناهض بلاد الفرس، وقد عقد محالفات مع أثينا وقبرص واستخدم في جيشه فِرَقًا إغريقية بقيادة قواد إغريق، وقد ضرب من أجل ذلك نقودًا من طراز أثيني لدفع أجور الجند الإغريق.
- وفي ٣٧٨–٣٦١ ق: هزم نقطانب الأول نفريتيس الثاني، وبذلك وضع أساس الأسرة الثلاثين وكان للجنود المرتزقين الذين جهزهم «أوكوريس» اليد العليا في حماية البلاد المصرية من هجوم الشطربة «فارناناسوس» واستمر استعمال قطع النقد المضروبة على النمط الإغريقي، وفي العهد الذي تلا ذلك — وكان عهد سلام ورخاء — استمر ضرب بعض نقود إضافية من العملة الفضية الصغيرة عليها صور إغريقية، غير أنها كانت تحتوي على صور هيروغليفية، وبذلك كانت تؤلف أول نقد مصري حقيقي.
- ٣٦١–٣٥٩ق.م: وفي تلك الفترة كان الملك «تيوس» يجهز جنودًا مرتزقين وجيشًا مصريًّا لغزو «آسيا»، وقد ابتز من مصر مقادير كبيرة من الذهب والفضة لضرب العملة، وكان من جراء ذلك أن ضُرِبت نقود أثينية أضيف إليها (الاستاتر الإغريقي Staters = ١٠٥ قروشٍ تقريبًا) عليه اسم الفرعون بالإغريقية، وكذلك قطع من ذوات ثلاث الدرخمات عليها اسم فرعوني ولقب، وقطع صغيرة من الفضة تشبه قطع نقود «نقطانب الأول» ولكن على ظهرها رسم مصري.
- ٣٥٩–٣٤١ق.م: قَمَعَ في هذه الفترة نقطانب الثاني بمساعدة الجنود الإسبرتيين الاضطرابات الداخلية التي قامت بسبب عزل «تيوس» وتولى هو حكم مصر، وبعد ذلك بعامين هَزَم الحملة الفارسية التي حاولت غزو مصر بمساعدة جيش من المصريين والإسبرتيين والأثينيين، وفي خلال سنينِ الرخاءِ التي تلت ذلك بقي جيش الجنود المرتزقين قائمًا يتألف من عدد كبير من هؤلاء الجنود لدرجة أن فِرَقًا منه كانت تُرسل لمساعدة حلفاء مصر مثل «صيدا» وفي تلك الفترة استمر ضرب النقود الأثينية وأُدخل كذلك ضرب النقود الذهبية بالأسلوب المصري، وكانت تُسَكُّ بعدد لا بأس به، ومن المحتمل أن نقودًا مصرية مختلطة الأسلوب قد استمر سكُّها حتى نهاية هذا العصر.
- ٣٤١ق.م: وفي هذا العام هُزم الفرس على يد القائد الفارسي «باجوس» الملك نقطانب الثاني الذي هرب إلى أعالي النيل ومع كنز كبير يشمل عددًا كبيرًا من النقود التي نُقش عليها «نفر-نب».
النقد المصري في العهد الهيلانستيكي البطلمي
ومما تجدر ملاحظته هنا أن «بطليموس الأول» لم يتخذ المعيار الفينيقي إلا في أواخر حكمه، وقد كان غرضه من ذلك أن يخفض وزن النقد الفضي على حسب العيار الذي كان مستعملًا في البلاد الفينيقية، وهذا المعيار قد استمر حتى نهاية العهد البطلمي.
وقد كانت الفضة التي استُعملت العيار الرئيسي تتبع تقلبات السعر التجاري للذهب والفضة في عالم البحر الأبيض، فكانت السكوك المتتابعة تعطي للقطع النقدية الوزن الذي يجعل النسبة دائمًا محفوظة بين كل النقود المسكوكة من حيث القيمة دائمًا، فكانت نسبة الذهب للفضة واحدًا إلى عشرة في القرن الخامس، وقد نزلت هذه النسبة إلى حوالي واحد إلى عشرة بعد حملات الإسكندر الذي شتت شمل خزائن الدولة الفارسية.
وفي بداية القرن الثالث ازداد نزول قيمة الذهب كذلك في كل العالم الإغريقي، ومن ثم كانت نسبة وزن العملة هي واحد إلى ثمانٍ، وفي نهاية النصف الأول من القرن الثالث ازدادت قيمة الذهب شيئًا فشيئًا، ويرجع السبب في ذلك إلى انقطاع وصول الذهب من «البنجاب» في نفس الوقت الذي انسحب من هذا الإقليم التسلط المقدوني، يضاف إلى ذلك أن استغلال مناجم الفضة في أسبانيا بكثرة قد حطَّ من قيمة هذا المعدن بالنسبة إلى الذهب، وفي حوالي ٢٥٨-٢٥٧ق.م وُجد في تقدير محتويات كيس من المال جاء ذكره في ورقة من أوراق «زينون» ما يدلنا على أن النسبة بين الذهب والفضة هي واحد إلى ثلاث عشرة وثلث؛ أي إنها بالضبط النسبة التي كانت متبعة في القرن الخامس، وقد أكد ذلك أن استغلال مناجم الذهب في مصر لم يكن له تأثير على سوق هذا المعدن.
والواقع أن الفضة التي كانت نادرة في مصر في عهد البطالمة كما يدل على ذلك قلة ذكرها في ورقة «هاريس» الكبرى قد أخذت تدخل إلى البلاد بفتح باب التجارة بين مصر وبلاد الإغريق بمقدار قليل، ونجد في المعابد الكبيرة سبائك فضة كانت تُتداول، وقد جاء ذكر الفضة في العقود والأثاث وشراء العبيد والحيوان، وبوجه خاص ذُكرت بمثابة مهر زواج.
إصلاح العملة في عهد بطليموس الثاني
تحدثنا فيما سبق عن التغيير الذي أدخله «بطليموس الأول» في عيار الذهب والفضة على حسب العيار الفينيقي، وهذا النظام في العملة كان على حسب النظام المتبع في كل العالم الهيلانستيكي، ويتلخص في أنه ضرب عملة من الذهب والفضة مُقدَّرة على حسب قيمة هذين المعدنين في السوق كما ضرب قطع عملة من النحاس يصل قطرها حتى ثلاثين مليمترًا ذات قيمة اسمية، أو يعبر عنها بمثابة رمز لقيمتها كما هو الواقع في أيامنا.
ولكن في عهد بطليموس الثاني حدث تغير مُحَسٌّ في عام ٢٧٠ق.م وأهم مميز لهذا التغير هو إدخال قطع كبيرة من النقد النحاسي يحتوي على ثلاثة مسميات جديدة في العملة النحاسية يبلغ قطر كل منها على التوالي ٤٨، ٤٢، ٣٦، وهذه العُملات هي التي أصبحت قطع العملة السائدة الاستعمال في كل بلاد القُطر، وهذا التغيير لم تكن أهميته اقتصادية وحسب، بل كان له أهمية أخرى سنذكرها، وأول ما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن مثل هذه القطع الضخمة من النحاس لم يكن لها نظير في كل العالم الإغريقي، والواقع أن هذا التجديد يعد انفصالًا مميَّزًا عن تقاليد النقد الهيلانستيكي بالنسبة لملك من أصل هيلاني كبطليموس الثاني.
والسبب في هذا التجديد مقتضيات الشئون الداخلية للمملكة المصرية، وذلك أن استعمال النقود المسكوكة في البيع والشراء لم يكن يعد تجديدًا في مصر وحسب، بل إن فكرة استعمال عيار للفضة كانت فكرة غريبة لدى عامة الشعب المصري الأصيل، فإن معاملتهم التقليدية منذ أقدم العهود كما أشرنا من قبل كانت بالنحاس، وعلى ذلك فإنه من المحتمل أن التجار قد أظهروا ميلهم بصورة مُحَسَّة إلى بقاء استعمال النحاس في معاملتهم لدرجة جعلت الحكومة تمدهم بنقود من المعدن الذي اعتادوا التعامل به، وهذا الغرض قد يعضده الطابع الذي كان على ظهر العملة الجديدة؛ ففيما سبق كانت الصور التي تُطبع على النقود ذات طابع إغريقي، بل وكانت إغريقية محضة فنجد على وجه النقود المصنوعة من الذهب بعد أن أصبح بطليموس ملكًا على البلاد صورة رأسه، في حين كان على النقد النحاس صورة رأس الإسكندر (وذلك في نوعين واحد منهما بمسلاخ فيل، والثاني عارٍ) ورأس الإله «زيوس» وفي حين نجد من جهة أن هذه الصور قد بقيت لمدة على قِطَع النحاس الصغيرة القديمة نجد من جهة أخرى أن القطع الأكبر التي ضربها بطليموس الثاني قد طُبع عليها رأس إله له علاقات محلية بمصر وهو الإله «آمون» في «سيوة»، ومن الجائز أن هذا الطراز قد انتُخب ليميز هذه النقود بأنها نقود مصرية محضة.
ومما تجدر ملاحظته أن صورة «آمون» التي انتُخبت هنا كانت صورة «آمون» في شكله الإغريقي أي إله ذو لحية وقرن قصير ملتوٍ حول الأذن، ومن الجائز أنه قد جيء به إلى «سيريني» بالمستعمرين الدوريين، ومن هناك حمل إلى الواحة، وعلى أية حال فإن طراز هذا الإله كان موجودًا في «سيريني» من أقدم عهد فني سُجِّلت فيه صورته، هذا وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الوحي في «سيوة» قد ظهر في التاريخ الإغريقي قبل أن يظهر في التاريخ المصري، وإن كان وجود الإله «آمون» في «سيوة» يرجع إلى زمن بعيد، ولكن منذ غزو الفرس لمصر كانت عبادة آمون رع قد وُحِّدت بعبادة «آمون» سيوة، كما أوضحنا ذلك في غير هذا المكان في فصل سابق من هذا الكتاب، ومن المحتمل أن سبب ذلك يرجع إلى جماعة من كهنة آمون طيبة قد هربوا من الاضطهاد الفارسي واحتموا في واحدة سيوة وغيرها حيث كانت المعابد المصرية قائمة هناك، وكان توحيد الإلهين سهلًا ميسورًا، وذلك لأنه كان يوجد في «سيوة» إله يتفق في الاسم والمظهر مع إلههم آمون، وكان له قرنان، غير أن قَرْنَي الإله المصري الذي كان يمثَّل في طيبة وغيرها في صورة إنسان برأس كبش من فصيلة أخرى، وهذا التوحيد بين إله إغريقي وإله مصري كان يتفق مع السياسة البطلمية كما تحدثنا عن ذلك من قبل، وعلى ذلك فإنه عندما دعت الحاجة إلى إنشاء طراز ليوضع على النقود بوصفها مصرية فإنه كان لا بد أن يوجد في رأس إله صِفاته وعلاقاته معترَف بها من قِبَل الكهنة المصريين.
ومما تجدر ملاحظته أنه منذ ظهور العملة النحاسية الكبيرة الحجم في عهد «بطليموس الثاني» وانتشارها اختفت العملة الفضية من خزائن العملة في مصر وأخذت تحل محلها العملة الجديدة، ومن ثم نفهم أن النقد النحاسي الذي ابتدعه «بطليموس الثاني» كان رمزًا آخر وتوضيحًا للثنائية التي أُسست في مصر على طريقة النظام البطلمي، فمصر القديمة أي مصر التي كان يقطنها الفلاحون كان لها عُملاتها الثقيلة العتيقة المصنوعة من النحاس، وجنبًا لجنب معها قامت مصر الجديدة أي مصر الإسكندرية والإغريق بنقدها الأنيق الخفيف الوزن من الفضة والذهب الفاخرة، غير أن غرض بطليموس لم يكن إرضاء مطالب المواطنين المصريين بإدخال هذه العملة المصنوعة من البرونز بل رأى أن هذا النقد الجديد يمكن أن يمنع الفضة والذهب من التداول، وأن العملة المصنوعة من هذين المعدنين يمكن أن تعود شيئًا فشيئًا إلى الخزانة الملكية حيث تُكنز هناك ويستعملها الملك لأغراضه الخاصة، وهذا هو نفس ما حدث بعد حكمه.
والواقع أن نقد البطالمة كما ذكرنا كان الغرض منه أولًا أن يُستخدم في شئون تجارتهم وفي حاجيات مصر كما نظموها، وهذا الغرض نجده واضحًا في فرض قطع عملة ثقيلة الوزن كان مصيرها أن تصبح العملة الرئيسية في الأرياف (القرى)، هذا إلى قطع العملة التي تساوي ثلاث درخمات المصنوعة بكثرة من الفضة، وهي التي كان لها عيار ثابت، وكانت لا تُستعمل تقريبًا إلا في الإسكندرية والأملاك المصرية في الخارج وفي الممالك الأجنبية التي تتَّجر مع مصر، ولكن نجد من جهة أخرى أن العملة البطلمية كانت سلاح دعاية داخلية، وكان الذهب هو الوسيلة، وذلك أن الذهب لم يكن يُستعمل في تجارة البلاد الداخلية وبخاصة أجمل النقود، ونخص بالذكر منها القطع ذات خمس الدرخمات التي ظهرت في عهد «بطليموس سوتر»، وفيما بعد القطع ذات ثماني الدرخمات، وغيرها التي ضُربت في عهد «بطليموس الثاني» و«أرسنوي» وعليها صورتا بطليموس وزوجه «أرسنوي» وهذه النقود كانت تستعمل بوجه خاص في التجارة الخارجية والأمور السياسية، ولا نزاع في أن هذه النقود كان لها تأثير على معاصري بطليموس بما كانت تدل عليه من فخامة وغنًى وقوة.
وهذا الخطاب يقدم لنا برهانًا واضحًا على إقامة مصر نوعًا من الاحتكار لتبادل العملة وعلى الأقل العملة الذهبية التي كانت مربحة جدًّا للملك وخسارة ظاهرة للتجار، وذلك أن لم يكن مسموحًا بوجود صرَّافي عملة خاصين ولا يوجد مصارف حرة أو ملكية للقيام بهذه العملية بل كانت كل هذه العملية مركَّزة في الإسكندرية في يد موظف ملكي خاص، ولم تكن مثل هذه الإجراءات معروفة في العالم الإغريقي فيما مضى، والواقع أن مجرد وجود هذا الاحتكار كان يعني منع الذهب الأجنبي من دخول السوق المصري، يضاف إلى ذلك أن أمر الملك بضرب هذه النقود من جديد كان أشد خطرًا، وهذا يعني أن الملك قد فرض أنه من المسلَّم به أن كل أعمال التجارة الهامة في مصر التي كان الذهب يستعمل فيها سبيلًا للمبادلة، لا بد أن تقام على أساس العملة البطلمية، على أن مثل هذا الحظر على حرية التجارة قد زاد في خطورته لتسير على حسب النظام البيروقراطي المُبالغ فيه مما جعل عملية الصرف وإعادة ضرب النقود الأجنبية بطيئة وغير منظمة مما سبب غضب التجار الأجانب وسخطهم.
ومما سبق نفهم أن السياسة النقدية في عهد كل من بطليموس الأول والثاني كانت تتمثل في وجهتين؛ فمن وجهة تدل شواهد الأحوال على أن مصر كانت ملك بطليموس أو بعبارة أخرى ضيعته التي كان لها وجود منفصل، وكانت متصلة بسائر العالم الهيلانستيكي عن طريقه هو وحده، وهذا كان معناه إدخال العملة المضروبة من النحاس في مصر وتعميمها فيها، ومن وجهة أخرى قد ادَّعى البطالمة الأُول لأنفسهم مكانة استثنائية في العالم الهيلانستيكي، ولم يرغبوا في أن يكونوا أعضاء في توازن القوى الهيلانستيكية بل صمموا على أن يعيشوا في برج عاجيٍّ، اللهم إلا إذا كان في مقدورهم أن يجذبوا شيئًا فشيئًا سائر العالم الهيلانستيكي إلى حظيرة دائرة نفوذهم، ومن أجل ذلك مالوا إلى قبول عيار النقد الفينيقي وفرضهم الاحتكار الملكي وذلك باستعمال نقدهم على كل إمبراطوريتهم.
وقد تُوِّجت سياستهم بالنجاح، وعلى الرغم من أنه لم يكن في مقدورهم فرض سيادتهم على العالم الهيلانستيكي، فإنهم بلا نزاع أصبحوا بمعزل عن سائر هذا العالم، وهذه العزلة قد أصبحت شيئًا فشيئًا المميز الرئيسي لحياة البلاد المصرية وقتئذ.
تلك كانت حالة النقد في عهد كل من «بطليموس الأول» و«بطليموس الثاني» بشيء من الاختصار.
المصارف وأعمالها في عهد بطليموس الثاني
فكان بطليموس يضمن لأصحاب الامتياز، أو بعبارة أخرى أصحاب المؤسسة، الحق المطلق في بيع العملة وشرائها وتحويلها، وكان الملك يورد للمصارف جزءًا من المال الذي تتعامل فيه المؤسسة، وذلك لأن الخزانات الملكية التي في القرى والمدن والمصارف الملكية كان يودع فيها حصيلة الضرائب لحساب المصارف المؤمَّن عليها وهي صاحبة الامتياز، كل عشرة أيام وإلا عوقب من خالف ذلك بدفع غرامة، من ثم نفهم أن الملك كان يمون ملتزمي المصارف بالمادة الأولية وهي العملة كما كان يضمن لمَعاصر الزيت المواد الدهنية التي يُستخرج منها الزيت وهي السمسم وغيره.
وكان الملك يصدر مرسومًا بسعر النقد كما كان يحدد سعر بيع الزيت، وكان على أولئك الذين يشترون حق إدارة هذا المورد الملكي (أي المصرف) أن يجعلوه ينمو ويربح، هذا وقد وُصفت لنا العمليات التي خُوِّلت لرجال المصارف في العمودين ٧٧-٧٨ من «قوانين الإيرادات»، غير أن هذين العمودين بكل أسف قد وُجدا ممزَّقينِ في البردية كلَّ مُمَزَّقٍ، ومن الجائز أن الملك قد دون فيها سعر الفائدة التي تُقرر على القروض، وتدل الظواهر على أن رجال المصارف لم يكونوا محصنين ومحميين فيما يخص موضوع القروض كما كانوا محصنين في موضوع سعر تحويل النقد والاتجار فيه من جهة المنافسة الحرة؛ فقد وجدنا في سجلات بردي «زينون» المشهورة أنه توجد بوجه خاص وسائل عدة للإقراض عُقدت بوساطتها قروض بين أفراد الشعب، والواقع أن السعر القانوني للوارد من العملة يجب أن يكون محددًا بحيث يكون هناك توازن بين الشاري والمشتري، وقبل كل شيء في صالح الملك الذي كان يقرر هذا السعر، ولذلك كان على الملك أن يحتفظ بسعر مرتفع لحد ما، لأجل أن يشتري منه الملتزمون بثمن أغلى حق ثمن إدارة المصارف، وكذلك لأجل أن يودع أصحاب رءوس الأموال نقودهم عن طيب خاطر في مصر، غير أن هذه الاتجاهات التي ترمي إلى ارتفاع السعر كانت محددة فيما يخص المقرضين من أفراد الشعب، ولكن منافساتهم كانت في الواقع ضعيفة، وذلك لأن طلب رءوس الأموال كان يأتي غالبًا من الملك نفسه أو من ملتزمي المصارف.
والمصرف الذي أقامه الملك هو على ما يظهر المصرف المركزي بالإسكندرية، فهل كان «أبوللونيوس» يديره بوصفه أحد موظفي الملك ومدير ماليته أو بوصفه ملتزمًا؟ وتدل شواهد الأحوال على أن الوزير «أبوللونيوس» كان ملتزم مؤسسات، وعلى أية حال فإن المتن يكشف عن وجود مصرف رئيسي وهو مصرف الملك، وكذلك مصارف المقاطعات التي تعمل تحت إشرافها مصارف المراكز والقرى، غير أننا لا نفهم على وجه التأكيد وظيفة المصرف المركزي بالإسكندرية، ولكن يحق لنا أن نقول إنه كان يدير مجموع كل إيرادات الملك ويمد مشاريعه الكبرى بالمال اللازم لإتمامها.
هذا وكانت مؤسسات الإيداع بوصفها إدارات إيرادات ملكية تتسلم كذلك الرهونات العينية أو الرهونات العقارية التي أودعها الملتزمون الملكيون أو مَنْ ضَمِنَهم، والأثمان التي حصلت عن بيع المنتجات التي قَدْ رُهِنَ عليها وفاءَ ضرائبَ معينةٍ، والمبالغ المستحقة للحكومة على المَدِينِينَ.
وقد استُنْبِطَت المهام التي تقوم بها هذه المصارف من وثائق عدة، وهي عبارة عن المخالصات التي كان يصدرها رجال المصارف وإيصالات الدفع، كما جاء ذكر دفعات أُودعت لحساب الملك في كثير من حسابات أوراق «زينون» أو في خطابات من سجلاته وفي دفاتر الوارد التي كان يستعملها رجال المصارف، وتسجيل عقود بيع حيث كان يشهد موظف المصرف بأن حقوق نقل المدفوعات قد حُصلت، ومن جهة أخرى نجد أن المصارف كانت تدفع مبالغ بمقتضى مستند يصدره موظف مختص، كما كان يؤخذ عن بعض المصاريف الملكية إيصالٌ، وذلك مثل المرتبات ومصاريف الإدارة وصيانة الضيعة وثمن المشتريات والمبالغ اللازمة للمشروعات العامة.
راجع حسابات الإيرادات في كل قرية إذا أمكن — وهذا على ما يظهر ليس بالأمر المستحيل إذ كنت مخلصًا للأعمال — وإلا ففي كل مركز، ثم صوِّب مراجعتك فيما يخص الدخل النقدي على المبالغ الوحيدة التي أودعت في المصارف، وفيما يخص الإيرادات التي دُفعت قمحًا أو ثمارًا دهنية على الدفعات التي ورَّدها مديرو مخازن القمح، وإذا كان هناك بعض عجز فعليك أن تجبر حكام المراكز والملتزمين بالإيرادات على أن يدفعوها في المصرف، أما عن العجز في القمح فعليهم أن يدفعوه بالثمن المحدد وعن المواد الدهنية بثمن الزيت الذي كان يجب أن تباع به المواد الدهنية، وذلك بالسعر المحدد لكل نوع من الزيت.
ومن ثم نرى أن مخازن الغلال العامة والمصارف كانت مراقبة بنفس الطريقة وبنفس الموظف، وقد يُلحَظ الإنسان أن المسئولية المالية الواقعة على عاتق مدير المصرف وهي التي اعترف بها «سمتوس» لم يأتِ ذكرها هنا.
وقد اتضح من قوانين الإيرادات أن الأرصدة الفعلية من الإيرادات التي دخلت الخزانة الملكية قد وكل أمرها لمديري المصارف الذين أجروا من الملك الحق المطلق لاستثمارها.
وكان مجمل المبلغ الذي تملكه المؤسسة يمثل الربح الصافي الذي يجنيه الملك من محصول إيراداته.
ولم يكن عمل رؤساء المصارف قاصرًا على أموال الملك في التعامل بل كانوا يستغلون رءوس الأموال التي كان يودعها أفراد الرعية، فمن ذلك أن الوزير «أبوللونيوس» كان له حساب في عدة مصارف في القرى، والظاهر أن هذه الأموال لم تكن تُستعمل بالربا.
تسلم المبلغ المذكور أدناه وقُيِّد لحساب أبوللونيوس …
من ذلك نفهم وجود مراسلات بين مديري المصارف مما يجعل عمليات التعامل في نقل النقود عملية واحدة لرصيد شخص بعينه.
والواقع أن عدد الدفعات التي أجريت بوساطة المصارف بهذه الصورة بين رجال الأعمال الذين التفوا حول «أبوللونيوس» كانت كثيرة، فكانت المرتبات تُصرف بشيكات، وكذلك تُعطى وكلاء التجار شيكات لمدهم بالمال، كما كانت تدفع حسابات مقاولين عدة من الذين يعملون في الضيعة بالشيكات، وتحول مبالغ من حساب شخص لآخر بشيكات، غير أنه ليس لدينا أمثلة مؤكدة في هذا الصدد، ومع ذلك فإنه كان لا بد أن «أبوللونيوس» عندما كان يدفع بعض الضرائب المستحقة على ضيعته للملك قد اتبع طريقة التحويل، وعلى أية حال فإن هذه الطريقة لم تكن معروفة في العالم الإغريقي خلال القرن الرابع ق.م كما لم تكن معروفة في مصر في العهد البطلمي، ومع ذلك فإنه ليس لدينا ما يدعو لعدم استعمالها في حسابات «أبوللونيوس» المختلفة.
وتصريف عمليات المصارف بهذه الصورة يفسر لنا النشاط الاقتصادي حيث كانت تُستخدم واردات الملك وهي محصول العمل في مصر، وكذلك رءوس الأموال التي كان يدعها الإغريق على قيمة العمل المصري.
ولأجل أن تقدر أهمية المصرف المصري كان لا بد من معرفة عنصر هام وهو مقدار الأعمال التي كان يقوم بها، والواقع أنه ليس لدينا أية فكرة عن مقدار المبالغ التي كان يتصرف فيها فرد مثل «بثون» أو المبالغ التي كانت تتعامل فيها مصارف «الإسكندرية».
هذا وكانت نسبة العمليات المالية التي تُجرى لحساب الملك كما وُجدت في الوثائق الخاصة بالقرى تؤلف الجزء الأكبر من حيث النقد، وذلك لأن الفلاح المصري كان لا يظهر في المصارف إلا عندما كان يأتي إليها لدفع مبالغ لحساب الملك أو ليتسلم مرتبه، ولكن من جهة أخرى نجد أن الصانع أو التاجر المصري أو الإغريقي كان يحتاج إلى خدمات المصرف الذي كان يصفي له كل أعماله، والواقع أن المصرف الإغريقي كان متأصلًا في حياة المجتمع المصري.
ومع ذلك فإن ما كان يؤديه المصرف من خدمة للمواطنين المصريين لم تكن إلا عملية مربحة تنحصر في دفع مبالغهم التي كانت كل فائدتها تعود على الملك وحده، ومن ثم نجد أن الأوضاع الإغريقية التي أُدخلت في مصر لم تتغير من حياة الفلاح المصري، ومن أجل ذلك نفهم لماذا كانت تعود الحياة المصرية إلى ما كانت عليه عندما كان يضعف سلطان الملك في البلاد، هذا وإذا كان لدينا معلومات عن مصارف الإسكندرية التي كانت لا تعتبر جزءًا من مصر لأمكننا دون شك أن نرى ونقدر اقتصادًا مختلفًا حيث كانت الأعمال الحرة في بلد حرة هي صاحبة السيادة.
ومع ذلك فإن الشعب المصري لم يفقد كل شخصيته من هذه الناحية في أمور أخرى، فقد كانت هناك وحدات اقتصادية قائمة بذاتها منذ أقدم العهود، وأعني بذلك الشعائر الدينية التي كان يمدها الملك بالمال والآلهة المصريين الذين كانوا يملكون الحدائق والكروم الشاسعة التي كان دخلها من النقد ينفق منها على خدمتهم، وجماعات الكهنة الذين كانوا يتمتعون بمعاشات ملكية، والمعابد التي كانت تنظم مراكز صناعة مزدهرة، كل هذه الوحدات كان مثلها كمثل المعابد القديمة تعتبر مؤسسات تملك أموالًا هامة، وهذا أمر لا نزاع فيه لأن الامتيازات كانت من الأشياء الموروثة عن مصر الفرعونية وظلت باقية مستمرة في عهد البطالمة الذين كانوا يَعملون جهدَهم في اكتساب حب رجال الدين إلى جانبهم، وأهم وثيقة تحدثنا عن مبلغ سلطان رجال الدين ومقدار نفوذهم وامتيازاتهم في عهد الفراعنة هي ورقة «هاريس» الكبرى التي خلفها لنا رعمسيس الثالث؛ ففي هذه الوثيقة نجد شرحًا مستفيضًا عن مكانة رجال الدين والآلهة في العهد الفرعوني، وقد أسهبنا القول في محتويات هذه البردية وبخاصة أن كل التراجم التي وُضعت لها قد أخطأها التوفيق بصورة مَشينة مما قلب الأوضاع رأسًا على عقب (راجع مصر القديمة الجزء السابع)، وسنتحدث فيما بعد عن الحياة المصرية في عهد البطالمة الأول بما لدينا من وثائق ديموطيقية من عهدَيْ بطليموس الأول والثاني.
ومن هذا التتابع في العمليات نفهم أن المبالغ التي كان يستحقها الملك من مدينة «هليكارناسوس» قد أُودعت في المصرف، وأن هذه الأموال كان يمكن أن تُستعمل في عمليات مالية، وأن سلفيات هامة كانت تعمل بمال الملك الذي كان يعتبر صاحب رأس مال ضخم، وأن النقل الفعلي للنقد إلى ما وراء البحار قد تُجُنِّبَ، وذلك لأن المال المقترض كان قد استُعمل في مكانه في «هليكارناسوس» لإعداد سفينة، وأنه كان سيدفع ثانية في الإسكندرية للوزير «أبوللونيوس» ممثل الملك ودائن المقترض وهو مدينة «هليكارناسوس»، هذا ولا نرى أن هذه السلفيات كانت مربحة، ولكن من المحتمل أنها كانت تأتي بأرباح غير مباشرة.
(٢) موارد الضرائب الأخرى التي لم يشدد عليها الاحتكار الخناق بصورة سياسية
(٢-١) النسيج
كان النسيج من أهم موارد الإيرادات للدولة في عهد البطالمة، وقد عُنِيَ «بطليموس الثاني» بأمر هذه الصناعة فقد ذكرها في بردية «قوانين الإيرادات»، ولكن مما يؤسف له أن الفقرة التي جاء فيها ذكر هذه الصناعة وُجدت ممزقة.
والواقع أن إيرادات النسيج كان مثلها كمثل إيرادات الزيت تؤجر للملتزمين ويشرف على تحصليها السكرتير المالي للمقاطعة ومندوبوه، أما المواد التي كانت تُستعمل للنسيج فهي الكتان والصوف والقنب.
وفي هذا المصدر نجد أن الكتان قد اعتُمد من بين النباتات التي فُرضت زراعتها والرقابة عليها، وتدل شواهد الأحوال على أن توزيع البذور أو القرض لشرائها قد وكل أمرهما لحكام المقاطعات أو المراكز المسئولين أمام الملك والملتزم المسئول عن توريد دخل المحاصيل في الحال، هذا وكان السكرتير المالي موكلًا بالإشراف على جمعها، والظاهر أن تحديد زراعة المساحات المخصصة للكتان لم تكن إجبارية كما أن زراعة الكتان لم تكن قاصرة على أراضي الملكية وحسب.
صناعة النسيج
وتدل ظواهر الأحوال على أن صناعة النسيج كانت مسألة عويصة أكثر تعقيدًا من صناعة الزيت، يضاف إلى ذلك أنها كانت من الصناعات التي امتازت بها مصر القديمة كما أشرنا إلى ذلك الآن.
صناعة الصوف
وبعد توريد النسيج والملابس على الوجه المطلوب كان يفحصها السكرتير المالي بكل دقة وعناية وكانت تُدفع للنساجين أجورهم على حسب التعريفة الموضوعة لذلك، وإذا اتفق حدوث نقص في الكمية أو النوع المتفق عليه فكان يُغرَّم النساجون بالفرق على حسب التعريفة التي على ما يظهر كانت كالسابقة، أما فيما يتعلق بالأنوال التي كانت لا تدار فكانت تؤخذ من النساجين وتُحفظ في مخازن عاصمة المقاطعة خوفًا من تشغيلها خلسة.
ولدينا وثائق عدة تحدثنا عن تجارة الصوف بعبارات تدل على أنها كانت تجارة حرة، فمثلًا نعلم من مراسلات «زينون» أن سيده الوزير «أبوللونيوس» كان له مصانع في مدينة «منف»، ويحتمل كذلك في بلدة «فيلادلفيا» وكان يُصنع فيها الصوف بكميات كبيرة، ونعلم أن المصانع فيهما كانت تعمل لسد حاجات أولئك الذين كان يستخدمهم «أبوللونيوس» في ضيعته وللسوق أيضًا، ولا نظن أن حالة «أبوللونيوس» هذه كانت حالة فردية؛ إذ لدينا وثائق عدة تتحدث عن النسيج ويحتمل أن معظمه ملابس من الصوف كان يبيعها لخلق مختلفين، وعلى وجه عام يظهر من المحتمل أن صناعة الصوف كانت منظمة بنفس الطريقة العامة التي كانت مُتَّبعة في الكتان مع الفارق أن التحفظات التي كانت تتبع في صناعتها أقل.
وعلى أية حال كان البطالمة يبذلون مجهودًا لإنتاج صوف يعادل في جودته الصوف الذي كان يُنتج في بلاد الإغريق و«آسيا الصغرى» و«بلاد العرب»، وأسهل طريق للوصول إلى ذلك كان باستيراد غنم أجنبية وأقلمتها في مصر.
(٢-٢) صناعة الجعة
كان قدماء المصريين يُعَدُّون، على ما يُحتمل، أعظم قوم في العالم يحتسون الجعة، وتدل الآثار الباقية على أن الشعب المصري كان يشرب الجعة منذ عصر ما قبل الأسرات، فقد وُجد مدفونًا مع رجل ما قبل الأسرات، وما قبل التاريخ جِرَار من الجعة فيها بقايا هذا الشراب، وعلى أية حال لا يمكن أن نضع تاريخًا محددًا لبداية استعمال المصري للجعة، وبعد أن بدأ المصري يعرف الكتابة والقراءة وجدنا على كل لوحة قبر صلاة ودعاء يطلب فيها أن يمون المتوفى بأهم مقومات الحياة في نظره وهي الخبز والجعة، وأحيانًا النبيذ، هذا ونجد أحيانًا قائمة حقيقية بالمواد التي تتألف منها وجبة المتوفى، فكانت الجعة تعد من ألزم المواد وأهمها له، وأقدم مصادر ذكرت فيها الجعة قوائم القربان ويرجع عهدها إلى حوالي ٥٤٠٠ سنة ق.م أي منذ عصر بناة أهرام الجيزة وقبله، وتسمى الجعة في المصرية القديمة «حنكت»، وكانت تصنع بنقع الخبز المصنوع من الشعير أو الشعير المحمص بعض الشيء في الماء لمدة يوم ثم يُنشر في الهواء ثم يُنقع في الماء ثانية لمدة خمس ساعات يُصفى بعدها ثم يوضع ثانيًا في مكان دافئ حتى يتخمر ثم يوضع عليه نقيع بعض الأعشاب المُرة، وفي هذا الوقت كانت تؤخذ المادة المُرة من الترمس لأن المصريين كانوا لا يعرفون وقتئذ حشيشة الدينار الأصلية.
والمناظر التي كان يرسمها المصريون والتي لا تزال باقية حتى الآن على جدران مقابرهم التي عُثِر عليها منذ وقت قريب، تدلنا على الطرق المختلفة لصناعة الجعة، وكانت تصنعها عادةً النسوة، هذا وكان الملوك والأشراف وأثرياء القوم يضعون جعتهم في منازلهم، أما رجل الشارع فكان يحتسي جعته في حوانيت الجعة العامة التي ترجع إقامتها وفتح أبوابها للشعب إلى ما يقرب من أربعة آلاف سنة مضت، وكانت تعرف باسم حوانيت الجعة.
هذا وكان المصري القديم يحتسي أنواع عدة من الجعة، وقد وصلت إلينا قائمة بأنواع الجعة التي كان يعدها الملك «أوناس» (حوالي ٢٦٢٥ق.م) ضرورية لحياته الآخرة، ولا نزاع في أنه كان يفرج بها عن نفسه من هموم الحكم ومتاعبه، ومن هذه الأنواع الجعة العادية «حنكت» وجعة الصداقة «خنسس» والجعة الفاخرة «سزرت» وجعة زويو، وكلها قد نُقشت أسماؤها على جدران قاعة دفنه بهرمه في «سقارة»، وكانت الجعة السوداء كذلك معروفة؛ فقد جاء اسمها بعد ذلك بألف سنة في النقوش أي منذ ٣٠٠٠ سنة مضت، وتدعى «شدح» وكانت تُحلى بعسل النحل، وهناك نوع آخر يُدعَى «قده» كان يؤتى به من بلاد تحمل نفس الاسم في آسيا الصغرى، ولكن على الرغم من ذلك كانت مصر تعد أهم بلد لإنتاج الجعة والموطن الأصلي لصناعتها. وكانت الجعة تلعب دورًا هامًّا في حياة المصري القديم؛ فقد كانت تُستعمل كإحدى وسائل المعاملة (التبادل) ولدينا نقش من عهد الأسرة الخامسة تركه لنا أحد نبلاء القوم دُفن في مقبرة عظيمة بجوار الهرم الأكبر بالجيزة، ويقول فيه: «لقد أقمت قبري هذا ودفعت أجر إقامته خبزًا وجعة.» وعلى أية حال كانت الجعة من أهم دواعي جلب السرور للقوم حتى إن التعبير «شرب الجعة» كان معناه إقامة وليمة، وقد أخبرنا «هردوت» أن الأعياد الوطنية التي كانت تقام في «بوبسطة» كان شراب الجعة فيها هو الشراب المفضل.
لا بد أن تعلم أن «بياس» قد أجر حانوت الجعة الكائن ببلدة «فيلادلفيا»، وقد أخذ على عاتقه أن يدفع للخزانة على حسب الإنتاج اليومي من بيع الجعة من اثني عشر إردبًّا من الشعير، فحرِّرْ معه عقدًا، وبعد حلف اليمين سلِّمْه حانوت الجعة، وكذلك عيِّن معه محصلًا أمينًا لمراقبة العمل، أما عن صانع الجعة الحالي فيجب عليه أن يقوم بالتزاماته عن المدة التي كان يدير فيها هذا العمل.
ثم تحدث بعد ذلك بقليل في نفس السنة قائلًا: إن صانع الجعة «أمناس» قد اتهمه صراف الخزينة أو المراقب بأنه فَاهَ بكلام يُعَدُّ جريمة، ومن أجل ذلك أرسل «أبوللونيوس» قاضيًا خاصًّا ليستمع للقضية، فهدد «أمناس» بأنه إذا ثبتت عليه التهمة فإنه سيُساق في الشوارع، وبعد ذلك يُنَفَّذ فيه حكم الشنق، والظاهر أن الموضوع كان سياسيًّا أكثر منه اقتصاديًّا، وسيأتي ذكره فيما بعد.
أما عن «بياس» السالف الذكر فإن على إثر وصوله إلى فيلادلفيا ادعى أن اتفاقه مع «أبوللونيوس» كان على أحد عشر إردبًّا، فكتب «زينون» في هذا إلى الوزير «أبوللونيوس»، وبعد مضي ثمانية أيام جاء رد الوزير على ذلك مظهرًا فيه دهشته وحيرته وقد أخبره الوزير بأنه كذب عليه، ثم قال: «احجزه حتى أصِلَ ومُرْ بملاحظة حانوته.» وتحليل هذا الموضوع هو أن الملتزم الذي قيد اسمه ضمن جماعة جعة مقاطعة «أرسنوي» قد اتفق مع «أبوللونيوس» على أن يدير حانوت جعة بلدة «فيلادلفيا»، بصنع اثني عشر إردبًّا من الشعير يوميًّا جعة، وقد أخذ على نفسه عهدًا بأن يشتريها يوميًّا من مخازن الدولة، ومن الواضح أنه بصرف النظر عن ضيعة «أبوللونيوس» نجد أن مثل هذه العقود لم تكن تُبرَم بوساطة الوزير بل بوساطة مدير مؤسسات المقاطعة وهو السكرتير المالي الذي يورِّد الشعير يوميًّا لحانوت الجعة، وكان العقد يوافق عليه بِحرية غير أن الخطابات التي أوردناها هنا تكشف عن الحالة السيئة التي كانت عليها الإدارة التي تبيع مثل هذه الامتيازات للمتلزمين.
فنجد أن «بياس» لأجل أن يحصل على الصفقة وعد بشراء كمية أعلى من التي كان يمكنه أن يصرفها، ولكنه بمجرد تسلُّم حانوت الجعة نجده أخذ يتلاعب التراجع في قوله، وبدلًا من شراء ١٢ إردبًّا لم يرغب إلا في شراء أحد عشر إردبًّا، على أننا نعرف قبل العثور على هذه الأوراق التي حللناها هنا بأن صانع الجعة وصاحب حانوتها كان في العادة فردًا واحدًا في كل حالة؛ أي إنه هو الذي كان يصنعها ويبيعها، وذلك لأن صناعة الجعة كانت لا تحتاج إلى عناء كبير أو إلى آلات خاصة كما شرحنا ذلك من قبل، هذا ونعلم أن حقوق صناعة الجعة وبيعها لم تكن مباحة لكل فرد؛ فقد كان على صناع الجعة أن يحصلوا على رُخَص خاصة بذلك يدفعون عليها رسومًا، وهذه الرخص كانت تحرَّر في صورة عقد خاص يُبرم بين صانع الجعة وهو صاحب الحانوت والملتزمين بصناعة الجعة وموظفي الحكومة، والآن نعلم أكثر من ذلك فنعرف أن صناع الجعة كانوا يتسلمون موادهم الغفل أي الشعير من الحكومة أو من ملتزم صناعة الجعة في صورة «قرض» كان عليهم أن يصنعوه جعة ويبيعوه، وكان كل مقدار من الشعير يتسلمه صانع الجعة يحدد المبلغ الذي كان عليه أن يدفعه من إيجاره، أما الجعة التي كان يصنعها فكانت تباع كلها في حانوته، وكان ثمن ما يباع لا يتسلمه هو بل كان يستولي عليها الصراف والمراقب، وعلى ذلك فكانا إما مشتركَيْنِ معه في الجريمة أو من ألَدِّ أعدائه، وكانت النقود المتحصلة تُدفع لخزانة الدولة وتضاف إلى حساب المؤسسة، وبعد خصم ثمن الشعير يعمل حساب ختامي عام، وبعد خصم المصروفات كلها منه كان صناع الجعة يتسلمون ما يبقى بوصفه دَخْلَهم الخاص.
ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن الملك وبخاصة «بطليموس الثاني» كان يستغل المنافسة التي كانت تقوم بين الملتزمين عند تقديم عطاءاتهم فيكسب بذلك أعلى الأثمان لإيجاره، ولكن لما لم يكن في مقدور من رسا عليهم العطاء أن يقوموا بالتزاماتهم دفعة واحدة، فإنه كان ينجم عن ذلك سلسلة مشاكل تؤدي إلى استيلاء الملك على ما قدمه الملتزمون من ضمانات أو الحبس بسبب الدَّين للخزانة، وكان أحيانًا يستولي على الملتزمين الفزعُ فكانوا يعملون على التخلص من الوقوع في الخطأ وذلك بارتكاب الغش والتزوير في إمضاءاتهم أو بالبيع بأثمان أعلى من التسعيرة المفروضة، وفي هذه الحالة كانوا يعرضون أنفهسم للمراقبة والمحاكمة، ولا أدل على ذلك مما فعله «بياس» السالف الذكر.
هذا وكان العقد الذي يصحبه اليمين يحتوي فضلًا عن ذلك على الرهونات الخاصة به كما هي العادة، ومعلوم أن الجعة غذاء ضروري، غير أن استهلاكها كان أقل من استهلاك زيت الاستصباح على وجه التأكيد، وعلى ذلك كانت فرص المؤسسة قليلة في الربح، فكل نقص في عدد السكان وكل تأخير في دفع المرتبات وكل تخفيض في عدد سكان القرية كان يؤثر في دخل حوانيت الجعة، وكذلك نجد في جانب أولئك من كان ينازع مثل «بياس» وهو من القلة الذين كانوا يأملون في استغلال كبير وخاب ظنهم فكانوا يطلبون إعادة النظر في عقودهم.
والواقع أن الملتزم لم يخرج عن أنه كان وقتئذ في أغلب الأحيان رجل مال يضمن للملك تحصيل إيراده، فقد كان يؤجر إيراد قرية أو عدة قرى دفعة واحدة، ولم نجد في الاقتصاد الملكي ما يشير إلى وجود مشاريع تدار بالوراثة من الأب إلى الابن مع العناية بالمحافظة على نقل ثمرة مجهود طويل في الأسرة.
والواقع أن الاقتصاد البطلمي كان يجهل الصناعة الأسرية أي التي كان يرثها الابن من الأب ولذلك نجد أن الفرد يكون مدة عام ملتزم زيت قرية مثلًا وبعد ذلك يكون في عام آخر مؤجرًا للجعة، وفي الوقت نفسه مؤجرًا لمادة الملح مثلًا، وعلى أية حال نجد أن العمال الذين يعملون في ذلك كانوا مرتبطين بمقاطعتهم فلا يغادرونها إلى مكان آخر، هذا ويُلحَظ اختفاء هذا التثمير في المجهود الذي يسعى إليه الإنسان ليصبح ملتزمًا، وذلك عن طريق اشتراك رجل مال وعامل لا يعرف الواحد منهما الآخر، وهذا من خواص اقتصاديات أصحاب رءوس الأموال في هذه الفترة، وقد ظهر في نظام حانوت الجعة هذا الخطأ في الاقتصاد البطلمي أكثر مما ظهر في احتكار الزيت؛ وذلك لأن البطالمة أرادوا تفريق الخطر والعمل والمكسب والمبادرة، وبذلك خلقوا عند الفرد حاسة التجارة، ومن المحتمل أن هذا هو سبب الركود الاقتصادي الذي وقعت فيه مصر منذ القرن الثاني ق.م.
(٢-٣) زراعة الزيتون والنباتات الأخرى التي غُرست في عهد «بطليموس الثاني»
وعلى أية حال نعلم على وجه التأكيد أنه قد عُملت محاولة في عهد البطالمة الأول لإمداد السكان الإغريق في مصر بزيت وطني، وبذلك أصبحت مصر من هذه الوجهة كذلك مستقلة عن الوارد الأجنبي من هذه السلعة.
(٢-٤) الفاكهة والخُضَر
(٢-٥) الأفاويه وسيطرة الملك عليها
كان الملك في مصر يسيطر على تجارة الأفاويه وهي المُر والقرفة والقثاء الهندي وغيرها، وهذه الأشياء كانت تُعرف عند الإغريق بالعطريات، وكان معظمها يرد إلى مصر من بلاد العرب وشرقي «أفريقيا» وبلاد «الهند»، وكان الاستهلاك المحلي من هذه الأفاويه بوصفها موادَّ غفل أو مصنوعة من روائح عطرية، وكذلك تصدير جزء منها إن لم يكن كلها بمقادير عظيمة بمراقبة الإدارة الملكية.
الظاهر أن تجارة التجزئة كانت أثمانها محدودة، ومن ثم يظهر من المؤكد أن الملك خلافًا للمراقبة الشديدة التي كان يفرضها على الزراعة التي كانت تدر عليه دخلًا كبيرًا من المأكولات والمواد الغفل وعلى المعادن والمحاجر وصيد الأسماك والصيد إلخ، كانت له مراقبة أخرى تامة وأحيانًا جزئية على فروع كثيرة من النشاط الاقتصادي، وبهذه الطريقة كان إنتاج المواد الأساسية وبيعها في يَدَيِ الملك، وكانت تدار على حسب نظام قويم.
انتبه كذلك حتى لا تباع السلع المعروضة للبيع بأسعار أعلى مما هو محدد لها، وقُمْ بفحص دقيق لهذه السلع التي لم يحدَّد ثمنها، وهي التي يمكن التجار أن يضعوا لها أثمانًا على حسب أهوائهم، وبعد أن نضع زيادة معقولة على السلع التي تباع اعمل … التصرف فيها.
(٣) وسائل النقل
تحدثنا فيما سبق عن إدارة الإنتاج والبيع في داخل البلاد، وذكرنا أنها كانت منظمة لصالح الملك قبل كل شيء، هذا وكانت وسائل نقل المنتجات منظمة على نفس المبادئ العامة التي تسير على مقتضاها السياسة البطلمية. حقًّا لم تكن وسائل النقل المحلي منظَّمة بدقة وقوة، وذلك على الرغم من أنه كانت تحصَّل ضرائب معيَّنة على دواب الحمل وبخاصة الحمير، كما كانت تجبى ضرائب خاصة على أولئك الذين يشتغلون في أعمال النقل، وهذا النظام كان ينطبق كذلك على طرق النقل النهرية بسفن ذات شحنات مختلفة، ولم تكن قاصرة على الملك؛ فقد جاء في وثائق كثيرة ذكْر سفن يملكها أشخاص أحرار، وكذلك ذُكرت دواب حمل لأفراد من الشعب، فنجد مثلًا أن «أبوللونيوس» وزير الملك «بطليموس الثاني» كان يملك طرقًا كثيرة للنقل برًّا وبحرًا استعملها لنفسه ولموظفيه لتنقل السلع التي كانت تنتجها ضيعته في الفيوم، وكان له قائد بحري خاص يُشرف على أسطوله الخاص، غير أن حالة «أبوللونيوس» يمكن أن تكون فردية استثنائية، والواقع أننا لا نعلم إذا كانت هذه السفن التي كانت تحت تصرفه يملكها «بطليموس الثاني» بوصف أن «أبوللونيوس» وزيره أو كانت تابعة لضيعته، ولا شك في أن موضوع النقل كان مسألة هامة في نظام الاقتصاد البطلمي، ولا أدل على ذلك من أن لوازم الجيش في وقت السلم والحرب وفي أسفار الملك العديدة، وكذلك في أسفار رجال حاشيته وموظفيه الآخرين وتنقلات البريد وبخاصة نقل كميات ضخمة من الحبوب والمواد الأخرى من المكان الذي كانت تنتج فيه إلى المخازن الملكية في الإسكندرية وفي الأرياف كل هذه الأشياء كانت تحتاج إلى الآلاف من دواب الحمل وسائقيها، وكذلك إلى المئات بل الألوف من السفن الصغيرة والكبيرة من نواتيها.
وكان الملك كغيره من أصحاب البيوت يملك تحت تصرفه لخدمته الخاصة طرق نقله، فكان له جياده وجماله وحميره وبغاله وعرباته إلخ، هذا من جهة، كما كان من جهة أخرى يملك سفنًا منوعة مجهَّزة بنواتيها، ومما يؤسف له أن معلوماتنا عن هذه الإدارة الخاصة ببيت الملك ضئيلة جدًّا إلا إدارة البريد فلدينا عنها بعض المعلومات، والظاهر أن السائقين والمُجدِّفين كانوا على ما يُظَنُّ من المصريين الذين كانوا يعملون بمقتضى عقود، ولكنهم عند الضرورة كانوا يُسَخَّرون، ولا غرابة في ذلك لأن الإغريق كانوا الأسياد والمصريين هم العبيد فيقومون بالأعمال الحقيرة.
وفي زمن الحرب على أية حال نجد أن حركات الجنود في داخل البلاد أو الأسفار الطويلة التي كان يقوم بها الملك للتفتيش كل سنة في فصل الحصاد، وعندما كانت آلاف الآلاف من مكاييل الحبوب ومن المنتجات الأخرى تُنقل بالطرق البرية والنهرية والترع، كانت طرق النقل التي يملكها الملك غير كافية، وفي هذه الأحوال كانت الحكومة البطلمية تحشد كل ما لها من حقوق ثابتة لهذه الأغراض من رجال ودواب حمل وسفن، وفي الأوقات العادية كان استخدام الطرق الخاصة بالنقل يُنفذ بمقتضى عقود تُبرَم مع أصحابها، فكانت العقود تُبرَم بوجه خاص مع الحمَّارة المحترفين وكذلك مع البحَّارة المحترفين، وفي حالة الطوارئ كان البطالمة يلجئون لنظام السُّخرة القديم، فكانوا يُسَخِّرون لخدمة الحكومة دواب الحمل والرجال والسفن، وهذه السُّخرة كان المصريون يخشون حدوثها؛ لأنها كانت تُنفَّذ فيهم لا في غيرهم، وهذا ما كان متبعًا في عهد إسماعيل وعهد الاحتلال قبل استقلال مصر.
(٤) التموين
(٥) الضرائب
وفضلًا عن الأعباء الفادحة العديدة التي كان يرزح تحت وطأتها السكان، وهي التي وصفناها فيما سبق، كانت هناك ضريبة أخرى منظَّمة، وقد ذكرنا ضرائب عدة من قبل كالضرائب التي كان يدفعها المزارعون وأصحاب الأملاك على أنواع مختلفة من المحاصيل، والتي كان يدفعها الصناع، والعامة جميعًا (وهي ضريبة الرءوس الخاصة بالاحتكارات)، وخلافًا لذلك وُجِدَت أنواع كثيرة من الضرائب.
وسنتحدث عن هذه الضرائب كما وردت في العقود الديموطيقية في فصل خاص.
P. Cairo-Zenon 59072, 59125, 59157, 59148, 59244, 59737, 59788, II, 18 & 27; P. Mich-Zen. 45. I, 26.