الأسرة المصرية
لم تقدم لنا سجلات «زينون» إلا معلومات قليلة من حياة الأسرة المصرية، ومع ذلك يمكن
أن نذكر على الرغم من كل شيء بعض ملاحظات لها قيمتها.
والواقع أنه من السهل أن نلحظ أنه غالبًا ما يكون أفراد الأسرة يعملون معًا، ويمارس
أفرادها حرفة واحدة وهذه الحرفة قد تنتقل في حالات كثيرة من الأب للابن،
١ ففي إحدى الوثائق
٢ نقرأ عن قاطِعَيْ أحجار وهما «حوروس» بن «باسيس»
Pasis و«باسيس» بن «حوروس» ومن المحتمل إذن أنهما الأب والابن، وفي
وثيقة أخرى
٣ نجد أن «بائيسيس»
Paesis صانع الفخار يشتغل
مع ابنه، وفي ثالثة
٤ نعرف أن «بانيس»
Panes وابنه كانا يعْملان
في كرْم ويتسلمان نقودًا، وتحدثنا وثيقة رابعة
٥ عن بستانيين وهم «بتموتيس» وأولاده الذين كانوا يشتغلون على ما يُظَنُّ في
حديقتهم حيث كانوا يقومون بعملهم فيها، وكذلك نجد أن «بتوباستيس» الذي كان يطلب مرتبه
٦ يشتغل مع أولاده في تربية الحمام، وفي وثيقة أخرى نقرأ أن «حوروس» وأولاده
قد أجَّروا خلايا نحل، كما نجد أن الأرملة «تامويس»
Thamoys تمارس نفس المهنة السابقة، ومن المحتمل أنها قد ورثتها عن
زوجها هي وأولادها،
٧ وأحيانًا نجد أن إخوة يشتغلون سويًّا كما هي الحال مع «إتفوس»
Etpheus وأخويه،
٨ وهم الذين نقرأ أنهم كانوا يتعاقدون مع «زينون» في موضوع عزق أرض وعمارتها،
أو كما نشاهد في وثيقة أخرى رجلًا يُدعَى «نيمسيس»
Neemsesis وأخاه «سامويس»
Samoys
وهما من قرية «كرك»
Kerke يتسلمان شعيرًا،
٩ ونعلم من وثيقة أخرى
(PSI. 422) أن الأسرات
التي نشاهد فيها أن أعضاءها من الأب للابن يمارسون حرفة واحدة يمكن أن يُوجِد في
أعضائها طموحًا واعتزازًا بوراثة حرفتهم، وقد كتب «بزنتائس»
Psentaes إلى «زينون» في هذا الصدد
١٠ فيقول ليس هناك شخص يعمل أحسن مني وبسرعة مثلي في مقاطعة «سايس» ووالدي هو
أول رجل بين كل الناس هناك.
وكانت الأبناء تعتني بشيخوخة آبائهم وهم الذين من جانبهم كانوا يعتمدون على مساعدة
أولادهم، فنقرأ في متن
١١ شكوى «باوزيس»
Paosis والد «حوروس» أحد
موظفي «أبوللونيوس» أنه يعيد إلى ذاكرة «زينون» أن ابنه عند سفره وكل أمره إليه،
وهو
الآن يطلب إلى «زينون» مساعدته، وعلى العكس من ذلك نقرأ في وثيقة أخرى
١٢ أن امرأة عجوزًا كانت تعمل وكيلة في محل بيع جعة، وكانت تتكل في كسب عيشها
على ابنتها، ولما رأت أن الأخيرة قد هجرتها بسبب إغراء رجل قد هجر بدوره زوجه وابنه
١٣ كتبت في ذلك تتضرع «لزينون» في أن يمد لها يد المساعدة، فتقول له إني أسألك
أن تأتي لمساعدتي بسبب شيخوختي وترد إليَّ ابنتي.
١٤
والخلاصة أنه في كل المتون التي اقتبسناها عن الأسرة يمكن أن نلحظ فيها شعور التضامن
الذي تمتاز الأسرة المصرية به حتى ولو كان هذا الشعور ينحصر غالبًا في الفوائد المادية،
وأحيانًا نشاهد المرأة كذلك غالبًا بجانب زوجها، فمن وثيقة بالقاهرة
١٥ نعلم أن «زينون» قد أمر بسجن زوجة رجل يُدعَى «باتيوفيس»
Pathiophis وهو مؤجر حمام، وكان «باتيوفيس» يتحدث
في شكواه كأنه هو وزوجه مجرمان، وهذا يعد دليلًا على أنها على ما يظهر كانت تساعده
في
عمله، وذلك على الرغم من أنه في الجزء الأول من هذه الشكوى يظهر أنه هو الذي كان
يشتغل
في الحمام أثناء أن كانت هي ترعى شئون أطفالها في البيت.
وإذا كان «باتيوفيس» هو المسئول عن العمل — وهذا على ما يظهر ليس فيه شك — فكيف
يفسَّر بقاؤه حرًّا في حين أن زوجه كانت في غياهب السجن؟ ولدينا كذلك متن آخر
١٦ تدل شواهد الأحوال على أنه يتحدث عن سجن امرأة وأخَوَي المجرم، ولكن ذلك لم
يكن ليحدث إلا في حالة هرب المجرم، والظاهر أن الإدارة الإغريقية كانت تعامل الأسرة
المصرية بوصفها وحدة لا تتجزأ وأن المسئولية كانت تقع على كل أعضائها، ولذلك نجد
أن في
حالة «باتيوفيس» قد فضل «زينون» على ما يُظَنُّ أن يسجن المرأة ويخلي سراح الزوج
الذي
كان العمل يحتاج إليه، وقد كان مثل هذه الحالة تحدث في عهد إسماعيل عند تقصير الأهلين
في دفع الضرائب، وكذلك كانت تحدث عندما كان أحد أفراد الأسرة يفر بسبب جريمة حتى
عهد
قريب جدًّا، ونعرف فضلًا عن ذلك بعض وثائق من سجلات «زينون» ظهرت فيها المرأة المصرية،
فمثلا نعلم أن «أوافروس»
O
Aphrous ابنة «أناروس» قد
جاء ذكرها بوصفها مقترضة
١٧ ولا بد أنها كانت امرأة غنية حتى تؤتمن على قرض قدره ٢٨٤ درخمة، ومن جهة
أخرى نعرف حالة الأرملة الفقيرة «سنخنسو» والمرأة «تامويس» التي تعمل مع أولادها،
وقد
جاء ذكرهما فيما سبق، يضاف إلى ذلك المرأة «أماموس»
Amamos امرأة «بيروس»
Pyrrhos
التي كانت تتسلم الشعير لها ولابنتها على سبيل الإحسان وهي من نفس الطبقة الدنيا،
١٨ وهذا المثل الأخير هام لسبب آخر وذلك أن «أماموس» المصرية كانت امرأة
«بيروس» الإغريقي ويجب أن يُلحَظ هنا أن «بيروس» كان رجلًا متواضعًا وهو ينتمي إلى
الطبقة السفلى من المجتمع الإغريقي، وعلى ذلك فإنه كان من المفهوم جدًّا أن نرى
القوميات المختلفة تمتزج بسرعة كبيرة في حياة الأسرة التي تنتمي إلى أسفل طبقة في
المجتمع، والمتن الذي نحن بصدده يرجع عهده إلى عام ٢٥٦ق.م، وفي عام ٢٤٨-٢٤٧ق.م نجد
فعلًا أن أخوين أحدهما يسمى «هراكليدس» وهو اسم إغريقي والآخر يُدعَى «با أبيس» وهو
اسم مصري،
١٩ ومن ثم يظهر أن الاختلاف في جنسية الأسماء يدل على أنهما وُلِدا من أبوين
مختلفي الجنسية، وهذا ما يبرهن على أن أمثال هذا الزواج كان فعلًا موجودًا في مصر
في
السنين الأولى من العهد الهيلانستيكي،
٢٠ هذا ونجد في حالة أخرى
٢١ أن فردًا يُدعَى «تيون»
Theon وهو اسم
إغريقي ووالده هو «كوللوتس»
Kollouthos وهو اسم مصري،
وكذلك في وثيقة مؤرخة بعام ٢٤٦ق.م
٢٢ نقرأ أن «سيسوخوس»
Sisouchos المصري يقدم
لزينون ابنه «بطلمايوس» وهاتان الحالتان لهما أهمية مزدوجة، وذلك لأنه لتفسير القوميات
المختلفة لهذه الأسماء يجب أن نفرض أن مصريًّا قد تزوج من امرأة إغريقية، وهذا ما
يظهر
غريبًا جدًّا في هذا العهد، ومن المحتمل أننا أمام ظاهرة أخرى وهي صيغ الأسرات المصرية
القُحة بصبغة هيلانستيكية، وقد بدأت هذه النزعة بتسمية أولادهم بأسماء إغريقية وبخاصة
تلك الأسماء التي كانت عظيمة الانتشار مثل «ثيون» أو بأسماء شهيرة جدًّا ومحترمة
في
مصر؛ مثل اسم «بطليمايوس» ويجب أن نضيف إلى ذلك أن «سيسوخوس» كان أحد مرءوسي «زينون»
أو
«أبوللونيوس» وأن علاقاته مع «زينون» كانت على ما يظهر علاقات ود وصَفاء، وهذا ما
يدل
على أنه كان يحتل مكانة اجتماعية رفيعة، وفي هذه الطائفة من المجتمع المصري كانت
الصبغة
الهيلانستيكية تنتشر بسرعة كبيرة، هذا وقد لاحظنا فيما سبق أن المجتمع المصري لم
يكن
بأية حال من الأحوال منسجمًا؛ إذ كان يوجد فيه اختلافات كبيرة اجتماعية وأسباب عديدة
للمشاحانات والأحقاد.
وعلى ذلك فإنه ليس بمدهش أن نسمع عن خِلافات خطيرة قد وقعت حتى بين المصريين أنفسهم،
فمن ذلك أن «بزنموس» Psenemous نقض على «زينون» الشجار
الذي وقع بين سكان «فيلادلفيا» وبين المؤجرين الذين على حدود ضيعة «أبوللونيوس»،
هؤلاء
المؤجرون كانوا قد حفروا آبارًا للحصول على الماء، قد هاجمهم سكان «فيلادلفيا».
ومن المعلوم أن الماء مادة ثمينة جدًّا في مصر، ولذلك فإنه ليس بالشيء الخارق لحد
المألوف في أن يكون الحصول عليه سببًا للنزاع، وهناك حوادث أخرى نتج عنها نزاع فنجد
مثلًا أن سكان قرية قد دافعوا عن مراعيهم على ما يظهر من تعدي رعاة زينون عليها،
٢٣ وحتى إذا كان هذا الخلاف قد انقلب إلى شجار بين السكان المصريين والإدارة
الإغريقية فإن الرعاة الذين هاجمهم سفلة القوم كانوا دون أي شك مصريين أو عربًا،
ونجد
كذلك أن المزارعين كانوا يشتكون من أنهم قد أُعطوا مساكن أقل جودة من التي أُعْطِيَت
رفاقهم،
٢٤ وفي هذه الحالة كذلك نجد أن الشكوى كانت موجهة أكثر ضد إدارة الضيعة، وذلك
لأنها هي التي توزع المساكن.
والواقع أنه حتى إذا صادفنا حالات تعد بين المصريين، أو إذا سمعنا عن عامل من أصحاب
المرتب من المصريين قد هرب بعد أن سرق سيده المصري،
٢٥ فإننا في معظم الحالات لا نجد في حقيقة الأمر إلا عراكًا قد وقع بين
المواطنين الأصليين تدخلت فيه الإدارة الإغريقية لتزيد في خطر المنازعات التي كانت
قد
وقعت فعلًا، على أن ذلك كان لا يعني أن هذه الإدارة قد حرضت على هذه المنازعات بتدبير
منها أو عن قصد، هذا وتدل الأحوال على أن شكاوى المصريين من الموظفين المصريين أنفسهم
كانت عديدة، والظاهر أن مسألة القومية
٢٦ كانت قليلة المفعول في العلاقات مع الإدارة؛ إذ نجد أن الموظفين المصريين
كانوا ينحازون في معظم الأحيان إلى جانب رؤسائهم الإغريق، ومع ذلك فلا يغيب عن ذهننا
أنه حتى من صبغة الوثائق التي نبحثها الآن نجد فيها بوجه خاص شكاوى واتِّهَامات،
وفي
معظم الحالات نجد أن هذه الشكاوى الموجهة إلى زينون تكون تظلمات من موظفي الشرطة،
وهذا
يمكن تفسيره بسهولة
٢٧ فنجد في وثيقة
٢٨ أن «باتيميس»
Patymis يُدعَى «باتيس»
شرطيٌّ في «فيلادلفيا»، وكذلك نقرأ في وثيقة أخرى
٢٩ أن حارس خنازير يشكو من أنه قد سِيئَتْ معاملته هو وزوجه على يد
«بسوسناو»
Psosnau، ومن المحتمل أن هذا الرجل هو
الذي جاء ذكره في مصدر آخر بوصفه حارس المحصول،
٣٠ والظاهر أن الموظفين الإداريين كانوا أحيانًا يقومون بأعمال رجال الشرطة
فمن ذلك «حوروس»
٣١ الذي سجن «أخومنيس»
Achmneuis أحد أتباع
«زينون» بسبب ضريبة الملح، وفي وثيقة أخرى
٣٢ نجد أن ضاربي طوب وهما «هرمايس» و«تيوس»
Teos قد طلبا إلى «زينون» حمايتهما من مساعده «حوروس» الذي لم
يعطهما حقهما وأنهما يخشيان بسبب ذلك الموت جوعًا.
هذا ونجد كذلك في وثائق سجلات «زينون» ما يثبت وقوع سوء تفاهم بين الموظفين المصريين
أنفسهم، نذكر من ذلك بوجه خاص المشاحنات التي وقعت بين كل من «ستوتوتيس» Stototis و«فانسيس» Phanesis فقد اتَّهم الأخيرُ الأولَ بالإهمال، وذلك لأنه شغل فضلًا
عن وظائفه وظائف زميله في مخازن غلال «فيلادلفيا»، والظاهر مع ذلك أن «أنوسيس» الذي
في
«فيلادلفيا» مع اثنين من الإغريق من وكلاء «زينون» وهما «كليتاركوس» Kleitarchos و«مارون» Maron قد
نظروا إلى الأمر من وجهة أخرى، وذلك لأنهم طردوا مساعدي «فانسيس» واستخدموا من جديد
مساعدي «ستوتوتيس»، وقد حدثت هذه الفضيحة في غياب «زينون» وهذا مما يجب الإشارة إليه،
وإنه لمن السهل أن نفهم أن الأحقاد كان لا ينفجر بركانها بهذه السهولة تحت عيني «زينون»
الساهرتين.
وعندما نحلل المجتمع المصري كما يظهر أمامنا في سجلات «زينون» فإنا لا نجد فيه أي
شعور بالوحدة القومية؛ وذلك لأن هذا المجتمع لم يكن فيه انسجام من الوجهة الاقتصادية؛
إذ قد مزقته الأحقاد والمشاحنات التي كان غالبًا سببها أن هذا الحزب أو ذاك من
المتخاصمين يلقي بنفسه في أحضان الإغريق أسياد البلاد، وهذا بالضبط ما كان يحدث في
عهد
الاحتلال البريطاني البغيض قبل قيام ثورة عام ١٩٥٢ ميلادية، ومن قبلها في عهد الحكم
التركي.