نظرة المصريين للإغريق
لقد تحدثنا حتى الآن عن وضع المصريين بالنسبة للإدارة الإغريقية، ومع ذلك فإنه لمما
يستحق الاعتبار هنا أن نتساءل كذلك عن العلاقات الشخصية التي كانت توجد بين المصري
والإغريقي في الحياة الحرة، وهل سجلات زينون تسعفنا بالجواب على ذلك؟ والواقع أن
الجواب
على هذا السؤال الأخير يحتمل الإثبات والنفي في آن واحد، وذلك أن كمية من الرسائل
والشكاوى التي وُجهت إلى «زينون» في هذه السجلات تهيئ لنا أن نكوِّن رأيًا عن وضع
المصريين بالنسبة «لزينون» نفسه، وهذا هو كل ما لدينا من المعلومات في هذا الصدد
تقريبًا وحتى فيما يتعلق «بزينون» نفسه، فإنه يمكن أن يكون لدينا شكوك، وتفسير ذلك
أنه
حتى يومنا هذا لم نصل إلى حالة تُمكِّننا من أن نحدد بصورة دقيقة موضع زينون الرسمي،
وعلى ذلك فإنه من الصعب أن نعرف ما يجب أن ينسب إلى مركزه الحكومي، ومع ذلك فإن الفرد
الإغريقي الذي كان يمكن للمصري أن يتصل به كان دائمًا على وجه التقريب موظفًا، وعلى
أية
حال كان رئيسه، وفي أعين المصريين كان يجب أن يمتزج الرجل في معظم الأحيان بمركزه
الرسمي.
ومن وجهة النظر هذه تهيئ لنا الرسائل التي كانت
توجَّه إلى زينون أن نكوِّن فكرة صحيحة لا بأس بها عن وضع المصري بالنسبة للإغريقي
الذي
ينتمي إلى طبقة أعلى، ففي كل الرسائل الموجهة إلى «زينون» نقرأ أن المصريين كانوا
يرجونه أن يأخذ بناصرهم، ويمنع عنهم الظلم الذي يئنون تحت عبئه، وأن يمد لهم يد
المساعدة وأن يكشف عنهم ضرهم، والواقع أنه كان الرجل صاحب السلطان في نظرهم وهو العماد
الكلي لهم وفي مقدوره أن يذلل كل صعاب، وكان ينتظر منه العدالة المنصفة،
١ ومع ذلك يتساءل الإنسان هل كانت هذه الحالة عنده دائمًا تنطوي على الإخلاص؟
وننتقل الآن إلى استعراض أبرز هذه الشكاوى وأكثرها ميزة في هذا الصدد لنرى مقدار
إخلاصه
في معاملة المصريين الفقراء.
فمن ذلك التضرع المؤثر الذي وجهته امرأة عجوز إلى «زينون»،
٢ وذلك أنها عندما هجرتها ابنتها التي تعولها كتبت إلى «زينون» تقول: إني
أسألك أن تأتي لمساعدتي رحمة بشيخوختي وأن ترد إليَّ ابنتي، وكتبت إليه امرأة أخرى
وهي
أرملة رجل يُدعَى «سنخنسو» ترجوه في أن يرد إليها أتانها التي كان كان قد اغتصبها
«نيكياس»
Nikias،
٣ فتقول سأرسل إليك مولودها، وإني أرجوك وأتوسل إليك ألا تهمل مسألتي فإني
امرأة أرملة، وكتب إليه كذلك راعِيَا خنازير وهما «بتنوريس» و«سامويس» شكوى وكانا
سجينين بسبب جرم ارتكباه،
٤ والطريف أنهما لم ينكرا جريمتهما ولكنهما يلجآن إلى رحمته وعطفه في أن يطلق
سراحهما خوفًا من أن تهلك قُطْعَانُهما لعدم العناية بها، وهما نفسهما يموتان جوعًا
لعدم وجود ما يسد رمقهما، وفي ذلك يقولان: أرجوك أن تأخذك الشفقة بنا، فقد عوقبنا
بسبب
خطئنا، وليس هناك فرد بغير خطيئة، وعلى ذلك ينبغي لك أن تفحص موضوعنا؛ إذا رأيت حسنًا
أن تحررنا؛ لأنه ليس لنا سيد غيرك، ومن ثم فإنا نكتب إليك نطلب الرحمة.
هذا ويظهر «زينون» في عدد كبير من سجلاته بأنه هو المحامي الوحيد للمظلومين، ولكن
يجب
أن نلحظ هنا أن هذه الحالة الخاصة بالطبقة الدنيا من السكان كانت عامة وليست قاصرة
على
المصريين الأصليين وحسب، وذلك لأنه لدينا متون مشابهة حررها إغريق في هذا الصدد،
٥ هذا ولدينا رسالة من فرد يُدعَى «بمناسيوس»
Pemenasios يشكو فيها من أن بواب «زينون» لم يسمح له برؤيته ليشكو
إليه أمره، والظاهر أن كل هؤلاء التعساء كانوا يعتقدون أنهم سيصلون إلى أغراضهم إن
هم
أمكنهم التحدث مع «زينون» شخصيًّا، وقد كان هذا الزعم هو رأي «أوللاس»
Iollas٦ الذي أراد أن يهرب إلى جوار «زينون» وكذلك كان هذا هو رأي العبد
٧ الذي لم يُرِدْ أن يترك عمله كغيره من زملائه ولكنه طلب حكم العدالة في
أمره من «زينون»، فيقول: بما أني أعلم من أخلاقك أنك عدو السوء فإني لذلك لم
آتِهِ.
هذا ونجد أحيانًا أن هذه الحماية التي كان يمنحها «زينون» لبعض المصريين كانت توضح
بصورة بينة ويقول في ذلك «روستوفتزف»،
٨ وهناك صورة أخرى للحماية وهي الحماية التي كان يعطيها موظفون من مرتبة عليا
أو من مرتبة صغرى لرجال كانوا يعملون لهم أو كانوا مرتبطين بهم بصورة أخرى، هذا ونجد
في
بعض الحالات مثل حالة «باتيميس»
Patymis الذي جاء ذكره
في وثيقة أخرى
(P. Rylands 569 208) ما يشعر الإنسان أن
«زينون» كان يحمي المصريين لمصلحته الشخصية، فقد كرر «باتيميس» بقوة حمايته له فيقول
مخاطبًا له: لقد حميتنا منذ البداية وكذلك الآن، وليس هناك أحد آخر سيحمينا، وليس
لديَّ
ثقة إلا فيك لحمايتنا.
والظاهر أن مستخدَمي «زينون» كانوا هم الذين يفيدون في معظم الأحيان من حمايته أكثر
من غيرهم، وأبرز متن في هذا الصدد،
٩ وهو يحدثنا عن أعرابي كتب إلى «زينون» رسالة طويلة شيقة يطلب فيها مساعدته،
وذلك أنه لما كان عليه أن يبقى في سوريا مع «كروتوس»
Krotos فقد قضت الأحوال أن يقوم بخدمة الجِمال، غير أن الأخير لم
يُعْطِهِ مرتبه، وقد انتظر بعض الوقت حتى يعود «زينون»، ولكن الجوع في نهاية الأمر
قد
اضطره إلى الهرب في داخل البلاد، وهنا يضيف في خطابه إلى زينون بقوله: «إني أكتب
إليك
لتعلم أن «كروتوس» هو «المذنب.» وبعد ذلك أرسله زينون إلى «فيلادلفيا» حيث كان يعمل
تحت
أوامر «ياسون»
Iason، ولكنه عومل هناك معاملة سيئة
كأنه متوحش، وعلى ذلك تضرع إلى زينون أن يأتي لمساعدته، وعندما يقرأ المرء هذه الرسالة
يشعر إلى أي حد من التبعية الشديدة كان يعيش كاتبها، وفيها يقول يجب عليك أن تعرف
أنك
قد تركتني في سوريا مع كرونوس ولم أرتكب خطأ في حقك، وعندما أمرتَ أن أُعطى المرتب
الذي
أمرتَ إعطاءه فإنه لم يعطني شيئًا، وعندما رجوته كثيرًا أن يعطيني ما أمرت به فإن
كرونوس لم يعطني شيئًا، ولكنه أعطاني الأمر بالانصراف، وقد صبرت بعض الوقت في انتظارك
…
وقد كتبت إليك لأجل أن تعرف أن «كروتوس» هو المذنب، وعندما أرسلتني إلى فيلادلفيا
عند
«ياسون» وعندما فعلت كل شيء أمرتني به إني إرجوك وإنك على ذلك ستعمل عملًا حسنًا
إذا
اهتممت بي، وإني أتوسل لكل الآلهة وكل أرواح الملوك أن تكون في صحة جيدة، وأن تأتي
بسرعة عندنا لأجل أن ترى أنت بنفسك بأنه لا غبار عليَّ، وهذه الرسالة تبتدئ بصيغة
الصحة
والسلامة مما لا نجده في معظم الرسائل التي وُجهت إلى «زينون» من تابعيه، يضاف إلى
ذلك
أن تكرار ضمير المخاطب بقوة وبكثرة كان كذلك غريبًا في هذه الرسالة، هذا ونجد أن
موقف
«كليسيس»
Kelusis الذي يلوم كلًّا من «سوستراتوس»
و«زينون» بأنهما سافرا دون أن يُعلماه ما الذي قاله «أمونيوس» عنه، كان مماثلًا لما
جاء
في الرسالة السابقة.
١٠
ولدينا رسالة «لزينون» من «باؤزيس» الذي كان تحت حمايته، وتستحق أن تُفحص فحصا
خاصًّا؛ فهي تكشف لنا عن أحد مواقف «زينون» بالنسبة للمصريين، وذلك أننا نفهم منها
أن
«زينون» كان أحيانًا يمنح حمايته إلى بعض أسر مستخدَمي «أبوللونيوس»، وخلاصة القصة
أن
«باؤزيس» Paosis كان قد وضعه ابنه «حوروس البحار»
تحت حماية «زينون» وهو أحد بحارة «أبوللونيوس»، وقد شكا من أن «هراكليدس» رئيس ضيعة
«فيلادلفيا» قد سجنه لأجل أن يبتز منه مائة درخمة غير أن «باؤزيس» لم يكن يملك إلا
حمارًا وبعض أغنام قد تركها له ابنه «حوروس» لتكون تحت رعايته، ومن أجل ذلك يرجو
«زينون» أن يُسرِّحه من السجن حتى يكون في مقدوره الاتصال «بحوروس» الذي سيضع شكواه
أمام «أبوللونيوس».
وقد كتب باؤزير لزينون يقول:
إلى زينون، السلام عليك من «باؤزيس» والد «حوروس» بحَّار «أبوللونيوس»، وهو
الذي أخذ يدي وأعطاه إياك وقال لك: إذا ارتكب مع أحد ذنبًا قُلْه إليَّ.
هذا ونقرأ في بردية أخرى قصة عكس ذلك فاستمع إليها،
١١ وذلك أن والد «سيخوس» في هذه الوثيقة هو الذي وكل أمر ابنه «بطليموس» إلى
زينون: السلام عليك من «باؤزيس» والد «حوروس» بحار «أبوللونيوس»
Hermaphilis وإلى بيثون
Pyhthon
صاحب المصرف وإلى غيرهما كذلك بخصوص ضرورة تعيين ابنه في وظيفة كاتب، وقد أرسل «سيخوس»
ابنه شخصيًّا ليرى «زينون» ويرجوه في أن يكتب في الحال أمرًا بتعيينه في وظيفة بمرتب
حسن.
والواقع أن خطاب التوصية السالف الذكر يعد من الرسائل النادرة التي كتبها مصري في
هذا
الصدد، هذا وفي سجلات «زينون» رسائل كثيرة من هذا النوع كتبها إغريق لا مصريون.
١٢
هذا ولدينا بعض رسائل موجهة إلى «زينون» من مصريين عليها مسحة الألفة، وذلك على الرغم
من أن القارئ يحس أن كاتبيها يوجهونها إلى مدير إدارة «أبوللونيوس» القوي بوصفه صديقًا
لهم يحتل وظيفة عالية ويشغل مكانة تمكنه من مساعدتهم، وهذا هو التأثير الذي تركته
رسالة
«فانئزيس»
Phaneisis كيَّال الحبوب،
١٣ فقد كتب إلى «زينون» أنه سجين في الإسكندرية بأمر من «ديونيسودوروس»
Dyonysodoros والظاهر مع ذلك أنه لم يكن يفكر
في هم الغد، وهو يرجو في رسالته «زينون» في أن يرسل إليه فقط خادمًا؛ لأنه ليس لديه
بجواره أحد في المدينة، وكذلك طلب إليه أن يرسل إليه عباءة وما تيسر من النقود، هذا
ولدينا رسالة أخرى
١٤ تذكرنا كذلك بالرسائل التي كُتبت إلى «زينون» من أصدقائه الإغريق، وقد سأله
في هذه الرسالة «حارمايس»
Harmais أن يتدخل في صالحه
أمام «أبوللونيوس» وقد أرفق بخطابه صورة من الشكوى التى قدمها.
١٥ ويجب أن نفحص على حدة موقف الكهنة المصريين تجاه «زينون»، وذلك على الرغم
من أن الوثائق لم تحدثنا في سجلات «زينون» إلا عن الكهنة الذي يشغلون وظائف صغيرة،
والواقع أنه في كل المتون المحفوظة لدينا يظهر فيها «زينون» بأنه الحامي والمحسن
لرجال
الكهانة، فلدينا مثلًا متن
١٦ خاص بمصالح «كوللونيس» كاهن الآلهة «توريس» (ربة الولادة) في فيلادلفيا،
وفي متن آخر
(PSI. 531)، نقرأ أن أن كهنة «عشتارت»
صاحبة «منف» يلجئون إلى كرمه وسخائه، كما نجد كاهن «إزيس»
١٧ يطلب مساعدته وحمايته من تعدي موظف، وفي أحد متون القاهرة
١٨ نقرأ أن مُرَبِّيَيِ القططِ في «بوبسطه» يتضرعان إليه أن يخلصها من سخرة
فُرضت عليهما بغيًا وظلمًا، هذا وقد رأينا من قبل أنه منح حمايته إلى كاهن صغير
Isionomos،
١٩ وذلك على الرغم أنه كان يعمل ذلك على ما يحتمل لوجه الله، وقد كان كذلك على
علاقة مع كاهن أكبر ولكن المتن المختصر الذي جاء فيه ذلك
٢٠ لا يسمح لنا أن نتنبأ بما يقصد منه.
٢١
والخلاصة: يظهر أنه لأجل أن يميز الإنسان وضع المصريين بالنسبة للإغريق يجب أن نبرز
النقاط التالية؛ أولًا: تبعية المصريين الاقتصادية التي ينتج منها عدم ثقة المصريين
وعداوتهم للإغريق (وذلك على الرغم من أننا نجد مصريين من الطبقة الراقية مَنْ هُم
على
وداد ومصافاة مع الإغريق، وأنه في طبقة أقل من السابقة نجد أن بعض أصحاب الصناعات
ينقضون تضامن طبقتهم جريًا وراء نَيل حَظْوة الإغريق (أصحاب السلطان). ثانيًا: ومن
جهة
أخرى اعتقاد المصريين أنه يجب عليهم أن يبحثوا عن التآزر والحماية إذا ما أرادوهما
في
كل مشكلات الحياة عند الإغريق أصحاب السلطان، والظاهر أن الشعور الوطني لم يكن له
دور
يقوم به في هذه الحالة إلا دورًا ثانويًّا لا يكاد يُذكر.
والآن نجد أنه قد حان الوقت للإجابة على السؤال التالي: ما هو وضع الإغريق بالنسبة
للسكان المصريين (كما نفهمه في وثائق سجلات زينون)؟ والواقع أن هذه المسألة كانت
موضع
نقاش كبير، ولكن لندع أولًا الوثائق تتكلم في هذا الصدد، والواقع أنه حتى لو كان
موقف
الإغريق غالبًا كما سنرى فيما يلي معاديًا أو بالأحرى موقف ازدراء، فإنه لدينا مع
ذلك
أوراق بردية إغريقية نعلم منها أن الإغريق كانوا يتدخلون لأجل صالح المصريين، فرسائل
التواصي التي كتبها زملاء زينون الإغريق له تعتبر غاية في الأهمية من هذه الوجهة؛
ففي وثيقة
٢٢ كتب «أمينتاس» أحد موظفي «أبوللونيوس» وزميل «زينون» إلى الأخير يرجوه أن
يصفح عن فرد
Kiolourgos قد التجأ إليه طالبًا الحماية،
والمتن شيق إذ يقول: إن «كولورجوس» قد وصل عندنا وهو يطلب الحصول على صفحك عنه، وألا
يُعتبر مذنبًا، وعلى ذلك تكون قد أتيت عملًا طيبًا إذا أطلقت سراحه إذا كان لم يأتِ
ذنبًا عظيمًا، وإنه بعد أن يكون كما يجب في المستقبل وقد وبَّخناه هو نفسه بأنه متسكع
ولا يقوم بعمل، وهو يطلب أن يُطلَق سراحه في «منف» وأن يُسمح له بالعمل، وإذا لم
يعطِ
«أبوللونيوس» أوامر مضادة فإنك تعمل حسنًا إذا سرحته، ومع ذلك فإن اسم الراجي لم
يُذكر،
كما لم يعرف أحد معنى الكلمة الدالة على وظيفته، والناشر للمتن وهو «بتروبولوس»
Petropoulos يظن أنه صانع من صناع الفخار أو عامل
يشتغل في بناء السفن، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يمكن أن نفرض أنه كان مصريًّا، ورسالة
«أمينتاس» لطيفة جدًّا، ومنها نفهم أن الإغريقي قد سلك فيها مسلكًا محايدًا؛ إذ نقرأ
بين السطور بسمة حلوة تدل على السماحة: «آه من هذا الشيطان المسكين في استطاعتك أن
تسامحه!» ولكن هذه الرسالة تعد كذلك شيئًا استثنائيًّا.
ولدينا رسالات توصية أخرى بعث بها إلى «زينون» لصالح مصريين، ولكن في بعضها يرى
الإنسان بِجَلاء أن الموضوع لا يتناول قط أغراضًا إنسانية وأن الإغريقي الذي يتدخل
فيها
لم يكن لمصلحة المصري بل لمصلحته هو وحسب؛ ففي متن
٢٣ نجد أن «كاساندروس»
Kassandros وهو أحد
جنود «أبوللونيوس» يرجو «زينون» أن يخلص رجلًا قد أُرسل من مقاطعة «منف» إلى
«فيلادلفيا» للحصاد، وذلك لأن هذا الرجل كان ضروريًّا له،
٢٤ وفي متن آخر
٢٥ طلب إلى «زينون» أن يفحص موضوع «بزيناتس»
Psinates، بن باجاتس»
Pagates وأن
يتكلم في ذلك لموظفين آخرين، وفي بردية
٢٦ لم يبقَ لنا منها إلا بداية رسالة كتبها إلى «زينون» فرد يُدعَى «ديوكليس»
يتشفع فيها لدى «زينون» لصالح «باريس» الذي هرب من مقاطعة ««البهنسا».
٢٧ هذا ونجد في ورقة أخرى وهي
٢٨ جزء من المسودة التي فيها جواب «زينون» على الرسالة السابقة جاء فيها أن
«ديوكليس» أحد رجال الجيش المستعمرين في «أرسنوي» وهو صديقي ويهمه كثيرًا أمرُ مصريٍّ
اسمُه باريس، وعلى أية حال ليس لدينا أية فكرة يمكن أن تكون لجندي مرتزق إغريقي يطلب
فيها حماية حارس هارب، ومع ذلك فإن المتن ممزق ولا يقدم لنا معلومات كافية في هذا
الصدد.
هذا ونلحظ في كثير من مجريات الأحوال مع ذلك الاحتقار والعداوة اللذين يظهرهما
الإغريق نحو السكان الأصليين أو بعبارة أدق نحو ممثلي الطبقة الدنيا من المجتمع المصري؛
ففي أوراق «ريلندز»
٢٩ نقرأ أن أن فردًا يُدعَى «باتايكيون»
Pataikion كتب إلى «زينون» في موضوع شرطي يُدعَى «سوكيس»
Sokeus وكان قد أفسده، أنه قد سافر إلى
«أبوللونيوس» ليعرض عليه ظلامته، ومن ثم رجا «باتايكيون» «زينون» أن يقيم العقبات
في
وجه المصري، ثم يضيف في خطابه أنه قد كتب كذلك لمترجم «أبوللونيوس» لأجل أن يلعب
معه
دورًا خسيسًا إذا أمكنه.
فيقول له: إنك تفعل حسنًا إذا وجدت فرصة وأمكنك أن تلتفت إلى موضوع هذا الرجل حتى
لا
تكون سخرية في أفواه الآخرين، وقد كتب كذلك إلى مترجم «أبوللونيوس» في هذا الصدد
بأن
يعمل على الإضرار به إذا أمكنه، ويمكننا أن نؤكد مع ناشر هذا المتن أن المترجم لا
بد
كان لديه الإمكانيات لمضايقة المصري الذي كان يريد أن يتكلم إلى الوزير صاحب القوة
دون
أن يعرف لغته، ومن الأشياء الشيقة كذلك أن نلحظ هنا أن «باتايكيون» كان يعتبر طريقته
عادية تمامًا، وأنه كان متأكدًا أن زينون سيبحثها أيضًا. ومع ذلك لايمكننا أن نعد
هذا
المتن بمثابة مظهر عداوة قومية، وذلك لأنه ليس لدينا متن آخر مشابه لموضوعه خاص
بإغريقي، هذا ونقرأ في متن آخر أن «أمينتاس» يرجو «زينون» أن يطلب إلى «أبوللونيوس»
أن
يُعير أُذُنًا صاغية إلى شكوى النجار «كالياناكس» Kallianax الذي ذهب إلى الوزير يطلب حمايته، والظاهر إذن أنه في
هذا المتن كما في غيره لا بد أن نبحث عن منبع العداوة التي نلمحها هنا لا في اختلاف
القومية بل في ركن خاص بالموقف المادي والاجتماعي.
والواقع أنه لم يكن عند الإغريق بوجه عام ثقة في العمال المصريين الذين يشتغلون
لحسابهم، وهذا الشعور يظهر جليًّا في رسالة كتبها لزينون فرد يُدعَى «سبونداتس» عن
موضوع خشب الجميز الذي كان ضروريًّا لبناء مركب، وقد طلب أن يرسل إليه «تيوبومب»
Theopompe الإغريقي ليقوم بشراء هذه الصفقة
٣٠ حتى يقضي بذلك على اعتذارات العمال (الذين يبنون السفن) لأنهم كسالى
ويبحثون عن معاذير، هذا ولدينا رسالة تستحق الالتفات،
٣١ وقد تحدثنا عنها فيما سبق عندما كنا نفحص مسألة الحماية التي منحها «زينون»
للأهلين، ولكن لا بد أن نبرز نقاطًا أخرى في هذا المتن الشيق، وذلك لأنه هو الوحيد
في
سجلات «زينون» الذي نجد فيه أن كاتبه يشكو من سوء معاملته لأنه ليس هيلاني المنبت،
فيقول إنه لم يُدفع له مرتبه ولم يُعطَ نبيذًا بدلًا من النبيذ الحلو كما يُعطى الإغريق
قائلًا: «حتى لا أموت من الجوع، وذلك لأني لا أتكلم الإغريقية.» أو بعبارة أخرى:
لأني
لست مثل الإغريق، ويقول «ولكنهم يحتقرونني لأني لست إغريقيًّا.» وقد طلب بعد ذلك
إلى
«زينون» أن يأتي لغوثه وأن يصدر الأمر بإعطائه مرتبه، وكاتب هذه الرسالة عربي الأصل،
ومما يستحق الإشارة إليه هنا أنه المتن الوحيد في سجلات زينون الذي نسمع فيه كلامًا
صريحًا عن التمييز العنصري، ولم يكن كاتبه مصريًّا، وهذا أمر يلفت النظر وله أهميته،
على أن وجود هذا المتن لا يسمح لنا أن نستنبط أن السكان غير الإغريق في مصر كانوا
يشعرون بأنهم صنف مُنحطٌّ عن الإغريق، وحتى الإغريق الذين من الطبقة الدنيا في مصر
نجد
أنهم كانوا يشعرون دون شك أنهم أكثر قربًا من المصريين إلى أسياد البلاد، وذلك لأنهم
كانوا يشتركون مع هؤلاء الأسياد في اللغة والتقاليد وقد كانوا فخورين بذلك.
هذا ونعلم من أوراق البردي كذلك أن الإغريق كانوا يخافون أحيانًا بأس المصريين
الأصليين.
حقًّا لم يكن زمن الثورات على الحكم البطلمي قد أتى بعدُ، ومع ذلك يظهر أن الأجانب
لم
يكونوا يشعرون دائمًا بالأمان في الريف المصري، هذا وقد كتب «كريتياس» إلى «زينون»
(PSI. 345) يقول: إن محصول الكروم يبتدئ، ويطلب
إليه إرسال عشرة حراس على الأقل وبترحيل الموجودين عنده حتى لا يحدث ما لا تُحمد
عقباه،
ولدينا جزء من رسالة عن طريق إغريق قد أرسلوا لحراسة الكروم وقد طلبوا مددًا أو أن
يُعْفَوْا من وظيفتهم، فقد قال لهم أحد الناس إنه من خطل الرأي استخدام شبان مصريين.
٣٢ ونفهم من السطر السادس والعشرين وما بعده من وثيقة بالقاهرة
٣٣ أنه في العلاقات مع الإدارة نجد أن الإغريق كانوا أحيانًا حَذِرِين من
الموظفين المصريين؛ مثال ذلك «دمترويس» الذي أراد أن يتحاشى وقوع خلاف مع الكاتب
الذي
بيده حساب المؤسسة لأنه كان في مقدور الأخير أن يضايقه، هذا ونعرف كثيرًا من الخِلافات
التي وقعت بين المصريين والإغريق، ومع ذلك فإن هذه الخِلافات لم تكن مميزة، وذلك
لأننا
نعرف الكثير منها، ومن المحتمل أنها كانت تقع أكثر بين الإغريق وبين المصريين، وأهم
هذه
الخِلافات مسألة «أجاتون» و«بثوباتيس» حيث أراد أجاتون بأية طريقة أن يتسلم من «زينون»
أرضًا مؤجرة إلى «بتوباستيس».
٣٤
وكانت الإدارة الإغريقية لا تفكر من حيث العلاقات الرسمية أو العلاقات غير الرسمية
إلا في الفوائد التي يمكن أن تنتزعها من عمل السكان المواطنين، وقد كان موقفها معروفًا
جيدًا، وقد ظهر ذلك بالمثل في سجلات «زينون»؛
٣٥ فقد كانت الإدارة لا تكترث بأمر موظف مصري أو عربي أو إغريقي فقير، ولكن
المهم لدينا هو دخل الحكومة ومصلحة الحكام الشخصية، حتى ولو حصلت على ذلك بطرق غير
شريفة أو بارتكاب مخالفات، ومع ذلك لا بد أن نلحظ هنا أنه في غالب الأحوال لم نسمع
بمخالفات في وثائق سجلات «زينون»، والمحتمل أن ذلك لم يكن من باب الصدفة؛ إذ المفهوم
على ما يظهر أنه خلال حكم «فيلادلف» كان الموظفون لا يزالون في قبضة الحكومة، ونقول
هنا
في خلال مدة حكم «فيلادلف» لأنه لم يكن إلا في هذا العهد قد احتل زينون وظيفة رسمية،
وبذلك كان في مقدوره أن يتسلم الشكاوى خاصة بمخالفات الموظفين.
والظاهر مع ذلك أنه في هذا العهد كانت تقوم في وجه الإدارة الإغريقية عقبات للحصول
من
السكان المصريين على ما كانت تفرضه عليهم؛ فقد كانت أحيانًا تلجأ إلى الوعود والتفسيرات
مثل الحالة التي سبق ذكرها عن الخلاف الذي حدث بين سكان «هيفايستياس» ومع وكيل حاكم
المقاطعة «داميس».
٣٦
وغالبًا ما كان ينبغي على الإدارة أن تمنح امتيازات بعضها ينبع من السياسة الملكية
ويفكر الإنسان بوجه خاص في هذه الحالات التي تعترف فيها الإدارة أنه من الطبيعي أنها
لا
يمكنها أن تشغل العمال في أيام أعياد البلاد،
٣٧ أما الامتيازات الأخرى فإنها كانت تُغتصب منها وبخاصة عندما يكون الأمر
متعلقًا بجعل الفلاحين يعودون إلى الحقول التي هجروها ونحن نرى جيدًا أن الموظفين
كانوا
يرتبكون أمام خطر هرب الفلاحين وترك أعمال الإغريق، وكان السكرتير المالي «زويلوس»
يفضل
عدم التدخل في المشاكل التي يلاقيها «باناكستر»،
٣٨ وعلى الرغم من أن «كولوتس» الذي جاء ذكره في بردية بالقاهرة
٣٩ قد أراد أن يحضر حاكم المقاطعة «مايماخوس» أملًا في أنه سيكون في استطاعته
أن يجعل الفلاحين يتركون المعبد الذي احْتَمَوْا فيه، فإن الموقف أمام حاكم المقاطعة
لم
يكن على ما يظهر من السهل حله، ومع ذلك فإنه لمن المهم أن نلحظ أن «كوللوتيس»
Kollouthes المصري كان يعتقد أنه كان من السهل على
موظف إغريقي أكثر منه ليجعل المصريين يخضعون ويعودون إلى عملهم، والواقع أن الهرب
كان
سلاحًا قويًّا في أيدي المصريين، حقًّا ليس لدينا إلا المتون المتعلقة بالتهديد بالهرب
الخاص بضاربي الطوب،
٤٠ ولكن يظن الإنسان أن هذا التهديد هو الذي كان ينتزع من الإدارة الإغريقية
الجزء الأعظم من وعودها وتفسيراتها، وحتى الامتيازات التي كانت تمنحها نتيجة
لذلك.
ومن ثم نرى أن الهيلانيين في حين كانوا يلعبون أحيانًا بكل سرور دور الحامي الكريم
فإنهم كانوا بوجه عام لا يفعلون ذلك إلا لأن أهل البلاد كانوا في نظرهم قوة عاملة
لا
غنى عنها، وأنه يجب استغلالهم بقدر المستطاع بكل الطرق، ولا نزاع في أنهم في معظم
الأحيان كانوا يحتقرونهم ولكنهم كانوا كذلك يخافونهم مع شعورهم بالكراهية لهم، ومع
ذلك
فإنهم كانوا لا يحتقرون إلا القومية والعنصرية، وذلك لأن الإغريق كانوا يتمتعون بعلاقات
ودية مع المصريين من طبقة خاصة، وكل ما في الأمر أنه كان احتقار الأغنياء والأقوياء
للضعفاء والمعوزين، حقًّا إنهم كانوا فخورين بأنهم إغريق ولكن تمسكهم بوطنيتهم لم
يكن
أمرًا ثانويًّا، وذلك لأن كون الفرد إغريقيًّا كان يعني بوجه خاص عندهم المال
والسلطان.
والآن يتساءل الإنسان ما هي السياسة الرسمية للإدارة البطلمية تجاه السكان
المصريين؟
الواقع أن هذه المسألة قد نوقشت مرات عدة.
٤١
ويعيب هذا المصدر الأخير على البطالمة أنهم لم يهتموا بما فيه الكفاية برعاياهم المصريين،
٤٢ ولا بد أن نضع النقاط على الحروف فيما يخص العامل الاقتصادي في سياسة
البطالمة في القرن الثالث ق.م وأن نقلل من واقع الحال أهمية العامل القومي؛
٤٣ حيث يقول: إن الهم الرئيسي لهؤلاء الملوك هو أن يحصلوا أقصى ما يمكن الحصول
عليه من دخل البلاد في ميدان الاقتصاد، ولكن انظر نفس المصدر ص٢٨٧ حيث يقول: إن الفصل
بين الأجانب والمصريين كان يظهر مباشرة في بعض المتون، والواقع أنه في بعض الوثائق
نشاهد الشعور القومي لا يلعب أي دور، ولكن في بعض متون نادرة جدًّا نجد على حسب بعضها
ما يدل على عداء قومي، اللهم إلا إذا كان الموضوع متعلقًا بمعارضة بين الفاتحين
والمقهورين أو بين السيد والمَسُود.
٤٤
وفي هذا المصدر عن الاهتمام الأبوي بالبلاد، راجع كذلك.
٤٥
حيث يقول إن كلًّا من بطليموس الأول وبطليموس الثاني قد فهم بوضوح أنه كان من
المستحيل أن يؤسس ملكه على طبقة السكان الأصليين إلا بوصفهم كتلة بشرية كانت تكدح
بالقوة الجبرية، وعلى حسب نظام خاص، وكانوا على حق كما ظهر من المحاولات التي قام
بها
أخلافهما في هذا الاتجاه، وذلك أن السكان المصريين لم ينسوا قط أن الإغريق وأسرة
البطالمة لم يكونوا إلا أجانب ودخلاء على بلادهم،
٤٦ ويتحدث هذا المصدر عن العلاقات الاقتصادية؛ أي علاقة الطبقات
٤٧ ببعضها البعض.
كما يتحدث عن الإغريقي والمصري والعبري والروماني في مصر، وعلى حسب الرأي السائد في
الأدب الحديث نجد أن الفائدة الاقتصادية قد لعبت هنا دورًا حاسمًا، وكذلك في الحياة
الخاصة، ومن تحليل سجلات «زينون» في استطاعتنا أن نلحظ أن طرق الإدارة البطلمية وحتى
التي من أول وهلة نرى أنها ناتجة عن سياسة قومية تظهر أثناء تحليل أكثر عمقًا أنها
قد
أمليت بوساطة مصالح اقتصادية، وهذا على الأقل هو التأثير الذي جاء نتيجة دراسة هذه
الوثائق التي نرى فيها أحيانًا حب الأفراد وبغضهم، ولكن حيث لا يمكننا أن نتحسس توجيها
قوميًّا في سياسة الإدارة الإغريقية نحو السكان الأصليين.
ومن المحتمل أن الوقت قد حان الآن لنتساءل إذا كان في مقدور الإنسان أن يعمم
ملاحظاتنا التي عُملت في الواقع من مادة غنية ولكنها محددة من حيث الزمان والمكان،
فهل
حياة الفيوم التي تعتبر إقليمًا جديدًا لا يوجد فيها سمات لا توجد قط في أي إقليم
مصري؛
حيث نجد أن السكان الأصليين قد استوطنوها منذ أجيال مضت وحيث كان الإغريق فقط هم
الوافدين الجدد، وتدل الشواهد مع ذلك أنه إذا أراد الإنسان أن يؤكد أن صورة المجتمع
المصري التي رُسمت في سجلات «زينون» ليست صحيحة إلا بالنسبة لمنتصف القرن الثالث
ق.م
فإنه في الإمكان من جهة أخرى أن نفرض أنه لم يكن هناك فروق رئيسية بين هذا المجتمع
وبين
الذي كان يعيش في الأقاليم الأخرى في مصر، وذلك على الرغم من أن نشاط «بطليموس الثاني»
الاستعماري قد ظهر فيه بوضوح، ففي مكان آخر ربما كانت الحياة أكثر سلامًا وأقل حمية،
كما كانت نسبة الإغريق المئوية فيه أقل أيضًا، ولكن يظهر أن هذه الفروق كانت صحيحة
من
حيث الكمية لا من حيث النوع.
ولدينا سؤال آخر وهو: هل هذه الصورة التي رسمناها هنا للمجتمع المصري في مصر في القرن
الثالث ق.م تعد كاملة في نظر المؤرخ؟ والواقع أن الحالة المادية للبلاد واعتمادها
على
الإغريق وكذلك العداوة والبغضاء اللتان كانتا تمزقان هذا المجتمع في الداخل، وترميان
أحيانًا المصريين في أحضان الأجانب أسياد البلاد كانت تجعلانهم يوشون بزملائهم وطبقتهم،
ومن جهة أخرى نجد أن وحدة الأسرة وتضامن الشعب وبخاصة طبقة الفلاحين قد جعل المصريين
يحاربون الإدارة الإغريقية بكل ما لديهم من قوة، وهذا التضامن القومي كان يتمثل بوضوح
في غالب الأحيان في المقاومة السلبية التي كانت تتجلى في أفراد الشعب عن تدبير وروية،
وأخيرًا يتساءل المرء هل أخذ في الاعتبار كل أوجه الحياة الاجتماعية عند المصريين
بالنسبة للعلاقات بين أهل البلاد وبين الفاتحين
الإغريق؟ والجواب على ذلك بالنفي قطعًا، ولكن الصبغة العامة لمصادر هذا البحث وهو
سجلات
«زينون» مضافًا إليها حقيقة أن كل المصادر المستقاة من أوراق البردي ليست إلا قِطَعًا
من كل غائب عنا، وقد فُرض علينا ألا نتعدى هذه الحدود التي يستحيل علينا الآن أن
نتعداها.