المجتمع الإغريقي في مصر خلال القرن الثالث ق.م
مستخلَصًا مما جاء في سجلات «زينون»
تحدثنا في الفصل السابق عن علاقة الطبقة الدنيا برجال الإدارة الإغريقية الذين كان
في
يدهم مقاليد الأمور ومفاتيح الرزق بالنسبة لهذه الطبقة الكادحة الفقيرة من الشعب
المصري
الأصيل، والآن نرى لزامًا علينا أن نبحث في هذا الفصل عن علاقة الإغريقي بالإغريقي
لتكون الموازنة كاملة والموقف بَيِّنًا جليًّا، ولأجل أن نفهم هذا الموقف لا بد أن
نرجع
قليلًا لنرى باختصار إلى أي مدًى كان نفوذ الإغريقي في مصر قبل احتلال البلاد على
يد
«الإسكندر»، وذلك على الرغم من أننا عالجنا هذا الموضوع فيما سبق.
ولا نزاع في أنه في مدة عصر الانتقال التي تقع ما بين القرن الرابع والقرن الثالث
ق.م
قد وُلد عالَم جديد في الجزء الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط؛ إذ الواقع أنه
قد نمت
بعض ممالك هيلانستيكية بسرعة خاطفة لتصل إلى قمة مجدها وغايتها في خلال القرن الثالث
ق.م.
وقد انتشر إغريق شبه جزيرة البلقان والمستعمرات الإيطالية والصقلية وقبل كل شيء كل
أهل المدن الإغريقية البحرية الممتدة كتلة واحدة في كل إقليم الدولة الفارسية القديمة،
وهي التي فتحت أبوابها أمامهم بحد سيف الإسكندر الأكبر، وقد خلق هذا التدفق الجارف
من
السكان الإغريق أمام الممالك الهيلانستيكية التي نشأت حديثًا مشكلة حياة أو موت لهم،
ومن أجل ذلك عمل ملوك هذه الحكومات المستحيل لجذب المهاجرين إلى بلادهم واستيطانهم
فيها،١ ونجد أثر ذلك في الأدب الإسكندري، وذلك لأن الكُتاب الإغريق كانوا يعرفون
أن تشجيع مواطنيهم على التواطن في مصر يعتبر من الأمور التي تروق في أعين الحماة
الملكيين،٢ وقد كان ذلك بالضبط ما حدث في البلاد المصرية التي سنحت فيها الفرص بصورة
رائعة للإنسان أن يرى أمامه تكوين المجتمع الهيلانستيكي، ويرجع الفضل في ذلك إلى
المواد
التاريخية الغزيرة التي تكشفت عنها تربة أرض مصر بصورة منقطعة النظير في أيامنا.
ونتساءل مرة أخرى ما هي الدوافع التي جذبت الإغريق إلى مصر؟ والجواب على ذلك سهل
ميسور، فقد أكد لنا المؤرخ «تارن» باختصارٍ ذلك بقوله: إن الإغريق أتوا إلى مصر ليصبحوا
أغنياء،٣ ولا غرابة في ذلك فإن سجلات «زينون» تقدم لنا الجزء الأكبر من موادها
الخاصة بمصر في خلال القرن الثالث ق.م ما يوحي بذلك في كل وثيقة من وثائقها تقريبًا،
ولكن السؤال المهم هو أن نعرف بالضبط كيف أن الإغريق أغنوا أنفسهم في مصر؟ وما هي
مصادر
الدخل التي هيأت لهم على شواطئ النيل جمْعَ هذا الثراء؟ وأخيرًا ما هو العامل أو
العوامل التي ألفت من هذه الجمهورية المختلفة الألوان المجتمع الهيلانستيكي في دولة
البطالمة.
والواقع أنه ليس في استطاعتنا أن نقدم حلًّا شافيًا لهذه المسألة بما لدينا من الآثار
التي كُشف عنها حتى الآن، وقد لا يكون الحل أقل إيضاحًا إذا قصرنا جوابنا على ما
لدينا
من المعلومات التي نجدها في سجلات «زينون» فلماذا إذن نتوقف عن فحص هذا الموضوع من
أوراق «زينون»؟ والواقع أن سجلات زينون تتمثل لنا في وحدة مؤتلفة متجانسة إلى حد
كبير
من الوثائق تهيئ لنا أن ننفذ بعمق في مسائل كان يمكن أن يخطئها التفاتنا إذا فحصنا
متونًا خاصة لا رابط بين الواحدة بالأخرى، وعلى ذلك يظهر أنه إذا حللنا الوثائق التي
تتألف منها هذه السجلات فإن ذلك لا يمكن أن يلقي ضوءًا ساطعًا على موضوع بحثنا.
ولا بد لمعرفة مجتمع ما من أن يرجع الباحث إلى أسسه الاقتصادية، وعلى ذلك يجب علينا
قبل كل شيء أن نجيب على السؤال الأول الذي سألناه هنا وهو: ما هي مصادر الدخل التي
وجدها الإغريق في مصر؟ وماذا عساه أن يكون في سجلات «زينون» خاصًّا بهذا الموضوع؟
وتدل
شواهد الأحوال على أن العلماء قد بحثوا هذه السجلات من وجهة واحدة يمكن أن نسميها
بالوجهة «الرسمية»، وهي المسائل الخاصة بنشاط «أبوللونيوس» بوصفه وزيرًا ومديرًا
لضيعته
بالفيوم، وكانت السياسة الاجتماعية والاقتصادية للملك تحتل المكانة الأولى في ذلك،
ويعترف كل هؤلاء العلماء أن «زينون» وكذلك الإغريق الآخرين بما في ذلك الوزير كان
في
مقدورهم أن يهتموا بأحوالهم الشخصية وكذلك بماليتهم الخاصة، ولكنهم مع ذلك كانوا
يعلمون
تمام العلم أن هذه الوثائق كانت خاصة بأحوال زينون الشخصية، وعلى أية حال لا بد أن
نلحظ
أن الصورة التي يقدمها لنا المجتمع مستخلصة من سجلات زينون صورة مكبرة جدًّا، هذا
بِغَض
النظر عن صورة المجتمع الوطني الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، ومن ثم سنوجه كل
عنايتنا هنا إلى السكان المهاجرين من الإغريق والمقدونيين بوجه خاص؛ ففي داخل المجتمع
الإغريقي الحر في مصر كما نراه في سجلات زينون يمكن أن تميز بصورة عامة ثلاث طبقات:
أولًا: رجال البلاط الملكي، نذكر من بينهم «أبوللونيوس»، وكبار الموظفين
والأشراف العظام الذين يظهرون نادرًا في بريد زينون مثل «ليزيماكوس»
و«تلستس» ومن المحتمل كذلك «فيلينوس» Philinos وضيوف الإسكندرية الذين كانوا يأتون
أحيانًا لزيارة الفيوم وهم الذين كانت زيارتهم تحدث نشاطًا عظيمًا بين
السكان.
ثانيًا: الطبقة الثانية وهي التي تمتاز بكثرة عددها ووفرة الأفراد المعروفين
لدينا منها، ونخص بالذكر منهم «زينون» نفسه ورجال حاشيته وهم رفاقه
الذين في خدمة «أبوللونيوس» وكانوا في الواقع يؤلَّفون من رجال الإدارة
الهامين في الحكومة، وكذلك كان منهم الجنود المرتزقون أصحاب
الإقطاع.
ثالثًا: الطبقة الثالثة والأخيرة وتتألف من فقراء الإغريق والمُعْوِزين وهم
العمال الكادحون وكانوا في العادة يتقاضون مرتبات من «أبوللونيوس» أو
من الملك أو كانوا من صغار أصحاب المهن أو الزراع، وتدل شواهد الأحوال
على أن الإغريق الذين كانوا في فقر مُدْقع قد فقدوا كل امتيازات بني
وطنهم وألفوا مع المصريين والسوريين والعرب تلك الكتلة البشرية
المجهولة من الناس الذين كان يعتمد عليهم الملك وأشراف مصر الأغنياء في
إنجاز أعمالهم الشاقة مقابل أجر زهيد،٤ ولكن هذه الأوساط الثلاثة التي ذكرناها تتصف بسمة واحدة
مشتركة وهي تبعيتها لقوة أعظم منها سلطانًا؛ فقد كان رجال الطبقة
الثرية جدًّا يرجع ثراؤهم إلى ما حباهم به الملك الذي كان يملك كل مصر
من جاه ومال، كما أن الطبقة التي أقل منهم غنًى وكذلك الطبقة الممعنة
في الفقر كان أفرادهما تابعين للملك مباشرة (ونعني بهؤلاء موظفي
الإدارة وكل الخاضعين للإيرادات الملكية)، أو لموظف كبير مثل «أبوللونيوس».٥
وليس هناك شك في أن هذه التبعية العامة كانت أساس الحياة في مصر وبخاصة فيما يتعلق
بالطبقتين الأخيرتين من طبقات المجتمع، ومع ذلك إذا ألقينا نظرة خاطفة أو حتى نظرة
سطحية على ذلك لَشَاهَدْنا أن هذه التبعية لم تكن مصدر ثروة شخصية.
فنجد أنه فيما يخص «أبوللونيوس» وأشباهه كانت توجد لهم بطبيعة مصادر عديدة للدخل؛
مثال ذلك الضياع التي كانوا يملكونها والمشروعات الصناعية التي كانوا يقومون بها
كصناعة
المنسوجات المنفية التي كان يملكها «أبوللونيوس» وتجارة الغلال والمحاصيل الزراعية
والتجارة الأجنبية، أما أفقر طبقة في المجتمع الإغريقي فإنهم إن لم يكونوا يعيشون
من
أعمالهم التجارية، فإنهم كانوا يشتغلون بوجه خاص بالزراعة وتربية الحيوان والحِرف
اليدوية (وقد كان الإغريق بوجه خاص نساجين كما أن المصريين كانوا صناع فخار) وبتأجير
الحمامات وحوانيت الجعة.٦
ولكن الجزء الأعظم من سجلات «زينون» خاص بالطبقة الوسطى، وكان «زينون» الذي يعد من
هذه الطبقة يضع فيها أقرب رفاقه إليه ويقول المؤرخ «رستوفتزف» في كتابه عن تاريخ
العالم
الهيلانستيكي الاجتماعي والاقتصادي، عن «زينون» إنه كان يؤلف طرازًا لهذا العهد الذي
تكوَّن فيه المجتمع الهيلانستيكي،٧ فاستمع لقوله: «يُعد زينون مدير بيت «أبوللونيوس» طرازًا من الناس في ضيعة
فيلادلفيا.» وفي نهاية عمره يظهر لنا من مراسلاته أنه لم يَعُدْ بعدُ في خدمة
«أبوللونيوس»، بل كان رجلًا غنيًّا مشتغلًا بأعمال اقتصادية منوعة، ومن أجل ذلك فإن
قصدنا من هذا الفصل هو تحليل دقيق للأسس الاقتصادية لموقف «زينون» في فيلادلفيا،
وسنفحص
رجال الحاشية المقربين منه جدًّا كلما سنحت الفرصة لإبداء ملحوظات أكيدة.
وأول وثائق في هذا الصدد تلفت النظر هي التي أُرِّخت بعام ٢٦٠-٢٥٩ حيث نجد فيها أن
«زينون» كان فعلًا في خدمة الوزير «أبوللونيوس» وقد لقبه الأثري «إدجار» في هذه الفترة
بأنه المشرف الأول على أعمال «أبوللونيوس» الخاصة في سوريا وفلسطين وفي المدن الواقعة
في آسيا الصغرى.٨ وفي عام ٢٥٨ق.م أي في بداية عام ٢٨ من حكم بطليموس قد أصبح فعلًا كاتم سر
«أبوللونيوس»، ورجل ثقته في الإسكندرية وفي عام ٢٥٦ق.م نجد زينون دائمًا بجانب الوزير
«أبوللونيوس» وقد قام معه بعدة رحلات طويلة في أنحاء مصر، بعد ذلك نجده قد عُين في
نهاية شهر أبريل من عام ٢٥٦ق.م مديرًا لضيعة «أبوللونيوس» في الفيوم واتخذ فيلادلفيا
محل إقامة دائم،٩ هذا ولا نعرف على وجه التأكيد عمر هذه الضيعة، وتدل المناقشات التي جرت حول
هذا الموضوع على أن «أبوللونيوس» على ما يظهر قد أنهى مجال حياته الوزاري بصورة مقتضبة
في أوائل عهد بطليموس «أيرجيتيس» وأن ضيعته في فيلادلفيا قد صودرت، ومن المحتمل أن
الوثيقة التي تحمل رقم ٥٩٨٣٢ في سجلات «زينون» ربما توضح لنا بعض الشيء هذه المسألة،
غير أنها بكل أسف وُجِدَت ممزقة وغير مؤرخة، وقد كتب فيها دون شك طلبًا للملك جاء
فيه:
كنت مشرفًا على ضيعة فيلادلفيا التي كانت أُعطِيَت «أبوللونيوس» الوزير السابق حتى
عام
٣٨ (من حكم بطليموس الثاني)، وكل ما يمكن أن يحقق في هذه الوثيقة أنه منذ السنة الأولى
أو الثانية من عهد «أيرجيتيس» لم يعد بعدُ «زينون» مدير الضيعة، وهذا أهم شيء في
الموضوع وعلى ذلك يمكننا القول إنه في عهد «أيرجيتيس» لم يكن زينون إلا شخصًا حرًّا،
والمراحل الثلاث المعروفة في حياة «زينون» هي: (١) حتى عام ٢٥٦ق.م. (٢) من ٢٥٦ حتى
٢٤٦ق.م. (٣) ومن أول ٢٤٦ق.م، وهذه المراحل ليست ذات قيمة متساوية من حيث فحص مصادر
دخله
الخاص:
(١)
فالمرحلة الأولى وهي منذ العهد الذي بدأ عمله بجانب «أبوللونيوس» ليس
لدينا فيها متون تقريبًا لها علاقة بأحواله الشخصية.
(٢)
المرحلة الثانية هي التي كان يعمل فيها مديرًا للضيعة، وقد اختلطت مصالحه
الخاصة بأعمال الضيعة بدرجة كبيرة وبأعمال «أبوللونيوس» حتى إنه لا يمكن
الإنسان أن يفصل الواحدة عن الأخرى إلا نادرًا.
(٣)
أما المرحلة الثالثة: فليس في مقدورنا أن نعرف إذا كان «زينون» يعمل
باسمه لحساب نفسه بعد عام ٢٤٦ق.م أو لا؟ وهذا هو السبب في أن هذه الفترة
ينبغي أن نعتمد عليها عندما نريد أن نفحص مصادره الخاصة.
وقبل أن نشرع في تحليل نشاط «زينون» الحر وكذلك نشاط الإغريق الذين كانوا في محيطه
يجب علينا أن نفحص الأهمية الاقتصادية التي من أجلها شغل «زينون» وظيفته في خدمة
الوزير
«أبوللونيوس»، ولا بد أن نلحظ هنا أولًا أن وظيفة «زينون» الرسمية التي كانت كثيرًا
موضع جدل لم تكن محدودة بصورة أكيدة،١٠ ولكن لا يهمنا في هذا البحث إلا نقطة واحدة وهي ما هو الدخل الذي كانت
تضمنه له هذه الوظيفة؟ والواقع أنه ليس في استطاعتنا أن نحدد مقدار مكاسبه التي كان
يجنيها من «أبوللونيوس»، فقد ذكر اسمه مع أسماء أخرى من موظفي «أبوللونيوس» في قائمة
مرتباتهم من الغلال، ومع ذلك فإن وظيفته كانت تهيئ له إمكانيات كسب لا حصر لها، وقد
صدق
«إدجار» عندما قال: وفي استطاعة الإنسان أن يخمن أن الميزة الرئيسية لمركز «زينون»
كانت
تنحصر في الفرص التي هُيئت له لِجمع المال بمغامراته الحرة،١١ والموضوع الهام لدينا في هذا البحث هو أن نعرف كيف استخدم هذه الفرص وكذلك
ما هي أهميتها؟ وتحليل الوثائق الخاصة بذلك يجيب لنا عن هذا السؤال.
فمن أهم مصادر أرزاق «زينون» الخاصة وأبسطها تأجير الأطيان، وبوجه خاص على ما يظهر
في
دائرة فيلادلفيا، وبخاصة إقطاعات الجنود المرتزقين وغيرهم من الإغريق الذين كان يمنحهم
الملك أراضي، والجزء الأعظم من الوثائق المؤرخة في سجلات «زينون» يرجع إلى عهد بطليموس
الثاني، ومع ذلك فإن صبغتها تبرهن غالبًا على أن «زينون» كان يشتغل لحسابه وفائدته
هو
وحسب، وقد وصف لنا «إدجار» هذا النشاط الذي قام به «زينون» في الفصل الذي يحمل عنوان:
«زينون» وعلاقته بالمستعمرين من الجنود المرتزقين،١٢ ويظهر من رأيه أن زينون لم يكن يؤجر أرضي الجنود المرتزقة غير أن تحليل
المتون لا يظهر في معظم الحالات إذا كان صاحب قطعة الأرض التي كان يؤجرها «زينون»
هو من
الجنود المرتزقين أم لا، ومما لا شك فيه أن الطبيب «أرتميدوروس» و«بلاتون» صديق «زينون»
الإسكندري لم يكونا من رجال الجيش،١٣ ومن هنا تنشأ مسألة أخرى وهي هل كانت علاقات «زينون» مع الجنود المرتزقين
تختلف عن العلاقات التي كانت بينه وبين المُلَّاك المدنيين؟
ومما يلفت النظر أن كل المتون في سجلات «زينون» المنسوبة بوجه التأكيد للجنود
المرتزقين ترجع إلى عهد بطليموس الثاني، وعلى ذلك تكون في المدة التي كان يسيطر فيها
«أبوللونيوس» على ضِيَعنا في فيلادلفيا فنجد في إحدى أوراق «زينون» بالقاهرة رقم
٥٩٣٢٥
المؤرخة ٢٤٩ قائمة طويلة بأسماء الجنود المرتزقين وهم التابعون لمنف والتابعون لضواحي
قرية أندروما خوص والتابعون لبلدة «باكخياس» وهم الذين كان لهم بقايا إيجار عام ٣٦
من
عهد بطليموس الثاني، فهل معنى ذلك أنه يمكننا أن نفرض أن نشاط «زينون» الحر الذي
كان
وقتئذ مدير الضيعة كان له قيمة كبيرة؟ وإذا كان «ميس» Mys الذي جاء ذكره في الوثيقة رقم ٥٩١٣٢ من أوراق القاهرة قد
استشار «زينون» فيما يجب أن يفعله مع «سيمبويس» الذي كان في نزاع مع
Bassilikos Grammateus على تقدير مساحة قطعة أرض
فإن ذلك إذن يعني أنه كان يخاف من فقدان المحصول، هذا وكان «ميس» وكيلًا معروفًا
تمامًا «أبوللونيوس».١٤
والأهمية التي نستخلصها من هذه الحالة وكذلك الْتجاؤه لزينون تسمح لنا أن نقترح أن
مرءوسي «أبوللونيوس» كانوا يشتغلون بزراعة إقطاعات من الأرض كذلك باسم الوزير، والظاهر
أن مثل هذه الحالة ما نجده في ورقة «زينون» رقم ٥٩٣٨٩ بالقاهرة وهو عبارة عن دَين
كان
قد دُفع من قطعة أرض صغيرة في ضواحي «منف» ملك فرد يُدعَى ياسون Yason وزرعها «أرتميدوس» بن «سوخارس» (والأخير بدوره كان وكيل
أبوللونيوس في «منف»)، وهو الذي كان لا بد له من استيراد هذا المبلغ منه، ومن المهم
أن
نشير هنا إلى أن المتون على ما يظهر ترينا أن «منف» بوصفها مركزًا لتأجير قطع أراضٍ
ملك
الجنود المرتزقين بوساطة عمال «أبوللونيوس»، ومن المحتمل أن ورقة زينون رقم ٥٩٧١٦
من
القاهرة وهي التي يعالج موضوعها توريد حبوب بلا شك لأرض الجنود المرتزقين لها علاقة
بهذا النوع من الوثائق.
هذا ولدينا برهان على أن أراضي الجنود المرتزقين كانت تؤجَّر كذلك لحساب
«أبوللونيوس»، وكما جاء في وثيقة أخرى،١٥ وهي مؤرخة بلا شك بعام ٢٥١ق.م ويمكن أن نقرأ فيها: تتبع الديون التي كانت
مستحقة «لهرمولاوس» من حسابه الخاص بوساطة سوكلس عام ٣٤ (من عهد بطليموس الثاني)
وإذا
قبلنا ترجمة الناشر لهذا المتن وهو الأثري إدجار فإنه يجب علينا أن نفرض أن الموضوع
يُبحث هنا في جزء حصاد نباتات دهنية ورد إلى السكرتير المالي «هرمولاوس» Hermolaos هو حساب خاص لزينون عن حساب
«أبوللونيوس»؟ ويمثل ذلك حصاد الأرض التي أجَّرها، على أن كون «سوكليس» Socles هذا الذي ذُكر في وثيقة زينون ٥٩٢٥٨ قد دفع
الأجر إلى الجندي المرتزق باسم «زينون» يعتبر أمرًا يلفت النظر، وأن من المؤكد أنه
إذا
كان دفع هذه الحسابات قد حتم وجود دفتر حسابات منفصل لزينون، و«أبوللونيوس» فإن الوزير
نفسه لا بد كان له فائدة ذاتية في زراعة قطع الأرض هذه.
وعلى ذلك يمكننا أن نستنبط أن عمال ضيعة «أبوللونيوس» كانوا يزرعون بالجملة — كما
تدل
على ذلك الوثيقة رقم ٥٩٣٢٥ من أوراق القاهرة — أراضي الجنود المرتزقين لحساب أبوللونيوس
ولفائدته.
وبطبيعة الحال كان أصحاب النشاط والهمم بين هؤلاء الموظفين يربحون كذلك لحسابهم الخاص
من هذه العملية المربحة، وتدل شواهد الأحوال على أن تأجير الأطيان على نطاق واسع
من
أراضي الجنود المرتزقة قد انتهى بانتهاء الضيعة التي كان يملكها «أبوللونيوس»، وينتج
من
وظيفة «زينون» في الضيعة أن علاقاته بأراضي الجنود المرتزقين كانت وثيقة، غير أنه
من
الصعب تعيينها كما هي الحال في الدور الرسمي الذي كان يلعبه في فيلادلفيا،١٦ وهذه العلاقات كانت تسمح له بإمكانيات كبيرة في تأجير أراضي الجنود
المرتزقة بصفة شخصية، ومع ذلك يجب كذلك أن نواجه نقطة أخرى في ميدان هذا العمل الذي
يقوم به «زينون»، وذلك أن عددًا من مرءوسي «أبوللونيوس» ويحتمل كذلك رجال أغنياء
من
سكان الإسكندرية، وشخصيات من رجال بلاط الوزير كانوا يملكون أراضي في ضواحي فيلادلفيا،
فهل لا يكون من السهل عليهم عند عدم قدرتهم على زرعها أن يطلبوا إلى زميلهم وصديقهم
«زينون» أن يحل محلهم وبخاصة أنه الشخص الأول في فيلادلفيا صاحب الجاه؟ والظاهر أن
«زينون» لم يفرق بين أراضي الجنود المرتزقين المستعمرين وبين أراضي المستعمرين
المدنيين، والواقع أن الشيء الرئيسي هو المكسب الذي كان يحصل عليه، وهذا هو السبب
كذلك
في أن كل تمييز هنا يظهر في غير محله، ولكن مما يؤسف له أنه لا يمكن تحديد مدى هذه
الإيرادات، والأدلة التي لدينا عن ذلك قليلة جدًّا، ومع ذلك١٧ نجد أن الإيجار المحدد في العقد هو إردبان من القمح عن كل «أرورا»، وإذا
علمنا أن «بتوباستيس» كما جاء في متن (PSI. 400) قد قدم
لزينون عشرة أرادب من القمح عن كل أرورا بشرط أن يتعهد الأخير بدفع الضرائب، فإن
ذلك
يعني أن نسبة ربح الإيجار للمؤجر على حسب ما جاء في بردية لزينون بالمتحف المصري
رقم
٥٩٧٢٤ لا يختلف كثيرًا عن الذي جاء في وثيقة القاهرة رقم ٥٩٢٤٣ هو أن «زينون» يجب
أن
يتسلم الأرورات من زيت الخروع والثلث الباقي يكون لصاحب الأرض. هذا ونفهم
من متون أخرى أنه يمكن أن نقترح على الأقل دخْل الزراعة من قطع الأرض لزينون، ولكن
لا
يمكننا أن نحدد المبلغ الإجمالي للدخل، هذا ولدينا في الواقع معلومات كثيرة جدًّا
عن
العلاقات التي كانت بين «زينون» وطبيب «أبوللونيوس» المسمى «أرتميدوروس» وذلك أن
«أرتميدوروس» هذا كان يملك في «فيلادلفيا» أراضيَ وبيتًا وحيوانات، وكان «زينون»
يقوم
بأمر محصول أرضه كما كان يرعى في حالة غياب صاحب الملك الحيوان وكذلك يباشر إقامة
بيته
في «فيلادلفيا»، وفي بعض الأحيان كان يؤدي له أشياء مختلفة مثل شراء عسل.١٨
ولدينا صديق آخر «لزينون» يُدعَى «بلاتون» يمتاز بلهجته الأتيكية الأنيقة؛ فقد طلب
إليه على ما يظهر أن يراقب محصول أرضه في «الفيوم» (P.C.Z. 59217
(254)) ومن المحتمل كذلك كرومه (P.C.Z.
59839) وكذلك نقرأ في بردية أخرى أن «زينون» كان يقوم لكل من
«نيكاندروس» Nicandros و«بيزيلكيس» Peisicles ببيع بيتهما وكرمهما، هذا بالإضافة إلى
بيع دخلهما من زراعة السمسم،١٩ ونرى من الحالات السالفة الذكر أن «زينون» لم يتقيد بتأجير الأرض وحسب،
ويمكن الإنسان أن يتساءل إذا كان المقصود هنا هو تأجير بالمعنى الحقيقي؟ ومن المحتمل
أن
«زينون» كان يؤدي فقط بعض الأشغال لأقاربه من أهل «فيلادلفيا» الذين لا يسكنون بصفة
مستديمة في الفيوم، وكان يجب عليه في مقابل مبلغ من المال كما حدث مع «أرتميدوروس»،٢٠ كما يشير إلى ذلك قول الأخير لزينون بألا يتردد في عمل كشف بالمصاريف الضرورية،٢١ ولا بد أن نشير هنا أن كل هذه المتون كانت من عهد إدارته لضيعة
«أبوللونيوس» وحتى منذ السنين الأولى من مكثه في فيلادلفيا، فهل لا يحق لنا أن نفكر
والحالة هذه أن زينون قد وجد مع مرور الزمن مصادر دخل أضمن وأسهل، ومن ثم ترك الأشغال
بأعماله؟ (ومن الجائز كذلك أن الانقطاع الطبيعي عن انفصاله مع معارفه القاطنين خارج
الفيوم قد أدى لمثل هذه الحالة).
وعلى أية حال فإن بعض هذه المتون الخاصة بالإيجار العادي لقطع الأرض — أي أرض الجنود
المرتزقة على ما يُظَنُّ في كثير من الأحوال — يرجع عهدها إلى حكم «أيرجيتيس» وإن
كان
العدد الأكبر فيها يرجع إلى عهد بطليموس الثاني، وتفسير ذلك سهل ميسور؛ فقد كان لزينون
بوصفه مدير الضيعة علاقات وطيدة رسمية مع الجنود المرتزقين أصحاب الأرض كما كان لديه
تسهيلات أكثر للقيام بزراعة أراضيهم أكثر من زينون بوصفه رجلًا حرًّا من فيلادلفيا
بعد
عام ٢٤٦ق.م وقد وصل إلينا من عهد بطليموس الثاني سلسلة من الوثائق مثل الوثيقة رقم
٥٩٢٤٣ من أوراق زينون بالقاهرة، وهي التي نقرأ فيها أن «حوروس» يقترح على «زينون»
أن
يؤجر قطعة أرض من أراضي الجنود المرتزقين مهيئة لتُزرع شجر خرْوَع Kiki.٢٢ هذا ونجد أن «دموفون» Demophon يعترف أنه
تسلم من «سوكليس» Socles أربعين إردبًّا من الشعير
مستحقة لزينون عن إيجار عام ٣٤، هذا ونجد ثانية اسم نفس «دموفون» في وثيقة أخرى غير
مؤرخة (P.C.Z 59725) وهي بلا نزاع تحتوي على ملخص
دوَّنه أحد وكلاء زينون كان يزرع الأرض التي أُجرت بعقد لهذا الأخير، هذا ويؤكد الجندي
المرتزق صاحب قطعة أرض٢٣ أنه قد تسلم من زينون أربع درخمات على أن تخصم قيمتها من الإيجار الذي
سيكون مستحَقًّا له في الفصل التالي بما يساويها غلة.
يضاف إلى ذلك أن أفيمدون Iphimedon،٢٤ عندما كتب إلى «زينون» في موضوع تربية عجول (بالتأكيد ملك الضيعة) وبخصوص
قطعة الأرض ماذا فعل فيها؛ إذ يقول لدينا قطعة أرض تقع تجاه الشمال وقد منحنا عشرين
أرورا لزرعها بأشجار زيت الخروع، وليأخذ زينون ثلثيها والثلث الآخر لصاحب
المِلك.
وأخيرًا نجد في وثيقة غير مؤرخة (P.C.Z 59724)
عنوانها الحساب مع فيلاس Phileas، وذلك أن مالك أرض
مساحتها مائة أرورا (وهو من الجنود المرتزقة) قد أجر أرضه بسعر إردبين من القمح عن
كل
أرورا وقد اعترف أنه تسلم ١١٤ إردبًّا (قمحًا ونقدًا)، ويظن ناشر هذا المتن وهو الأثري «إدجار»
أن صاحب هذه الأرض يجوز أنه «زينون» نفسه، وذلك على الرغم من أنه ليس صاحب هذا المتن،
وقد يجوز مع ذلك أنه من الأسهل أن نفرض أن زينون هو المستأجر الحقيقي، وأن فيلاس Phileas لم يكن إلا مرءوسه وأنه كان يقوم بدور مشابه
للدور الذي كان يقوم به «سوكليس» في المتن الذي ذكرناه فيما سبق، وبذلك نفهم أحسن
لماذا
قد وُجِدَت هذه البردية بين وثائق «زينون» هذا ونلحظ رسالة أخرى لم تؤرخ
(PSI. 584) مع أن شواهد الأحوال تدل على أنها وُضعت
قبل عام ٢٤٦ق.م؛ ففي هذه الرسالة نجد أن «أجيسيلاوس» Agisilaos قد كتب إلى «زينون» في موضوع إيجار حمام ويطلب إليه في
الوقت نفسه أن يرعى شئون شعيره وقمحه.
والمتون التي من عهد «أيرجيتيس» أقل عددًا عن التي من عهد «بطليموس الثاني» فلدينا
وثيقة٢٥ وهي عبارة عن إيصال لفرد يُدعَى «توكليس» Theucles لأجل زينون و«هيراكليتيس» Heracleites خاص بقيمة إيجار أرضه للعام الخامس من حكم هذا الملك،
وقد كتب «فيلون» خطابًا من الإسكندرية٢٦ يرجع عهده إلى العام ٢٤٠ق.م وكان موضوعه سجن فرد يُدعَى «هرموكراتيس»
(Cf. P. SI 392) وتدل شواهد الأحوال بوضوح على أن
فيلون كان له مصالح في خطر وأن زينون كان مهتمًّا بها، وقد أعلن صاحب الخطاب أنه
سيحضر
في القريب العاجل ويختم رسالته بكلمات غير مفهومة كثيرًا، ومما لا جدال فيه أنه خلافًا
لزينون كان في فيلادلفيا إغريق آخرون قد اهتموا كذلك بتأجير الأرض، وإذا فرضنا أن
«ياسون» الذي نعرف أنه كان ساعد زينون الأيمن قد عمل لحساب سيده، فإنه من الجائز
جدًّا
أن دماس Demeas كان يعمل لحساب نفسه عندما أجر أرض
«أريستيس» Aristeas.٢٧
ويتساءل الإنسان هل كان «زينون» يملك كذلك أرضًا؟ والواقع أنه وإن لم يكن لدينا أي
برهان فإنه في استطاعتنا أن نفرض مع «إدجار» أن زينون لم يملك أية أرض، وذلك على
الرغم
من أنه يجب أن نعترف مع «إدجار» أنه توجد حالات يصعب معها أن يفهم الإنسان أن الأرض
التي يدور الكلام حولها ليست ملكه، ومن جهة أخرى نعلم تمام العلم أن زينون كان يملك
كرومًا، ومعظم المتون الخاصة بذلك مؤرخة بعهد الملك «أيرجيتيس الأول» يضاف إلى ذلك
أنه
لا بد من تأريخ عدد عظيم من المتون قبل عام ٢٤٦ق.م.
وفي معظم الأحيان يكون الموضوع خاصًّا بكرم مساحته ستين أرورا يملكه كل من «زينون»
و«سوستراتوس».٢٨ وقد أجَّره يهوديان وهما ساموليس Samoelis
و«ألكزندروس» Alexandros،٢٩ هذا ولدينا متن آخر (P.C.Z 59367) وهو
تسويدة لخطاب أرسله زينون إلى «سوستراتوس» حيث يوضح له خوفه من أن يراهما ينقضان
العقد
ويطلب إليه أن يفعل بالمثل، ولدينا وثيقة من نفس السنة (PSI
393) وهي عبارة عن بلاغ لهذين المؤجرين وفيها يبلغان رئيس شرطة
فيلادلفيا عن سرقة ٣٠٠٠٠ عمود من الخشب، وقد جاء ذكر هذا الكرْم الذي مساحته ستين
أرورا
ملك زينون في وثيقة من وثائق زينون غير مؤرخة،٣٠ وكذلك كرْم آخر مساحته ثلاثون أرورا، هذا ونعلم من وثيقة٣١ غير مؤرخة أن زينون قد أمر بزرع عنب على أرض أجَّرها، وكذلك نقرأ في وثيقة
(PSI 624) خاصة بزراعة العنب؛ فقد أعطى فيها
تعليمات مكتوبة بخط يده عن زراعة شتلة عنب، هذا ونعلم من وثيقة من نفس السجلات أن
أخي
زينون المسمى «أفارموستوس» Epharmostos قد زرع كرْمًا٣٢ وذلك في السنة الثانية من حكم الملك بطليموس الثالث «أيرجيتيس»، وكذلك نجد
في وثيقة٣٣ غير مؤرخة أن مدير المصرف بيثون Python قد
أعلن فيها رسميًّا زينون أنه أقرض «أفارموستوس» مبلغ ٣٧٠٠ درخمة، وقد رهن له المدين
في
مقابل ذلك كرمه الكائن في فيلادلفيا.
وإنه لمن الصعب في كثير من الأحيان أن نعرف إذا كانت الكروم التي نسمع الحديث يدور
عنها تابعة لضيعة «أبوللونيوس» أو إذا كان زينون له فيها مصلحة، والإشارة الأكيدة
نجدها
في وثيقة بكلومبيا.٣٤ وذلك أن «زينون» قد أجر كرْمًا من الضيعة، وكذلك نعرف أن «سوستراتوس» كان
يهتم فعلًا بالكروم التي كانت على ما يظهر خاصة بضيعة الوزير «أبوللونيوس»،٣٥ ومع ذلك إذا كانت ورقة ريلندز (P. Ryl.
564) المؤرخة بعام ٢٥٠ق.م لا تحتوي إلا على قائمة طويلة لجِرَار من
النبيذ (عند سوستراتوس) فلا بد أن نلحظ أن المقصود هنا هو مخزن خاص، ويفهم من البرديات
أنه في شركة زينون-سوستراتوس كان الأخير يقوم بوجه خاص بأعمال مخازن النبيذ.
هذا وليس لدينا إلا متن واحد نتحدث عن نبيذ مِلك «زينون»؛ فقد بلغ في وثيقة،٣٦ رئيس شرطة فيلادلفيا أنه سُرق منه في ليلة ١٩ جرة نبيذ، ومن المهم أن نعرف
أن هذا المتن يرجع تاريخه إلى عام ٢٤٠ق.م أي من العهد الذي لم يكن فيه بعد «سوستراتوس»
مشتركًا مع زينون، هذا ونجد في خطابات مرسلة إلى زينون أن أصدقاءه يطلبون إليه أكثر
من
مرة أن يرسل إليهم نبيذًا،٣٧ ولدينا متنان مؤرخان يرجع عهدهما إلى عهد الملك أيرجيتيس.٣٨
أما البردية رقم ٥٩٥٢٧ من أوراق زينون بالقاهرة فهامة بوجه خاص فقد طلب فيها
فيلوكزنوس من زينون جرتين من بذر العنب وكمية من عصير العنب حتى يكون لدى الأفراد
الذين
يرسلهم نبيذ صابح، وذلك بعد أن بدأ خطابه بمداعبة لطيفة بقوله إذا كانت صحتك جيدة،
وإذا
كنت تصنع نبيذًا كثيرًا فهذا حسن، هذا ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى أنه إذا كان
«فيلوكزنوس» هو الذين نعرفه بوصفه مستخدَمًا في ضيعة أبوللونيوس٣٩ فإن هذا المتن قد يثبت على الرغم من عدم وجود أدلة أخرى بأن زينون كان
مشتغلًا بإنتاج النبيذ بمقدار عظيم، ومن ثم كذلك بزراعة الكروم بوصفه أنه كان لا
يزال
مديرًا لضيعة «أبوللونيوس» هذا ونجد كثيرًا في مراسلات زينون إشارات إلى كروم خاصة.٤٠
والظاهر أنه كانت تُزرع غالبًا شتلات على أرض بور، ونعلم أن الجنود المرتزقة أصحاب
الأراضي كانوا يملكون كرومًا على إقطاعاتهم؛ ففي وثيقة٤١ تقرأ عن كرم مساحته مائة أرورا وهو يعد أكبر كرْم خاص جاء ذكره في سجلات
«زينون»، وعلى أية حال فإنه عندما يكون الحديث في أوراق زينون عن تأجير كروم بكمية
كبيرة فإن ذلك يُقصد به أراض من ضيعة «أبوللونيوس» وعلى أية حال لا بد أن نفرض هنا
أن
«زينون» كان يستغل بصورة ما كروم الجنود المرتزقة، وكذلك كروم «أبوللونيوس»، فمثلًا
كان
يؤجر من باطنه أجزاء حيث كان يمكن زارعتها بالخُضَر.٤٢
زينون وتربية الحيوانات
ومن جهة أخرى نعلم أن «زينون»، والإغريق الملتفين حوله كانوا يكسبون جزءًا كبيرًا
من دخلهم من تربية الحيوان فقد كانوا يربون دواب الحَمْل كالبقرات والثيران والبغال
والحمير والجمال والخيل، هذا بالإضافة إلى الحيوانات الخاصة بالذبح والضحايا مثل
العجول والخراف والماعز والخنازير والأوز، وأخيرًا الحيوانات التي تنتج الصوف مثل
الغنم والماعز.٤٣
ولكن غالبًا ما يكاد يكون من المستحيل علينا معرفة ما إذا كانت الحيوانات التي
يتناولها البحث في البرديات في عهد الضيعة كانت خاصة بأبوللونيوس أو بزينون، ولذلك
نجد من باب التأكيد أن نبتدئ بتحليل المتون التي في عهد «أيرجيتيس» ففي عهد هذا
الملك غالبًا ما تُحدثنا البرديات عن تربية الخنازير، وكان يشترك مع «زينون» في
تربيتها أخوه «أفراموستاس».٤٤
وقد تحدثنا فيما سبق عن تربية الخنازير، والمفهوم أنها كانت واسعة النطاق قبل عام
٢٤٦ق.م في «فيلادلفيا»، وفي استطاعتنا أن نضع قائمة طويلة بأسماء مربي الخنازير
من
المصريين كما أشرنا إلى ذلك من قبل، غير أنه لا يمكن معرفة من كان يملك هذه
الحيوانات، ويظهر في حالات عدة أنها كانت ملك الضيعة، ومع ذلك ينبغي أن «زينون»
وأخاه «أفارموستوس» كانا فعلًا معروفَيْن في عام ٢٥٠ق.م بأنهما من مربي الخنازير؛
فقد كان «بارامونوس» Paramonos يطلب إلى زينون في
بردية (P.C.Z 59305) أن يرسل إليه بمناسبة عيد
خنزيرًا صغيرًا يليق بمكانته وبأفارموستوس، ويمكن أن نفسر كذلك بهذا المعنى طلبات
أخرى عديدة خاصة بإرسال خنزير بمثابة قربان في عيد ما،٤٥ ولكن يجب أن نفهم أنه في كثير من الأحوال أن مثل هذا الطلب كان يقصد به
تسهيل عملية النقل إلى الإسكندرية، هذا ونعلم من وثيقة أخرى٤٦ مؤرخة بعام ٢٥٥ق.م أن «زينون» كان يشتري خنازير لنفسه، ويضاف إلى ذلك
أنه وجد أن حسابًا من حسابات هذه الحيوانات العديدة٤٧ مؤرخ بعام ٢٤٨ق.م كان على ما يظهر خاصًّا بحيوانات «زينون» لا حيوانات
الضيعة، وصاحب هذا الحساب هو «هراكليدس» معروف لدينا ونجده يتكلم بوضوح عن هذه
الخنازير كأنها ملك «زينون»،٤٨ وكانت هذه الحيوانات تؤجَّر لأشخاص مختلفين في أغلب الأحيان من
المصريين ولكن بأعداد قليلة (١٠، ٥، ٢، ٣، ٣، ٢٠) وهذا يحملنا على الظن بأن زينون
كان يستغل نظام الشيعة في مصلحته الشخصية، غير أنه ليس لدينا ما يدل على أن ذلك
كان
يجري على غير إرادة «أبوللونيوس».
ونصل إلى نفس النتائج عندما نحلل القسم الثاني وهو الأكثر إنتاجًا من تربية
الحيوانات، وأعني بذلك تربية الماعز والغنم، وهنا نجد أن الوثائق التي من عهد
«أيرجيتيس» أكثر عددًا من التي وردت عن تربية الخنازير، ويجد فيها الإنسان كذلك
مجاميع أكثر أهمية من الحيوانات، ففي وثيقة محفوظة بلندن٤٩ نقرأ أن فانياس Phanias قد اشترى
لزينون ٨١ خروفًا، وفي وثيقة أخرى في مشيجان٥٠ نقرأ عن حساب لرجل يُدعَى «مترودوروس» Metrodoros خاص بقطيع ماعز عدده ١٢٠ رأسًا قد نزل عنه له زينون
بمتقضى عقد، هذا ونجد في ثلاث وثائق أخرى مؤرخة بعام ٢٤٦ق.م أن مؤجِّرًا آخر لماعز
جاء اسمه في عهد الملك بطليموس الثاني وهو «دمتريوس» بن «أبوللونيوس» مواطن
«أسبندوس» Aspendos، وفي عام ٣٩ من حكم
بطليموس الثاني نقرأ أن «ديمتريوس» هذا وأخاه ليمانايس Lemnais قد تعاقَدَا مع «ياسون» ممثل «زينون» على تأجير ١٤٤
رأسًا من الماعز لمدة عامين٥١ بإيجار سنوي قدره ٢١٦ من صغار الماعز، وفي السنة الثالثة من حكم الملك
«أيرجيتيس» نجد «ديمتريوس» يشير إلى هذا العقد ويُقِرُّ أن «لينمنايس» Limnaios لا يزال مَدينًا له بمائة وثلاثة
وخمسين رأسًا من الماعز، والظاهر أن عقبات حالت بينه وبين الوفاء بدينه
وذلك لأننا نقرأ في وثيقة أخرى (S.B. 7984) كُتبت
بعد ذلك بسنة على الأكثر حررها باتايكيون Pataikion لزينون ويقول فيها إن رعاة الماعز يهربون؛ فقد فر
فعلًا «ليمنايس»، ويتأهب كذلك «ديمتريوس» للفرار أيضًا، هذا ولدينا شخص يُدعَى
«ديونيسيوس» في بردية لم تؤرخ٥٢ يقترح فيها على زينون أن يتسلم الماعز المؤجرة لديمتريوس و«منودوروس»٥٣ وفي وثيقة بمشيجان٥٤ غير مؤرخة كذلك نقرأ أن كاليبوس Kallippos وهو معروف لنا من متون أخرى بأنه مرءوس «زينون» قد رجاه
أن يطلق سراحه من السجن خوفًا من أن ماعز «ديمتريوس» يمكن أن تُذبح في الطريق الذي
رسمه «ديمتريوس» لذهابها للمرعى، هذا وجاء في بردية أخرى (S.B.
7984) ورد فيها فيما سبق ذكر «هرمياس» بين مربي الماعز فقد كان
هرمياس هذا يؤجر فعلًا ماعز زينون في عهد الملك بطليموس الثاني، هذا وتحدثنا ورقة
أخرى٥٥ مؤرخة بعام ٢٤٨ق.م عن حساب نفهم منه أنه يدفع إيجاره نقدًا وعينًا وهو
أربعة أوبولات وجديًا عن كل معزة، ويحدد في نفس البردية أنه كان لزامًا عليه أن
يدفع أجرة ١٦٢ رأسًا من الماعز، هذا ونصادف «هرمياس» كذلك بوصفه مربي ماعز في متون
أخرى غير أنه يظهر فيها مربي ماعز الضيعة.
ومن النادر أن نسمع كلامًا عن خِرَاف ملك «زينون» وبخاصة من عهد الملك بطليموس
الثالث «أيرجيتيس».
والنتيجة التي يمكن أن نستخلصها بعد هذا العرض عن «زينون» وتربيته للحيوان لنفسه
هي أنه خلال حكم كل من بطليموس الثاني وبطليموس الثالث كان يملك قطعانًا هامة من
الماعز والخراف كان يؤجرها إلى رعاة في معظم الأحيان من الإغريق، ولا نزاع في أن
ذلك كان يؤلف رأس مال، ومن ثم لاحظت المؤرخة «بريو» بحق أنه بصرف النظر عن
الحيوانات الكبيرة أو الخيل فإن الماعز والغنم كانت تؤلف ملكية استُغِلَّت بمثابة
رأس مال،٥٦ وفضلًا عن أن ذلك كان رأس مال يأتي بربح عظيم كما يدل على ذلك حساب هذه
المؤرخة، فقد كان الربح يبلغ خمسين في المائة. ولا نزاع في أن هذه التجارة كانت
فرعًا مربحًا يعود بثمرة كبيرة جدًّا من بين المشاريع الحرة المختلفة التي كان
يمارسها «زينون»، وإنه لمن المهم أن نذكر بأية طريقة كان يساعده في هذا الميدان
جهاز الضيعة الجبار لتسيير أعماله الخاصة، فحتى إذا لم يكن كل من «ديمتريوس»،
و«ليمنايس» يأخذ بعقد ماعز ملك «أبوللونيوس» (وليس هناك ما يبرهن على ذلك) فإنه
من
المؤكد أن «هرمياس» كان يرعى شئون قطعان الماعز ملك الضيعة،٥٧ ولدينا برهان آخر وهو «ياسون» الذي نعرفه جيدًا أولًا بوصفه مستخدمًا
في الضيعة والمساعد الأيمن لزينون مدير فيلادلفيا، وبعد عام ٢٤٦ق.م كما كان كذلك
المساعد الأيمن لزينون بوصفه رجلًا حرًّا، هذا ونجد واضحًا من المتون التي تحدثنا
عنها فيما سبق أن «زينون» كان يجذب حوله لمنفعته الشخصية مستخدمين أكْفَاء كان قد
وقع عليهم نظره منذ توليه شئون الضيعة، وفي حالة كل من «ياسون» و«هرمياس» نعلم أن
هذه المساعدة قد امتد أجلها حتى إلى ما بعد سقوط «أبوللونيوس».
وهناك فروع أخرى لتربية الحيوان لم تحتل مكانة هامة في شئون زينون؛ فقد كان
اهتمامه بالخيل يُفهم منه أنه كان هواية وحسب، وهذا أمر مفهوم تمامًا في مصر في
هذا العهد،٥٨ ولكن نجهل إذا كان قد جنى فائدة مُحَسَّة تهمنا حتى في الماشية
الكبيرة.
ونتساءل بعد ذلك عما يمكن أن نقدمه فيما يخص تربية الحيوان عند الإغريق الذين
كانوا في محيط زينون، والواقع أننا نسمع في كثير من الأحيان حديثًا في موضوع تسجيل
الحيوانات التي في ضواحي «فيلادلفيا»، فمن ذلك قوائم الضرائب، أو عندما كان أحد
زملاء «زينون» يكل إليه مباشرة أعماله في «الفيوم» مثال ذلك الطبيب «أرتميودوروس» Artemodoros وهو الذي أراد أن يقترض أو
يشتري حصانًا أسود للإنتاج٥٩ وإنه مهتم كذلك بحيواناته الخاصة بالنقل وبالأوز وبالخنازير٦٠ وإنه أجرها لراعي حيوانات مصري (P.C.Z
59310) هذا وقد أعلن «سوستراتوس»٦١ صديقه أنه أرسل إليه ثلاثة خنازير صغيرة لتقدَّم قربانًا، والظاهر مع
ذلك أن الماعز وكذلك الغنم كانت قبل كل شيء هي مصدر الثروة لكل من زينون والإغريق
الذين كانوا في حاشيته، وأهم وثيقة لدينا في هذا الصدد محفوظة بالقاهرة٦٢ وهي التي نعلم منها أنه في حين كان «زينون» يملك ١٨٦٣ خروفًا فإن صديقه
وشريكه «سوستراتوس» بن «كليون» Cleon كان يملك ٧١٥
خروفًا (١٫١٦) و١٦ رأسًا من الماعز (١٫١٧)، وأن فردًا يُدعَى نيكياس Nikias كان يملك ١٢٦٧ خروفًا ١٫١٢، وإن جماعة من
الفرسان كانوا يملكون ٣٠٢ خروفٍ ١٫٢١،٦٣ ومن ثم نرى أنه لم يكن زينون هو الوحيد الذي كشف عن فائدة هذا الرأسمال
الحي، وذلك على الرغم من أننا نظن على حسب أوراق البردي التي فحصناها فيما سبق أن
«زينون» كان يفوق في غناه الإغريق الذين كانوا في محيطه، وعلى أية حال فإنه لم يكن
هناك فرد لديه من الإمكانيات أعظم من التي كانت بين يدي زينون الذي كان يسيطر على
ضيعة مساحتها لا تقل عن عشرة آلاف أرورا.
تربية النحل
كانت تربية النحل في مصر تشغل مركزًا خاصًّا واسع النطاق،٦٤ ونجد في السجلات أن زينون قد فصل أكثر من مرة في مسائل خاصة بالنحالين،
ولكن يظهر أنه كان يعمل بوصفه مديرًا للضيعة أو مؤجرًا للإيرادات الملكية، وليس
لدينا متن يحدثنا بأنه كان يملك خلايا نحل عدة. وعلى العكس نقرأ في متن٦٥ يرجع عهده إلى عام ٢٤٠ق.م أن أخوين وهما «سوستراتوس» و«كليون» بن
«ياسون» كانا يملكان ألف خلية نحل قد أجرها مجموعات صغيرة إلى نحالين مصريين،
والظاهر أن هذه الخلايا كانت ملك الملك وأن كلًّا من «سوستراتوس» و«كليون» ليس إلا
مؤجرًا وحسب (Preaux E. R. 224).
ومن أهم دوائر نشاط «زينون» الحرة التي يصعب الوصول إلى فهمها أرباحه من التجارة،
والواقع أنه ليس من السهل قط هنا أن نميز ما هو خاص بالضيعة وما هو خاص بمشاريع
«زينون» الخاصة، وقد وصل إلينا من عهد الملك «أيرجيتيس» ثلاثة متون مؤرخة وهي
تتناول بكل تأكيد شئون زينون ففي المتن الأول٦٦ المؤرَّخ بعام ٢٤٥ق.م نقرأ أن أحد موظفي «زينون» يطلب إليه إذا كان
القمح يجب أن يُنقل إلى «منف» أو يباع، وفي الثاني٦٧ وهو مؤرخ بنفس السنة يتحدث عن بيع نبات «أركوس» بالسعر «الذي تبيع به
للآخرين»، وفي متن آخر٦٨ مؤرخ بعام ٢٤٢ق.م يطلب «فيلينوس» Philinos رسالة قمح ويخبر «زينون» بعدم ثبات الأسعار، وفي متن
بالقاهرة كذلك٦٩ مؤرخ بعام ٢٥١ق.م وآخر بالقاهرة أيضًا (P.C.Z
59446) لم يؤرخ يتحدثان عن سعر القمح، هذا ونعلم من متنين آخرين٧٠ مؤرخين بعام ٢٥١ق.م أن زينون كان يبيع الخشخاش (أبو النوم) (ويحتمل ألا
يكون ذلك تابعًا للضيعة)، هذا وكان في مقدوره إذا سنحت الفرصة أن يسهل لأتباعه
أرباحًا تجارية صغيرة؛ فقد طلب إليه أحدهم المسمى «بيرون» Pyron أن يساعده في الحصول على مائة وخمسين إردبًّا من
«الخشخاش» حتى يستطيع أن يبيعها ثانية مع خشخاش زينون، هذا ونجد غالبًا الكلام
يتناول تجارة العسل، ولكن يظهر أنه خاص على ما يظهر بالعسل الذي ينتج في الضيعة
أو
الذي يستورده «أبوللونيوس».
النبيذ
ولما كان زينون يملك كرومًا شاسعة فإنه كان يبيع كذلك النبيذ، غير أنه ليس لدينا
إلا متن واحد في هذا الصدد٧١ مؤرخ بعام ٢٤١ق.م وهو يحدثنا مباشرة عن بيع عشرين جرة من النبيذ وعن
ثمنها، ولدينا متون أخرى تحتوي على طلبات إرسال نبيذ، ويمكن الإنسان أن يفسر ذلك
بمثابة بيوع، وفي حالات خاصة تفسر بأنها خدمات ودية، هذا وتدل المخازن الكبيرة التي
يملكها «سوستراتوس» شريك «زينون» دون شك على أنهما كانا يفكران في هذه التجارة،
ومع
ذلك لا بد أن نفكر أن تجارة الغلال كانت هي التجارة الرائجة والتي كانت تعود بأعظم
المكاسب من الوجهة القومية وكذلك من حيث الأفراد، وقد دل البحث في هذا الصدد على
أنه حتى الشخصيات الراقية من رجال بلاط بطليموس الثاني لم يتورعوا عن مثل هذه
المعاملات التي كانت تعد دخلًا عظيمًا،٧٢ والظاهر أن تجارة الغلال هذه كانت كذلك من المصادر الرئيسية للإيرادات،٧٣ هذا وتقول «بريو» إن موقف مصر الاقتصادي مضافًا إليه التقلبات العظيمة
في الأسعار قد مهَّدَا لتحقيق مكاسب هامة.٧٤
وقد هيأ لزينون مركزه في خدمة «أبوللونيوس» فرصًا عظيمة للكسب من التجارة، وكذلك
من الشئون الأخرى الخاصة التي كانت تسنح له، وقد كانت أهمية تسهيلات النقل هنا
هائلة، ومن الجائز كذلك أن «زينون» كان يربح كثيرًا من أسطول «أبوللونيوس» القوي
الذي كان يمخر عباب النيل. ونعلم أن «باناكستر» سلف «زينون» في إدارة الضيعة كان
قد
طلب إلى «أبوللونيوس» أن يضع سفينة تحت تصرفه،٧٥ وقد رفض طلبه في حين أن زينون على العكس قد أمضى عدة عقود مع ربابنة
سفن نيلية، هذا ونجد في كثير من الحالات أنه كان قد أمضى هذه العقود بوصفه ممثل
«أبوللونيوس»، ومع ذلك نجد في بعض المتون أن أجر هذه السفن لحسابه الخاص، وكان
يقتسم الأرباح مع مالك السفينة،٧٦ هذا ونعلم أن «زينون» على أية حال كان يضع عن طيب خاطر إمكانياته للنقل
تحت تصرف أقاربه العديدين الذين كانوا يرجون منه في مناسبات إرسال خنزير. إلخ،٧٧ وقد وُضعت بين يدي زينون كل مناطق النشاط التي تحدثنا عنها فيما سبق،
رأس مال هام فتح له بدوره إمكانيات أخرى للكسب، وأعني به تأجير الضرائب في مصر،
وهذه الوظيفة التي كانت تنطوي على مجازفة كما كانت في الوقت نفسه مربحة قد أحيطت
بتحفظات شديدة من قِبل الحكومة كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وقد تناول الكثيرون فحص
موضوع مؤجر الضرائب وحالته الخاصة التي كانت تجعل المؤجر للضرائب يعمل بوصفه عاملًا
ثالثًا منظمًا بين الممول وجابي الضرائب الذي كان دائمًا موظفًا حكوميًّا،٧٨ وعلى الرغم من كل البحوث التي كُتبت في هذا الموضوع فإنه لا تزال هناك
نقاط غير واضحة المعالم تحدد تعيين مركز «زينون» في هذه المسألة.
وعندما نصادفه في عام ٢٤٦ق.م في فيلادلفيا مشغولًا في حل المسائل المعقدة الخاصة
بمؤسسة ضريبة السدس فإن ذلك لا يدهشنا بحال من الأحوال؛ إذ مَن ذا الذي كان يمكنه
أن يتناول بسهولة أكثر منه هذه المسئولية الخاصة بالحكومة؟ والواقع أنه لما كان
زينون معروفًا في كثير من المقاطعات ويعرف شخصيًّا كل الجنود المرتزقين أصحاب
الأطيان الذين في محيط فيلادلفيا، فإنه كان ذا اتصالات واسعة، ويتصرف في رأس مال
عظيم، وفضلًا عن ذلك كان وراءه عشر سنوات خبرة في إدارة الضيعة، وبذلك قد أظهر
نشاطه تمامًا وإحساسه بالمسئوليات التي كانت ملقاة على عاتقه، غير أنه لم يظهر فيها
وحده، وهذا ما نقابله هنا بالضبط من صعوبات، وذلك لأنه على الرغم من معرفتنا بشركات
لتأجير الضرائب، فإنه ليس من السهل علينا أن نحدد الدور الذي كان يلعبه زينون
والمشتركون الآخرون فيها، فنجد في وثيقة (P.C.Z.
59834) أن السكرتير المالي «هرمافيلوس» يخاطب زينون ليطلب إليه
أن يبذل مرتب كاتب بعشرة مكاييل ونصف من النبيذ الناتج من ضريبة السدس في عام
٢٤١ق.م، ولدينا قطعة من وثيقة٧٩ تحدثنا عن بيع نبيذ قد حُجز حتى صدور رأي «زينون»، وفي وثيقة أخرى٨٠ مؤرخة بعام ٢٣٩ق.م نقرأ أن «أرستون» أعلن «زينون» أنه في الثامن من شهر
أمشير بدأ ببيع مؤسسات تأجير، وكانت كل الوظائف المرتبطة بمراقبة محصول الكروم
وتحديد مقدار ضريبة السدس، وكذلك نقله إلى الجباة يملؤها كل من «ديمتريوس» و«هبوكراتيس»٨١ وكانا تابعين بصورة ما لزينون الذي كان يتسلم ملخصًا مفصلًا عن ذلك من
«ديمتريوس» مُواطن مقاطعة «أرسينويت»٨٢ المؤرخة عام ٢٤٣ق.م. وقد كتب زينون في مسودة لشريكه «سوستراتوس» أولًا
بعنوان ديمتريوس، ولكنه غيَّر ذلك بمجرد إعلان سفر ديمتريوس إلى الإسكندرية،
والرواية الأولى تبرهن على أن «زينون» كان يعده بمثابة تابع له،٨٣ وكذلك نجد في خطاب آخر كتبه «كليون»
Cleon يدعو فيه زيوان «والد»،٨٤ وقد كتب لزينون يخبره أنه يرسل إليه خطابًا من ديمتريوس وهبواكراتيس في
موضوع ضريبة وقد قلت لهما فيه اذهبا إلى زينون والدي.
هذا ونجد في وثيقة٨٥ ذُكرت من قبل أن «زينون» جاهد في أن يسد بما لديه من فائض العام الخامس
من عهد «أيرجيتيس» العجز الذي وقع في السنة السابعة، وأرسل «ديمتريوس» لترتيب هذه
المسألة في الإسكندرية،٨٦ ويتساءل الإنسان بأي حق كان يعمل هنا زينون، وقد كان «ديمتريوس»
و«هيبوكراتيس» مؤجرين لضريبة السدس، وكان «ديونيودوروس» الضامن مهدَّدًا، ومن جهة
أخرى نجد زينون قد طلب إلى «سوستراتوس» أثناء كان ديمتريوس في الإسكندرية لترتيب
هذه المسألة، أن يحاول الوصول إلى اتفاق مؤقت مع
المحضر «كراتون» (وقد كتب بعد ذلك زينون إلى «كراتون» Craton في هذا الصدد)، وكان يخاف أن يفقدَا ثلاثة آلاف درخمة
(وهو مقدار الضمان الذي دفعه «ديونيسودوروس» (١٠١٠) هذا إذا حجز على أملاك
«ديونيسودوروس» قبل الميعاد «حتى لا يحدث … إذا أخذْتَ نقود ديونيسودوروس فنحن
سنخسر ٣٠٠٠ درخمة.»
وعلى ذلك فإن الخسارة كانت تمس كذلك «زينون»، هذا وقد وُجِد بين أوراقه٨٧ خطاب من «هيبوكراتيس» إلى «نيكانور» Nicanor يشكو فيه مؤجر ضريبة السدس (أبامورا) من الطريقة غير
القانونية التي استولى بها على ألف درخمة، ويوضح بجلاء وجود هذا الخطاب في سجلات
«زينون» أن هذه المسألة كانت تمس زينون، هذا ونجد بالقرب من زينون وفي دور مشابه
لدوره مع «ديمتريوس» فردًا يُدعَى «كريتون» وهو الذي تسلم في عام ٢٤٢ق.م صورة خطاب
قد حدد فيه مقدار ضريبة السدس في مقاطعة «أرسنويت».٨٨
وقد يكون من الجرأة بعض الشيء أن نفسر وظيفة زينون في مؤسسة تأجير الضرائب،
وبخاصة إذا لاحظ الإنسان معلوماتنا الناقصة عن شركات التأجير بوجه عام، وكذلك عن
معلوماتنا القليلة عن مجال حياة زينون نفسه، ويمكن الإنسان على الرغم من ذلك أن
يقدم نظريتين:
الأولى: هي أن زينون كان يجمع بين يديه مؤسسات الإيجار للضرائب المنوعة
لأجل أن يؤجرها هو من باطنه بعد ذلك قطعًا صغيرة، ولكن هذا الرأي
يعارضه، كما سنرى بعدُ، أن تأجير ضرائب أخرى لم يبرهَن عليه بصورة
جلية، هذا وسيكون من الصعب علينا أن نحدد وظيفة أشخاص مثل «كريتون»
أو «سوستراتوس».
والثانية: أن زينون و«كريتون» وكذلك «سوستراتوس» كانوا يعملون شركاء وقد
وضعوا ثروتهم تحت تصرف مؤجرين، وبصورة أدق تحت تصرف «ديمتريوس»
و«هيبوكراتيس»، ومن ثم كانا يتحملان جزءًا كبيرًا من الأخطار، ولكن
كذلك كانا يجنيان جزءًا كبيرًا من الأرباح،٨٩ وهذه النظرية يمكن أن تفسر دور «زينون» وظهور «كريتون»
غير المنتظر بوصفه نائبه دون الرجوع دائمًا إلى وسائل أخرى.
هذا ويُلحَظ أن كل المتون التي تدل على اشتراك زينون في تأجير الضرائب ترجع إلى
عهد الملك «أيرجيتيس» والظاهر أن في الاستطاعة أن يعترف الإنسان بصورة مؤكدة إذا
كان استمر يشتغل في تأجير الضرائب عندما انقطع عن إدارة الضيعة، ولا بد أنه كان
من
الصعب بالتأكيد أن يباشر في وقت واحد عملين يتطلبان منه الوقت والنشاط في آن واحد،
وعلى أية حال يعترضنا هنا سؤال وهو: ألم يهيئ زينون الذي يعد الساعد الأيمن
لأبوللونيوس بطريقة ما الطريق لنفسه ليكون مؤجر ضرائب؟ ولا بد أن يفكر الإنسان أنه
في هذا المحيط كما في غيره كان نشاطه في الضيعة يهيئ له إمكانيات عدة تعود عليه
بالربح، ولدينا عدة نقاط ينقصها الوضوح؛ فقد كان لزينون فوائد في الكروم الخاصة
والتي يملكها الجنود المرتزقون أصحاب الأطيان، فقد كانت هناك ضرائب خاصة بجمع
الجزية وتوزيع الضرائب.٩٠ وإنه لمن الصعب أن نفهم إذا كان زينون يعمل لحسابه أو بوصفه ممثلًا ﻟ
«أبوللونيوس» الذي كان عليه بسبب شغله وظيفة وزير أن يهتم بعقود تأجير الضرائب،
هذا
وتتعقد المسألة أكثر عندما يكون جمع الضرائب في داخل الضيعة يقع على كاهل مرءوس
«أبوللونيوس».٩١
هذا ونجد أن زينون عند هذه النقطة هو الشخصية الرئيسية في سجلاته وبصرف النظر عن
ديمتريوس وهيبوكراتيس، فإنا لا نسمع كلامًا عن مؤجرين للضرائب إلا من الشكاوى التي
تنجم عن مخالفات عدة،٩٢ وقد وقع قبض غير عادل مرة واحدة على مساعد مؤجر ضرائب ويرجع عهدها إلى
الزمن الذي كان يشتغل فيه زينون مع «أبوللونيوس»،٩٣ وذلك في عام ٢٥٧ق.م.
والآن يتساءل الإنسان هل لدينا تأكيدات عن إيجار الإيرادات الملكية خلافًا لعقود
الضرائب؟ والواقع أن شئون تربية النحل تتطلب تحليلًا عميقًا، وقد درست «بريو» وثيقتين،٩٤ ووصلت إلى النتيجة التالية وهي أن كلًّا من «سوستراتوس»، وكليون ليسا
بالنسبة للألف خلية إلا مؤجرين لها من الملك، وأن النحالين قد تسلموا هذه الخلايا
بعقد من باطن هذين الشخصين، وقد بقيت لدينا مسألة تتطلب الحل وهي: ما الذي كان
يفعله هنا زينون الذي أرسل إليه «سوستراتوس» وكليون صورة خطاب «سوسيبوس» Sosibious وهو بلا شك وزير، وكذلك خطاب السكرتير
وهما الخطابان اللذان قدماهما لسوسيبيوس؟ ويمكن أن نلحظ هنا بعض التشابه بين الموقف
الذي يشاهَد في عقد ضريبة السدس، وذلك الذي يظهر فيه شخص ثالث بوصفه مؤجرًا بالمعنى
الحقيقي، وذلك على الرغم من أن زينون يكون له فائدة في هذه المسألة، والمتون
الوحيدة التي تؤكد هذا النوع من نشاط زينون يرجع تاريخها إلى عام ٢٤٠ق.م، وعلى ذلك
يمكن أن نفرض أن زينون له فائدة في هذه المسألة، والمتون الوحيدة التي تؤكد هذا
النوع من نشاط ذلك العهد، ولكنه من المؤكد إذا استندنا على متون قليلة كهذه فإنه
لا
يمكننا أن نقرر في هذا الصدد نظرية ترتكز على أساس متين.
هذا ولدينا دائرة أخرى نجد فيها زينون يقوم بدور المؤجر للإيرادات الملكية، وتلك
هي الحمامات، ولدينا متن واحد يحدثنا عن ذلك،٩٥ فقد أخبر ريستون في هذه الوثيقة «زينون» أن هناك بَيعًا قد حدث بشروط
مجمعة، فيقول المتن إن الحمامات التي كانت تعطى بعقد دون تخفيض الأجر، وكان زينون
يملك كذلك حمامات خاصة في «أرسنويت»،٩٦ وفي فيلادلفيا،٩٧ وفي خلال عام ٢٤٠ق.م أقام حمامات أخرى في كويتاي Koitai،٩٨ وقد أجر زينون هذه الحمامات وبالتأكيد الحمامات الملكية التي أخذها
بعقود إيجار إلى عُملاء غالبًا من المصريين،٩٩ والظاهر أنه كان يشتغل فعلًا بتأجير الحمامات بوصفه مدير الضيعة فنعلم
من قطعة من عقد (PSI 377a) بعض شروط عقد هذه
الحمامات؛ فكان المالك يدفع للخزانة الملكية ضريبة كانت ترتفع في مثل هذه الحالة
إلى أربعمائة درخمة سنويًّا، وكان يورد العربة والحيوانات الضرورية للمؤجر الذي
كان
يأخذ على عاتقه المحافظة على الحيوانات وكذلك كان يسهر على إنتاجها.
وأهم نشاط خاص لزينون وصف لنا بصورة واضحة نشاطه الخاص بالقروض، ومن ثم فإنه لمن
المهم أن نتناوله هنا، وقد أبرز المعلقون على ورقة «كورنل» الثانية ملخصًا دقيقًا
مع ملاحظات قروض لزينون تكشف لنا عن مدة القروض وأسعارها، ولا بد أن نقرر من مختصر
النتائج التي وصل الباحثون إليها، أولًا: أن قروض النقد لم تكن هي المصدر الرئيسي
أو أحد المصادر الرئيسية لزينون، بل كانت في الواقع نتيجة رأس المال الهام الذي
كان
يتصرف فيه. ثانيًا: أن زينون لم يفرض أسعارًا باهظة؛ فقد كان ربْح ٢٥٪ الذي يضاف
إلى قرض الخباز «فيلون»١٠٠ يؤلف سعرًا معتدلًا للربح في مصر البطلمية،١٠١ وإذا كنا نجد في التعليق على ورقة «كورنل» الثانية سعرًا ارتفع إلى ١٠٠٪١٠٢ فلا بد أن نذكر أن هذه كانت حالة خاصة تمامًا، وأن المقرض لم يطلب ذلك
ولكن القارض هو الذي وعده عند عمل هذا القرض؛ إذ قال اعلم جيدًا أنك ستأخذ نقدك
مضاعَفًا (١٠–١١٫٩) ويجب كذلك أن نتساءل إذا كان من الممكن فهْم ذلك
حرفيًّا؛ (إذ الواقع أن هذه الرسالة كانت عبارة
عن خطاب كُتب لصديق يطلب فيه المساعدة).
حقًّا إن الموضوع الذي نجده في سجلات زينون هو مسألة ربا، ولكن «زينون» لم يكن
المقرض، ونجد فيها المسألة الهامة والمركبة الخاصة بكل من «أنتيباتروس» Antipatros، و«نيكون» Nicon،١٠٣ وذلك أن امرأة «أنتيباتروس» قد اقترضت من «نيكون» سبعين درخمة بربح ٦٪
شهريًّا (والسعر العادي هو ٢٪ شهريًّا أي ٢٥٪ سنويًّا)، غير أن «نيكون» هذا لم
يكتفِ بأنه مُرابٍ بل كان لصًّا كذلك؛ إذ إنه جذب «أنتيباتروس» خارج البيت بحجة
عمل
اتفاق يعود عليه بالفلاح، واغتصب منه زوجة وطفلة.
وكان زينون بوصفه مدير الضيعة يساعد غالبًا أصدقاءه ورفاقه في الحصول على قروض
متأخرة لهم،١٠٤ ومع ذلك فإنه في خلال حكم بطليموس الثاني أي في مدة خدمته ﻟ
«أبوللونيوس» نجد أن العمليات المالية التي تُذكر كثيرًا هي قروض عن رهونات من
القضية، وهذه القروض على ما يظهر كان يعقدها في أغلب الأحيان مرءوسي «أبوللونيوس»،١٠٥ وكانت آنية الفضة تودع عند وكلاء «أبوللونيوس» وهم الذين كانوا يدفعون
النقد أو تودع في البنوك،١٠٦ وكان يحدث أحيانًا وقوع تلاعبات خطيرة فيعاقب عليها «أبوللونيوس» بالحبس،١٠٧ ويظهر لنا أحيانًا أن «زينون» كان يقوم بدور المقرض
(P.C.Z. 59327; Cf. Edgar Int. Mich. P. 45)
وعلى أية حال فإنه كان يشرف بصورة ما على القروض، فهل يجوز لنا أن نستنبط أنه في
هذه الحالة كانت هناك عمليات منتشرة انتشارًا عظيمًا لمصلحة الوزير نفسه؟ هذا ونعلم
أن الإغريق الذين كانوا في محيط زينون يظهرون فضلًا عن ذلك بأنهم من موظفي
«أبوللونيوس» أو بوصفهم مقرضين يقرضون بأسعار مرتفعة (حتى ٤٪ شهريًّا)،١٠٨ ولا بد أن «زينون» نفسه بما له من مصالح واسعة النطاق كان غالبًا في
حاجة إلى نقود، ومع ذلك فلم يكن في استطاعتنا مما لدينا من وثائق أن نراه يتعامل
بالنقد، ولكن من جهة أخرى نجد أن أخاه «أفارسوستوس» قد أقرض٢٧٠ درخمة مقابل رهن
كرْم.١٠٩
كانت مناطق نشاط زينون التي تحدثنا عنها حتى الآن مناطق أساسية وتتألف منها مصادر
إيراداته الأصلية، أما سائر شئونه الأخرى وهي التي سنتحدث عنها باختصار فليست بصفة
عامة غير واضحة المعالم، وكانت تُعمل عرضًا، ولا بد أن «زينون» هذا كان رجل أعمال
بسيط أكثر من اللازم لينتهز الفرص التي كانت تسنح له في حينها للكسب.
والفائدة التي كان «زينون» يرغب فيها من تمرين الفتيان الذين كان يؤهلهم للألعاب
الرياضية ينعكس صداها في سجلاتنا، وقد كان كثير من أصدقائه يميلون ميلًا شديدًا
إلى
ذلك، والواقع أننا نقرأ على أقل تقدير عن شابين من هؤلاء الشبان الذين كان ينشئهم
زينون في مكان التمرين الرياضي، أولهما هو«بيروس» Pyorhos وكان ممرنه هو«هيروكليس» Hierocles،١١٠ وكان زينون يخاف من أن هذا التعليم والمصاريف التي يتطلبها تضيع سدى،
ولكن «هيروكليس» يؤكد له أن ظواهر الأحوال تبشر بالخير ويقول إنه بمساعدة الإله
أمل
أن يُتوَّج بالنصر بانتصار تلاميذه،١١١ وكذلك نقرأ أن «زنودوروس» قد أخبر زينون بالنصر الذي أحرزه أخوه أثناء
بطولمايا Ptolemaia، ويؤكد في الوقت نفسه أنه
قد تسلم عباءة منه، هذا ونجد في خطابات عدة موجهة لزينون خاصة بشبان نفهم منها أن
«زينون»، كان يبحث عن شبان موهوبين، وكذلك كان يفعل أصدقاؤه (PSI.
340; P. Mich. Zen. 77). ويعكس تاريخ هيراكليوتس Heracleotes الذي كان يعد نفسه في ملعب
فيلادلفيا للمسابقة في الموسيقا ضوءًا ساطعًا على هذه المسائل، وقد وصى له معلمه
«ديماس» Demeas عندما حضرته الوفاة بآلة
موسيقية ومعاش شهري، غير أنه لما كانت الآلة قد اختفت (لأنها كانت مرهونة كما سنرى
بعد) ولم يدفع له المرتب في ميعاده فقد كتب «هيراكليوتس» إلى «زينون» وإلى «نستور»
(الذي لم يأت ذكره إلا في هذا المتن) طالبًا منهما أن يساعداه في أن يحصل على ما
وصى به له في وصية المربي، ثم يقول: وإذا لم يكن هذا ممكنًا فإني أتوسل إليكما أن
تعطياني مصاريفي في يدي حتى أستطيع أن أقوم بأمري بنفسي وأجد لي معلمًا أتمرن معه،
وبهذه الطريقة يمكنني أن أشترك في المباراة التي نظمها الملك وحتى لا أفقد بمكانتي
هنا عدم فوزي بالمرتبة الأولى.
هذا ويُلحَظ أن طلبات «هيراكليوتس» تلفت النظر بكثرتها، وقد اعترف أنه قد تسلم
فعلًا ما يأتي: لحمة قيمتها ثلاث درخمات وأربعة أوبولات ونصف، وتسلم لأجل الزيت
مبلغًا مجهولًا،١١٢ وثمن خُضَر ما قيمته درخمتان ونصف أوبول، وتسلم نبيذًا سبع خوصات ونصف،
فيكون المجموع الكلي سبع درخمات وثلاثة أوبولات وربع، وسبع خوسات ونصف من
النبيذ.
ويطلب بعد ذلك ثمن لحمة: سبع درخمات وثلاثة أوبولات، وثمن زيت مبلغًا مجهولًا،
وخُضَر سبع درخمات وثلاثة أوبولات، وثمن نبيذ خوسات (مكاييل).
وإذا اعتبرنا أن عاملًا فلَّاحًا يكسب في المتوسط أربع درخمات وإردبًّا من الشعير
شهريًّا، الإردب يساوي درخمة واحدة،١١٣ وأن مساعد كاتب كان لا يتطلب أكثر من ثلاث درخمات ونصف إردب من الشعير
فإنه يجب علينا أن نقرر أن تعليمه ليصبح موسيقارًا كان يتطلب مصاريف كبيرة بالنسبة
للأحوال المصرية، ومع ذلك فلا بد أن نسلم أن ما كان يتسلمه هذا الموسيقار بمثابة
معاش متوسط كان مبلغًا مرتفعًا بعض الشيء، وذلك لأنه هو نفسه كان يفهم أنه يتطلب
أكثر من اللازم، ولذلك كان يطلب على الأقل مبلغًا يكفي مصاريفه الشهرية وما يقوله
في هذا الصدد له قيمته فاستمع إليه لأجل أن أجد ممرِّنًا.
وإنه لمن العسير أن نصرح من جهة زينون أنه كان يهتم كثيرًا بهؤلاء الغلمان الذين
كان تعليمهم يحتاج إلى مصاريف كثيرة دون أن نتصور أنه كان له فيها فائدة مادية غير
أنه من المستحيل علينا أن نقدِّر الفائدة التي كان يجنيها.
النسيج
ومن الصعب أن نفهم العلاقات التي كانت بين زينون وصغار النساجين الذين كانوا
غالبًا يشتغلون في بيوتهم فنعلم أن ماياندريا Maiandria زوج فيلون الذي كان بدوره يقترض النقود من زينون، كانت
تصنع للأخير ملابس (P.C.Z. 95263, 59355) ولكن يظهر
أن هذه كانت عملية تجري لدفع دين زوجها، وتحدثنا وثيقة أخرى عن عمل مماثل،١١٤ هذا ويدور الحديث مرات عدة عن طلبيات أجريت بوساطة «زينون»،١١٥ ولكنه من الصعب أن نعلم إذا كانت غير متعلقة بأعمال الضيعة.
هذا ولدينا متنان من عهد الملك «أيرجيتيس» الأول مؤرَّخ بعام ٢٤٢ق.م، ونعلم منه
أن زينون كان يتبقى عليه للطبيب نيون Neon حصر
غطاءات، وفي الثاني١١٦ مؤرخ بعام ٢٤٤-٢٤٣ق.م وهو مهشم بكل أسف ويبحث في موضوع نسيج، والظاهر
أن كل الشواهد تدل على أن زينون كان له علاقات بصغار النساجين غير أنه من المستحيل
تحديد تلك العلاقات.
هذا ولدينا نقطة لا بد من إيضاحها وهي: هل كان زينون أمينًا في كل الفرص التي
سنحت له للكسب؟ وهل لم يُسمع قط بمخالفات ارتكبها؟ فمن جهة قروضه قد لاحظنا ما فرضه
بعض العلماء من أنه كان يؤخر دفع مرتبات عماله عن قصد ليفيد منها في أعماله، غير
أن
هذه النظرية لا ترتكز على أساس متين، ولكن من جهة أخرى يمكن أن نعد موضوع «بيروس»
مخالفة؛١١٧ فقد كان مستحَقًّا على «زينون» أن يورد ٢٥٠
إردبًّا من القمح للمؤجر «بيروس» بوصفه مقرضًا
لأجل أن يتجنب غضب «أبوللونيوس» ولكن لا بد أن نوافق على أنه كان من صالح «زينون»
أنه من بين الوثائق الكثيرة العدد جدًّا التي تحتويها سجلاته لم يصل إلينا شيء غير
ذلك يتحدث عن مخالفاته، هذا إذا استثنينا موضوعات الجمرك الغامضة بعض الشيء؛ حيث
نجد فيها زينون، وكذلك رفاقه قد احتموا وراء سلطان «أبوللونيوس» ليتخلصوا من دفع
عوائد فاحشة.
وإذا ألقينا بعد هذا التحليل الذي سبق نظرة على مجموع نشاط زينون الخاص فإنه يجب
علينا أن نبرز الملاحظات التالية:
كان زينون يستغل بمقدار كبير الإمكانيات التي تقدمها له وظيفته في الضيعة ويتضح
ذلك بوجه خاص في تأجير الأطيان حيث كانت شئونه الخاصة تلاقي تسهيلات بسبب أن
مستخدَمي «أبوللونيوس» كانوا يشتغلون كذلك بزراعة قطع أرض الجنود المرتزقين أصحاب
الأطيان، هذا مع مراعاة العلاقات الرسمية بين زينون وبين الجنود المرتزقين، هذا
ولم
يكن مركز زينون في فيلادلفيا يسمح له فقط بأن يشتغل بزراعة قطع الأرض، بل كذلك
يشتغل بكل شئون رفاقه ومعارفه الذين كان لهم أملاك في الفيوم ولا يسكنون فيها إلا
مؤقتًا أو حتى لم يسكنوها أبدًا، وكانت كروم «أبوللونيوس» الكبيرة تجبر «زينون»
أن
يهتم بكل مسائل زرع العنب، والاتصالات التي وضعها مع الإخصائيين قد هيأت له إنشاء
كروم خاصة به، أما من جهة تربية الحيوان فإن «زينون» كان يعطي حيوانه للعمال
المدربين في الضيعة، ولما كان يشتغل بالتجارة الحرة في الحيوان وفي الغلة فإنه أفاد
من وسائل النقل الخاصة بأبوللونيوس، وأخيرًا كان يقدم عن طيب خاطر قروضًا لمرءوسيه
علمًا منه أنهم إذا لم يدفعوها فإن مرتباتهم كانت ضمانًا لذلك وكان «زينون» بوصفه
مديرًا للضيعة يهتم بوجه خاص بتأجير صفقات من الأرض من زملائه ومن الجنود المرتزقين
كما كان يقوم لهم بتنظيم الكثير من شئونهم التي لم تكن مرتبطة مباشرة بزراعة الأرض،
وهذه كانت دائرة نشاطه الوحيدة الخاصة؛ حيث نجد واضحًا أنه كان يتصرف فيها كثيرًا
خلال حكم بطليموس الثاني أكثر مما كان يفعل في أثناء السنين التي أتت بعد ذلك، وتدل
شواهد الأحوال على أن تربية الحيوان والتجارة وأخيرًا القروض تستلزم التفات زينون
بوصفه مدير الضيعة من جهة وبوصفه رجلًا حرًّا من جهة أخرى، هذا يمكِّننا من أن نشير
إلى أن اهتمامه بكرومه كانت تحتل المكانة الأولى عنده بعد عام ٢٤٦ق.م ويُلحَظ نفس
هذا الميل ولكن بمقدار أقل في استغلاله
الحمامات، أما من جهة تأجير الضرائب فإن زينون لم يهتم بذلك إلا في عهد «بطليموس
الثالث أيرجيتيس» فقد كان وقتئذ غنيًّا بدرجة مُحَسَّة ومعروفًا، كما كان لديه
الوقت أكثر مما كان في خلال إدارته للضيعة في عهد بطليموس الثاني.
ولم نجد في سجلات زينون إغريقًا آخرين يمكن التحدث عنهم إلا بصورة عابرة في محيط
زينون، ولكن هنا كذلك يمكننا أن ندلي بنفس الملحوظات، وذلك أن هؤلاء سواء أكانوا
في
خدمة الملك أم في خدمة «أبوللونيوس» أم حتى في خدمة زينون فإنه لم يَفُتْهُم فرصة
لتحقيق أي فائدة مهما كانت دائرتها؛ فكانوا ينتهزون الفرصة في تأجير قطع من الأرض
وزراعة الكروم وتربية الماشية والتجارة أو تأجير الإيرادات الملكية، وكان هذا الوسط
من الناس يتميز بنشاط حار مليء بالحماس،١١٨ وفي هذا العهد نجد أن هؤلاء الإغريق كانوا يبنون ثرواتهم بأحسن
المضاربات التي يغيب عنا بكل أسف الجزء الأعظم منها، وذلك في وقت كان الثراء
العقاري معدومًا.
وهكذا نجد أن تحليل سجلات زينون يقدم لنا صورة كروكية لمجال الحياة كان يأمل
الوصول إليه الكثيرون من الإغريق الذين أتوا إلى مصر في العهد الأول من عصر
البطالمة، وقد جرت العادة في عصرنا الحالي أن نشاهد الهيلانستيكية بوساطة الأدب
الإسكندري، ولكن على الرغم من أننا ننعته بالأدب الإسكندري فإنه يجب ألا يتحدث إلا
باسم جزء صغير من المجتمع الهيلانستيكي، ومكان كل محيط «زينون» وأعني بذلك تلك
الدنيا الصغيرة التي كانت تعج وتزخر بالحياة في «فيلادلفيا» بإقامة المباني، ويظهر
أنها لا تهتم إلا قليلًا جدًّا بما كان يحدث في المزيون أو بمكثه في الإسكندرية،
وقد كانت السياسة عندها كذلك تعتبر شيئًا غريبًا من أجل ذلك، ومن ثم نجد أن رجل
السياسة قد مات وعاش رجل الاقتصاد كما عبر عن ذلك المؤرخ روستوفتزف،١١٩ والأخير هو الذي عمل مجال حياته في مصر، وعلى الرغم من أن مجال حياة
«زينون» له سمات خاصة فإننا نؤكد من ملاحظتنا للإغريق الآخرين الذين في دائرته أنهم
قد اتخذوا نفس الطريق الذي سلكه، وحتى مجال حياة المستعمر الحربي، وكذلك الجنود
المرتزقين ينبغي ألا يختلفوا في شيء عن سابقيهم، وذلك على الرغم من أنهم كانوا
يشملون بعض عناصر كانت خاصة بهم،١٢٠ وقد كان التصميم العام يجب أن يكون على وجه التقريب كما يأتي؛ ففي خدمة
الملك أو في خدمة موظف كبير ملكي كان الإغريقي المجتهد والنشيط يحصل على مركز
اجتماعي ويجد مصادر رزق خاصة تسمح له فيما بعد أن يحرر نفسه من ربق الوظيفة، فكان
يصل في بعض الحالات إلى هدفه تمامًا وفي حالات أخرى كان يصل إلى بعض ما يرمي إليه،
ومن ثم تكونت طبقة من هذا المجتمع الجديد، وهي طبقة تشعر بعلوها على القوم الذين
لا
يعيشون إلا من كد سواعدهم وعلى أصحاب المرتبات وصغار رجال الحِرف وعلى كل أفراد
الطبقة الدنيا «لاوس»، هذا فضلًا عن أنها كانت طبقة تُعرف تمامًا بتبعيتها لعلية
القوم وثُراته المبرزين، والأفراد الذين يؤلفون هذه الطبقة كانوا لا يحكمون مصر
مباشرة، ومن أموالهم كانت تتألف بوجه التأكيد إلى درجة عظيمة حياة البلاد
الاقتصادية.
١
راجع: Rostovtzeff, Social and Economic History of the
Hellenistic World, P. 1035 & 1070.
٧٨
راجع: Preaux E.R. P. 450.; Rost. H.W. P. 328 ff; Tarn
Hellenistic Civilisation. P. 195; Rost. L.E. P. 182; Edgar Introd.
Mich. P. 46; Preaux Les Grecs. P. 24.