ملتزمو الضرائب أو مؤجرو الضرائب
وقد أدخل البطالمة في هذا النظام المتزن من حيث الممولين من جهة ومن حيث الجباة من جهة أخرى عنصرًا ثالثًا من الرجال متصلين بجمع الإيرادات.
وهؤلاء كانوا يُعدون وسطاء أو مؤجري ضرائب، وقد يكونون أفرادًا أو جمعيات، وكان يوكل إليهم القيام بدور خاص في تحصيل ضرائب الإيرادات الملكية، ونلحظ أنه في بلاد الإغريق كان هؤلاء الوسطاء هم المحصلون الفعليون للإيرادات فكانوا يدفعون مبلغًا إجماليًّا للحكومة ضمانًا، وبذلك كانوا يُعطَون حق تحصيل مبلغ خاص من الممولين، ولكن في مصر نجد أن الحالة كانت مختلفة، فقد كان تحصيل الإيرادات الفعلي من واجب موظفي الحكومة الذين كانوا يوردون المبالغ والسلع التي يحصلونها إلى المصارف الملكية والمخازن الحكومية، وكان الملتزم المصري أو مؤجر الضرائب لا دخل له في التحصيل الفعلي إلا بقدر ضئيل جدًّا، ولكن كان له في تحصيله فائدة حيوية فكان يقوم بجزء فعال في مراقبة كل من منتج الإيرادات ومُحصِّل الضرائب، وذلك لأنه بمقتضى عقودهم التي أبرموها مع الملك قد تعهدوا وأمضوا له بتحصيل تام لإيراد خاص أي تحصيل مقدار معين من السلع أو مبلغ معين من النقود، وكانوا في حالة عجزهم عن دفع المطلوب منهم يقوم الشركاء بالإضافة إلى الضمانات التي دفعوها بسد العجز، أما في حالة الإفلاس فإن الأملاك التي رهنها المتعهدون وكذلك الضمانات تأخذها الحكومة وتبيعها، ومن جهة أخرى إذا سار كل شيء وفق المطلوب، وكان ما جُمع زائدًا عن المطلوب فإن هذه الزيادة تكون هي المكسب، وفوق ذلك كانت الحكومة تقدم لهم هبة أو مُرتبًا.
وهذا النظام البطلمي الخاص بتأجير الضرائب وهو الذي يرجع في أساسه إلى نظام إغريقي كان نظامًا يدل على عبقرية اقتصادية، وذلك لأن البطالمة بإدخالهم وسطاء بينهم وبين الممولين والجباة قد حافظوا على مصلحتهم بحذق ومهارة؛ إذ الواقع أنه كانت توجد جماعتان وهما مُحصِّلو الضرائب والملتزمون، وكانت كل جماعة منهما مسئولة أمام التاج، وكلاهما كانتا تعْملان في تحصيل الإيرادات من الممولين، وكانت أهمية كِلا الطرفين من هذه الوجهة موحدة كما كانت معاونة الواحدة الأخرى تجعل من المستحيل على الممول أن يحيد عن دفع ما عليه، ومن جهة أخرى كان ارتكاب خيانة أو إظهار تراخٍ من جانب موظفي الملك لا بد أن يُلحق ضررًا بصالح جماعة مؤجري الضرائب، وعلى ذلك كان هؤلاء يعملون بمثابة مراجعين على أعمال الموظفين، أما الخاسرون في هذا النظام فهم الممولون، والواقع أن الموظفين ومؤجري الضرائب كانوا مقيدين بدفع غرامات فادحة إن هم لم يُحصلوا الإيرادات كاملة، وسواء في نهاية العملية قد أصاب الممول الخراب أم لا، فإن ذلك لم يكن ذات أهمية لديهم، ولكن ذلك كان من جهة أخرى أمر يهم الملك كثيرًا بطبيعة الحال، ومن أجل ذلك كان يشدد في ألا يعامَل الممول معاملة سيئة فلا غش ولا نهب يصيبه، وعلى أية حال كانت القاعدة أنه إذا اتحد الموظفون ومؤجرو الضرائب معًا فإنهم يكونون أقوى من الملك؛ إذ كان في إمكانهم أن يختلسوا من الأموال كما يشاءون.
وعلى الرغم من أن مهنة تأجير الضرائب كانت تتعرض لأخطار فإنها كانت على ما يُظَنُّ بوجه عام مربحة، فنجد في العهد الأول من عصر البطالمة أنه كان يتقدم إلى الدخول في غمارها طلاب كثيرون لإمضاء عقود بصفقات، وكانوا لا يُحرَمون ضمانات تساندهم، والظاهر أن عدد المتعهدين بتأجير الضرائب كان كبيرًا نسبيًّا، وذلك لأن الإيرادات الملكية المؤجرة كانت كثيرة، وذلك على الرغم من أنه ليس في مقدورنا ذكر عدد المؤجرين، وعلى الرغم من وجود رجل من أصحاب الثروة هنا وهناك أحيانًا في أنحاء البلاد يكون في مقدوره أن يعقد عدة صفقات إيجار في آن واحد، وبذلك يجمع جزءًا عظيمًا من الأشغال في يديه — كما يحتمل أن «زينون» قد فعل ذلك وبخاصة بعد اعتزاله أعمال الحكومة وأصبح حرًّا — فإن القاعدة المتبعة على ما يُظَنُّ كانت توزيع عقود تأجير الضرائب على عدة أفراد لا تجميعها في يد فرد واحد، ولا بد أن نضع في ذاكرتنا أن صفقات الأطيان وغيرها كانت تؤجَّر محليًّا، وذلك لأن المراكز الصغيرة لم تكن قط أكبر من المقاطَعة، وأنه كان لا بد لكل مؤجر من معرفة تامة للأحوال المحلية، هذا إذا كان المؤجر أو الملتزم عليه أن يُقَدِّر المحصول بنجاح، وذلك لأن عمله لم يكن من الأعمال المريحة بل كان يتطلب حضوره الشخصي في عمليات لا حصر لها متعلقة بتقدير الأسعار الفردية وجمعها، ومن ثم كان معظم مؤجري الضرائب محليين، وأعني بذلك أنهم كانوا رجالا من أهل الجهة وعلى معرفةٍ حقَّةٍ بكلٍّ من الممول والمحصل، وكان كل المؤجرين من أهل اليسار ولهم علاقات واسعة بالأشغال، كما كان من واجبهم أن يقدموا ضمانًا كافيًا تمامًا، وهذا الضمان كان في العادة عقارًا حقيقيًّا كبيوت أو كروم أو حدائق أو أرض زراعية.
وعلى ذلك نرى أنه بوجود نظام تأجير الضرائب والاحتكارات كان في مصر في عهد بطليموس الثاني طبقة عديدة من أصحاب اليسار معظمهم كانوا يملكون عقارًا حقيقيًّا؛ أي إنهم كانوا رجالًا لهم مال مُدَّخَر ويرغبون في تثميره في أعمال تدر عليهم أرباحًا وفيرة، وتدل شواهد الأحوال على أن السواد الأعظم منهم كانوا إغريقًا، ومن ثم يمكننا أن نستنبط أنه في عهد بطليموس الثاني قد نمَتْ طبقة متوسطة من الإغريق لم تكن موحدة بطبقة الموظفين الذين كانوا فعلًا في خدمة التاج (لأن هؤلاء كان محرَّمًا عليهم أن يدخلوا في تأجير الضرائب أو أن يشتركوا معهم أو يضمنوا مؤجري الضرائب) أو بالجنود المرتزقين أصحاب الأراضي.
هذا وكانت تُوجد طبقة أقل من الطبقة السالفة الذكر تحتوي على آلاف من تجار التجزئة الذين أجروا من الحكومة حق الاتجار في أنواع خاصة من السلع، وكانوا هم المسئولين عنها، وكان مثل هذا العمل يحتاج بطبيعة الحال إلى بعض رأس المال، ومما تجدر ملاحظته هنا أن هذه الطبقة من التجار لم تكن مؤلفة من إغريق فقط، وذلك لأن تجار التجزئة كان معظمهم من الوطنيين، غير أن وجودهم يعد دليلًا على وجود طبقة من صغار «الطبقة الوسطى» لهم علاقة وثيقة بالنظام المصري الجديد.
والآن يتساءل المرء من هم أعضاء الطبقة الوسطى (البورجوازية) الإغريق؟ كان بعضهم يمكن أن يكونوا من الموظفين والضباط أو الجنود المتقاعدين ونسلهم، وبعضهم من نسل الإغريق الذين كانوا قد استوطنوا مصر قبل الفتح الإسكندري، غير أن عددًا منهم لم يكن من أحد الصنفين السابقين، والمحتمل جدًّا أنهم كانوا مهاجرين من بلاد الإغريق وهم الذين وفدوا على أرض الكنانة لا بوصفهم جنودًا وموظفين بل أفرادًا يملكون بعض المال جاءوا لتثميره فيما يدر عليهم الثراء، وقد نوَّهنا فيما سبق عن أسباب صعوبة الحياة في بلاد الإغريق في عهد الإسكندر وما قبله، ولا غرابة أن نرى مثل هؤلاء الأفراد ينجذبون إلى مصر حيث الطمأنينة ووفرة أسباب العيش والسيادة على أهل البلاد، وعلى أية حال كان يتألف في مصر وقتئذ طبقة من البرجوازيين، وكان ملوك البطالمة يعلمون هذا الأمر وقد فتحوا أبواب نظام اقتصادهم الجديد أمام هذه الطبقة الجديدة من الإغريق، ومن الجائز أن مشاطرة الحكومة في الربح كان مغريًا جدًّا لهؤلاء الإغريق، وقد كان بعضهم من مَهَرة مؤجري الضرائب في بلادهم، ومن ثم كان أملهم أن يقوموا بمزاولة هذه المهنة بنجاح في مصر كما زاولوها في بلاد الإغريق مسقط رأسهم، وفضلًا عن ذلك لم تكن في مصر فرص عدة أخرى للنشاط في الأعمال، وكانت فرص التجارة محددة.
حقًّا كانت «الإسكندرية» مفتوحة أمامهم ولكنَّ جزءًا عظيمًا من التجارة الداخلية في البلاد كان معظمها في يد الحكومة، وكانت الصناعة بعضها في يد الحكومة في حين أن جزءًا عظيمًا كان في يد الأهالي وذلك باستثناء الصناعة في الإسكندرية كما هو المحتمل؛ لأنها كانت بلدة إغريقية لحد ما، ولم يبقَ أمام الإغريق إلا تثمير أموالهم في الأرض والإسهام بصورة مُحَسَّة في إدارة الإيرادات الملكية.
ولقد حاولنا فيما سبق أن نرسم بعض الخطوط العريضة التي وضعها البطالمة للإصلاحات الاقتصادية في الديار المصرية بشيء من الدقة، غير أنه لا تزال هناك مسائل كثيرة غاية في الأهمية، موضع نقاش حاد، ومن أهم هذه المسائل وأظلمهما العلاقات التي كانت بين الإغريق وأصحاب السيادة في البلاد وبين الطبقة الدنيا من الشعب المصري، أو بعبارة أخرى بين الأغلبية العظمى من المصريين لأنهم كانوا كلهم فقراء وبين الإغريق الأغنياء الذين كانت في أيديهم إدارة البلاد، ولحسن الحظ كُشف أخيرًا عن سجلات ضخمة يبلغ عددها حتى الآن حوالي ألفي وثيقة تكشف لنا عن نواحٍ عدة من الحياة المصرية ومن بينها هذه الناحية التي نتساءل عنها، وهذه السجلات هي مجموعة المراسلات التي تركلها لنا زينون وكيل الوزير أبوللونيوس في عهد بطليموس الثاني، وسنحاول أن نكشف في الفصل التالي عن علاقات الطبقة الدنيا من المصريين الكادحين مع طبقة الحكام والأغنياء من الإغريق الذين كان على رأسهم الملك.