الحياة الاجتماعية للطبقة الدنيا في مصر وعلاقتها بطبقة الحكام
الإغريق في خلال القرن الثالث قبل الميلاد
تحدثنا فيما سبق عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر من الوجهة
الإغريقية أو بعبارة أخرى من وجهة الطبقة الحاكمة التي كان بيدها كل شيء ولم تتعمق
قط
في كيفية معاملاتهم واختلاطهم بصورة واضحة مع أفراد الشعب المصري الذين ينتمون إلى
الطبقة الدنيا وهي الطبقة الكادحة التي كانت تقوم بأعباء الأعمال الهامة كلها التي
كانت
العتاد الأساسي لحياة الإغريق أنفسهم والتي بها كانوا ينفذون سياستهم الداخلية
والخارجية، والواقع أنه مما يؤسف له أن نرى المؤرخين الذين خصصوا أنفسهم في تاريخ
عصر
البطالمة بل وفي تاريخ العالم الهيلانستيكي قد تعمقوا بوجه خاص في المسائل المنوعة
التي
تتصل بحياة السكان الإغريق أو الذين صُبغوا بالروح الهيلانستيكية في حين نرى أن
اهتمامهم بالمجتمع المصري وبخاصة الطبقة الدنيا التي لم تُصبغ بالثقافة الإغريقية
لم
يكن إلا لمامًا وبِخُطًا وئيدةٍ عرجاءَ لم تبلغ في سيرها نحو هدفها شوطًا يُذكر.
والأسباب التي ساعدت على وجود هذه الحالة هي الصورة التي وجدنا عليها المصادر التي
في
متناول الباحثين في هذا الموضوع، وليس من شك في أن المصادر الإغريقية الهائلة العدد
التي كُشف عنها قد فرضت على المؤرخين والباحثين هذا الموقف أو هم فرضوه على أنفسهم،
فقد
أخذوا بالآداب والثقافة الإغريقية الاتِّباعية وبطرق الاقتصاد البطلمي الغريب حتى
أعماهم كل ذلك عن رؤية العالم القديم إلا بأعين الإغريق والرومان الذين من طبقات
رفيعة
بوجه خاص، ولا غرابة في ذلك فإن الباحثين الأحداث يجدون بين أفراد هذه الطبقة الكُتاب
العظام الذين أخذوا من كتاباتهم ما دونوه لنا من معلومات عن مصر في هذا العصر، حقًّا
يُلحظ أن العلماء قد بدءوا حديثًا يُظهرون اهتمامهم بالبحث عن حياة الشعب المصري
نفسه،
غير أن هذا الاهتمام لم يراعَ إلا عَرَضًا خلال القيام بدراسات عامة أكثر منها خاصة
تنحصر في العلاقات المتبادلة بين المصريين أهل البلاد الأصليين وبين الإغريق الأجانب،
وعلى أية حال لم تؤلَّف كتب خاصة في هذا الموضوع حتى الآن إلا مقالًا واحدًا كتبته
عالمة بولندية،
١ حديثًا قد ينير الطريق لبحوث أخرى في هذا الصدد.
ولا نزاع في أن تاريخ مصر ومصادره في العهد الهيلانستيكي كان معروفًا أكثر من تاريخ
كل الممالك المعاصرة المعروفة لدينا، ويرجع الفضل في ذلك إلى تربة أرض الكنانة وما
حفظته لنا بمناخها المدهش من أوراق بردية وآثار منقطعة القرين، ولذلك قد أصبح لزامًا
علينا أن نسير إلى ذلك قبل كل شيء إذا أردنا أن نحاول رسم صورة للمجتمع المصري الأصيل
الذي كان يعيش في إحدى الدول التي قامت على أنقاض إمبراطورية «الإسكندر الأكبر»،
على
أنه يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه يوجد عقبات تقوم في وجهنا خلال بحثنا هذا الموضوع،
وأول هذه العقبات أنه لم يكن في استطاعتنا أن نفرق بين مصري وإغريقي إلا في القرن
الثالث أي في العهد الأول للسيطرة الإغريقية في مصر، وذلك لأن صبغة سكان أهل البلاد
بالصبغة الهيلانستيكية وامتزاج الهيلانيين بهم قد خلق فيما بعد خليطًا كبيرًا من
الناس
لدرجة أن مجرد ذكر الاسم قد أصبح لا يدل على قومية الفرد، والعقبة الثانية هي أن
الغالبية العظمى مما وصل إلينا من الإضمامات البردية كان مثلها كمثل المصادر الأخرى
التي وصلت إلينا من العصر الهيلانستيكي قد دُون باللغة الإغريقية، يضاف إلى ذلك أن
الأوراق الديموطيقية التي نُشرت حتى الآن لا تقدم لنا إلا معلومات قليلة عن المجتمع
المصري، هذا فضلًا عن أن معظم الأوراق البردية الديموطيقية التي وصلت إلينا لم يُدرس
بعد ولا يزال ينتظر الحل والفحص، وعلى أية حال فإن هاتين العقبتين السابقتين تفرضان
على
دراسة هذا الموضوع طرقًا وحدودًا لا مفر من اتباعها، ومن ثم يجب أن يكون أساس هذا
البحث
المصادر التي وصلت إلينا حتى الآن من القرن الثالث ق.م وهو موضوع بحثنا في هذا الكتاب،
وفي الوقت نفسه يجب علينا أن نتعمق في تحليل هذه المصادر قدر المستطاع لنخرج منها
بصورة
تكشف لنا الحجاب عن حالة المجتمع المصري الذي ظل مجهولًا لنا حتى الآن، والمصدر المنقطع
القرين الذين سيكون عمادنا في هذا البحث، وهو سجلات «زينون» وقد انتفع به من قبلُ
الباحثون بدرجة كبيرة في دراساتهم للحياة الاقتصادية في مصر البطلمية، وقد تحدث المؤرخ
الكبير «روستوفتزف» عن هذه السجلات في كتابه الخالد المسمى «ضيعة كبيرة»،
٢ هذا وقد ذكرت لنا الآنسة «بريو» قائمة بمحتويات سجلات «زينون»،
٣ وإلى سجلات «زينون» يرجع الفضل في درس هذا الموضوع بما تحتويه من مادة
غزيرة وما تشمله من معلومات منوعة مما يفتح لنا الطريق وينيره حتى نرى البناء الداخلي
للمجتمع المصري الأصيل خلال القرن الأول من السيطرة الإغريقية وموقفها المادي، فسنرى
فيه العداوة بين الحاكم والمحكوم، والكراهية المتبادلة التي نبتت بسبب ما ارتكبه
الحاكم
من جور واضطهاد بينهما، كما سنرى الروابط الأسرية وحياة الأسرة الخاصة وحالة السكان
الأصليين بالنسبة للفاتحين الإغريق، وكذلك سيتضح لنا تضامن المصري مع أخيه المصري
على
الغاصب الأجنبي، كما سنشاهد انقسام بعض الجماعات على بعضهم البعض، والتنافس الذي
يقوم
بين أصحاب الحرف والمهن، وكل هذه الأمور قد تسمح لنا أن نفهم بصورة أفضل سياسة البطالمة
نحو رعاياهم غير الإغريق، كما تسهل لنا بوجه عام التعمق في معلوماتنا التاريخية
للمؤسسات الهيلانستيكية، كل هذه الموضوعات لم يكن درسها حتى الآن مما كشف من الأوراق
الديموطيقية التي لا تزال في مستودعات المتاحف والمكتبات لم تُحَلَّ بعدُ!
ومما يجب التنويه عنه هنا أولًا أن المصريين الذين جاء ذكرهم في رسائل سجلات زينون
هم
من الطبقة الدنيا والقليل منهم من الطبقة الوسطى، والشخصية الوحيدة التي تعتبر في
هذه
السجلات من عِلية القوم هو الكاهن الأكبر «بتوزريس» على ما يُظَنُّ، وهو الذي أمر
«زينون» بتوصيل رسالة إليه كما جاء ذلك في وثيقة.
٤
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا المجتمع الذي يصادفنا في هذه السجلات لم يكن متجانسًا؛
إذ
نجد أن المصريين كانوا يمارسون عددًا كبيرًا من الحرف والمهن فكان جَمٌّ غفير منهم
يفلح
الأرض، في حين نجد نفرًا منهم كانوا يربون الخنازير، كما وجدنا من بينهم نحَّالين
وضاربي طوب وقاطعي أحجار وصُناع فَخَّار وبَنَّائي سفن، وصغارَ موظفين يعملون في
إدارات
الحكومة أو الشرطة، هذا وكان آخرون يشتغلون في ضيعة «أبوللونيوس» وزير «بطليموس الثاني»
تحت إدارة «زينون» وكيله، أو كانوا يعملون في التجارة إما بوصفهم عملاء «زينون» أو
يعملون لحسابهم الخاص، وأحيانًا نجد في هذه السجلات ذكر كهنة وبخاصة من الطبقة الدنيا،
كما نجد فَرْقًا مُحَسًّا بين أفراد حرفة واحدة، وبصورة عامة يُلحظ أن كل هؤلاء
المصريين كانوا يحتلون مكانة اجتماعية أقل من التي كان يتمتع بها الإغريق المحتلون،
وذلك على الرغم من أنه يوجد بين الإغريق من ينتمي إلى الطبقة السفلى من طبقات المجتمع
المصري.
والخاصية التي يتميز بها المجتمع المصري كما يُستنبط من سجلات «زينون» — عندما يتناول
البحث ضيعة «أبوللونيوس» في «الفيوم» وهي نفس الحالة تقريبًا في كل المتون — هي أن
الأغلبية كانت مؤلفة من وافِدِين جدد، وهذا ينطبق على المصريين وعلى المهاجرين الإغريق
على السواء، وذلك لأن «فيلادلفيا» كانت مؤسسة جديدة، وكان معظم السكان الذين وفدوا
عليها من القرى المجاورة، ولكنا نرى بينهم كذلك رجالًا وحتى موظفين هاجروا إليها
من
مقاطعات نائية،
٥ هذا ونجد في أسفل درج هذا السلم الاجتماعي الطبقة المغمورة الذكر وهم
الفقراء والمُعْوِزُون من أبناء الشعب المصري ويؤلفون وحدة مميزة، ونعرف في معظم
الأحيان أسماءهم وكذلك نعرف أن الجزء الأعظم منهم كانوا مصريين، والكلمة الإغريقية
«لاوس»
Laos كما لاحظ أحد العلماء لا تدل على
الفريق المصري من الطبقات الاجتماعية الدنيا، ولكن تدل على مجموع الطبقة السفلى دون
تمييز قومية.
٦
ويندر في الواقع أن نجد في المتون ذكر قومية هذه الطبقة من السكان (لاوي) ومع ذلك
نصادف في متون سجلات «زينون» سوريين وعربًا وبدْوًا.
٧
ومن المحتمل أنه كان من بينهم أسرى حرب قدامى جُلبوا من الحروب الكثيرة التي شنها
«بطليموس الثاني» وأخلافه من بعد «أيرجيتيس»،
٨ وأفراد هذه الطبقة السفلى = (لاوي) كانوا قبل كل شيء مزارعين ملكيين
٩ حيث نجد أنه قد مُيزت ثلاث طرق لاستغلال الأرض التي استُعملت في ضيعة
«أبوللونيوس»، وهاك هذه الطرق؛ أولًا: كان «زينون» وكيل «أبوللونيوس»، يؤجر الأرض
إلى
ملتزمين بطريق المزاد العلني، وهؤلاء الملتزمون كانوا في معظم الأحيان من الإغريق
أو من
المقدونيين، كما كان يوجد من بينهم عدد قليل من المصريين، هؤلاء المؤجرون أو الملتزمون
من جهتهم كانوا يستخدمون عمالًا بمرتبات يكاد يكونون كلهم من المصريين، أو كانوا
بدورهم
يؤجرون جزءًا من النصيب الذي أجَّروه إلى مؤجرين آخرين مصريين. ثانيًا: كان «زينون»
يعقد عقودًا مع جماعات من المزارعين الذين كانوا يؤجرون قطعًا صغيرة من الأرض وتسمى
الأرض التي يزرعها الناس، ويظن المؤرخ «فسترمان» أن القطعة التي كان يؤجرها كل مزارع
سواء أكان هذا الإيجار مباشرًا أو غير مباشر تتراوح مساحتها ما بين ١٥ إلى ٢٠ أرورا.
ثالثًا: كان الجزء الباقي من الأطيان تزرعه إدارة ضيعة «أبوللونيوس» دون وسيط، وذلك
بمساعدة عمال مأجورين، كانوا بوجه عام مصريين.
ومن ثم نرى أن الطبقة السفلى كان أفرادها يشتغلون في أرض «أبوللونيوس»، بوصفهم صغارًا
مؤجرين أو عمالًا مأجورين، وكان هؤلاء الكادحون يعملون في الأرض بالمشاركة وكذلك
اتُّبعت نفس الطريقة في الحيوان،
١٠ كما كانوا يُستخدمون في أعمال الري التي كانت كثيرة في الفيوم،
١١ وكذلك كانوا يُستخدمون عمالًا في المباني العامة والخاصة،
١٢ وتدل شواهد الأحوال على أن علاقات هذه الطبقة من العمال مع الموظفين
الإغريق كانت موحدة، ويظهر أنهم كانوا يؤلفون كتلة قوية كانت الإدارة تحسب حسابها،
١٣ وذلك على الرغم من وجود شجار خطير بين طبقة العمال هذه الذين ينتمون إلى
أقاليم مختلفة،
١٤ هذا وكانت هذه الطبقة الكادحة تمثل أمام الإدارة الإغريقية في أغلب الأحيان
بمجلس من الشيوخ،
١٥ وكذلك برجال يسمون رؤساء العشرات،
١٦ وفي حالات قليلة جدًّا كان يمثلهم حاكم القرية.
١٧
وكانت الإدارة الإغريقية تمد (صغار الفلاحين «لاوي») المزارعين بالبذور والحيوان
والآلات وحتى بالمساكن اللازمة لهم،
١٨ وكان الكادحون يتسلمون أحيانًا القمح لأجل أسرتهم في بعض الحالات،
١٩ وكانت الإدارة أحيانًا تحمي هؤلاء الكادحين من الأعباء المالية المُرهِقة
(P. SI 483)، فكانت تقرضهم النقود لدفع ضرائبهم،
٢٠ ولما كان إيجار الأرض مرتفعا فإن المزارعين كانوا غالبًا ما يصبحون عاجزين
عن دفعها،
٢١ كما كان من الصعب أن يتفقوا مع الموظفين الإغريق، هذا وكان تغير أحوال
العمل في أرض الإقطاع التي كانت ملك الجنود المرتزقة يؤدي إلى قيامهم باحتجاجات شديدة
بل وإلى إضرابهم، كما يُلحَظ ذلك في حالات معينة؛ مثال ذلك ما جاء في وثيقة من سجلات
زينون
(P.C.Z. 59245.) حيث نجد أن المزارعين قد تركوا
الأرض التي كانت ملكًا لجنود مرتزقة إغريق ثم لجئوا إلى المعبد، يضاف إلى ذلك أن
مسألة
السكن لم تكن دائمًا متفَقًا عليها بطريقة مُرضية كما نعلم ذلك من وثيقة سجلات «زينون»،
٢٢ غير أن هذه الوثيقة بكل أسف وُجِدَت ممزقة، وفي بردية أخرى،
٢٣ نجد أن قلة الماء قد سببت منافسات بين جماعة مختلفة من طبقة الكادحين في
الأرض، يضاف إلى ذلك أن حوادث السرقة العدة تنير لنا الطريق كثيرًا عن أحوال معيشة
الفلاح المصري، فمن ذلك ما نقرؤه في بردية
P.C.Z. 59368
أن الأهالي سرقوا دريسًا تُرك لمدة دون حراسة، وفي وثيقة أخرى
٢٤ نقرأ أن المصري «باوس»
Paues وهو عامل
بمرتب عند مصري آخر يُدعى «فابيس»
Phabis قد هرب بحمار
وحقائب، هذا وقد كتب حاكم المقاطعة «داميس»
Damis إلى
«زينون» في موضوع مزارعَيْنِ قد سرقا بقرة،
PSI. 366
وكذلك تحدثنا ورقة من أوراق سجلات زينون المحفوظة في مشيجان،
٢٥ أن سكان قرية عن بكرة أبيها قد وحدوا كلمتهم على ما يظهر للدفاع عن بقرتين
وعجل قد شك في أنها قد سُرِقت، ومن المحتمل أن موقف الفلاحين كان يزداد سوءًا عندما
كانت حريتهم في التنقل لم تكن تامة على الأقل لمدة فترة معينة.
٢٦
ومما يجب ملاحظته هنا أن عبارة مزارعي الملك لا تعني فقط الفلاحين الذين يؤجر لهم
زينون الأرض بعقود جماعية بل هم كذلك مزارعون مستقلون لديهم عقود منفصلة، وكانوا
يُثمِّرون قطع أراضيهم على حسب رغبتهم تحت المراقبة الشديدة من قِبَل الحكومة أو
من
قِبَل إدارة الضيعة، ومساحة قطع الأرض التي كان يزرعها المصريون كما وردت في وثائق
«زينون» مختلفة جدًّا، فأصغر قطعة مساحتها ثلاثة أرورات،
٢٧ ولكن نصادف بينها كذلك قطعة كبيرة جدًّا؛ مثال ذلك قطعة مساحتها حوالي ٢٠٠
أرورا في نفس المجموعة
P. Col. Zen 78 ونجد قطعة تبلغ
مساحتها ٨٨٠ أرورا.
٢٨
أما الجنود المرتزقون من الإغريق والمقدونيين الذين لا يريدون زراعة أرضهم بأنفسهم
فإنهم كانوا ينزلون عنها غالبًا إلى مؤجرين مصريين مثل «جامبيس»
Gampis ورفاقه كما جاء في ورقة من مجموعة أوراق كولولمبيا
٢٩ هامة كذلك من وجهة نظر أخرى؛ إذ نرى فيها أربعة مزارعين في مقاطعة «أهناسيا
المدينة» وهم «جامبيس»
Gampis و«بوكاس»
Pokas، و«بتوباستيس»
Petobastis و«باسيس» يمضون عقدًا جماعيًّا من مالك أرض إغريقي من
الجنود المرتزقين يُدعَى أسكلبيادس
Asklepiades وهو
مالك لقطعة أرض مساحتها مائة أرورا، هذا ونجد في حالات أخرى كذلك شركاء يزرعون الأرض
سويًّا كما هي الحال في إحدى وثائق مجموعة زينون.
وتدل شواهد الأحوال على أن حالة بعض هؤلاء المزارعين كانت لا بأس بها نسبيًّا؛ إذ
نجد
مزارعين مؤجرين لقطع أرض وفي الوقت نفسه يملكون قطع أرض صغيرة مثل الكهنة والموظفين،
٣٠ ونجد كذلك عددًا كبيرًا منهم كانوا مرءوسين «لزينون» و«لأبوللونيوس» في
الوقت نفسه ويتقاضون أجورهم منهما، وكانت الإدارة تقدم البذور،
٣١ والآلات
(Ibid. P. 51)، والحيوان للمزارعين
(PSI 422)، وكانوا يقرضون القمح والنقود لمساعدتهم
في وقت الأزمات الموسمية،
٣٢ وكانوا كذلك يتسلمون أربعة أوبولات مقدمًا عن كل أرورا مقابل قَطْع الأشجار
والأعشاب وحرق الأخشاب المضرة، وفي إحدى متون لندن
(P. Lond. Inv. 2316
36. Preaux Les Grecs, P. 17, No. 9) نجد أن «بأوبيس» وهو مالك
قطعة أرض في ضيعة «أبوللونيوس» أقام لنفسه بيتًا في «فيلادلفيا»، ونعلم كذلك من بردية
في القاهرة
٣٣ أن مُزارعًا آخر كان عليه أن يقيم بيتًا لنفسه، وأن «زينون» أقرضه مبلغ
عشرين درخمة لهذا الغرض، والظاهر أن بعض المصريين كان يملك ممتلكات أخرى، فنسمع كلامًا
عن كرم «كليزيس»
Keleesis و«فانيوس»
Phaneuis و«حوروس»
(PSI. 393,
508).
فهل المقصود هنا من هذه الحالات أنها أرض إقطاع مؤقتة؟ وكان المزارعون المصريون
يستخدمون غالبًا أعمالًا بمرتب،
٣٤ ومع ذلك فإن السواد الأعظم من الفلاحين كانت حالتهم لم تكن سهلة ميسورة،
ناهيك عن الضرائب والإيجارات التي كانت أحيانًا فادحة حتى أصبح من الصعب دفعها،
٣٥ يضاف إلى ذلك أعمال السُّخرة العديدة التي كانت غالبًا تنتزع الفلاحين من
أعمالهم العادية.
وعندما كانت الأزمات تشتد بدرجة لا تطاق كان المصري يلجأ أحيانًا إلى ملاذه الوحيد
وهو الهرب والالتجاء في المعبد الذي كان دخوله محرَّمًا على الإغريق،
٣٦ وفي كثير من الأحوال كانت إدارة الضيعة أو إدارة الحكومة تسجن الفلاحين
الذين لم يكن في مقدورهم دفع ديونهم.
٣٧
وأهم مجموعة من السكان بعد الكادحين في سجلات «زينون» تتألف من مربي الخنازير ويبلغ
عدد ما ورد منهم في سجلات «زينون» حوالي أربعين، نذكر بعضهم على سبيل المثال:
«أمنوس»
Amenneus و«أبيوس»
Apeus،
٣٨ «ثوتيوس»
Thoteus.
٣٩
ومما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن الإغريق كانوا لا يمارسون هذه المهنة،
٤٠ وحراس الخنازير هم بوجه خاص كانوا مؤاجرين، وذلك لأن إدارة الضيعة هي التي
كانت تكل إليهم أمر تربية الخنازير أو أنهم كانوا يشتغلون بتعهد قطعان كانت ملكًا
خاصًّا لإغريق من سكان فيلادلفيا أو غيرها من القرى،
٤١ ولا بد أنه كان يوجد مُرَبُّون للخنازير بمرتب، وذلك على الرغم من أنه من
الصعب تمييزهم في المتون التي في متناولنا،
٤٢ ومع ذلك لدينا بعض وثائق نجد فيها أن مؤجري الخنازير يدفعون أجرها، وذلك
بتوريد عدد محدد من الخنازير سنويًّا، هذا ولدينا وثيقة
٤٣ جاء فيها ذكر عقد أُبْرِمَ مع مربِّي خنازير.
وكان يدير استثمار مزرعة خنازير فيلادلفيا مدير يُدعى «هيراكليديس»،
٤٤ ومع ذلك لا بد أن نلحظ أن اسم أخيه «با أبيس» وهو اسم مصري يدل على اختلاط
في الدم أي إغريقي مصري،
٤٥ ولم يكن مربو الخنازير مرتاحين لمديرهم في كثير من الأحوال، ولدينا شكاوى
عدة موجهة لزينون في هذا الصدد، وقد شكا «هيراكليديس» مربي الخنازير نفسه كذلك من
المتاعب التي كان يسببها له مرءوسوه
(P.C.Z.
59439).
ونجد أحيانًا أن مربي الخنازير كانوا يقومون بتربية قطعان كبيرة أحيانًا مثل
بتوس
Petos،
٤٦ فقد كان يرعى أربعمائة خنزير مِلك «أرتيميدوس»
Artemidoros، وكذلك نجد مربي خنازير آخرين جاء ذكرهم في وثيقة، كان
كل واحد منهم يحرس قطيعًا عدده سبعون حيوانًا، ومع ذلك فإن حالتهم المادية لم تكن
سهلة
ميسورة، والظاهر أنه بين الذين كانوا يربون الخنازير التي كانت ملك الضيعة من كانوا
يتسلمون لقطعانهم العلف الذي تورِّده لهم إدارة الضيعة،
٤٧ ولكن لدينا شكاوى عدة من مربي خنازير يشكون فيها لزينون بأنه لا يوصل إليهم
ما هو حقهم، ومن ثم يطلبون إليه يد المساعدة، وفي رسالة إلى «زينون» من «أمنوس»،
٤٨ تقول: إن «أمنوس» حارس الخنازير، قد أمره «زينون» أن يسمن خنازير لعيد
«أرسنوي»، وقد فعل ذلك ورهن ملابسه ليحصل على النقود، ولكن عندما أحضر الخنازير على
قرية معينة سُرق منها اثنان، وقد رفض الرجل الذي سرقهما أن يعترف بجريمته مُدَّعيًا
أن
الخنزيرين اللذين اختفيا قد أكلهما تمساح، وعلى ذلك رجا «زينون» أن يكتب لأهل القرية
وحاكم المقاطعة بألا يسمح بإتيان مثل هذه الأشياء، كما شكا كذلك أن رجلًا بعينه قد
شكاه
من قبل لزينون لم يسمح له برعي خنازيره، وفي متن آخر
٤٩ نقرأ أن مربي خنازير (اللهم إلا إذا كان مربي ماعز) وفد حديثًا على
«فيلادلفيا»، وهو يطلب حماية «زينون» لأنه تعترضه عقبات، فقال: لقد مضى عليَّ أربعة
أشهر في أرض غريبة ونحن في موقف حرج، وقد رفض حارس الباب أن يسمح له بالدخول على
«زينون»، وربما كان ذلك هو السبب في تقديم هذه الشكاية كتابة وفيها يشكو من سوء حاله
ويقدم بعض المعاذير لنفسه على عدم قدرته على دفع ما عليه من دين، ومن أكبر الهموم
التي
كانت تُقِضُّ مضجع مربي الخنازير هو اضطرارهم لتوريد عدد معين من الخنازير بمثابة
إيجار
لصاحب الخنازير فمن هؤلاء «بتوس» مربي الخنازير،
٥٠ وهو الذي كان قد وكل إليه أربعمائة خنزير وعددًا غير معروف من الخنازير
الصغيرة وكان مدينًا له بإيجار قدره ٢١١ خنزيرًا صغيرًا، وقد هرب ولم يترك خلفه إلا
سبعة خنازير، ولدينا مربي خنازير آخر
P.C.Z. 59279. رفض
أن يدفع ما عليه من إيجار وقد سُجن من أجل ذلك، ووُكل أمر قطيعها إلى آخر، وفي رسالة
أخرى كتبها «بتنوريس»
Peterouris وآخر يُدعَى
«سامويس»
Samoys إلى «زينون» وهما مربيا خنازير
وكانا قد سُجنا لجرم ارتكباه وقد اعترفا أنهما قد ارتكبا خطأ ولكنهما مع ذلك يطلبان
الرحمة من «زينون» خوفًا من أن تموت قطعانهم لعدم عنايتهما بها شخصيًّا وهما كذلك
يُحتضَران لعدم حصولهما على ما يقيم أودهما، والظاهر أن «هيراكليديس» نفسه أو فردًا
آخر
غيره (لأن الاسم سقط)، وكان يشغل وظيفة أعلى من غيره بين مربي الخنازير كان قد قبض
عليه
قائد الجيش المحلي لبلدة الفيوم.
٥١
ولا بد أنه كانت توجد هناك أحيانًا صعوبات أخرى من المستحيل علينا فهمها تمامًا،
وذلك
لأننا لا نعرف الأحوال التي كانت تحيط بها؛ مثال ذلك حالة مربي الخنازير تموس
Thamoys الذي جاء ذكره في بردية بالقاهرة،
٥٢ وكان يشكو من أن رجلًا يُدعَى «بزوسناو»
Psosnau هاجمه هو وزوجه، أما حراس الماعز والغنم فكان معظمهم من العرب،
٥٣ ومن الصعب أن نميز قوميتهم وذلك لأنهم يحملون أسماء مصرية أو إغريقية، وكان
«زينون» بوصفه مدير ضيعة «أبوللونيوس» أو باسمه الخاص بوصفه مالكًا حرًّا يؤجر هذه
القطعان إلى أصحاب المراعي، هذا ويمكن أن نفهم من متن
٥٤ أن هؤلاء كان لهم مدير؛ فقد كان «هرمياس» على ما يظهر يعمل بوصفه ممثلًا
لزينون، ومن جهة أخرى نعلم أن «هرمياس» بوصفه مربي غنم،
٥٥ وقد عده المؤرخ «روستوفتزف» عربيًّا
(Rostov, L. E. P. 179
f).
وعلى الرغم من أن حراس الماعز كانوا تابعين إلى الإدارة الإغريقية وإلى شخص زينون،
فإنهم في كثير من الأحيان كانوا في حالة بؤس، ومن أجل ذلك فإنهم أحيانًا كانوا يلجئون
إلى طرق لكسب قُوتِهم لم تكن دائمة شريفة، ومن ثم نجد صاحب مرعى
٥٦ يتهم عند «زينون» رفيقه بأنه يبيع كَلَأ المرعَى لآخرين، ونجد أحيانًا أن
العقبات التي تعترض هؤلاء التعساء تكون ذات صبغة أخرى، فمثلًا نجد في متن
٥٧ أن فردًا من الطبقة الدنيا يهاجم رعاة غنم «زينون»، والظاهر أن سبب الشجار
في هذه الحالة كان على المرعى، هذا ونجد في نهاية الأمر أن «هرمياس» الذي كتب هذه
الرسالة إلى «زينون» يذكر كذلك حارس ماعز اتُّهم بالنهب وأنه حُبس من أجل ذلك، وعلى
أية
حال نلحظ أن قليلًا من المصريين كانوا يهتمون بتربية الخيل والبقرات،
٥٨ ومع ذلك يصادفنا مصريٌّ يربي عجوله يتحدث عن الخيل وغذائها،
٥٩ ولكن نجد المصريين يهتمون في أغلب الأحيان بتربية الطيور، ففي متن
(C. Z. 59715, 1–22) نجد مربي أوز يتسلم قمحًا
لغذائها، وفي متن آخر
(P.C.Z. 59498) نقرأ أن
«بتوباستس» مربي حمام «زينون» كما يشكو من أنه لم يتسلم مرتبه منذ أربعة أشهر، وأن
الشعير الذي يقدَّم له لطعامه لا يؤكل، ومن ثم يرجوه أن يتدبر الأمر حتى يمكنه هو
وأولاده أن يقوموا بواجباتهم.
المواصلات
وكانت المواصلات بَرًّا مضمونة في أغلب الأحيان بواسطة الحمير، وكانت إدارة
الضيعة تورِّد القمح للحمَّارة،
٦٠ هذا ونقرأ في رسالة هامة جدًّا،
٦١ أن فردًا يُدعى «نيكون»
Nikon يخبر
«باناكستر» أن هناك حمَّارة ممن ينقلون الأمتعة قد استهلكوا مكيالًا من زيت الخرْوع
(كوس) وأنه يطلب إليه أن يجبرهم على إعادة الزيت أو أن يدفعوا ثمنه وهو أربع
درخمات، ومما يجدر ملاحظته هنا أن أربع درخمات في هذا الوقت كانت تساوي مرتب حمَّار
لمدة أربعة وعشرين يومًا.
٦٢
وطريقة النقل هذه كانت في «فيلادلفيا» تحت إدارة إغريقي، وهو «نيكياس» الذي
يصادفنا كثيرًا في متون سجلات «زينون»، فهو الذي كان ينظم عمل الحمَّارة أصحاب
المرتبات في ضيعة «أبوللونيوس»، هذا وكان هناك مُلاك حمير مستقلون يؤجرون حميرهم.
٦٣
يضاف إلى ذلك أن نيكياس
Nikias، بوصفه مديرًا
كان مصدر مضايقات كثيرة للنحَّالين الوطنيين، فقد كانت الحمير أغلى ما يملكون؛ إذ
كانوا يستعملونها لنقل خلايا النحل إلى المراعي الجديدة،
٦٤ ومن أجل ذلك طلبوا إلى «زينون» أن يحميهم من طلبات «نيكياس» المتكررة
في أعماله،
٦٥ ففي المصدر الأخير نجد أن «زينون» كان قد أمر النحالين أن يرسلوا
حميرهم إلى «فيلادلفيا» ليعملوا هناك مدة عشرة أيام، ولكنهم شكوا من أنه قد حجزها
لمدة ثمانية عشر يومًا وأنه ليس لديهم حمير لإعادة نقل خلاياهم من المراعي، وأن
مؤجري الأطيان ينذرونهم بأنهم سيطلقون الماء ويحرقون الحشيش، وعلى ذلك فإنه إن لم
تأتِ الحمير في الحال لنقل الخلايا فإن خلايا نحلهم ستتلف ومن ثم سيخسر الملك
كثيرًا مِنْ دَخْله، وقد وعدوا أن يعودوا بالحمير بمجرد نقل خلاياهم.
هذا وكانت خلايا النحل في معظم الأحيان مِلك ضيعة «أبوللونيوس»،
٦٦ أو مِلك إغريق مهاجرين،
٦٧ وكذلك مِلك معابد
(P.C.Z. 59520) وكانت
تؤجرها إلى مصريين، ونجد من بين النحالين رجالًا لهم مكانة في المجتمع؛ مثال ذلك
«تيوس»
Teos الذي جاء ذكره في بردية،
٦٨ فقد كان يكتب إلى «زينون» كأنه في مستواه، ولكن لدينا كذلك امرأة تُدعى
«سنخنسو» وهي أرملة فقيرة
٦٩ وقد كتبت إلى زينون تشكو إليه «نيكاس» الذي أخذ منها أتانَها الوحيدة
وقد رجت «زينون» في أن يعيد إليها أتانها، وقد وعدته مقابل ذلك أن تهديه وليد هذه
الأتان.
وكان مربو النحل يئنون تحت أعباء عدة الضرائب
(PSI
510) وكانوا تابعين لمُلاك من إغريق وكانوا يتصادمون بعقبات
أحيانًا لم يكونوا هم المسئولين عنها على ما يُظَنُّ،
٧٠ حيث نجد أن النحالين كانوا يملكون ألف خلية نحل أجروا بعضها لأهالٍ
مختلفين في «أهناسيا المدينة»، وبعضها الآخر في مقاطعة «منف»، وقد نقلت الخلايا
الأخيرة إلى مقاطعة أهناسيا المدينة دون إذن منهم، وعلى ذلك نجد أن «أمونيوس»
السكرتير المالي سجن حراس النحل، وبذلك أحدث ضررًا كبيرًا بالخلايا، وإن كان فيما
بعدُ قد أطلق سراحهم.
الجعة
وكان المصريون الأكثر إقدامًا يشتغلون في صناعة الجعة فكانوا يشترون رُخَصًا
لبيعها، ولما كانت طلبات الإدارة من حيث الضرائب تكاد تكون أكثر مما يجب، فقد أدى
ذلك إلى أن أصحاب الحانات ينقضون تعهداتهم مع الإدارة مما كان يؤدي إلى متاعب كثيرة
كانت تنتهي بالسجن،
٧١ وقد تحدثنا عن ذلك من قبل في مكانه.
وهناك من كان يؤجر الحمامات،
٧٢ وكذلك كان يجد مؤجرو الحمامات متاعب عدة،
٧٣ فقد شكا «أنارويس»
Inaroys من أنه لا
يمكنه أن يدفع إيجار الحمام، وقد كتب كذلك صاحب حمام يُدعى «باثويفيس»
Pathiophis،
٧٤ إلى «زينون» يتضرع إليه في رسالة مؤثرة أن يطلق سراح زوجه المسجونة
التي ينفطر قلبها شفقة ورحمة على أولادها كما أنه هو نفسه أصبح غير قادر على مزاولة
عمله ويسأله أن تأخذه الشفقة بهم هذه المرة وإذا وجد أنهما يأتيان مثل هذا الذنب
مرة أخرى فإنهما لن يسألاه الرحمة، والمفهوم من هذه الرسالة أن مؤجر الحمام وزوجه
لا بد كانا قد أتيا مخالفة نكراء.
٧٥
ونقرأ في بردية أخرى حالة مؤجر حمام آخر؛ وذلك أن «بايس» قد سُجن كذلك بسبب حمامه
وأنه حتى بعد خروجه من السجن كان يعاني مصاعب مع السكرتير المالي، وفضلًا عن ذلك
لم
يكن في حمامه ماء للمستحمين.
ونصادف في سجلات زينون أحيانًا ذكر مصريين يمارسون تجارات صغيرة،
٧٦ وكانوا كذلك يعانون ألم الفقر؛ ففي متن
٧٧ نجد أن «حارنتوتس» وهو تاجر «فول مدمس» يطلب بكل خضوع تخفيض الضرائب
المطلوبة منه، كما كتب «ياسون» إلى «زينون» عن صاحب حانوت من أهالي «تانيس»
٧٨ يستعطفه من أجله.