اليهود في مصر في العهد البطلمي ٣٢٣–٣٠٠ق.م
تحدثنا في الأجزاء السابقة من هذه الموسوعة عن بداية ظهور الإسرائيليين واليهود في
مصر، ولكن تدل النقوش الأثرية على أن قوم «عبرو» وهم العبرانيون فيما بعد كانوا يسكنون
سوريا وفلسطين منذ عهد البرونز المتأخر، وقد جاء ذكرهم للمرة الأولى على ما نعلم
في عهد
«أمنحوتب الثاني»، ثم جاء ذكرهم بعد ذلك في خطابات «تل العمارنة»،
١ وتدل شواهد الأحوال على أن أول اتصال أكيد بين الشعبين المصري والإسرائيلي
كان في عهد يوسف أي حوالي عام ١٧٠٠ق.م، وقد تحدثنا عن قصة خروجهم من مصر وشرحناها
شرحًا
وافيًا في الجزء السابع من مصر القديمة أيضًا.
٢
أما عن قصة هجرة اليهود من فلسطين إلى مصر في العهد المتأخر فيمكن فحصها ودرسها منذ
أول القرن السادس ق.م وما بعده، ومن الجائز أن الكارثة التي حلت بهؤلاء القوم في
عهد
الملك «نبوخذ نصر» عام ٥٩٦ق.م ترجع إلى غزو هذا العاهل بلادهم وتخريب «أورشليم»،
وقد
تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في غير هذا المكان،
٣ وقد تحدث النبي «أرميا» عن أول موجة من اليهود الذين هاجروا إلى مصر، كما
ذكرها «أريستاس» في كتابه المسمى «رسالة
أريستاس»
Letters Of
Aristeas هذا فضلًا عما جاء في الأوراق البردية التي عُثِر عليها في الفنتين.
٤
أما في العهد الهيلانستيكي فمن المحتمل أن هجرة اليهود إلى مصر قد بدأت في عهد
«الإسكندر الأكبر»، ومع ذلك فإن البراهين الهزيلة التي قدمها لنا «جوزيفس» تدعو إلى
الريبة ويرجع السبب في ذلك إلى أنها مشربة — كما يظهر بداهة — بروح الميل إلى إطراء
اليهود والتمدح بأعمالهم، ومن أجل ذلك فإنه قد يكون من الأسلم من الوجهة التاريخية
أن
نتركها جانبًا.
٥
وتحدثنا المصادر التي وصلت إلينا من عهد «بطليموس الأول سوتر» عن مجيء اليهود إلى
مصر، فنعلم أن «بطليموس الأول» فتح فلسطين للمرة الأولى في عام ٣٢٠ق.م ثم فتحها ثانية
في عام ٣١٢ق.م وفي عام ٣٠٢ق.م وأخيرًا فتحها نهائيًّا في عام ٣٠١ق.م، وعلى ذلك لن
يكون
من المدهش أنه في خلال تلك الغزوات العدة قد سيق إلى مصر أسرى كثيرون من اليهود،
كما
حدثَنَا بذلك «أريستاس»،
٦ وقد ظلت فلسطين لمدة قرن من الزمان بعد آخر غزوة في يد مصر (٣٠١–١٩٨ق.م)
وأعقب فتح فلسطين اتصالات عدة بينها وبين مصر، وتقدم لنا أوراق «زينون» التي لا يمكن
تقدير أهميتها التاريخية لدرس بلاد سوريا البطلمية صورة حية عن العلاقات التجارية
بين
مصر وفلسطين، وكانت من أهم سلع التجارة المتبادلة بينهما تجارة الرقيق،
٧ ومن الحقائق التي لا تقل أهمية عما سبق اشتراك أهالي سوريا في الحاميات
التي أسسها البطالمة عند النقط الاستراتيجية في جنوب سوريا، وكذلك استعمالهم في أعمال
مختلفة لها اتصال بوجود عدد عظيم من الموظفين المصريين في مصر من تجار وقواد حربيين،
ومن ثم نجد أنه قد وُجِدَت علاقات سياسية واقتصادية بين السوريين وأسيادهم الجدد،
ويمكن
أن نفرض قيام هجرة كبيرة من «سوريا» إلى مصر نتيجة لذلك.
وفي عام ١٩٨ق.م فتح الملك «أنتيوكوس الثالث» فلسطين، ومنذ هذا العام قضى على كل وحدة
إدارية بين جنوب سوريا ومصر، ومن المرجَّح كذلك أن كل علاقة تجارية قد انقطعت أو
على
أية حال أُوقفت مؤقتًا، ومع ذلك فإن هجرة اليهود من بلادهم لم تتوقف، بل على العكس
نجد
أنه بعد وقت قصير استمرت بنشاط مجدد، ويرجع السبب في هذا التيار الإضافي من المهاجرين
من فلسطين إلى الموقف السياسي الجديد في «يهودا» وهو الذي خلقته الثورة التي قام
بها
«جوداس ماكابايوس»،
٨ وتأسيس دولة الهسمونيين اليهودية، وقد غادرت فلسطين عناصر مختلفة بسبب هذه
الثورة القومية وبحثوا عن بلاد جديدة يمكنهم أن يسكنوا فيها في سلام ويبدءون حياة
جديدة، وكان بعض هؤلاء المنفيين رجالًا من أصل شريف؛ مثال ذلك «أونياس» الرابع بن
«أونياس الثالث» الكاهن الأعظم في فلسطين، وأسرة «أونياس» هذه كانت قد احتلت مركز
الكاهن الأول بالوراثة لمدة طويلة ثم نُحيت عن هذه الوظيفة العالية باليهود الذين
كانوا
يميلون إلى الهيلانية.
فقد قُتل «أونياس الثالث» ومن المحتمل أن ابنه عندما خاف أن يصيبه ما أصاب والده
فر
إلى مصر، والظاهر أنه لم يصل إلى أرض الكنانة وحده على حسب قول «جيروم» بل صاحَبَتْه
«أسراب لا تحصى من اليهود»،
٩ وإذا أخذنا في الاعتبار الميل العادي عند المؤلفين القدامى إلى المبالغة في
الأرقام، فإنه يمكننا من هذه العبارة القول بأن عدد المهاجرين الجدد كان بلا نزاع
كبيرًا، والدور الهام الذي لعبه «أونياس» في مصر كما سنرى بعد ينبئ كذلك أنه كان
بصحبته
جماعة من الأتباع لمعاضدته وشد أزره، هذا ولدينا رسالة من قنصل روماني (١٤٣–١٣٩ق.م)
موجهة إلى بطليموس الثامن «أيرجيتيس الثاني» يذكر فيه من بين مسائل أخرى أن يسلم
للكاهن
الأكبر «سيمون» مجرمين سياسيين كانوا قد فروا إلى مصر، وفي هذا الحادث برهان عن مهاجرين
سياسيين كانوا في هذه المرة هاربين من اضطهادات الهسمونيين في فلسطين نفسها،
١٠ هذا وقد حفظ لنا التلمود كذلك قصة عن أحد قادة الفاريسيين
Pharisee (وهي طائفة من اليهود يميز أتباعها أنفسهم بالصلاح
الظاهري في حياتهم غير أنهم في الخفاء غاية في الخلاعة) الذين هربوا إلى مصر من اضطهاد
ملك «الصدوقيين» الذين كانوا أعداءهم الألداء، وهذه الطائفة الأخيرة تسير على حسب
التفسير الحرفي للقانون الموسوي، وليس لدينا برهان عن هجرة اليهود في خلال المائة
السنة
الأخيرة من الحكم البطلمي، غير أنه يمكننا أن نفرض أن هذه الهجرة قد استمرت على نفس
المقياس السابق، وذلك لأن الحياة السياسية والاقتصادية في القرن الأول ق.م في فلسطين
كانت تتدهور بسرعة، وقد قدمت مصر التي كانت تعد أغنى مملكة متاخمة لفلسطين فرصًا
عدة
لوافدين جدد، ومن ثم جذبت إليها سكان فلسطين.
وكانت مهاجر اليهود مبعثرة في كل أنحاء البلاد المصرية وقد جذبتهم إليها أولًا
الإسكندرية، وليس ثمة سبيل إلى تحديد تاريخ وصولهم إلى هذا البلد بدقة، حقًّا يؤكد
المؤرخ «جوزيفس» أن «الإسكندر الأكبر» نفسه هو الذي أسكن اليهود في الإسكندرية، غير
أنه
لا بد أن يأخذ الإنسان مرة أخرى حذره مما ذكره «جوزيفس»، وذلك لأن أول برهان حقيقي
عن
وجود اليهود في الإسكندرية قد قدمته لنا نقوش إغريقية وآرامية من جبانة «الإبراهيمية»
في ضواحي المدينة، ومن المحتمل أنها من عهد «بطليموس الأول» أو الثاني،
١١ وقد أخذ عدد السكان اليهود في المدينة يزداد باضطراد حتى إنه في أول العهد
الروماني كان هناك حيان من خمسة أحياء في المدينة يسكنها يهود،
١٢ وقد ثبت وجود اليهود في أماكن مختلفة في الوجه البحري من نقوش تدل على ذلك،
ويمكن أن نضيف هنا بعض أماكن أخرى كان يسكنها اليهود من عهد مبكر قبل العهد
الهيلانستيكي مثل «المجدل» و«دفنى»، هذا ونعلم أن مستعمرة حربية يهودية قد أقامها
«أونياس الرابع» في «ليونتوبوليس» (تل المقدام الحالية بمركز ميت غمر). وتدل النقوش
على
أن هذه المستعمرة كانت لا تزال قائمة حتى بداية العهد الروماني في مصر، ولدينا أوراق
بردية عدة من منتصف القرن الثالث ق.م وما بعده، تدل على وجود سكان يهود في قرى مختلفة
ومدن صغيرة في الفيوم، ويثبت ما جاء على الاستراكا عن وجود يهود في الوجه القبلي
وبخاصة
في «طيبة» في خلال القرن الثاني ق.م، والخلاصة أنه في خلال العهد البطلمي أسس اليهود
بيوتهم في كل أنحاء مصر قاطبة من البحر الأبيض شمالًا حتى الفنتين جنوبًا أو كما
قال
المؤرخ فيلو
(Flacc. 43) من منحدر لوبيا حتى حدود
«أثيوبيا».
وليس في الإمكان تحديد عدد اليهود الذين كانوا يسكنون مصر؛ فقد تحدث «أريستاس»
(Arist. 12–14) عن مائة ألف يهودي أُحضروا من
فلسطين إلى مصر أسرى حرب في عهد «بطليموس الأول»، أما «فيلو»
(Flacc.
43) فيذكر رقم مليون لليهود الذين يسكنون مصر في عهده، ولا نزاع في
أن الرقم الأول مبالغ فيه جدًّا، وذلك لأن سكان «يهودا» من اليهود في نهاية القرن
الرابع لم يكونوا من الكثافة بحيث إن مائة ألف نسمة منهم يهاجرون منها دون أن يؤثر
ذلك
في حياة البلاد تأثيرًا خطيرًا، وفي مثل هذه الحالة كان من المنتظر أن نجد آثارًا
في
المصادر التي في أيدينا تشبه رد الفعل الذي حدث عند طرد اليهود ونفيهم إلى «بابل»
في
عام ٥٨٦ق.م كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما عن الرقم الذي ذكره «فيلو» فليس من سبيل
إلى
تحقيقه، غير أنه ليس من المرجح أن اليهود كانوا يؤلفون تقريبًا سُبع سكان كل مصر
وقتئذ،
ولا بد أن نذكر هنا أنه لم يُعمل إحصاء خاص لليهود حتى عام ٧١-٧٢ بعد الميلاد، وذلك
عندما أُدخل نظام الضرائب على اليهود في العهد الروماني، ومن ثم لم يكن في مقدور
«فيلو»
أن يحصل على رقم صحيح لعدد اليهود في مصر،
١٣ ولا شك أن قصد «فيلو» من ذكر هذا الرقم الضخم التأثير على قرائه بمثل هذا
العدد، وعلى ذلك إذا نظرنا إليه من الوجهة التاريخية فلا بد أن نكون على حذر، وهذه
الملاحظة تنطبق كذلك على الأرقام التي أُعطيت عن عدد سكان الإسكندرية من اليهود؛
إذ ليس
لدينا برهان كافٍ لإثبات أن عدد اليهود في الإسكندرية يؤلف خُمس سكانها، وذلك لأنهم
كانوا يسكنون في حيين من أحيائها الخمسة؛ إذ الواقع أنه ليس لدينا معلومات ذات وزن
عن
هذه النقطة على ما يظهر.
والهجرة اليهودية إلى مصر كانت جزءًا كبيرًا من هجرة السوريين، وذلك أنه توجد قرى
سورية عديدة منتشرة في كل البلاد المصرية كما كانت توجد قرى تحمل أسماء سامية تدل
على
تعداد السوريين في مصر في خلال العهد البطلمي، هذا وتكثر أسماء الأعلام السورية أي
الآرامية في الأوراق البردية، كما ثبت وجود عبادات لآلهة سورية في القرنين الثالث
والثاني ق.م.
١٤
وكان السوريون في مصر يشتغلون في أنواع مختلفة من التجارة كما كانوا ينتسبون لكل
طبقات المجتمع المصري؛ فقد جاء ذكر الكثير من التجار والموظفين والفلاحين الكادحين
والعبيد إلخ في أوراق البردي، وعلى الرغم من أنهم يختلفون عن اليهود في دينهم إلا
أنهم
كانوا يتكلمون لغة مشتركة، ومن المحتمل أنهم كانوا يشبهونهم في المنظر، ولا بد أن
نضيف
أن فلسطين في خلال القرن الثالث لم تكن تؤلف بمفردها وحدة إدارية خاصة، وأن المديريات
الواقعة جنوبي سوريا وهي فينيقيا وفلسطين وشرقي الأردن كانت تسمى رسميًّا «سوريا
وفينيقيا»، كما كانت تُدعى بصفة غير رسمية «سوريا» وحسب،
١٥ ولا غرابة إذا كان السكان المصريون قد خلطوا كل الأقوام الوافدين من سوريا
وسموهم كلهم «سوريين»، هذا ونجد أن اللغة العبرية كانت أحيانًا تؤخذ خطأ على أنها
اللغة
السورية؛ أي الآرامية.
١٦
ولما لم تكن لدينا وسيلة للتمييز بين اليهود والسوريين في الوثائق التي في أيدينا،
فإنه لا جدوى في السعي إلى تحديد القوة العددية لليهود المصريين من المصادر المأخوذة
عن
الوثائق التي في متناولنا اللهم إلا إذا كانت هناك دلائل قوية تدل على أصلها
الوطني.
وكان اليهود في مصر كإخوانهم في كل مكان في مهجرهم يعيشون في مجتمعات أي في منظمات
منفصلة نصف سياسية، لهم قوانينهم وعاداتهم ومبانيهم ومؤسساتهم وقادتهم وموظفوهم،
هذا
إلى أنهم لم يكونوا مجبرين على أن يعيشوا في «مجتمع» ولكن بطبيعة الحال كان بعضهم
مرتبطًا بالبعض الآخر، وكان كل مهاجر قد اضطُر إلى بناء موطن جديد بعيد عن مسقط رأسه
يرغب في أن ينشئ حوله جوًّا يشبه جو وطنه الأصلي، وحتى في أيامنا نجد أن المدن الكبيرة
المختلطة السكان قسمت أحياء يسكنها كلها أو معظمها أفراد من قومية واحدة، ونجد نفس
هذه
الصورة في مصر القديمة؛ فتوجد أمثلة كثيرة في الأوراق البردية تدل على أحياء قومية
منفصلة في كثير من المدن المصرية،
١٧ وفي «أرسنوي» كانت هناك أحياء يسكنها كليكيون ومقدونيون وبيتيون وليكيون
وعرب وتراقيون وسوريون كلٌّ على حدة.
١٨
وعلى ذلك فلا يدهشنا أن اليهود كانوا كذلك يتبعون هذه الطريقة المشتركة نفسها وفضلوا
السكن سويًّا، وعلى الرغم من أن الأحياء اليهودية قد سُجلت في العهد الروماني فليس
ثمة
شك في أن هذه الأحياء كانت موجودة في العهد البطلمي أيضًا، ومع ذلك فإنه لم تكن توجد
مساكن يهودية في مصر خاصة باليهود وحسب، والواقع أن اليهود لم يكونوا منحصرين في
أحيائهم، ويؤكد «فيلو» بوضوح أن في الإسكندرية قد سكن يهود كثيرون بعيدون عن أحيائهم،
١٩ وأن المعابد اليهودية كانت منتشرة في كل أنحاء المدينة، ومما يجب ذكره هنا
كذلك أن «المجتمع اليهودي» ليس مرادفًا للحي اليهودي؛ فالمجتمع اليهودي كان عبارة
عن
وحدة قضائية، ولكن لم يكن من الضروري أنها كانت مرتبطة بمساحة معينة من الأرض؛ فقد
يكون
من الممكن وجود عدة مجتمعات في بلدة واحدة (كما كانت الحال في روما)، ومن جهة أخرى
كان
من الممكن أن يتحد سكان عدد من الأماكن في مجتمع واحد، وكذلك كان من المستطاع أن
يهودًا
من بلدة قاطنيين مؤقتًا أو باستمرار في بلدة أخرى يبنون مجتمعًا خاصًّا بهم، كما
يحتمل
أنه حدث مع يهود من إقليم طيبة قد سكنوا في العهد الروماني في «أرسنوي»،
٢٠ أما من حيث القواعد القانونية الخاصة بالمجتمعات اليهودية في مصر فلم تكن
هناك حاجة ماسة لأن تسن الحكومة البطلمية موادَّ جديدة للتشريع، وذلك لأنه كانت توجد
جماعات أخرى وطنية لها مكانة قانونية مماثلة.
وكان العالم الهيلانستيكي معتادًا على نظام مؤسسة سياسية تدعى «بوليتوما»
Politeuma، وهذا التعبير له معانٍ عدة، ولكن المعنى
الأكثر استعمالًا كان «المجتمع السلالي» الذي أتى من الخارج وكان يتمتع بحقوق معينة
وله
مسكنه في داخل المدينة أو المملكة التي يقطن فيها،
٢١ ولدينا عدة أمثلة من «البوليتوما» من جماعات وطنية منوعة في مصر.
٢٢
ولم يشذ اليهود عن هذه القاعدة، ويسمى المجتمع اليهودي في الإسكندرية في رسالة
أريستاس بوليتوما، وكذلك كان يسمى في برنيكي من أعمال «سيريني»،
٢٣ وهكذا نجد أنه لم يكن هناك فرق من حيث المبدأ بين مجتمع يهودي و«بوليتوما»
من الأدوميين أو الليكيين، ومن ثم نجد أن قوم اليهود كانوا موضوعين بصورة ممتازة
في
إطار القانون السياسي الهيلانستيكي، وبطبيعة الحال لم يُمنح اليهود حكمًا ذاتيًّا
سياسيًّا كاملًا، والواقع أنه في حكم ملك مستبد كانت مسألة الحرية السياسية ليس لها
مكان، وحتى المدن الإغريقية في مصر البطلمية لم تكن لها حكومات حرة بالمعنى الحديث
بل
كانت هناك «مدن» أي مجتمعات يتمتعون بحكم ذاتي، ولهذا السبب لم يكن في مقدور السكان
اليهود كلهم في مصر أن يتَّحدوا في نظام قومي واحد، على أن وحدة قومية بمثل هذا الحجم
كانت كبيرة على تأليف «بوليتوما»، ومن ثم تكون خطرًا على الدولة، ومن الجائز جدًّا
أنه
كان هناك اتصال مستمر بين المجتمعات اليهودية وأن المجتمع اليهودي الإسكندري كان
له
تأثير عظيم على المجتمعات الأخرى، غير أنه مما لا يمكن التسليم به تمامًا السماح
لهم
بأن يعقدوا اجتماعات منظمة ويتناقشوا في مصالحهم المشتركة بصفة رسمية.
وكان الملك البطلمي مصدر القانون في البلاد كما كان الفرعون من قبله، ومن ثم فإن
كل
قانون آخر غير الذي سنَّه بطليموس مثل قانون المدن الإغريقية أو قانون السكان المهاجرين
الإغريق في البلاد أو حتى القانون القديم للسكان الأصليين كان لا يمكن الاعتراف به
إلا
بإرادة الملك وتصريح منه، وبدهي أن اليهود لم يشذوا عن هذه القاعدة فكان عليهم أن
يتسلموا تصريحًا من الملك لتأليف مجتمع لهم يمكنهم أن يتمتعوا فيه بحقوق معلومة،
ولكن
مما يؤسف له أنه لم تُحفظ لنا مثل هذه الامتيازات، على أن وجودها كان ممكنًا، ويُستخلص
ذلك من قصة قصها «هيكاتايوس»
Hekataesus ونقلها عنه «جوزيفس»،
٢٤ ويمكن أن نخمن بسهولة الحق الأساسي الذي منحه الملك المجتمعات اليهودية،
ولا شك أنه كان حق المعيشة على حسب قانون الأجداد، وهذه الصيغة مع خلاف قليل تكررت
باستمرار في المنشورات الرومانية التي كانت تصدر في صالح اليهود، وكان قد استعملها
كذلك
الملك «أنتيوكوس الثالث» ملك سوريا في مناسبة فتحه «أورشليم» في عام ١٩٨ق.م.
٢٥
وقد استعمل الصيغة نفسها غالبًا الرومان عند الإشارة إلى المدن المستقلة في الشرق
في
نهاية الجمهورية الرومانية وبداية حكم «أغسطس».
٢٦
ولما كان الرومان قد أخذوا عادة المؤسسات القانونية للممالك المفتوحة دون إجراء أي
تغيير أساسي، فإنه من المستطاع أن نقترح أنهم في هذه الحالة كذلك قد اتبعوا نهج
أسلافهم؛ أي ملوك البطالمة والسليوكيين، ومع ذلك فإن «قوانين الأجداد» فيما يخص اليهود
كان لا يمكن أن يكون لها إلا معنًى واحدٌ، وهو نظام حكم ذاتي يهودي مؤسَّس على قوانين
«موسى». ومن ثم نفهم أن التوراة كانت القانون الأساسي لكل المجتمعات اليهودية في
مصر،
وهذه الحقيقة كانت ذات أهمية كبيرة جدًّا للتطور الثقافي لليهودية المصرية.
ولا يوجد في الأوراق البردية ولا في النقوش أي برهان على وجود مجتمعات يهودية في
العصر البطلمي، أما في العهد الروماني فإن الذِّكْر الوحيد لوجود مجتمع يهودي كان
في البهنسا،
٢٧ ويمكن أن نستعمل هنا على أية حال مصدرًا آخر في هذا الصدد، وذلك أنه لما
كانت المعابد في خلال عهد الهجرة تلعب دورًا عظيمًا بوصفها مراكز للحياة السياسية
والثقافية اليهودية فإنه من المستطاع أن نسلم بأن أية إشارة لمعبد تدل على وجود مجتمع
يهودي منظم، وعلى الرغم من أن المعبد اليهودي كان مؤسسة قامت بعد التوراة، فإن وجوده
كان أهم صفة أساسية لقوانين الأجداد، فقد كان المعبد موضع مقابلات وتدبيرات عند اليهود
كما كان للعبادة ودرس التوراة، بل لقد كان أحيانًا يعتبر مضيفة، وذلك لأنه كان متصلًا
به حجرات خاصة لإضافة الغرباء،
٢٨ هذا وكان المعبد في البلدان الصغيرة والقرى على ما يظهر يحوي كل المؤسسات
العامة للمجتمع مثل المحكمة وإدارة التسجيل.
وكان المعبد في مصر يُدعَى مكان العبادة، ولدينا نقش
٢٩ يدل على أن ملوك البطالمة قد منحوا بعض المعابد نفس حقوق الحماية كالتي
كانت تُعطى للمعابد المصرية، ولا بد أن أعمالًا خيرية مثل هذه قد كسبت عواطف اليهود،
ولدينا أمثلة عديدة تشهد تقديم اليهود معابدهم للملك وأسرته مبرهنين بذلك على شعورهم
المُوالي للحكومة ورئيسها، وكانت المعابد أحيانًا يقيمها كل المجتمع اليهودي، وكان
المجتمع في مثل هذه الحالات يسمى نفسه «يهود مكان كذا»، وكان يقيمها أحيانًا المجتمع
بمساعدة فرد حر وأحيانًا كان يقيمها فرد حر بمفرده، وتدل المصادر التي في متناولنا
على
وجود معابد في عشرة أماكن (في بلدان وقرى)، ولا بد أن عددها كان أكثر من ذلك بكثير
في
القطر.
والقائمة التالية تبين الأماكن التي أقيمت فيها المعابد المعروفة التي جاء ذكرها
في
الوثائق حتى الآن:
- (١)
الإسكندرية: كان في الإسكندرية عدة معابد منتشرة في كل أنحاء المدينة
٣٠ والمبنى الجميل للمعبد الرئيسي جاء ذكره في التلمود.
- (٢)
معبد شديا
Schedia بالقرب من الإسكندرية.
٣١
- (٣)
معبد «كزنفيريس»
Xenephyris بالوجه البحري.
٣٢
- (٤)
معبد «أتريبيس» (بنها الحالية).
٣٣
- (٥)
معبد «نتريا» (وادي النطرون) بالوجه البحري.
٣٤
- (٦)
معبد «كروكوديلوبوليس-أرسنوي» بالفيوم.
٣٥
- (٧)
معبد «ألكسندرونوس»
Alexandron-Nesos بالفيوم.
٣٦
وهناك معابد أخرى لم تُعرف مواقعها.
٣٧
وكانت هناك قرى ومستعمرات حربية يسكنها يهود، غير أنه ليس لدينا وسائل لتقرير ما
إذا
كان هؤلاء السكان كثيرين بما فيه الكفاية لتكوين مجتمعات يهودية، والأرجح أنه لم
تكن في
المستعمرات الحربية مجتمعات، ومع ذلك يمكننا أن نسلم أنه كانت توجد مجتمعات يهودية
منظمة في بعض قرى «الفيوم»، ولا أدل على ذلك بصفة مباشرة من وجود معبد في بلدة «ألكسندرونسوس»،
٣٨ ويمكن أن يسلَّم بمثل ذلك في «بسنيريس»
Psenyris حيث نجد أن كل السكان كانوا مقسمين إغريقًا ويهودًا،
٣٩ وكانت البلاد الصغيرة مثل «فيلادلفيا» وكذلك القرى الكبيرة التي كان يقطنها
عدد كبير من الشرقيين مثل «سماريا»
Samareia
والمجدل
Magdola (كلاهما في الفيوم) يحتمل أنه كان
لهما مجتمعات يهودية خاصة بها مكونة مراكز لليهود الذين يسكنون على مقربة منها،
والمجتمع الوحيد الذي يُعرف تاريخه بصورةٍ ما هو مجتمع الإسكندرية؛ فقد سجل لنا هنا
«البوليتوما» اليهودية (أريستاس
Arist. 310) وقد ذكر
لنا نفس المؤلف «قادة السكان اليهود»، ويتساءل الإنسان إذا كان هؤلاء القادة قد نظموا
أنفسهم فعلًا في مجلس شيوخ
Gerousia في منتصف القرن
الثاني ق.م عندما كُتبت «رسائل أريستاس»، كما كانوا قد نظموا أنفسهم فيما بعد في
العهد
الروماني.
والواقع أن الجواب على ذلك يتوقف على فهم متن «أريستاس» الذي لم يكن واضحًا عند هذه
النقطة، ويمكننا أن نسأل فضلًا عن ذلك إذا كان القادة ينتخبهم كل السكان اليهود على
حسب
المبادئ الديمقراطية للمدنية الإغريقية أو كانوا يعينون أنفسهم من بين أغنى رجال
المجتمع اليهودي وأعظمهم سلطانًا، والواقع أن الطريقة الأخيرة كانت تتفق كثيرًا مع
الأخلاق الأرستقراطية للمجتمعات اليهودية في العالم الهيلانستيكي الروماني، ونرى
أنه في
نهاية العهد البطلمي وبداية العصر الروماني، وكانت شخصية الأثنارك (الحاكم) القوية
تغطي
على كل القادة الآخرين، ويتحدث المؤرخ «إسترابون» الذي زار الإسكندرية في عهد «أغسطس»
عن الأثنارك أنه رجل يحكم المجتمع اليهودي كأنه حاكم دولة مستقلة، وكانت اختصاصاته
على
حسب ما جاء في إسترابون هي إدارة شئون الناس ورئاسة محكمة العدل والمحافظة على الوثائق
العامة للقانون،
٤٠ ومن ثم نفهم أنه كان رئيس الإدارة والمحكمة وإدارة العقود، ومع ذلك فإنه
ليس لدينا من الأسباب ما يكفي بأن نقول إن هذا النوع من الحكم كان استبداديًّا وحل
محله
آخر أرستقراطيًّا، والواقع أن سلطة «الأثنارك» لم تتعارض مع نفوذ الأسرات العظيمة
التي
كانت الأساس الاجتماعي للحكم الأرستقراطي في المجتمع اليهودي، ويرجع السبب في ذلك
إلى
أن «الأثنارك» نفسه كان متأكدًا من أنه عضو من أعضاء هذه الأسر، ومن المحتمل أن إيجاد
قوة مركزية في الإدارة يدل على ما يظهر على الحكمة السياسية للأرستقراطية اليهودية
في
الإسكندرية وهي التي فضلت أن تترك جانبًا المشاحنات الصغيرة التي كانت تقوم بين الأسر
من أجل إنشاء حكم قوي للطبقة الممتازة على كل المجتمع، ولا نزاع في أن هذا النوع
من
الحكم كانت الحاجة ماسة إليه ليقف في وجه الطبقات الدنيا الجامحة من السكان اليهود
في
الإسكندرية، هذا ونذكر من بين المؤسسات المختلفة والموظفين في المجتمع في عهد البطالمة
«خزان»
Neokoras المعبد (وهو موظف كبير)، وقد كان
للمجتمع اليهودي الإسكندري الهام إدارة عقود ومحكمة، وكان من بين الموظفين الذين
لعبوا
دورًا رئيسيًّا في كل المجتمعات اليهودية للإمبراطورية الرومانية «الأركون» (الحكام
الرئيسيون) وهؤلاء الحكام لم يذكروا إلا مرة واحدة في الوثائق المصرية؛ حكام اليهود
من
إقليم «تبياس»
Tebias (في الفيوم) في مجتمع «أرسنوي»،
وخلافًا لهؤلاء الحكام قد ذكر بعض موظفين آخرين، وهذه هي كل المادة التي أمكن جمعها
عن
المصادر الخاصة بالموظفين والمؤسسات الخاصة بالمجتمعات اليهودية في مصر.
حالة اليهود الاجتماعية
الواقع أن معلوماتنا عن الأحوال الاقتصادية الخاصة بحياة اليهود المصريين في
المجتمعات اليهودية في عهد البطالمة تعد معلومات حسنة؛ فقد قدمت لنا الأوراق
البردية في هذا الصدد مادة تستحق التنويه عنها بوجه خاص؛ فقد كان العلماء المبكرون
يستقون كل معلوماتهم عن المصادر الأدبية بوجه عام، ولذلك كانوا يبنون براهينهم على
مادة قليلة محايدة، يضاف إلى ذلك أنه كان من السهل جدًّا التأثير عليهم حتى صوروا
في كتاباتهم اليهود بأنهم تجار مرابون، وهذه الصورة مؤلفة لدينا مما هو معروف عن
حياة اليهود في القرون الوسطى وفي الأزمان الحديثة، وقد طُبقت هذه الصورة دون إدخال
أي تغيير على التاريخ القديم أيضًا، غير أن هناك شكًّا كبيرًا فيما إذا كانت هذه
الصورة يمكن تطبيقها بحق على الأزمان المتأخرة. والواقع أن تطبيقها على التاريخ
القديم لليهود يُعتبر أمرًا مبالَغًا فيه دون ريب، وذلك لأنه من المعلوم تمامًا
أن
يهود فلسطين قد وصلوا إلى البحر الأبيض المتوسط في زمن دولة الهسمونيين، على أنهم
لم يُفلحوا وقتئذ في مزاولة التجارة، وذلك لأنهم لم يُسجَّلوا قط بأنهم قوم تجار
بحار، وحتى في فلسطين نفسها لم تكن التجارة البرية في أيدي اليهود بل كانت احتكارًا
للعرب ومواطني المدن الإغريقية،
٤١ والواقع أنه لم يذكَر في مؤلَّف من الذين كانوا يكرهون اليهود في
الأزمان القديمة أنهم اتُّهموا بأنهم احتكروا التجارة أو قيل عنهم إنهم كانوا
مرابين، والسبب المعروف عن كره اليهود هو فقرهم لا غناهم، أما عن يهود مصر فقد ذكر
حقًّا «جوزيفس» بعض أغنياء منهم في الإسكندرية كانوا يشتغلون على ما يُحتمل
بالتجارة والربا، غير أن هذا الدليل لا يمكن أن ينطبق على كل يهود مصر، وذلك لأن
«جوزيفس» كان مهتمًّا بأشخاص منغمسين في السياسة الدولية والشئون المالية، وهؤلاء
كانوا أصحاب نفوذ وثراء، وعلى أية حال لا يمكن نكران وجود يهود أغنياء في
الإسكندرية بوجه خاص، وستتاح لنا فرص أخرى للتحدث عنهم هنا، ومع كلٍّ فإن الأغلبية
العظمى من اليهود في مصر لم يكونوا أغنياء كما لم تكن لهم أية صلة بالتجارة أو
بالربا، ونحن مدينون بمعلوماتنا في هذا الصدد للأوراق البردية التي تقدم لنا مادة
غزيرة عن الحياة الاقتصادية الخاصة باليهود المصريين في القرى أي الأرياف خارج
الإسكندرية، وعلى الرغم من كل ذلك فإنهم قد نشئوا وفي دمهم الربا الفاحش.
الجنود اليهود في عهد البطالمة
وسنتحدث أولًا هنا عن الجنود اليهود في مصر، والمعلومات الجديدة التي تقدمها لنا
الأوراق البردية لها أهمية عظمى في هذا الصدد؛ فقد كان المعروف دائمًا من المصادر
الأدبية أن اليهود كانوا يخدمون في جيش كل من البطالمة والسليوكيين، غير أن هذا
البيان لم يكن يرتكز على أسانيد تاريخية قوية، وذلك لأنه لم يكن من المعقول أن يخدم
اليهود بمثابة جنود نظاميين في حين أن كتاب التوراة كان يحرم عليهم العمل في يوم
السبت،
٤٢ وهذا الرأي قد كذَّبه ما ورد في الأوراق البردية وعلى ضوء هذه الحقيقة
الجديدة نجد أن المعلومات القديمة المستقاة من المصادر الأدبية قد زِيد في أهميتها،
وعلى ذلك لم يعد لدينا من الآن أي سبب يدعو إلى عدم قبول البيان الذي ذكره
«أريستاس» في رسالته
٤٣ عن وجود أسرى حرب من اليهود مقيمين في معاقل «بطليموس الأول»، (وبطبيعة
الحال يجب علينا ألا نقبل العدد ٣٠٠٠٠ الذي ذكره إلا مع التحفظ)، هذا وقد برهنت
الأوراق البردية الآرامية المعروفة على أنه في العصر الفارسي بل وقبله كانت توجد
حاميات يهودية في معاقل الحدود المصرية،
٤٤ وعلى ذلك فإن وضع بطليموس الأول معاقله في أيدي اليهود لم يكن أمرًا
جديدًا بل كان يسير على خطط أسلافه، وعلى أية حال فإن وجود بعض اليهود بوصفهم أسرى
لم يكن عقبة في عدم قيامهم بالخدمة العسكرية على الحدود المصرية، والواقع أن أمثال
هؤلاء الأسرى الذين كانوا يعملون في الجيش البطلمي النظامي قد ذُكروا كثيرًا في
الأوراق البردية،
٤٥ هذا ولا ينبغي علينا أن نعتبر انخراط اليهود في سلك الجندية في الجيش
البطلمي امتيازًا خاصًّا قد مُنِحُوه كما يُستنبط ذلك من بعض جُمَل جاءت في كلام
المؤرخ «جوزيفس».
٤٦
وعلى أية حال فإن عامة الجيش البطلمي
تقريبًا كان مؤلفًا من جنود مرتزقين وفدوا إلى مصر من ممالك مختلفة من العالم
الهيلانستيكي، وبخاصة عندما نعلم أن البطالمة كانوا لا يثقون بالجنود الذين من أصل
مصري قُح كما أثبتت التجارب صدق ذلك؛ فقد انخرط المصريون الوطنيون في سلك خدمة
الجيش النظامي بعدد كبير، وذلك عندما دعت الحاجة لاشتراكهم في الحرب العظمى التي
وقعت بين «أنتيوكوس الثالث» (٢١٧ق.م) وملك مصر، وكانت الغلبة للمصريين، ومنذ ذلك
النصر أخذتهم العزة القومية وشعروا بقوتهم فتكبروا وثاروا مطالبين بحقوقهم، ومنذ
ذلك العهد أصبح لزامًا على البطالمة أن يؤلفوا لأنفسهم جيشًا قوميًّا خاليًا من
العنصر المصري، توصلوا إلى حل هذه المشكلة بإسكان جنود أجنبية في أرض الكنانة،
وبذلك أنشئوا جيشًا محليًّا جديدًا مُنحت له كل مميزات الجنود المرتزقين، ولكنه
لم
يكن مع ذلك متوقفًا على الأحوال غير المؤكدة فيما يخص التجنيد من الخارج، وكان هذا
الجيش الجديد يضم جنودًا نظاميين وجنودًا مستحفظة مشاة وفرسانًا، وكذلك إدارات خاصة
به، وكانت فرقة الفرسان هي أعلى طبقة أرستقراطية في الجيش وكان الجنود الفرسان
مقسمين فصائل تُدعى بالأرقام الأولى والثانية إلخ أو بأسماء أقوام منوعين، وكان
الجنود المشاة مقسمين فصائل تسمى كل منها باسم رئيسها، ومن بين فصائل الفرسان نذكر
فصيلة «التراقيين» وفصيلة «التساليين» و«الميزيين» وفرقة الفرس، وكل هذه الأقسام
كانت قد نظمت منذ القرن الثالث، وكان أمر استيطان الجنود الأجانب في أرض مصر يقوم
بتنفيذه موظفون خاصون، كان من واجبهم أن يقسموا الأرض التي تُمنح لهم قطعًا توزع
على المستعمرين من هؤلاء الجنود، فكان الضباط من الفرسان يحصل كل منهم على أكبر
القطع التي كانت تترواح الواحدة منها ما بين ٨٠ و١٠٠ أرورا وكانت تمنح قطعًا مساحة
الواحدة منها ما بين ٢٤ و٦٠ أرورا لأفراد الجيش الذين كانوا أقل أهمية من الفرسان،
ويُلحَظ أن الجنود الذين كانوا يستوطنون في إقطاعاتهم (كلوركي كما كانت تسمى في
القرن الثاني) يتزوجون من المصريَّات، ومن ثم نشأ جيل صغير له تقليده الحربي منذ
ولادته نما وترعرع في تلك المستعمرة في ظل الجندية، وهذا الجيل الصغير كان يُدعَى
باليونانية إبيجون
Epigone ولما كان الإبيجون قد
استُعملوا بمثابة مورد للتجنيد الجديد فإن هذه الكلمة قد اكتسبت معنى «جيش
المستحفظ»، وكان على كل جندي عندما يعطي اسمه لأي غرض رسمي أن يسجل أصله (مقدوني،
تراقي، إلخ) ثم يبين إذا كان جنديًّا نظاميًّا (مع ذكر فرقته مثل فرقة الفرسان أو
غيرها) أو إذا كان من جيش المستحفظ، وهكذا كان النظام الكبير المُركب للجيش المصري
الذي أوجده البطالمة (وبخاصة بطليموس الثاني) في القرن الثالث ق.م.
٤٧
وبدهي أنه كان هناك متسع في هذا الجيش لليهود أيضًا، حقًّا لم يُعرف اليهود في
العالم الهيلانستيكي بأنهم ذوو كفاءة حربية خاصة كالمقدونيين والتراقيين، ومن ثم
لم
يؤلفوا وحدة منفصلة، وعلى أية حال كالمقدونيين والتراقيين، ومن ثم لم يؤلفوا وحدة
منفصلة، وعلى أية حال فإن ذلك لم يحدث في القرن الثالث، ومع ذلك فإنهم كانوا قادرين
على أن يخدموا بوصفهم جنودًا وضباطًا في الجيش النظامي العامل، وكانوا أعضاء في
الجيش المستحفظ، ونتيجة لخدمتهم هذه كان لهم الحق في أن يعسكروا في حاميات
ويستعمروا إقطاعيات حربية وكانوا أحيانًا يصلون إلى مراكز حربية عالية، ونذكر من
بين هؤلاء «توبياس»
Toubias رئيس الإقطاعات الحربية
في شرق الأردن في القرن الثالث،
٤٨ والكاهن الأكبر «أونياس الرابع»، وابنه في القرن الثاني كما سيأتي بعد،
هذا ولدينا بيانات قيِّمة عن حياة الجنود اليهود في الفيوم الذين خدموا في وحدات
منوعة، وكانوا من الجيش المستحفظ.
٤٩
ذكرنا فيما سبق أن جزءًا من الجيش البطلمي قد نُظِّم إلى وحدات سلالية منفصلًا
بعضها عن بعض مثل فصيلتَيْ فرسان تراقيا وتساليا وغيرهما، وكانت هذه الوحدات
السلالية كما تدل عليها أسماؤها، عندما كان الجيش البطلمي لا يزال في طور التكوين،
مؤلفة من أفراد ينتمون كلهم إلى أمة بعينها، ولكن على مر الأيام نجد أفرادًا من
أصول مختلفة قد قُبلوا في هذه الوحدات السلالية، وعلى ذلك قد أصبح اسم فصيلة
التراقيين أو فصيلة التساليين وغيرهما لا يدل على أشخاص من أصل معين بل كانت هذه
المسميات تطلق على جنود تابعين لوحدة حربية مُعيَّنة بالإشارة إلى أصل تكوينها
القومي في بادئ الأمر وحسب، هذا ولدينا أمثلة كثيرة مستقاة من الأوراق البردية تدل
على تغيير التسمية القومية للجندي بسبب نقله من وحدة إلى وحدة أخرى،
٥٠ ولم يشذ الجنود اليهود عن هذه القاعدة؛ فقد كانوا يسمون أنفسهم فرسانًا
مقدونيين عندما كانوا يخدمون في وحدات تحمل هذا الاسم، ويُلحَظ أنهم كانوا أحيانًا
يخدمون بلقبهم العادي أي «يهود»، وعلى ذلك لم يكن لدينا وسيلة لمعرفة أنهم يهود
إلا
من أسمائهم أو من مناسبة أخرى، هذا ونجد أنهم في حالات أخرى كانوا يحافظون على
أسمائهم السابقة ويلقبون أنفسهم بالاسمين، ومما يؤسف له أنْ ليس لدينا أمثلة من
هذا
القبيل إلا مثال واحد فقط، وهو لفارس يهودي من الجيش المستحفظ معروف لنا من ورقة
بردية،
٥١ ومن ثم لا يمكن أن نتخذ هذا المثل أساسًا لوضع قاعدة عامة، وذلك لأن
فرسان الجيش المستحفظ وبخاصة في العهد الروماني لا يمكن أن يُعتبروا جنودًا.
هذا وقد يساعدنا وجود اليهود في خدمة وحدات مختلفة قومية على حل صعوبة قامت في
وجهنا بسبب ما ذكره المؤرخ «جوزيفس» ثلاث مرات من أن يهود الإسكندرية كان مصرَّحًا
لهم أن يلقبوا أنفسهم مقدونيين،
٥٢ وقد وُضعت نظريات بعيدة المدى عند التعليق على هذا القول فقد اقترح أن
المقدونيين كانوا هم الذين يمثلون الأرستقراطية العظيمة في المجتمع الإسكندري، وقد
اتخذ ما ذكره «جوزيفس» ليكون برهانًا على أن يهود الإسكندرية كانوا من بين مواطني
الإسكندرية الذين كانوا يتمتعون بحقوق كاملة وامتيازات، غير أن الأوراق البردية
تبرهن غير ذلك.
٥٣
الفلاحون اليهود
دلت البحوث على وجود فلاحين يهود في العهد البطلمي والروماني فنجد في العهد
البطلمي يهودًا يعملون في الأرض بوصفهم مستعمرين أي أجنادًا يطلبون عند الحاجة،
وذلك لأنه كان مقررًا أن كل جندي أجنبي يخدم في جيش البطالمة لا بد أن يتسلم قطعة
أرض ذات مساحة عظيمة تصل أحيانًا إلى ما بين ثمانين ومائة أرورا، وهذه الإقطاعات
من
الأرض كانت في الأصل بمثابة ملكيات كان قد منحها الملك لهؤلاء الجنود، غير أنها
كانت دائمًا قابلة أن تُسحب منهم وتصبح ملك الملك ثانية، ولكن على مر السنين
والأيام نجد أن هذه الإقطاعات الصغيرة قد ازداد عددها أكثر فأكثر وأصبحت ملكًا
للمسئولين عليها هم وأسرهم، وفي النهاية وجدنا أن هؤلاء المُلاك أخذوا يورثونها
لأبنائهم من بعدهم وهكذا.
٥٤
وعلى الرغم من ملكية الأفراد للأرض المصرية إلا أنها كانت تتعارض مع مبادئ
الملكية المطلقة للأراضي المصرية في عهد البطالمة، ومن قبلهم فراعنة مصر إلى حد
ما،
فإن الحكومة لم يكن في مقدورها أن تقف في وجه رغبات الجند الذين كانوا يريدون أن
يعتبروا قطع الأرض التي يستثمرونها ملكًا خاصًّا لهم، وأنهم هم المسيطرون عليها،
والواقع أن الحكومة كانت تحابي المستعمرين من الجنود من جهة دفع الضرائب؛ ففي حين
كان مُزارع الملك يدفع إيجارًا بمعدل أربعة أو خمسة أرادب
٥٥ عن كل أرورا من الأرض نجد من جهة أخرى أن الجندي المستعمر كان لا يدفع
إلا إردبًّا أو إردبين فقط، يضاف إلى ذلك أن الجنود أصحاب الإقطاعات كانوا غير
مجبرين على زرع الأرض، وذلك أنهم كانوا قد اعتادوا على تأجير إقطاعتهم للفلاحين
المصريين لزرعها وبخاصة مدة غيابهم في الحروب، وقد كان غرض الحكومة من ذلك ألا تنشئ
طبقة جديدة من زراع الأرض، بل كانت ترمي إلى إمداد أعضاء جنود الجيش بدخل ثابت،
ولا
غرابة إذن في أن نجد أن المستعمرين الحربيين قد عدوا أنفسهم مُلاكًا لقطع أرض لا
فلاحين يعملون بأيديهم في التربة الخصبة، ولم يشذ عن هذه القاعدة اليهود، ولدينا
أمثلة كثيرة يكفي أن نذكر من بينها عضوين كانا في فرقة الفرسان وقد جاء ذكرهما في
وثيقة من عهد بطليموس «أبيفانيس» وهي تعد أحسن برهان على الاشتراك الفعلي لليهود
في
الجيش البطلمي،
٥٦ وقد كان كل من هذين الجنديين يملك ثمانين أرورا؛ أي إن كلًّا منهما كان
يعتبر رجلًا ثريًّا ذا نفوذ.
هذا ولدينا وثائق عدة عن مستعمرين حربيين من اليهود،
٥٧ ويمكن أن نستخلص من درس هذه الوثائق أن هؤلاء المستعمرين الحربيين
اليهود كانوا أغنياء ميسورين لدرجة أنه كان في استطاعتهم أن يشتغلوا في شئون لا
علاقة لها بأمور الحرب أو الزراعة، وليس لدينا معلومات مفصلة عن موقف الزراع اليهود
الآخرين الذين ذُكروا في الوثائق من حيث حالتهم الاجتماعية، فمن هم يا ترى فلاحو
الوجه القبلي الذين يحملون أسماء عبرية وأسماء أخرى سامية، وهؤلاء نجدهم مذكورين
في
الكتابات التي على الاستراكا، هل كانوا من الأغنياء ملاك الأراضي أو مزارعين فقراء
يكدحون في أراضي الملك؟ على أنه قد يُحتمل أن هذه الفئة كانت تشمل أشخاصًا من كِلتا
الطبقتين، يضاف إلى ذلك أن أسماء يهودية تظهر في قوائم مختلفة عن الحسابات والتعداد
والإعلانات الملكية وغير ذلك،
٥٨ وكل هؤلاء اليهود كانوا من سكان الريف، ولكن لا يمكننا أن نقرر في كل
الحالات شيئًا عن مركزهم الاجتماعي بالضبط، وقد جاء ذكر عمال حقول بالأجرة في إحدى
الوثائق،
٥٩ على أنه يحتمل وجود يهود أكثر من هذا النوع بين السوريين يشتغلون في الحقول،
٦٠ وقد جاء ذكر عاصري الخمر مرة واحدة، كما جاء ذكر الرعاة اليهود كثيرًا
في الأوراق البردية.
٦١
وكان الرعاة في مصر في أغلب الأحيان ملاك أغنام وتجار صوف، وكانت التجارة التي
يزاولونها تقودهم أحيانًا إلى أعمال مريبة،
٦٢ فمثال ذلك شكوى فرد يُدعَى «حارمزيس» تاجر أصواف رفعها للملك على راعي
غنم يهودي يُدعَى «سيوس» وذلك أن «حارمزيس» اشترى من «سيوس» مقدارًا من الصوف قبل
جزِّ الغنم ودفع له جزءًا من الثمن مقدمًا وتعهد أن يدفع الباقي بعد جز الغنم، غير
أن «سيوس» جز غنمه وأخذ الصوف ورفض أن يعطيه «حارمزيس» عندما طلب إليه تسليمه، وعلى
ذلك كان تاجر الصوف مجبرًا أن يضع الأمر أمام أولي الأمر، ومما تجدر ملاحظته هنا
أن
الرعاة اليهود كانوا غالبًا يسمعون بأسماء مصرية بحتة.
٦٣
هذا ولم نجد في الأوراق البردية براهين تثبت وجود تجار أو مرابين من اليهود في
العصر الهيلانستيكي، وترجع هذه الظاهرة إلى سببين؛ الأول هو أنه ليس لدينا أوراق
بردية من عهد البطالمة من الإسكندرية، وواضح مما كتبه «فيلو» و«جوزيفس» أن أغنياء
اليهود كان موطنهم الرئيسي هو عاصمة الملك، والسبب الثاني هو أن مبادئ الحكومة
البطلمية لم تكن مشجعة للمشروعات الخاصة أو التجارة، وعلى ذلك كانت مصر في العهد
البطلمي لا يوجد فيها إلا عدد صغير من التجار حتى بين الإغريق أنفسهم. أما من حيث
الربا فإن المصارف البطلمية كانت احتكارًا للحكومة، وكان رؤساء البنوك من موظفي
الدولة، وفي هذه البنوك نجد كذلك أن المشاريع الخاصة لم تلقَ قبولًا، على أن ذلك
لم
يكن يعني أنه لا يوجد رجال معاملات بين اليهود في العهد البطلمي، فقد وجدنا أن
«أريون» Arion كان الممثل الأول لشراء جمع
الضرائب (ملتزم) غير أننا لا نعرف عنه ولا عن غيره شيئًا يستحق الذكر في هذا الصدد،
على أن كل معلوماتنا عن اليهود الذين كانوا مشتغلين بالتجارة والربا مستقاة من
العهد الروماني.
ومعلوماتنا عن الصناع اليهود في العهد البطلمي ليست بأحسن من معلوماتنا عن رجال
التجارة والمرابين؛ إذ لم يأتِ ذكر الصناع في الأوراق البردية في العهد البطلمي،
وكذلك في العهد الروماني، وليس لدينا أسباب كافية تفسر لنا هذا الصمت المطلق، غير
أنه قد جاء في التلمود أنه كانت توجد منظمات حِرَفية قوية تشمل صناع يهود
الإسكندرية، ومن المعلوم جيدًا أن الحاخامات اليهود في فلسطين كان لهم ميل خاص
للفنون والصناعات،
٦٤ وقد أكد «فيلو» وجود صناع من اليهود في الإسكندرية،
٦٥ ولا ريب في أن نظام الحكم البطلمي من جهة المراقبة لم يؤثر على العمل
الحر للصناع سواء أكانوا يهودًا أو غير يهود، وربما كانت قلة المخطوطات البردية
في
هذا الموضوع من باب الصدفة.
وهاك ما لدينا من معلومات هزيلة في هذا الصدد؛ فلدينا وثيقة عن أسرة صناع فخار من
اليهود في قرية سورية،
٦٦ وكذلك صادفَنَا نساج يهودي من أهل الوجه القبلي في خلال القرن الثاني ق.م،
٦٧ كما جاء ذكر لاعب قيثار يُحتمل أنه موسيقار كان يعيش في مستعمرة حربية
ببلدة «سماريا» عاش في القرن الثاني ق.م.
٦٨
أما عن اليهود الذين كانوا في خدمة الملك فلدينا معلومات كثيرة، وهؤلاء يضعون
أمامنا صورة منوعة ذات ألوان عدة، وهذه الصورة تبتدئ بالشخصيات أصحاب النفوذ في
البلاد وكبار رجال الإدارة وتنتهي بصغار الموظفين ورجال الشرطة في القرى، وقد ذكرت
لنا الإضمامات البردية مثالين من رجال البلاط اليهودي وكبار الموظفين؛ أولهما
«دوسيثيوس»
Dositheos بن «دريميلوس»
Drimylos وكان يشغل وظيفة كاهن أكبر لقبر
الإسكندر وللبطالمة المؤلهين في عام ٢٢٢ق.م، وقد ذكر اسمه مؤلف الكتاب الثالث للماكابيين،
٦٩ و«أونياس» الذي يحتمل أنه كان حاكم مقاطعة، ويجوز أن تكون «هليوبوليس»،
ويمكن توحيده «بأونياس» الكاهن الأكبر وباني معبد «ليونتوبوليس» (تل المقدام
الحالية مركز ميت غمر)،
٧٠ ولدينا شخصية ثالثة معروفة لنا من نقش وهوهلكياس
Helkias، وكان على ما يظهر حاكم مركز «هليوبوليس»، وعلى أية حال
لدينا معلومات كثيرة عن حياة يهود الإسكندرية، ويمكن أن نقدم أمثلة أخرى عن
بعضهم.
أما في القرى فكان يوجد يهود يشغلون وظائف منوعة في الشرطة والإدارة وبخاصة جباة
يجمعون الضرائب، هذا وقد جاء ذكر رئيس شرطة يهودي في بلدة «أتريب» (بنها الحالية)
في نقش يتضمن إهداء معبد «بيعة» للإله الأعظم بالاشتراك مع المجتمع اليهودي المحلي،
ولا بد أن نفرق في الوثائق بين رجل الشرطة،
٧١ وبين الحارس،
٧٢ وذلك لأن الأول كان موظفًا حكوميًّا والآخر موظفًا أهليًّا، هذا وكان
يرحب بانخراط اليهود في سلك رجال الشرطة لنفس الأسباب التي كان يرحب بها عند
انخراطهم في سلك الجيش، وذلك لأن حكومة البطالمة كانت لا تثق بالمصريين الوطنيين،
وكانت تعمل جاهدة على إبعادهم عن الجيش والشرطة، وهذا هو السبب في أن الأجانب
(وبخاصة العرب) كانوا يوجدون بكثرة في طائفة رجال الشرطة (ويُلحَظ أنه في خلال
القرن الثالث ق.م كان رجال الشرطة من العرب عديدين لدرجة أن التعبير «عربي» كان
يستعمل أحيانًا للدلالة على الشرطي).
أما اليهود الذين كانوا يعملون في الإدارة المحلية فليس لدينا إلا مثال واحد في
الإضمامات البردية التي بين أيدينا وهو لأمين سر يهودي يحتمل أنه كان يعمل في
مقاطعة «هيراكليوبوليس»،
٧٣ هذا ولدينا بعض أمثلة من اليهود الذين كانوا يعملون في الإدارة المالية
بوصفهم مدبرين للمصارف الملكية أو موظفين في مخازن التبن (العلف).
٧٤
ومن أهم المعلومات التي وصلت إلينا عن اشتراك اليهود في جمع الضرائب ما جاء على
استراكا عُثِر عليها في الوجه القبلي وهذه الاستراكا هي مصدرنا الرئيسي عن جمع
الضرائب في الوجه القبلي كما أن الأوراق البردية التي عُثِر عليها في الفيوم هي
مصدرنا الرئيسي عن الفيوم،
٧٥ وسنبحث هنا بعض المسائل العامة عن جمع الضرائب، ويتساءل المرء لأول
وهلة، من هم هؤلاء اليهود جباة الضرائب في الوجه القبلي؟ ويميز العلماء بين جامعي
الضرائب ومؤجري الضرائب أو مشتري جمع الضرائب، وتفسير ذلك أن جمع الدخل الفعلي كما
يقول العالم «رستوفتزف» كان واجب موظفي الدولة الذين كان عليهم أن يوردوا المبالغ
أو السلع المتحصلة إلى المصارف أو المخازن الملكية، أما مؤجرو الضرائب في مصر فكان
تدخلهم في جمع الضرائب الفعلي قليلًا جدًّا، ولكن كانت لهم فائدة حيوية فيها، وقد
أخذوا دورًا إيجابيًّا في مراقبة كل من منتجي الدخل وجباة الضرائب، وذلك لأنهم
بمقتضى العقود التي أمضوها للملك ضمنوا له بتوقيعاتهم الجمع التام لدخل خاص … وإذا
حدث عجز في ذلك كان عليهم وعلى شركائهم بالضمانات التي أعطوها أن يسدوا هذا العجز.
٧٦
وهذا التعريف العام الذي قدمه لنا هذا العالم قد ناقشناه غير أنه من المشكوك فيه
إذا كان هذا التمييز الدقيق في هاتين الحالتين يمكن أن ينطبق على حالتنا الخاصة
هنا
فيما يتعلق باليهود، ويظهر أنه من المؤكد أن اليهود في هذه المسألة كانوا محصلي
ضرائب، وذلك لأن الضرائب كانت تورد للمصارف عن طريقهم ويتسلمون في مقابل ذلك
إيصالات بالتوريد، ومن جهة أخرى نجد أن واحدًا منهم كان يُدعَى «مؤجر الضرائب» (حيث
كان يقصد تأجير ضريبة خاصة واحدة)، وكانت رسائلهم لدافعي الضرائب تبتدئ بصيغة خاصة
فنية لا تستعمل إلا لمؤجري الضرائب وكان لهم شركاء من مؤجري ضرائب كما كانت العادة،
٧٧ ومن ثم يظهر أن التميز الذي وضعه «روستوفتزف» وغيره من العلماء لا يمكن
تطبيقه على محصلي الضرائب اليهود في الوجه القبلي وهم الذين كانوا في الوقت نفسه
مؤجرين للضرائب ومحصلين، وهذه الطريقة الأخيرة كانت متبعة في «أثينا» وعند اليونان
عامة، ومن جهة أخرى نجد أن العلاقة بين هؤلاء اليهود المحصلين للضرائب بالنسبة
للحكومة غير واضحة بعض الشيء، والظاهر أن بعضهم كانوا أشخاصًا غير موظفين لهم دخل
ثابت (وكان واحد منهم من كبار الملاك)،
٧٨ وقد قرر لسبب ما أن يعمل هذا الثري محصل ضرائب أيضًا، والآن يتساءل
الإنسان: لماذا كان اليهود متهمين بالقيام بدور كهذا فيما يخص الإدارة المالية في
حين أنه من المعلوم جيدًا أن محصلي الضرائب كانوا مكروهين من السكان لدرجة أن
المؤلف «فيلو» قد مثلهم بأشخاص من طبقة منحطة وقحين غلاظ القلوب يحولون المدن
والقرى إلى صحاري؟
٧٩ والجواب البسيط على ذلك هو أن وظيفة محصل الضرائب كانت مربحة، ومع ذلك
فإنه من المشكوك فيه أن الأرباح التي كان يجنيها المحصل كانت كبيرة القيمة، وذلك
لأن البناء العام للحكومة البطلمية لم يكن يساعد موظفي الحكومة أو غير الموظفين
على
أن يصبحوا أغنياء بوسائل قانونية، في حين أن الوسائل الخارجة عن نطاق القانون كانت
غاية في الخطورة ليقظة الحكومة وشدة مراقبتها من هذه الناحية.
٨٠
حقًّا نجد أن شخصًا مثل «جوزيف» بن «توبياس» قد جمع ثروة طائلة من شراء تحصيل
الضرائب ولكن سبب هذه الثروة كان راجعًا إلى أنه اشترى ضرائب (أجَّرها) من كل بلاد
سوريا و«فينيقيا» في حين أن مؤجري الضرائب في الوجه القبلي كان الواحد منهم يؤجر
ضريبة واحدة خاصة وفي الوقت نفسه محلية، ومن ثم لم يكن ينتظر منها فوائد كبيرة،
والمرجح أن اليهود قد اختاروا هذا العمل الكريه لا لأجل أن يكون لهم دخل إضافي
وحسب، بل كذلك لأن الوظيفة الحكومية كانت تُعتبر عنوان شرف وجاه وبخاصة في القرى،
وبطبيعة الحال كانت الوظائف الإدارية الأخرى مثل رئيس سكرتارية مركز من مراكز
المقاطعة، هذا فضلًا عن أن وظيفة حاكم المقاطعة كانت أهم بكثير من وظيفة مؤجر
الضرائب (ملتزم)، وعلى أية حال فإن كل هذه الوظائف المرغوب فيها كانت منذ زمن بعيد
قد احتلها إغريق، ولم يكن اليهود من القوة بحيث ينافسونهم فيها، في حين أن عمل مؤجر
الضرائب الكريه كان مباحًا أمام كل واحد عنده من المال ما يكفي ليضمن بثروته
التنفيذ النظامي للعمل الذي وكلت إليه الحكومة أمره.
ويمكن أن نلخص فيما يلي المادة المنوعة التي لها علاقة بالأحوال الاقتصادية
لليهود المصريين؛ فالصورة التي نفهمها من كل ما سبق ليست بأية حال من الأحوال
منحصرة في المصالح الضئيلة بحياة حي يهودي، بل الواقع أن اليهود كانوا يخدمون
ويعملون في كل مكان وفي كل فرع من فروع الحياة الاقتصادية للبلاد، فكانوا يعملون
جنودًا ورجال شرطة ومؤجري ضرائب وموظفي حكومة وكادحين في الأرض وأصحاب حرف وتجارًا،
وبطبيعة الحال كان هناك يهود أغنياء في الإسكندرية وكذلك في القرى، ولكن التأثير
العام الذي نستخلصه من دراسة الوثائق هو أنهم قوم مُجِدُّون يكسبون قُوتَهم بعمل
ينطوي على المثابرة والصبر والخداع معًا، على أن حدود هذا النشاط كان لا يعيِّنه
اليهود أنفسهم بل تحدده الأحوال العامة للحكومة البطلمية، وأعني بذلك النظام الموحد
كليةً المناهض لكل مبادرة جديدة في عمل حر، فقد كان السكان الوطنيون الذين كان
عددهم كبيرًا هم الذين كان في قبضتهم منذ أقدم العهود الموارد الاقتصادية الرئيسية
للبلاد كالزراعة والفنون والحرف، في حين أنه كان يوجد في البلاد عنصر نشط آخر صاحب
نفوذ، وهوعنصر المهاجرين الإغريق الذين كانوا يشغلون الوظائف الرئيسية في الجيش
والإدارة والحياة المدنية، ولا نزاع في أنه في ظل هذه الصورة المعقدة كان من الصعب
فعلًا على اليهود أن يجاروا سكان البلاد هؤلاء ويحفظوا مكانتهم بينهم، وعلى الرغم
من أن الصعوبات التي كانت تقوم في وجههم لم تُحَسَّ في البداية على ما يظهر، إلا
أنها على مر الأيام قد أخذت تظهر وتزداد قوة من يوم لآخر.
موقف اليهود السياسي في مصر
ونظرتنا العامة عن النشاط الاقتصادي ليهود مصر تحمل في طياتها عدة مسائل خارجة عن
نطاق الحياة الاقتصادية، والآن يتساءل الإنسان عما إذا كانت حكومة البطالمة قد
تعرفت على قيمة العمل الذي كان يؤديه اليهود أم لا؟ وهل شجعته أو وقفت في طريقه؟
ثم
ماذا كان موقف السكان الوطنيين والإغريق بالنسبة لليهود؟ كل هذه الأسئلة تنقلنا
من
المسألة الاقتصادية إلى السؤال الكبير الواسع الخاص بالتطور السياسي اليهودي في
عهد
البطالمة.
إن تاريخ اليهود السياسي في مصر في عهد البطالمة ينقسم بوضوح إلى عصرين، ويعد حكم
بطليموس السادس فيلومتور (١٨١–١٤٥ق.م) الخط الفاصل بين هذين العصرين، ومعلوماتنا
عن
العصر الأول لا تكاد تُذكر، وقد رأينا أن أول المهاجرين من اليهود إلى مصر كانوا
أسرى حرب، وأن عددًا منهم وُضعوا في حاميات مصرية، والظاهر أن أسرى الحرب هؤلاء
حتى
بعد إطلاق سراحهم في عهد بطليموس الثاني كان في استطاعتهم أن يقوموا بنشاط ملحوظ
في
حياة البلاد السياسية، ويعد العهد الذي يقع بين حكم بطليموس الأول وبطليموس السادس
بالنسبة لليهود عهد استقرار في مكان جديد؛ إذ الواقع أنهم انتشروا في كل أنحاء
البلاد ووطدوا أنفسهم في أعمال منوعة وأسسوا مجتمعاتهم الخاصة بهم، وقد انقضى أكثر
من قرن من الزمان على هذه العملية وهي تسير في طريقها دون أن يشعر بها أحد، وفي
عهد
«بطليموس السادس» (فيلومتور) بدأ عهد جديد في تاريخ لليهود كان الدافع له علتين
مميزتين وقعتا في وقت واحد؛ العلة الأولى ميل الملك للساميين، والثانية تدفق نهر
جديد من المهاجرين اليهود إلى مصر وفدوا من فلسطين.
وقد أخبرنا «جوزيفس»،
٨١ أن «فيلومتور» وزوجه «كليوبترا» قد وكلَا أمر مملكتهما ليهود، بل ووضعا
كل الجيش المصري تحت قيادة «أونياس» و«دوسيثوس» ولا شك في أن ما رواه «جوزيفس» يعد
ضربًا من المبالغة لا تَقِلُّ في كذبها عما أكده مؤلف يهودي آخر من أن فيلسوفًا
يهوديًّا يُدعَى «أريستوبولوس»
Aristoboulos٨٢ كان معلم «فيلومتور» ومع ذلك فإنه كانت توجد أمور تدل صراحة على ميل
«فيلومتور» لليهود إلى حد ما؛ فقد أنشئت وحدة حربية يهودية، ووُضعت تحت قيادة قائد
يهودي يُدعَى «أونياس» وقد صرح «لأونياس» أن يعسكر بجنوده على أرض مصر وأن يبني
معبدًا لإله اليهود، وكذلك وكل هذا الملك لليهود أن يعملوا في إدارة البلاد المالية
بمثابة مؤجرين للضرائب وموظفين، وكان ذلك على أية حال في الوجه القبلي، يضاف إلى
ذلك أن ممثلي اليهود من الطبقة الراقية المتعلمة مثل الفيلسوف «أريستوبولوس» قد
سمح
لهم بالدخول في بلاط الملك كما سمح لهم أن يُعرفوا الملك عن أمور لها علاقة بالدين
اليهودي، فقد قيل إن الفيلسوف اليهودي «أريستوبولوس» أهدى كتابه الذي وضعه عن
التوراة إلى «بطليموس فيلومتور» وألقى بعض فقرات منه أمام الملك،
٨٣ وإذا أمكن أن نصدق ما رواه «جوزيفس»،
٨٤ فإن اليهود والسامرين كانوا يناقشون مسائل دينية في حضرة الملك، وإن
«فيلومتور» قد أعلن ميله لليهود، وإنه لمن الخطأ أن نسلم أن الملك الفتي قد حابى
اليهود بسبب دينهم، بل كانت هناك أسباب أخرى مادية دعت إلى ميله إلى حب
السامية.
والواقع أن عهد «فيلومتور» على أية حال كان عهد استقرار وسلام، وذلك لأنه عندما
مات والده كان لا يزال طفلًا في الخامسة أو السادسة من عمره، وعندما أُعلن ملكًا
رسميًّا على البلاد كان في الخامسة عشرة، وقد ظلت إدارة البلاد بسبب ذلك مدة طويلة
في أيدي رجال البلاط الذين كانوا من أصول وضيعة وأصحاب شهرة سيئة، يضاف إلى ذلك
أنه
قد نشأت عداوة وبغضاء بين «فيلومتور» وأخيه الصغير، وهو الذي أصبح فيما بعدُ
«أيرجيتيس الثاني»، وقد كان من نتائج هذه العداوة انفجار ثورات علنية أحيانًا أضرت
بالبلاد جميعها، وأخيرًا غزا «أنتيكوس الرابع» ملك سوريا البلاد المصرية مرتين،
وكان من نتائج هذا الغزو أنه فتح البلاد المصرية كلها وأعلن نفسه ملكًا على المصريين،
٨٥ ولم يُنْجِ مصرَ من «أنتيوكوس» إلا تدخُّلُ روما التي أمرته أن يغادر
البلاد المصرية فورًا، وبذلك نجت دولة البطالمة في مصر من السقوط النهائي، وكان
على
الملك الفتَى في هذه الأوقات العصيبة أن يبحث عن حلفاء أقوياء يركن إليهم، وفي هذه
اللحظة نجد أنه لم يكن في استطاعة أهل الإسكندريين من الإغريق ولا في استطاعة سكان
مصر الأصليين أن يعطفوا على رغبات الملك بتقديم يد العون له، وذلك لأن أهالي
الإسكندرية كانوا منقسمين فيما بينهم في حروبهم الداخلية التي وقعت بين الإغريق
والمقدونيين، أما الوطنيون المصريون فكانوا يُظهرون العداء صراحة لكل الأجانب من
الإغريق والمقدونيين على السواء، وكان اليهود في تلك الفترة هم العنصر الثالث في
البلاد، غير أنهم كانوا ضعفاء إذا ما قُورنوا بالإغريق والمصريين، وكانوا يرغبون
بطبيعة الحال في قيام حكومة مركزية قوية، وفي هذا الوقت بالذات قَوِيَ العنصر
اليهودي، وذلك بتدفق عدد عظيم من المهاجرين اليهود ومن بينهم «أونياس» وأتباعه،
وكان اليهود الجدد صالحين بوجه خاص لتأليف جماعة من الأشخاص المخلصين للملك لأنهم
كانوا غرباء، وبذلك لم يكونوا تابعين لأي حزب في داخل المملكة البطلمية، والواقع
أن
هؤلاء كانوا يبحثون عن مكان يُؤيهم ويكون حماية لهم، ومن أجل ذلك كانوا متكلين على
قوة الملك كلية، ومن المرجح أن «أونياس» كان قائدًا صاحب قدرة عظيمة؛ مما جعل لرأيه
بعض الأثر على قرارات الملك، ومن ثم عقد بين «فيلومتور» واليهود ما يشبه المحالفة،
وكانت الوحدة الحربية التي سمح بها «لأونياس» تحتوي على أشخاص كانوا قد صاحبوه من
يهوذا إلى مصر، ومن المحتمل أنه قد زِيد في عددها من يهود مصر، وقد استولى «أونياس»
على بعض الأراضي في مقاطعة «هليوبوليس» ليعسكر فيها جيشه الجديد من اليهود، وقد
سُميت هذه القطعة التي استولى عليها «أرض أونياس»، وقد بقيت مدة أجيال في حوزة
اليهود، وكان «أونياس» من جهته مستعدًّا ليقود جنوده إلى حومة الوغى لحماية الملك
من أعدائه، والظاهر أن الحاجة لم تَدْعُ لظهوره على رأس جيشه مدة حياة فيلومتور،
ولكن بعد موته ظهر «أونياس» على رأس جيشه في العاصمة، وذلك عندما اشتبكت «كليوبترا»
أرملة «فيلومتور» في حرب خطيرة مع أهالي الإسكندرية الذين كان يعاضدهم إخوة
«أيرجيتيس الثاني».
ومن المحتمل أن سكان «أرض أونياس» كانوا يعاضدون قضية الملكة كليوبترا، وتدل
شواهد الأحوال على أن هذه المساعدة لم تكن تدبيرًا سياسيًّا بل كانت من باب الولاء،
وقد انتهت هذه الحرب بنتائج لم تكن في صالح يهود الإسكندرية المكروهين من الأهالي
عامة، وهذا شأنهم في كل مكان حَلُّوا فيه، والواقع أنه ليس لدينا تفاصيل تدل على
ميول «فيلومتور» نحو اليهود، ولكن يمكن القول بأن عواطفه نحوهم كشف عنها في مناسبات
مختلفة؛ فقد ذكرنا فيما سبق أن بعض اليهود كانوا يلقبون أنفسهم مقدونيين؛ أي إنهم
كانوا قد أُدمجوا في الحامية المقدونية التابعة للإسكندرية، والآن يتساءل الإنسان
عن أي وقت مناسب بصورة حسنة لهذا الإجراء الحربي أكثر من عهد «فيلومتور»، عندما
نظم
جيشًا يهوديًّا بقيادة قواد يهود؟ وقد ذكر لنا جوزيفس اسم دوسيثيوس
Dositheos وهو قائد يهودي آخر من عهد فيلومتور،
٨٦ فهل كان من المحتمل أنه كان رئيس «اليهود المقدونيين» الذين كونوا ما
يشبه حرسًا للملك، مثل ألمان «هرود» و«كاليجولا»
Caligula ومثل هذا الفرض يمكن أن يفسر المبالغة العجيبة التي
ذكرها «جوزيفس» عندما قال: «كل البلاد قد وكل أمرها «فيلومتور» لليهود.» على أن
ظهور الملك أمام الشعب يتعين حرسه من اليهود يمكن أن يمثل بسهولة ما يشبه سيطرة
اليهود على مصر، ولا غرابة في ذلك فإن دسائسهم كانت لا تنفد، وقد كان صدى رد الفعل
لذلك لا محالة واقع، وذلك أن الملك الجديد المنتصر «أيرجيتيس» الثاني «فيسكون»
Physcon لم يكن في مقدوره أن يغفر تدخل اليهود
الحربي غير المنتظر في شئون دولته، ولذلك فإن أول اضطهاد في مصر الهيلانستيكية
الرومانية كان له علاقة باسمه، فقد حدثنا «جوزيفس»
(C. AP. 2.
53–55) أن «أيرجيتيس» عندما كان يتأهب لمهاجمة «أونياس» أمر أن
يُلقَى كل اليهود الإسكندريين ومعهم أزواجهم وأطفالهم أمام فِيَلة كانت قد أُسكرت
من قبل لهذا الغرض، ومع ذلك فإن الفِيَلة لم تهاجم اليهود ولكنها هاجمت أصحاب
«أيرجيتيس»، وعلى ذلك فإن الكثير منهم قد دِيسوا حتى الموت، ولكن لما كان
«أيرجيتيس» قد تأثر بهذا المنظر فإنه استسلم لتوسلات حظيته إتاكا
Ithaka أو إيرين
Eirene وأوقف الاضطهاد وقد حفظ يهود الإسكندرية ذكرى هذا اليوم
فكان يعتبر عيدًا سنويًّا، ولا جدال في أن قصة «جوزيفس» ليست إلا حديث خرافة
أُلِّفت على طريقة الإنتاجات الأدبية للعصر الهيلانستيكي، وقد نُسبت نفس القصة
مبالَغًا فيها إلى عهد بطليموس الرابع، وقد أعيدت في الكتاب الثالث للمكابيين،
وستسنح لنا الفرصة للتحدث عن هذه المقالة الغريبة التي يكنفها بعض الغموض، ومع ذلك
فإن هذا العيد الذي يحتفل به يهود الإسكندرية سنويًّا في يوم محدد، يظهر بجلاء أن
هناك حقيقة تاريخية ترتكز عليها هذه القصة الخرافية.
هذا ونجد أن اسمَيْ «أيرجيتيس الثاني»، و«أونياس» يوافقان بصورة ممتازة الموقف
التاريخي لهذه الحقيقة، والظاهر أن بعض الأحاديث التاريخية قد حُفظت في هذه القصة
حتى في صورتها المُبالَغ فيها في كتاب المكابيين الثالث، وهناك فقرات أخرى في نفس
الكتاب نفهم منها أن العراك الذي قام بين «أيرجيتيس» الثاني واليهود كان في الواقع
تصادمًا بين المقدونيين والجيش اليهودي، ومن المرجح أن ذلك قد وقع بسبب التدخل
الحربي الذي قام به «أونياس»، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما عدم تنفيذ هذا
الاضطهاد وإيقافه فجأة فيمكن أن يُستنبط من أن هذا العيد قد احتُفل به سنويًّا
لحدوث معجزة لم تكن في الحسبان، ويمكن أن نقترح ترتيب حوادث هذه القصة على الوجه
الآتي: وذلك أن «أيرجيتيس الثاني» بعد أن دخل العاصمة ظافرًا استعد لمعاقبة اليهود
على مساعدتهم «كليوبترا»، وتدل الظواهر على أن بعض اليهود قد قُبض عليهم كما يُحتمل
أنه قد نُفذ فيهم حكم الإعدام، ومن المحتمل كذلك أن جيش «أونياس» قد غادر العاصمة
قبل أن يدخلها الملك، وارتد إلى «أرض أونياس» واستعد لمواجهة انتقام الملك، وكان
يهود مصر وقتئذ في حزن فزعين من قيام الملك باضطهاد طويل الأمد، غير أنه حدث على
حين غفلة شيء لم يكن منتظرًا، وذلك أن الملك أمر بإطلاق سراح اليهود المقبوض عليهم
في الإسكندرية، هذا فضلًا عن أنه لم يوقع أي عقاب على جنود «أونياس» وحتى جماعة
المقدونيين من الجنود اليهود في الإسكندرية فإنهم لم يُشَتَّتوا، غير أنهم على ما
يُظَنُّ قد حُرموا من امتيازاتهم؛ إذا كانت لهم أية امتيازات، والسبب في هذا التحول
المفاجئ في سير الأمور ليس من الصعب معرفته، وآية ذلك أن «أيرجيتيس الثاني» بعد
أن
فتح الإسكندرية بزمن قصير عقد صلحًا مع «كليوبترا» وتزوج منها، وعلى ذلك فإنه إذا
كان الملك قد أمكنه أن يصلح ما بينه وبين الملكة بالزواج منها وكانت عدوه الأولى،
فلماذا يقوم باضطهاد أعوانها الذين لم يصبحوا بعدُ خطرًا عليه؟ ومن المحتمل أن
الملك في يوم حفل الزواج منح عفوًا عامًّا لكل حلفاء كليوبترا السابقين. والواقع
أن
مثل هذا العفو وما تبعه من تغير لم يكن منتظرًا في مصير اليهود، وكان من الممكن
أن
يُوجِد تأثيرًا في نفوس اليهود كأنه معجزة، فقد تدخل إلههم نفسه وحمى شعبه من كارثة
لم يكن من المستطاع تفاديها.
ومما سبق نفهم أن العهد الجديد (١٤٥–١١٦ق.م) على الرغم من العراك الخطير مع الجيش
اليهودي في بدايته لم يكن من الضروري معاديًا لليهود، بل على العكس نجد أن هناك
بعض
حقائق يمكن أن تفسَّر بأنها فأْلٌ حسن وذلك للمشاعر الحسنة بينهم وبين الملك.
٨٧
والواقع أن الحالة العامة في عهد «أيرجيتيس الثاني» قد عادت ثانية في جانب
اليهود، وذلك لأن البلاد كانت ترزح كثيرًا تحت عبء ثورات عدة قام بها المصريون وكان
الدافع إليها الشعور القومي في حين أن السكان الإغريق في الإسكندرية لم يكونوا
بحالةٍ ما موالين للملك، وكانت الخطوط الرئيسية التي تسير عليها سياسة «أيرجيتس
الثاني» هي القضاء بقسوة على أية مظاهرة ذات صبغة ثورية في الإسكندرية، والسعي ببعض
الطرق لمهادنة المصريين ومصالحتهم،
٨٨ وكان اليهود ثانية بوصفهم العنصر الثالث المحايد من سكان البلاد يمكن
أن يرحب بهم الملك كحلفاء وبخاصة في عراكه مع إغريق مدينة الإسكندرية، والواقع أن
اليهود والإغريق في مصر لم يكونوا قط أصدقاء الملك، ومن ثم نجد أن الكره الفظيع
الذي كان باديًا بين الأمتين في العهد الروماني لا بد أن بدايته التاريخية كانت
في
عهد البطالمة، ومن المحتمل إذن أن السياسة القوية القاسية التي سلكها «أيرجيتيس»
نحو إغريق الإسكندرية كان لها أثر حسن على يهود الإسكندرية، ومن الجائز كذلك أن
هذا
الملك قد منح اليهود حقوقًا مدنية كثيرة في الإسكندرية لأجل أن يضعف العنصر
الإغريقي في هذه المدينة.
ومن ذلك نرى أن مستوى اليهود المصريين العالي لم يكن قد انخفض بأية حال في عهد
«أيرجيتيس الثاني»، وبعد موت هذا العاهل بقليل نسمع ثانية بالدور الهام الذي لعبه
اليهود في تطور الحوادث السياسية في مصر، وآية ذلك أن أرملة «أيرجيتيس الثاني» وهي
كليوبترا الثالثة (١١٦–١٠١ق.م) قد اشتبكت في معركة طويلة الأمد مع ابنها «بطليموس
التاسع» «لاثيروس»
Lathyros فعلى حسب البيان الهام
جدًّا الذي ذكره لنا «إسترابون» واقتبسه عنه «جوزيفس» نفهم أن الجزء الأعظم من جنود
الملكة الذين أُرسلوا لمحاربة «لاثيروس» خانوها وانضموا إلى ابنها، وعلى أية حال
فإن طائفة اليهود الذين كانوا من «أرض أونياس» قد بَقُوا موالين للملكة، وسبب ذلك
أن قائديهما «هلكياس»
Helkias، و«أنانياس»
Ananias كان لهم حظوة كبيرة لدى الملكة، ويقول
«جوزيفس»
(Ant. 13. 285) إن هذين القائدين كانا
ابنَيْ «أونياس» وكانت الملكة من وقت لآخر تركن إليهما في القيام بعمليات حربية
هامة، ومن المرجح أن اشتراك القائدين «هكلياس» و«أنانياس» في الحرب مع «بطليموس
التاسع» كان هامًّا، وإن كان المؤرخ «جوزيفس» قد بالغ ثانية عندما قال إن «كليوبترا
الثالثة» قد وضعت هذه القائدين على رأس الجيش،
٨٩ هذا ونعلم أن أحدهما وهو «هلكياس» قد لقي حتفه عندما كان يطارد العدو
في «سوريا الجوفاء»، أما الثاني وهو «أنانياس» فقد سنحت له الفرصة أن يفرض نفوذه
على مجرى الحرب في فلسطين، هذا ولما أحسَّ بعض أصدقاء الملكة بشيء من عدم الرضا
لازدياد قوة طائفة الهسمونيين اليهودية نصحوا الملكة أن تستولي على ممتلكات الملك
«إسكندر يناي»
Jannai في فلسطين وتسير الأمور
فيها بنفسها، وقد عارض «أنانياس» هذا الاقتراح محذرًا الملكة بقوله إنه إذا حدث
عدوان دون مبرر له على «إسكندر» فإن كل يهود مصر سيصبحون أعداءها،
٩٠ وقد كان لهذا التهديد أثره، وعلى ذلك فإنه بتدخل هذا القائد اليهودي
الجسور، نجد أن نصيحة رجال البلاط التي كان الغرض منها القضاء على دولة اليهود في
فلسطين قد رُفضت.
على أنه ليس من المعقول أن عظماء رجال الإغريق كانوا يقفون موقف الضعف والخنوع
يرقبون اليهود وهم يمدون نفوذهم وسلطانهم حتى في ميدان السياسة الدولية، بل الواقع
كانت هناك معارضة شديدة لليهود في البلاط والجيش وبين موظفي الحكومة، وأخيرًا وليس
آخرًا كانت هناك معارضة المواطنين الإغريق الإسكندريين، وليس من باب الصدفة أن نجد
في الترجمة الإغريقية لكتاب «أستر» أن هامان الوزير الذي يكره اليهود قد لقب
بالمقدوني وأن التصادم الذي وقع بينه وبين «موردكاي» Mordecai قد وُصف بأنه عراك بين وزيرين أحدهما يهودي والآخر
مقدوني، وذلك في موضوع ولائهما للدولة، ولم تكن كراهة الساميين ظاهرة جديدة في مصر،
وذلك أنه منذ عهد «بطليموس الثاني» كان نشْر تاريخ مصر الذي كتبه كاهن مصر يُدعَى
«مانيتون» يعتبر أول تاريخ يحتوي للمرة الأولى على رواية مضادة لسفر الخروج، وقد
ذكرت هذه الرواية لتكون جوابًا وتكذيبًا للقصة التي وردت في التوراة عن هذه
الرواية، وفي القرن الثاني ق.م احتفل بدخول هذا الإنتاج الأدبي في الأدب الإغريقي،
وقد ذكر كُتاب منوعون (مثل ليزيماكوس) مرات عدة قصة «مانيتون» وأضافوا إليها تفاصيل
جديدة، يضاف إلى ذلك أن كُتابًا آخرين مثل مناساس Mnaseas، اخترعوا قصصا أخرى كان القصد منها تحقير اليهود
وفضيحتهم.
وليس هنا مكان بحث في أصل كره الساميين وانتشارهم في العالم القديم، ويكفي أن
نذكر هنا أنه يوجد لها عدة مراكز من بينها مصر، وقد كانت هناك أسباب محلية مختلفة
لظهورها هما حبهم للمال ودسائسهم التي كانت لا تنقطع،
٩١ وفي خلال العصر الهيلانستيكي كله كان كره الساميين لا يتعدى ما وراء
الحدود الأدبية المحضة، وفي مصر على أية حال نجد بعض تلميحات تظهر أنها بدأت تطورًا
جديدًا من صورتها الأدبية إلى استفزاز قوي عملي ذي صبغة سياسية واجتماعية، وعلى
ذلك
لدينا بعض معلومات عن اضطهاد لليهود حوالي عام ٨٨ق.م، وقد قام بهذا الاضطهاد
الإسكندريون يعاضدهم أحد أولاد كليوباترا الثالثة وهو بطليموس التاسع «لاثيروس»
(حمص) أو بطليموس العاشر الإسكندر، هذا ونجد في بعض الأوراق البردية المؤرخة بحوالي
عام ٥٨ق.م أنه قد جاء ذكر اضطرابات محلية، ويعتقد بعض العلماء أن هذه الحوادث تشبه
في صبغتها الاضطرابات التي قامت مناهِضة لليهود، ومن الأوراق الهامة جدًّا الورقة
رقم ١٤١،
٩٢ ولكن مما يؤسف له أنها ممزقة تمزيقًا سيئًا، وقد جاء فيها أن بعض أشخاص
غير معروفين لنا ولكنهم مُيزوا بأنهم «يمقتون اليهود»، وهذه العبارة يمكن أن
تُستخدم بوصفها مقدمة للعهد الروماني فعندما ظهر كره اليهود بمثابة منهاج منظم
تمامًا لطرد اليهود من كل المراكز التي وصلوا إليها في عهد البطالمة سواء أكانت
سياسية أو اجتماعية.
تطور الثقافة اليهودية المصرية
لا نزاع في أن تطور الثقافة اليهودية المصرية يعد موضوعًا واسعًا يصعب بحثه في
هذا المختصر، ومن ثم سنكتفي هنا بتتبع الخصائص الأساسية للنتيجة الرئيسية، وتنحصر
في صبغتهم بالصبغة الهيلانستيكية وفي تقاليدهم، وأول ما يُلحَظ هو أنه في القرن
الثالث ق.م قد أصبحت حدود بلاد اليهود ضيقة جدًّا لتكاثر سكانها باستمرار مما أدى
إلى انتشار اليهود بأعداد كبيرة في كل أنحاء فلسطين وشرق الأردن، وهذه البلاد بما
فيها من مدن هيلانستيكية قد حتمت على اليهود أن يتعلموا اللغة الإغريقية، وكذلك
كان
لزامًا عليهم أن يعرفوا عوائد هؤلاء القوم، ومن جهة أخرى امتدت الهيلانستيكية إلى
جبال يهودا، كما أن سكان «أورشليم» اليهود أنفسهم وبخاصة الدوائر العليا الاجتماعية
فيها أصبح رجالها على أية حال هيلانيِّي الصبغة جزئيًّا، ومن ثم نجد أن الآراء
والمعتقدات والعادات اليهودية قد تغيرت، ومن الأمور البارزة الغريبة عن الحياة
اليهودية في فلسطين في خلال القرن الثالث أن البطل العظيم الذي يمثل هذا العصر كان
رجلًا وضع ترجمته كاتب أُعجب به، وقد حُفظت لنا هذه الترجمة فيما كتبه «جوزيفس»،
(Ant. 12, 160–195, 244.) ومن المدهش أن هذا
البطل لم يكن كاهنًا أعظم ولا نبيًّا ولا حكيمًا بل كان من رجال الأعمال وصاحب
مواهب عظيمة يمتاز بمهارته وفكره الثاقب، وقد كان في بعض الأحيان يقسو على غيره
بشدة بالغة، وهذا الرجل هو «يوسف» بن «توبياس»، وقد عرفنا من إضمامات بردي أنه شيخ
ثري يعيش في شرقي الأردن، ويشغل وظيفة رئيس أصحاب إقطاع من الجنود المرتزقين في
العهد البطلمي، والشيء الغريب الذي يلفت النظر في أمر هذا الشيخ اليهودي أنه استعمل
في إحدى خطاباته للوزير المصري «أبوللونيوس» الصيغة الإغريقية الدالة على الوثنية:
تحيات كثيرة للآلهة،
٩٣ ولا غرابة إذن إذا رأينا ان ابنه «يوسف» قد فتح أبوابه للهيلانستيكية
والعالم الهيلانستيكي، وكثيرًا ما كان يزور عاصمة ملك مصر ويشترك في ولائمها في
البلاط ويأكل أطعمة حرَّمتها التوراة، كما كان يغازل راقصات إغريقيَّات،
٩٤ ويقول «جوزيفس» إنه انتشل الشعب اليهودي من وهدة الفقر وحالة الضعف
التي كانت فيها وهيأ له فرصًا ممتازة للحياة الطيبة،
(Ant. 12.
224.) يضاف إلى ذلك أنه أدخل الفنون والعادات الإغريقية في
حياة الطبقات الرفيعة من المجتمع الإغريقي، وقد سار ابنه على ما رسمه له والده
بنشاط فاق نشاط والده، حتى إنه في عام ١٧٥ق.م أي نحو خمس وعشرين سنة بعد فتح فلسطين
على يد «سليوكيس» أدخل إصلاحًا هيلانستيكيًّا في «أورشليم»، فقد أسس جمنازيوم
ومكانًا لتدريب الجنود (أفيبون) عند حرم المعبد اليهودي نفسه، ومن ثم اشترك كهنة
صغار السن في الألعاب الرياضية كما نُظمت «أورشليم» على حسب الطراز الهيلانستيكي،
وسُميت من جديد «أنطاكيا» على شرف ملك السليوكيين «أنتيوكوس الرابع أبيفان»، وكان
الكاهن الأكبر «جاسون» هو الذي بادر بالإصلاح والإشراف على تنفيذه.
٩٥
وقد كان تأثير ذلك سائدًا لدرجة أنه لم يقتصر على السكان الأرستقراطيين والكهنة
ورجال الأعمال وحسب، بل تعدى إلى بعض عناصر أهل الريف، وأحسن مصدر لدينا يثبت أنه
عندما بدأ «أنتيوكوس» اضطهاد الدين اليهودي، كانت هناك قرى على استعداد لعبادة آلهة
الوثنيين،
٩٦ وقد يُخيَّل لغير المطلع على حقائق الأمور أن كل ما بناه اليهود من
عادات ودين كان على شفا جُرُف هارٍ، غير أن متانة القومية اليهودية وبخاصة في
الأرياف كانت تعمل فعلًا بكل قوة وعناد لمقاومة التأثير الهيلانستيكي، وقد كان أول
المهاجرين من الفلسطينيين إلى مصر ليسوا تابعين في غالبيتهم للطبقة التي أصبحت
هيلانستيكية الصيغة، بل كانوا فلاحين بسطاء من بلاد يهودا أحضروا معهم عاداتهم
ومعتقداتهم، كما بنوا مجتمعات يهودية مؤسسة على قانون التوراة، وكذلك أقاموا معابد
عندما استقر بهم المُقام في وطنهم الجديد، ولا ريب أن هؤلاء الناس لم يكونوا
يتمتعون بأرفع مستوى ثقافي، بل كانوا أسرى حرب وجنودًا مرتزقين، وكادحين في الأرض
ورعاة، وكان الشيء الذي ينقصهم هو القيادة المنظمة، وذلك لأن من كان مستواه منحطًّا
منهم لم يكن لديه القوة في معظم الأحيان لمقاومة التأثير الذي كان يحيط به، وبخاصة
في الحالات التي تُحتِّم عليهم فيها الأحوال الخارجية أن يعيشوا في اتصال متين مع
غير اليهود،
٩٧ ومما يؤسف له أن مثل هذه القيادة كانت معدومة، هذا ونجد بطبيعة الحال
أنه منذ زمن أزرا وما بعده أن ما يسمونهم كُتاب «سوفريم» أخذوا في أيديهم زعامة
الثقافة اليهودية في فلسطين.
وعلقوا على تعاليم التوراة ثم فرضوا شيئًا فشيئًا على كل الشعب جميع نتائج
دراساتهم العميقة فيما يخص القانون والدين، والواقع أن هؤلاء الكُتاب كانوا طلائع
طائفة الفريسيين (أي المحافظين على الشعائر الظاهرة). وهؤلاء هم الآباء الروحانيون
للتلمود اليهود، ومع ذلك نجد أن أتباع الثقافة الهيلانستيكية قضوا على المكانة التي
كان يحتلها سابقًا هؤلاء الكُتاب وحرموا تعاليم الكتاب المقدس من مكانتها الهامة
دون أن يكون في مقدورهم أن يحلوا محلها تعاليم أخرى تحمل معنًى خلقيًّا، وهذا يفسر
لنا عملية صبغ اليهود المصريين بالصبغة الهيلانستيكية بسرعة، وهذه الظاهرة بدت
علنًا كما سيُشاهد بعدُ في انتخاب أسماء الأعلام اليهودية عندما استعمل اليهود
اللغة الإغريقية بدلًا من اللغة الآرامية، كما يُلحَظ ذلك في اتخاذ مبادئ القانون
الهيلانستيكي وفي أخرى كثيرة، ومن جهة أخرى كان يوجد في الأزمان المتأخرة ميل قوي
متزايد بين المهاجرين في مصر للتخلي عن تقمص الهيلانستيكية والرجوع إلى التقاليد
اليهودية، وسنضع هنا ملخصًا مختصرًا للبيانات الغزيرة التي استُقِيت من الأوراق
البردية والمصادر الأخرى لإيضاح هذه الاعتبارات العامة، والواقع أن عملية صبغ
اليهود المصريين بالصبغة الهيلانستيكية عنها بدرس أسماء الأعلام واللغة
والقانون.
ويمكن أن يفكر الإنسان في أن اختيار الاسم لطفل وُلد حديثًا يتوقف كلية على
الرغبة التي يبديها والداه، ولكن في الواقع لم يكن هناك بأية حالة اختيار حر؛ إذ
إن
ذلك كان يتوقف على تقاليد الأسرة والمشاعر القومية والاستعمال الشائع والتقاليد،
والواقع أن اختيار أسماء الأعلام عند اليهود خلال تاريخهم الطويل كان دائمًا
متأثرًا بميلين متضادين وهما الإخلاص للتقليد القومي ثم الرغبة في موافقة عادات
البيئة، والنظرة العقلية لأي عهد خاص من التاريخ اليهودي يمكن الإنسان أن يقدرها
بموازنة دقيقة لقوى التقليد وقوى التوافق مع الاستعمال الشائع، فمن ناحية العهد
الهيلانستيكي في مصر فإننا لو نظرنا نظرة سطحية لقوائم الأسماء التي استعملها
اليهود في الأوراق البردية لوجدنا أنها تدل على ميل قوي بين اليهود نحو
الهيلانستيكية، هذا وتوجد بعض الأسماء العبرية التي كانت كثيرة الاستعمال مثل
«سباتايوس» و«سيمون» ويوسف وصمويل، هذا ولدينا أسماء أخرى مثل «أنانياس» و«يوداس»
و«جوناتان»، آبيل، وحجاي وحزقيا وإسماعيل، ومن أسماء الإناث «سارا» و«يوحنا»
و«ماريون»، وهذه على الرغم من أنها ليست شائعة الاستعمال فإنها توجد في الأوراق
البردية، وفي الاستراكا وفي النقوش، وكذلك توجد بعض أسماء سامية مثل «أبدايوس» Abdaios و«آبيتيس» Abietes كانت كذلك شائعة الاستعمال، وكل هذه الأسماء كانت قد
أحضرها اليهود من فلسطين، واستعمالها في مصر يمكن تفسيره بقوة التقليد والعادة
الطويلة الأمد، أما الدور الذي كانت تلعبه الأسماء الإغريقية فكان مختلفًا تمامًا،
فقد كانت أسماء جديدة وكان استعمالها يسير على حسب تصميم مرسوم.
ويمكن توضيح تفوق الأسماء الإغريقية الهائل على الأسماء العبرية وبخاصة أسماء
الجنود اليهود والمستعمرين الحربيين في الفيوم خلال القرنين الثالث والثاني ق.م،
وهاك بعض الأمثلة: نجد في الوثيقة رقم ٢١
٩٨ أن كل الأسماء الخمسة التي تحتويها هذه البردية محفوظة وكلها إغريقية،
وفي الوثيقة رقم ٢٢
٩٩ نجد تسعة أشخاص من عشرة، وفي الوثيقة ٢٣ نجد أربعة أشخاص كلها أسماء
إغريقية إلخ،
١٠٠ هذا وبالاختصار نجد في الأسماء التي جاءت في الوثائق الخاصة بالجنود
اليهود والمستعمرين الحربيين في خلال القرنين الثالث والثاني ق.م ما لا يقل عن خمسة
وعشرين بالمائة أسماء عبرية،
١٠١ وهذه الأرقام تقدم مادة ثمينة عن مسألة اندماج الجنود اليهود في الجنود
الإغريق، هذا وتدل البحوث على أن الحياة المشتركة في المعسكرات والمستعمرات
الحربية، وكذلك الخدمة في الوحدات المختلطة قد نتج عنها اعتناق سريع للأسماء
والعادات الإغريقية هذا ويُلحَظ أن الأسماء العبرية والسامية كانت أكثر استعمالًا
بين يهود الوجه القبلي في خلال القرن الثاني،
١٠٢ وعلى أية حال لا بد أن نذكر أن الأسماء العبرية تدل دائمًا على أصل
يهودي للذين يحملونها، في حين أن اليهود الذين يُسمون بأسماء إغريقية لا يمكن
التعرف عليهم إلا إذا كانت أسماؤهم مميزة بأنها يهودية،
١٠٣ ومن ثم يمكننا أن نبسط أن نسبة اليهود في الوجه القبلي الذين يحملون
أسماء إغريقية إلى كل اليهود الآخرين كانت أعظم بكثير كما لدينا من براهين عليها،
والمجموعة الثالثة من اليهود الذين سُموا بأسماء إغريقية هم أولئك الذين استعمروا
«أرض أونياس»، ولو أننا نجد هنا بالمقارنة بأسماء رفاقهم في حمل السلاح في الفيوم
أن الأسماء العبرية كانت أكثر شيوعًا، وهذا ليس بالأمر المدهش؛ لأن الآخرين قد
خدموا في الوحدات المختلطة في حين أن الأُوَل كانوا مستقرين منذ البداية في جيش
يهودي منفصل.
ويتساءل المرء هل كان هناك نظام ثابت لاتخاذ أسماء إغريقية أو هل كان الاختيار قد
جاء بوحي عن ميول منوعة لأشخاص من عامة الناس؟ الواقع أن الاعتبار الشخصي كان
بطبيعة الحال من الممكن أن يكون له بعض التأثير، ومع ذلك يمكن القول إنه في الأصل
أي منذ بداية هجرة اليهود إلى مصر كانت هناك طريقة في اختيار الأسماء، ومن المعلوم
أن اليهود اجتهدوا في أن يجعلوا أسماءهم الإغريقية الجديدة تكون مطابقة لأسمائهم
السامية القديمة، وذلك إما بالترجمة (أي على حسب معنى الاسم) أو بالمماثلة (على
حسب
الصوت)، ومن المحتمل أن بعض المهاجرين الأُول كانوا يستعملون أسماء مزدوجة أي كان
الواحد منهم يستعمل اسمًا عبرانيًّا وآخر إغريقيًّا، وكان المقصود من الاسم
الإغريقي أن يعادل الاسم العبري، غير أنه ليس لدينا أمثلة يمكن أن نستخلص منها
العلاقة الداخلية بين الاسمين، لا من العهد الهيلانستيكي ولا من العهد الروماني،
وقد بقيت آثار مثل هذه المطابقة في الأسماء فقط في اختيار مجموعة منفصلة من الأسماء
الإغريقية تقابل بصورة مدهشة الأسماء العبرية التقليدية، وهذه الأسماء هي التي
رُكبت من اسم إله وكانت مفضلة كثيرًا عند المصريين واليهود، وبعض هذه الأسماء كانت
كثيرة الاستعمال عند اليهود حتى إنها أصبحت في بعض الأحوال أسماء يهودية؛ مثال ذلك
اسم «دوسيثوس» Dositheos وأقل منه استعمالًا اسم
«تيوفيلوس» Theophilos (حبيب الله)، وليس
لدينا شك كبير في أن كل الأسماء قد استُعملت في الأصل معادلة للأسماء العبرية،
«ماتاثياهوي» Mathathyahu، «ناثانياهوي» Nathanyahu، «يهوناثان» Yehonathan إلخ، وكانت تُختار لأجل أن تبرهن على الورع الخاص
الذي كان يظهره اليهودي نحو الإله، ومع ذلك فإنه يكون من الخطأ أن نصدق أن كل فرد
يُدعَى «دوسيثوس» و«ثيودوتوس» كان يسمى في العبرية «ماتاثاهوي»، و«يهوناثان»،
والواقع أن الأسماء المركَّبة مع أسماء إلهية بمجرد استعمالها كانت تندرج في صفوف
الأسماء الإغريقية المعتادة ولا تصبح بعدُ أجنبية، وعلى ذلك لم يكن هناك حاجة
لأسماء مزدوجة لتبرز هذا الاختيار، ومن ثم نشأ تقليد خاص يسمح بأن تستعمل اليهود
الأسماء الإغريقية بِحُرية، في حين أن ذلك لم يخلق بأية حال تأثيرًا يدل على أن
هناك بعض عنصر أجنبي كان على وشك أن يغزو الحياة الأسرية اليهودية.
وبعد أن فازت الأسماء المركبة تركيبًا مزجيًّا مع أسماء الإله وهي ترجمة تنكُّرية
عن العبرية نجد أن المبدأ القومي قد طُرح جانبًا واستُعملت أسماء إغريقية علنًا،
ومن أجل ذلك لا يوجد مقابل عبري لمثل الأسماء: الإسكندر، بطليموس، أرسنوي،
تريفون
Tryphon، تريفاينا
Tryphaina وأنتيباتروس
Antipatros، وهذه الأسماء كانت تُستعمل في كل أنحاء البلاد
المصرية، وذلك لأنها تشير إلى أسماء الأسرة المالكة من جهة، ومن جهة أخرى كانت
شائعة الاستعمال في بلاد الإغريق ومقدونيا في العهد الكلاسيكي، وفضلًا عن ذلك نجد
أن هذه الأسماء في الأوراق البردية كان يحملها يهود، ولدينا براهين على وجودها في
النقوش أيضًا.
١٠٤
ومن الغريب أن اليهود لم يتورعوا عن تسمية أولادهم بأسماء آلهة إغريق ومصريين،
وعلى ذلك نجد بين اليهود المصريين من العهد الهيلانستيكي والعهد الروماني المبكر
أشخاصًا اشتُقَّت أسماؤهم من «أثينا» و«آمون» و«ساراتيس»، ومن المستحيل أن نقرر
هنا
إذا كان يهودي كان يحمل واحدًا من هذه الأسماء يعرف علاقة الاسم بالوثنية، وأغلب
الظن أنه كان يجهل ذلك، ومع ذلك فإنه لديل قوي على سرعة هضم يهود مصر الطباع
والعادات الإغريقية التي تحيط بهم، وذلك لأنهم كانوا مكروهين في كل مكان، أما عن
اختيار الأسماء العبرية في العهد البطلمي فلدينا ثلاثة من بينها كانت مفضلة عند
اليهود وهي «سباتاي»، و«سيمون» و«يوسف»، وأول هذه الأسماء كان في العادة يطلق على
الطفل الذي كان يولد يوم السبت، وقد كان انتشار استعمال هذا الاسم على نطاق واحد
في
كل البلاد التي شُتتوا فيها دليلًا على الأهمية الخاصة التي كان اليهود يظهرونها
لتمسكهم بيوم السبت، أما اسم «سيمون» فإنه ليس مجرد كتابة بالحروف الإغريقية لاسم
شمون العبري، بل كان هناك اسم إغريقي: «سيمون» أيضًا، وعلى ذلك فإن اليهودي الذي
يُسمى «سيمون» يمكن أن يُعد خطأ على أنه إغريقي، ومن خصائص إغريق العهد
الهيلانستيكي في مصر وكذلك في ممالك أخرى بما في ذلك فلسطين أن اسم «سيمون» بالذات
على الرغم مما ينطوي عليه من إبهام فإنه كان من أكثر الأسماء شيوعًا، أما عن الاسم
الثالث وهو «يوسف» فقد كان اليهود المصريون يستعملونه كثيرًا إكرامًا واحتفاء بذكرى
«يوسف» الذي جاء ذكره في التوراة وكان موضع إكبار عظيم لدى اليهود أن يكون أحد
أجدادهم قد زار فرعون مصر، وعمل في بلاطه.
اللغة اليونانية واليهود
ومن الموضوعات الهامة عن صبغ اليهود بالصبغة الهيلانستيكية مسألة استعمال اللغة
اليونانية بدلًا من اللغة العبرية، والواقع أننا لا نعرف إذا كانت اللغة العبرية
مستعملة في الحياة اليومية عند يهود مصر في العهد الفارسي أم لا؟ وعلى أية حال
تبرهن بعض كلمات عبرية في المتن الآرامي الذي عُثر عليه في الفنتين على أن هذه
اللغة كانت لا تزال مستعملة بعض الشيء وبَدَهِي أن لغة العبادة كانت اللغة العبرية،
ومع ذلك فإن اللغة الآرامية كانت اللغة الرئيسية بين المستعمرين الحربيين من اليهود
في الفنتين، وكانت كل وثائقهم تُكتب بهذه اللغة، هذا وكانت اللغة الآرامية هي اللغة
الرسمية لكل الجزء الغربي من الإمبراطورية الفارسية، وكذلك كانت اللغة العامية في
سوريا بما في ذلك فلسطين، هذا وكان المهاجرون من اليهود إلى مصر في العصر
الهيلانستيكي يستعملون اللغة الآرامية في حياتهم اليومية، وذلك على الرغم من أن
كثيرًا منهم كانوا بطبيعة الحال يعرفون العبرية أيضًا، وفي خلال القرن الثالث كله
وكذلك النصف الأول من القرن الثاني ق.م على ما يُظَنُّ استمر يهود مصر يتكلمون
الآرامية كما يبرهن على ذلك ما جاء في الأوراق البردية وقِطَع الاستراكا المكتوبة
بهذه اللغة،
١٠٥ وقد انقطعت عنا بعد ذلك لمدة قرن الوثائق الآرامية، فهل يا ترى هذا
يعني مجرد صدفة؟ قد يكون الأمر كذلك لأنه لا يمكننا أن نفرض اختفاء اللغة الآرامية
من مصر اختفاء تامًّا، وذلك لأنه كان يوجد هناك تيار مستمر من المهاجرين السوريين
(بما في ذلك اليهود) في خلال كل من العهدين الهيلانستيكي والروماني، ومع ذلك فإنه
من المرجَّح أن اللغة الآرامية على الرغم من أنها كانت لا تزال يُتحدَّث بها في
مصر
فإنها قد انقرضت بوصفها لغة أدب، وعلى ذلك لم يُكتب بها وثائق، وقد حل محل اللغة
الآرامية بوصفها لغة تجارة اللغة الإغريقية بصورة تامة.
١٠٦
هذا وقد أصبحت اللغة الإغريقية بسرعة لغة التعامل اليومية كذلك، وبخاصة بين
الطبقات الراقية من المجتمع اليهودي، هذا ولما كانت اللغة الآرامية ليست لغة اليهود
الوطنية كما أنها لم تكن لغة الكتب المقدسة، فإن إحلال اللغة الإغريقية مكانها لم
يؤثر في الأسس القومية للحياة اليهودية، وإن كان على الرغم من ذلك قد أثر في منظرها
الخارجي وقلل من الفروق بين طرق الحياة عند اليهود وطرق الحياة عند الإغريق، وقد
كانت الضربة التي أصابت اللغة العبرية أعنف وأشد عندما تُرجمت التوارة إلى
الإغريقية؛ إذ نجد أن الحياة القومية قد تأثرت من أساسها، والواقع أن قراءة التوراة
في البِيَع اليهودية (المعابد)، والتعليق عليها كان من المميزات الرئيسية في حياة
يهود مصر من حيث الدين والثقافة؛ فقد كانت كل الحياة العامة والخاصة لليهود من دين
وقانون وعادات متصلةً بالتوارة، ومما يجدر ملاحظته أنه منذ اللحظة التي تمت فيها
ترجمة التوراة أصبحت دراسة اللغة العبرية مهملة، ولما كانت هذه اللغة غير شائعة
كاللغة الآرامية التي كانت تُستعمل بوصفها لغة عامة يتحدث بها الناس يوميًّا، فإنها
اختفت كلية من الحياة اليهودية في مصر.
ويُلحَظ أن العلماء الأحداث يفحصون بالتطويل مسألة ما إذا كان «فيلو»
١٠٧ اليهودي الذي يعد أكبر مفكر في هذا العصر يعرف اللغة اليهودية أم لا؟
١٠٨
والواقع أن كل العلماء لهم الحق في وضع مثل هذا السؤال، وذلك لأنه في زمن «فيلو»
لم تكن اللغة العبرية معروفة في مصر على وجه التقريب، وعلى ذلك نجد أن اليهود قد
تركوا جانبًا وصية من أهم الوصايا الثقافية التي وصى بها بنو إسرائيل القدامى،
وأعني بذلك التمسك بلغتهم القومية، ويمكن تفسير السبب الذي دعا إلى هذه القطيعة
بسهولة ويسر، وذلك أن اللغة الإغريقية وقتئذ كان يُتحدث بها في كل مكان، وكانت تعد
لغة أعظم ثقافة في العالم، هذا إلى جانب قيمتها الدولية العظيمة في حين أن اللغة
اليهودية وهي لغة قديمة كان يتكلم بها قوم واحد فقط، وكانت آخذة في الاختفاء
باضطراد حتى كادت تصبح لغة أجنبية بين قومها، وإذا كان يهود الإسكندرية يرغبون
حقًّا في المحافظة على التوارة ككتاب مقدس فإن الطريقة الوحيدة للوصول إلى ذلك كانت
ترجمته إلى اللغة الإغريقية، ومن أجل ذلك هجروا استعمال اللغة العبرية محافظة على
تعاليم موسى.
ويمكن المرء أن يتساءل: إذا كان حقًّا مذهب موسى هو الذي حُفظ في الترجمة
الإغريقية للتوراة أم لا؟ والواقع أن كل ترجمة عن لغة أجنبية حتى ولو تمت بمنتهى
الدقة فإنها لا تخرج عن كونها ترجمة، وذلك لأن الكلمات المقابلة في اللغتين يختلف
مضمون الواحدة عن الأخرى؛ فالتوراة باللغة الإغريقية قد أصبح إغريقيًّا في فكرته،
وكذلك في لغته، ويرجع ذلك إلى أن كل التعابير الدينية والقانونية التي استعملها
المترجم لم تصبح بعد التعبيرات التقليدية لإسرائيل القديمة بل أصبحت تعابير إغريقية
حديثة تستدعي ارتباطات عدة بالأدب الإغريقي الكلاسيكي وبالتعامل القانوني
الهيلانستيكي، يضاف إلى ذلك أن المترجمين الذين كانوا يعملون كل ما في طاقتهم
للمحافة على معنى فقرات التوراة لم يوفقوا دائمًا لاختيار الألفاظ اليونانية التي
تقابل الألفاظ العبرية، وعلى ذلك فإن الترجمة الإغريقية كانت بعيدة عن الأصل
العبري، ومن ثم فإن توراة موسى قد غُيرت وحُرفت كلماتها عن مواضعها، وهذا أمر له
أهمية سياسية في كل التطور الثقافي ليهود مصر.
١٠٩
وقد اتخذت الترجمة السبعينية من الوجهة الأدبية أساسًا لرفعة الأدب الإسكندري
اليهودي وتطوره، وهذا الأدب أساسه الكلي يرتكز على التوراة الإغريقية في لغته،
وكذلك في مقاصده الأساسية من حيث الرواية، وقد أرخ يهود الإسكندرية ترجمة التوراة
بعهد «بطليموس الثاني» وهذا التاريخ يمكن اعتماده على أية حال بأنه بداية لترجمة
التوراة، وذلك لأن المؤرخ اليهودي «دمتريوس» الذي عاش في نهاية القرن الثالث ق.م
قد
فرض وجود متن سِفر التكوين في هذه الفترة،
١١٠ وقد استمرت ترجمته في القرن الثاني، على ذلك فإنه في نهاية الترجمة كان
كل أسفار موسى الخمسة والأنبياء و«الهاجيوجرافيا»
Hagiographia (والأخير يشمل المزامير والأمثال وأيوب ونشيد
الأناشيد وراعوت والمراثي و«إستر» و«دنيال» «عزرا» ونحميا والأيام، وبالاختصار فإن
هذا الاسم هو بالعبرية «كتوبيم» ويحتوي على كل الكتابات المقدسة العبرية وهي عبارة
عن كل الكتب التي لا توجد تحت القانون والأنبياء)، قد تمت ترجمتها فعلًا إلى
الإغريقية، وقد كان يهود الإسكندرية مزهُوِّين بإنجاز هذه الترجمة، والاعتقاد
السائد أن المبادرة إلى ترجمة الكتاب المقدس إلى الإغريقية قد نُسبت إلى العلماء
الإغريق الذين كانوا في بلاط «بطليموس الثاني»، ويقال إن الترجمة قام بها اثنان
وسبعون عالمًا يهوديًّا، وكانوا قد نُدبوا لذلك خصيصًا من فلسطين، وقد اعتُبر يوم
الانتهاء من هذه الترجمة عيدًا قوميًّا.
١١١
القانون اليهودي
ننتقل الآن إلى التحدث عن القانون اليهودي الهيلانستيكي، فمما لا نزاع فيه وجود
قانون مستقل للجماعات اليهودية، وقد رأينا فيما سبق أن مجرد وجود مجتمع يهودي
Politeuma لا بد كان مؤسَّسًا على حق الإنسان في أن
يعيش على حسب قوانين الأجداد، ويبرهن على هذه الحقيقة مصادر مختلفة، والواقع أن
من
المسائل التي قام حولها جدل كثير مسألة ما إذا كانت ترجمة «فيلو» لقوانين التوراة
في كتابه المسمى
Despecialibus Ligibus يعكس ضوء
صورة للمعاملات القانونية للمحاكم اليهودية في الإسكندرية أو أنه عبارة عن تفسير
وضعه لهذا القانون، وعلى أية حال فإن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث طويل، ولا نزاع
في
أن الموضوع في حد ذاته سليم، وذلك لأنه في ذلك الوقت كان في الإمكان وجود قضاء يقوم
بمثابة مرشد للقضاة اليهود في الإسكندرية، ولكن لما كانت الأوراق البردية تقدم لنا
نماذج كثيرة من هذه الوثائق القانونية خاصة بقضايا ليهود لهم بها صلة، فإنه من
الطبيعي أن يبقى علينا أن ننتظر بعض براهين تلقي ضوءًا جديدًا على هذا السؤال، ولكن
مما يؤسف له أن الأوراق البردية في هذا الصدد مُخيبة للأمل ولم يذكر لنا إلا مرة
واحدة إدارة محرر عقود يهودي في الإسكندرية،
١١٢ وفي وثيقة أخرى جاءت إشارة غامضة لعبارة قانون سياسي وذلك على وجه التخمين،
١١٣ ومن جهة أخرى نجد في أوراق البردي براهين قيِّمة ليهود كانوا يستعملون
بِحُرية القانون الهيلانستيكي المشترك، وقد استنبط من الفصل الثالث من مجموعة
الوثائق الخاصة باليهود
١١٤ الصورة الآتية:
- (١)
كُتبت الوثائق الخاصة باليهود بالطريقة العادية المتبعة في الوثائق
الهيلانستيكية؛ أي: بمثابة وثائق شهد فيها ستة أشخاص، أو صكوك تنازل
(Corpus, P. 148, No. 18) ومما يجب
التأكد منه أنه حتى الفقرة التي كانت تحتوي على ألقاب الملوك المؤلهين
لم تُحذف قط.
١١٥
- (٢)
وعندما كانت الوثيقة تُحرر في إدارة فإنها لا تكون إدارة مجتمع يهودي
(حتى لو كان المتعاقدان يهوديين)، بل كانت تحرَّر في إدارة سجل حكومي،
وكان موظف الحكومة
Agoranomos يوقِّع بخطه.
١١٦
- (٣)
وعندما كان يوجد لدى اليهود مخاصمات للبتِّ فيها فإنهم كانوا يرفعون
ادِّعاءاتهم أمام أصحاب الشأن من رجال الحكومة بالطريقة المعتادة، وذلك
بتقديم طلب موجَّه للملك، وكانت المحكمة التي تفصل بين اليهود محكمة إغريقية.
١١٧
- (٤)
وكانت القوانين واللوائح التي تؤلف الأساس القانوني لأعمال الحياة
اليهودية هي القوانين العامة للإغريق في مصر؛ أي القوانين واللوائح
التي أصدرها الملك أو القوانين المؤسَّسة على التشريع المنوع للمدن
الإغريقية (وهو ما يسمى بالقانون المدني)، ونجد في المتن رقم ١٩
١١٨ محكمة العشرة الإغريقية، وهي التي تبحث في شقاق وقع بين
يهودي ويهودية، وينص المتن بوجه خاص على لوائح الملك والقانون المدني
بوصفه الأساس القائم للحكم، وفي الوثيقة رقم ٢٣
١١٩ قد أشير إلى القانون الملك وعلى حسبه قد فصل في نزاع خاص
بين يهوديين.
ومن كل هذه المواد يظهر أن اليهود كانوا يستعملون القانون الهيلانستيكي استعمالًا
كبيرًا، هذا ولما كانت الأمثلة التي ذكرناها فيما سبق تشير إلى جنود يهود ومستعمرين
حربيين في «الفيوم» في خلال القرنين الثالث والثاني ق.م فإنه يمكن أن نفرض أنه لم
تكن توجد مجتمعات حسنة التنظيم في المعسكرات، وعلى ذلك فإن الجنود اليهود كانوا
أعظم عنصر مصبوغ بالصبغة الهيلانستيكية بين اليهود في مصر.
وعلى أية حال لدينا براهين أخرى يمكن تطبيقها بصورة أعم، فلدينا مجموعة من البردي
الإسكندري جُمعت في فصل خاص وتكشف لنا عن نفس الحالة كالتي في مجموعة الوثائق التي
في الفقرة الثالثة من مجموعة الوثائق الخاصة بالجنود اليهود،
١٢٠ والواقع أنه إذا كانت توجد أية محكمة مستقلة في أي مكان في مصر تصدر
أحكامًا على حسب مبادئ القانون اليهودي فلا بد أن يكون مقرها الإسكندرية، وقد رأينا
أن مثل هذه المحكمة كان موجودًا فعلًا، ومع ذلك فإن الأوراق البردية في هذا الصدد
مُخيبة للأمل، وقد كان اليهود يضعون قضاياهم وشئون أعمالهم أمام رئيس إدارة تحرير
الوثائق، وهو الذي كان يقوم في الوقت نفسه بأعمال محكمة العدل.
وهذه كانت إدارة إغريقية عادية لا يديرها يهود، وكانت الوثائق التي تصدر عنها
تحمل اسمًا خاصًّا، وهذه كانت على ما يظهر النموذج الأصلي للعقد الإسكندري، ومن
بين
العقود الخاصة بيهود وثيقة طلاق
(Corpus, 44)
واتفاقان مع مرضعتين، وبعض عقود سلفيات، وكل هذه العقود كُتبت بالإغريقية وحررها
موظفون إغريق بنفس الطريقة التي تُحرر بها وثائق الشعب الإغريقي، ومن ثم نفهم أن
حياة اليهود الإسكندريين الأسرية من حيث زواجهم وطلاقهم كانت تنظَّم بعقود على حسب
القانون الهيلانستيكي،
١٢١ وهذه المسألة في الواقع من الأهمية بمكان، والواقع أن الإطار القانوني
يعكس صورة أحوال الحياة التي من أجلها أُنشئ، فإذا كان العقد والإدارة والمحكمة
كلها إغريقية فإن القوانين واللوائح كانت كذلك إغريقية، وعلى ذلك فإننا نواجه
احتمال أن اليهود المصريين كانوا لا يعيشون على حسب تعاليم التوراة بل على حسب
القانون الهيلانستيكي العام، والآن يتساءل الإنسان: هل المصادر التي في متناولنا
تقدم لنا أي برهان على ذلك؟
ولا بد للجواب على ذلك من أن نؤكد حقيقتين تبرهنان على التأثير القوي للقانون
الهيلانستيكي على اليهود فإن الحقيقة الأولى هي التي تحدثنا عن مركز المرأة في
المجتمع، فمن المعلوم أنه لم تظهر امرأة إغريقية في أية محكمة دون أن يكون معها
حارس؛ أيْ رجل يمثلها ويقوم بدلًا منها بالدور المطلوب منها أمام السلطات القضائية،
وكان أمثال هؤلاء الحراس بوجه عام من ذوي القربى؛ أي الزوج أو الولد أو الابن، وهذه
العادة تعتبر نتيجة منطقية لانحطاط مركز المرأة الإغريقية في الأزمان الكلاسيكية.
١٢٢
أما المرأة اليهودية فكانت على العكس من أختها الإغريقية لم تكن قط تحت سيطرة
الرجل أو تابعة له، وعلى ذلك فإنها لم تحتَجْ قط لحارس يمثلها، ومع ذلك فإن الأوراق
البردية الهيلانستيكية والرومانية على السواء تقدم لنا أمثلة عدة عن نساء يهوديات
قد مثلن حراسًا،
١٢٣ وواضح من هذه الأمثلة أن العادة الإغريقية قد نقلها عنهم اليهود، هذا
ويعزز البراهين التي أخذت عن الأوراق البردية مصادر أخرى أدبية، من ذلك ما حدثنا
به
«فيلو» عن زواج المرأة عند اليهود فهو يؤكد أن العريس يطلب عروسه من والدها، وإذا
كان الوالد ليس على قيد الحياة كان عليه أن يطلبها من إخوتها أو القائم عليها أو
من
حراس آخرين،
١٢٤ وهذا البيان الي قدمه لنا «فيلو» لا يتفق مع قانون التلمود الذي لا
يعرف إلا قيِّمًا واحدًا على المرأة وهو والدها الذي يحفظ لنفسه هذا الحق على ابنته
إلى أن تبلغ الثانية عشرة يومًا واحدًا من عمرها، هذا وقد صور لنا «فيلو» في مكان
آخر من كتابه
١٢٥ أحوال الحياة العامة للمرأة المستقيمة السيرة، فيقول إنه كان عليها أن
تصرف الشطر الأعظم من يومها في البيت، ولا تختلط بالناس في الأسواق، وأن تختار أهدأ
ساعة في اليوم لتذهب فيها لأداء الصلاة في المعبد، هذا عندما كان «فيلو» يتحدث عن
حادث تفتيش عن سلاح أصدر به الحاكم «فلاكوس» أمرًا على أن يُنفذ في بيوتات يهود
إسكندريين، وصف لنا غضب النساء اليهود عندما اقتحم رجال الحاكم خدورهن،
١٢٦ ومن ثم يجوز لنا أن نفهم أن مركز المرأة اليهودية في الأسرة وفي
المجتمع الإسكندري كان يشبه مركز جاراتها الإغريقية إلى درجة كبيرة أكثر من مركز
أختها اليهودية في فلسطين، والحقيقة الثانية لها صلة بشئون المعاملات، فمن المعروف
لنا أن التوارة تحرم قرض نقود بالربا ليهودي،
١٢٧ وأنظمة التلمود كانت أشد صرامة في هذا الصدد؛ إذ لا تحرم الربا في
صورته العامة وحسب بل تحرِّم حتى أي زيادة في رأس المال يشبه الربا،
١٢٨ ومع ذلك فإن الأوراق البردية تبرهن على أن اليهود كانوا يقرضون نقودًا
ليهود مثلهم بفائدة منتظمة قدرها ٢٤٪.
١٢٩ ولدينا حالة واحدة عن قرض بدون فائدة
١٣٠ خاص بيهود فيما بينهم.
ولما كانت مثل هذه القروض قد أشير إلى إبرامها بين إغريق ومصريين كذلك، فإن بعض
العلماء قد وضع نظرية تدل على تأثير يهودي على القانون الهيلانستيكي،
١٣١ ولكن السلفيات التي كانت بدون فائدة وبخاصة القمح كانت أقدم من قانون
التوراة، ومن المرجح أن مثل هذه السلفيات كان يعقدها كثير من الأقوام المزارعين
في
الشرق القديم،
١٣٢ ومن ثم أصبح من المعقول أن نسلم أن مثل هذه القروض الخالية من الفائدة
كما جاء في الأوراق البردية ليست إلا بقايا بعض عادة من الشرق القديم، ومما تجدر
ملاحظته هنا أن القروض الخالية من الفائدة كانت أحيانًا أشد وطأة على المدين من
القروض العادية، وذلك لأن مثل هذه القروض كانت في العادة تُقرض لمدة قصيرة من
الزمن، وكان على المدين إذا تأخر في السداد في الوقت المحدد أن يدفع غرامة فادحة،
ومن ثم يمكن أن نستنبط أن اليهود المصريين كانوا يسيرون في أمور معاملاتهم على حسب
المعاملات القانونية المتَّبعة في حكومة البطالمة، وذلك باتفاق تام مع مبادئ قانون
التلمود المعروفة وهي التي وضعت في صيغتها النهائية في القرن الثالث بعد الميلاد
بمقتضى القول البابلي كما صاغه مارسمويل، وهو: أن قانون الحكومة الحاكمة هو القانون.
١٣٣
على أنه ليس القصد هنا إنكار تأثير قانون اليهود المستقل في المجتمعات اليهودية
في مصر؛ فقد كانت توجد محاكم يهودية في مصر وعلى أية حال في الإسكندرية، وكان كتاب
التوراة هو الأساس القانوني الرسمي للمجتمعات اليهودية، ولكن واجبنا هنا هو التعليق
على ما جاء في الأوراق البردية، ولا جدال في أن هذه الأوراق، بصرف النظر عن إدارة
تحرير العقود اليهودية التي جاء ذكرها في وثيقة،
١٣٤ وبصرف النظر عن احتمال وجود إشارة لبعض قانون سياسي جاء في الوثيقة رقم
١٢٨، فإنه لم يُشَرْ قط صراحة إلى وجود قانون يهودي، ولما كان القانون اليهودي يظهر
جنبًا لجنب مع قانون آخر غير اليهودي، فإنه لا يجب علينا أن نعتبر وجود هذه الظاهرة
في مصر بالأمر الغريب (وأبرز مثال لذلك هو وجود القانون الرباني والقانون المسمى
القانون الفلسطيني في بلاد فلسطين في عهد الوصاية البريطانية واستمراره في إسرائيل
الحالية)، بل ينبغي علينا أن نتقبله على أنه نتيجة منطقية لرأيين مضادين في
اليهودية المصرية، وكان تغيير ذلك سببه هو الرغبة في اتباع التقليد القومي الديني
القديم، ومن جهة أخرى الرغبة المُلحة في الاشتراك في كل مظاهر الحياة
الهيلانستيكية، وفي استطاعتنا أن نسلم هنا أنه عندما كان المجتمع اليهودي يتأثر
بوجه عام فإن الرأي الذي يميل إلى التقليد القديم كان هو الرأي المتفوق، ولكن
الأفراد اليهود عندما كانوا يواجَهون بمسائل الحياة اليومية التي لا تحصى فإنهم
كانوا أكثر تحولًا إلى الرأي الثاني؛ أي الرغبة في الاشتراك بقوة في أوجه الحياة
الهيلانستيكية وقوانينها.
ولسنا في حاجة إلى القول إن مدينة الإسكندرية التي كانت مركز الهيلانستيكية
العظيم قد ظلت أعظم مدينة في العالم الهيلانستيكي في البحر الأبيض المتوسط إلى أن
غطت عليها روما، هذا فضلًا عن أنها كانت مركز أعمال وإدارة وثقافة ممتازة؛ فقد
اجتذبت إليها أناسًا من بلاد عدة وبخاصة من مدن بلاد الإغريق، وكانت تقام في هذه
المدينة أعياد بهجة على شرف الآلهة الإغريق وملوك البطالمة والمؤلهين، وكانت تمتاز
بوجود الميوزيون فيها وهو ما يمكن التعبير عنه حديثًا على وجه التقريب بأكاديمية
العلوم والفنون والآداب، والمكتبة العظيمة التي تزخر بكنوز كثيرة من كتب الأدب
الكلاسيكي، وقد خضع اليهود بطبيعة الحال لسلطان الحياة الإغريقية والفكر
الهيلانستيكي الذي كان سائدًا في تلك المدينة الفذة، ومنذ القرن الثالث ق.م نسمع
عن
فرد يهودي هجر المجتمع اليهودي وتخلى عن دين موسى، واتخذ لنفسه سبيلًا ناجحة في
بلاط البطالمة، وهذا اليهودي هو «دوسيثيوس»
Dositheos الذي أعلن ارتداده عن يهوديته كما ذكر لنا مؤلف
الكتاب الثالث للمكابي،
١٣٥ وقد عُرف تاريخ حياة هذا الرجل في البلاط البطلمي من وثيقة معروفة لدينا،
١٣٦ ولا نعرف كم من اليهود قد حذوا حذوه في هذه الطريق، غير أننا نعلم أن
الارتداد عن اليهودية في هذه الفترة لم يكن أمرًا شائعًا بين يهود الإسكندرية، وعلى
أية حال لم يكن الارتداد شائعًا في تاريخ اليهودية قط، والواقع أن اليهودي كانت
لديه فرص أخرى لإظهار ميله إلى الهيلانستيكية ومباهجها، فقد كان في مقدوره أن يفعل
ذلك بالتكلم باللغة اليونانية، وكان في استطاعته أن يفعل أكثر من ذلك فكان في
مقدوره أن يصل إلى ذلك بالتعمق في الثقافة الإغريقية، وكان في مقدوره أن يساعد
الإغريق في إنشاء قيم ثقافية جديدة في اللغة الإغريقية.
ولا نزاع في أن الترجمة السبعينية قد وضعت الأسس لإقامة أدب هيلانستيكي كتبه
يهود، وبخاصة بأقلام يهود إسكندريين، ففي القرن الثالث وضع يهودي يُدعَى «ديمتريوس»
مؤلَّفًا يشبه تاريخ الأجداد لقوم اليهود، هذا وتُنسب كتابات كل من «أريستاس»
و«أرتابانوس» و«فيلو» الشاعر وحزقيال الروائي المسرحي وغيرهم إلى القرن الثاني
والنصف الأول من القرن الأول ق.م، يضاف إلى ذلك الفيلسوف اليهودي «أريستوبولوس»
الذي سبق ذكره، وهو الذي عاش في عهد بطليموس السادس «فيلومتور» فقد أهدى هذا
الفيلسوف مؤلَّفه للملك، على أن هذه البدايات في الأدب اليهودي الهيلانستيكي بعيدة
عن أن تكون وافية، بل نجد أنها مُخيبة للأمل الذي كان يُرجى منها، وذلك لأنه
باستثناء «رسالة أريستاس» لا نجد أنه قد وُضع مؤلَّف ذات قيمة أدبية عظيمة، وعلى
أية حال فإن ما يهمنا هنا ليس ما وصل إليه اليهود الإسكندريون من مستوى أدبي بل
يهمنا مقدار ما وصلوا إليه من صبغ أنفسهم بالصبغة الهيلانستيكية، ومن وجهة النظر
هذه نجد أن إنتاجهم الأدبي يستحق الاعتبار، فقد كتب «فيلو» الشاعر ملحمته عن
«أورشليم» بشعر سداسي الوزن، وقد كان يقصد بذلك بداهة أن يصبح «هومر» اليهود، غير
أنه لم يفلح في محاولته، وكتاب «حزقيال» عن خروج بني إسرائيل لا يخرج عن كونه من
تقليد الروائي الإغريقي إيريبيديز
Euripides، هذا
وقد كان المفروض أن «أريستوبولوس» يُعتبر فيلسوفًا مشاء من أتباع مدرسة أرسطوطل،
هذا ونجد أن الأسلوب الهيلاني الذي اتبع في الترجمة السبعينية كان مسيطرًا في مثل
هذه المؤلفات التاريخية مثل كتابَي المكابي الثاني والثالث، هذا ويُلحَظ أن أكثر
من
ثلث رسالة «أريستاس» قد خُصصت لوصف مجلس شراب ومنادمة وهو صورة أدبية كان يفضله
الكُتاب الإغريق منذ عهد أفلاطون وأكزنوفون وما بعدهما، والحقيقة أننا نجد التأثير
الإغريقي مسيطرًا في كل فروع الأدب اليهودي الهيلانستيكي وبخاصة في الشكل وإلى حد
ما في المحتويات.
١٣٧
ولا نزاع في أن الأدب الإغريقي والفلسفة الإغريقية كان يُدرسهما بعناية يهود
الإسكندرية، على أن مثل هذا الدرس لم يكن من المستطاع الحصول عليه دون معرفة متينة
للعناصر الأساسية للثقافة الإغريقية، ومن ثم يظهر أمامنا السؤال التالي: ما هو نوع
الثقافة التي كان يُلقِّنها يهود الإسكندرية لأولادهم؟ وهذا السؤال ليس عديم
الفائدة، وذلك أنه في بداية العهد الروماني في مصر كان حق اليهود في إعطاء أبنائهم
تعليمًا منتظمًا في معاهد تربية إغريقية من المسائل التي احتدمت المعارضة فيها من
جانب السكان الإغريق، وانتهى الأمر بأن حرَّمت السلطات الرومانية ذلك على اليهود،
والمهم هنا أن ندرس أصل هذا التحريم، فالتعليم الإغريقي كان مركزه الجمنازيوم حيث
يدرَّب الأولاد الإغريق على الألعاب الرياضية كما كانوا يتعلمون المعلومات الضرورية
من الأدب والثقافة الإغريقيَّيْنِ، ويتساءل الإنسان هنا: هل كان مصرَّحًا لليهود
في
عهد البطالمة أن يرسلوا أبناءهم إلى الجمنازيوم؟ والواقع أنه ليس لدينا برهان مباشر
على أنهم كانوا يفعلون ذلك، ولكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بفحص بعض أدلة لها
علاقة غير مباشرة بالموضوع، فنجد أولًا في بداية الحكم الروماني في مصر أن إغريق
الإسكندرية كانوا يعارضون أشد المعارضة كل محاولات غير الإغريق (أي من مصريين
ويهود) في أن يجندوا أولادهم بين «الأفيبون»، وقد وافق «كلوديوس» على هذه الدعاية
فحرم على اليهود الاشتراك في ألعاب الجمنازيوم؛ أي إنه طردهم منها، وإذا ناقشنا
موضوعنا من هذا البيان فإنه في استطاعتنا أن نستنبط أنه في العصر السابق العصر
الروماني كان اليهود يدخلون الجمنازيوم دون كبير عناء، وثانيًا نجد في العهد
البطلمي أن الجمنازيوم كانت في أيدٍ حرة، وبقدر ما يمكن أن نستخلص من الوثائق التي
في أيدينا أنه لم تكن هناك مؤهلات خاصة يُحتاج إليها للدخول في الجمنازيوم،
١٣٨ وفضلًا عن ذلك كان اليهود أنفسهم مهتمين في تعليم الجمنازيوم، وذلك لأن
أولئك الذين كانوا يتعلمون فيها هم الذين كان في مقدورهم أن يحصلوا على حقوق مدنية
في مدينة مثل الإسكندرية، يضاف إلى ذلك أن مثل هذا التعليم كان يمهد الطريق للدخول
في المجتمع الإغريقي، حقًّا إن التقليد اليهودي لم يحبِّذ المصارعات الجمنازية
وبخاصة عندما نعلم أن تعليم الجمنازيوم كان له اتصال وثيق بالديانة والعوائد
الإغريقية، غير أن مبادئ التقاليد الجامدة لم تكن بحالة من الأحوال صاحبة الحظوة
في
الإسكندرية، ومن الحقائق الثابتة أن يهود الهجرة لم يمقتوا تعليم الجمنازيوم أو
المصارعات أو الألعاب العامة كما يدل على ذلك أمثلة عدة، هذا ولا ينبغي لنا أن ننسى
أنه في عام ١٧٥ق.م قد أقيم جمنازيوم و«أفيبيون» في أورشليم في قلب اليهودية
التقليدية، وأخيرًا يمكن بالبرهنة على مثل هذا التعمق في صور الفكر الإغريقي
ومحتوياته كالذي وصل إليه «فيلو» الفيلسوف مثلًا كان مستحيلًا دون أن يكون قد أُفعم
بالروح الإغريقية الكلاسيكية، وهذه الروح كان لا يمكن تربيتها دون الاشتراك لمدة
بعض أجيال من الأسر اليهودية في التربية الجمنازية.
هذا وتقودنا مسألة التربية الجمنازية إلى سؤال آخر أوسع حالًا وهو: هل كان
مسموحًا لليهود أن يصبحوا مواطنين إسكندريين؟ وهذا السؤال قد نوقش كثيرًا في البحوث
الحديثة، فالعلماء الذين يقولون: إن يهود الإسكندرية كان لهم حقوق المواطن الإغريقي
هم شورر وغيره،
١٣٩ أما الذين يعارضون هذه الفكرة وهي التي أصبحت الرأي المقبول هم.
١٤٠ والواقع أنه فيما يخص اليهود في هذه الناحية في عهد البطالمة فيمكن أن
نستعرض بعض اعتبارات عامة في هذا الصدد، فمن البدهي أن ما يخص المجتمع اليهودي
الإسكندري لا يدخل فيما يتعلق بالإسكندرية التي تعد مدينة إغريقية، وذلك لأن كلًّا
من المجتمع والمدينة كان يعتبر من الوجهة القانونية وحدة سياسية قائمة بذاتها مميزة
عن الأخرى، ويمكن أن نفرض أن كل مهاجر يهودي وصل إلى الإسكندرية من فلسطين أو من
القرى المصرية يصبح إن عاجلًا أو آجلًا عضوًا في المجتمع اليهودي الإسكندري، ولكن
قد يكون من باب السخف أن نفرض أن يهوديًّا كهذا يمكنه أن يدخل تلقائيًّا في صفوف
مواطني إغريق الإسكندرية، ولما كانت الهجرة اليهودية من فلسطين إلى مصر وبخاصة إلى
الإسكندرية لم ينقطع تيارها طوال العهد الهيلانستيكي، ولما كانت الإسكندرية — كما
يمكن أن نفرض — كذلك قد اجتذبت كثيرًا من اليهود من القرى المصرية، فإنه في
الاستطاعة أن نستنبط أن الأغلبية العظمى من السكان اليهود الإسكندريين لم يكونوا
متمتعين في الواقع بالحقوق المدنية، ومع ذلك فإن وجود مواطنين يهود في الإسكندرية
لا يمكن إنكاره، وإنه من المهم أن نعرف كيف يتسنى ليهودي أن يصبح مواطنًا
إسكندريًّا، والواقع أن الحصول على حقوق مدنية في مدينة إغريقية كان دائمًا إجراءً
معقدًا، وبوجه عام كانت الحقوق المدنية تُمنح لأفراد بقرار خاص من المجلس ومن
الجمعية العمومية كمكافأة على خدمة قُدِّمت للمدينة، هذا وكان منْحُ حقوق مدنية
لجماعات كاملة نادرًا جدًّا،
١٤١ غير أن الموقف في الإسكندرية على أية حال كان في بعض الأحوال شاذًّا،
وذلك أنه على الرغم من أن الإسكندرية كانت نظريًّا مدينة إغريقية حرة مستقلة، إلا
أنها لم تكن في الواقع لا حرة ولا مستقلة، وذلك لأنها كانت عاصمة مصر ومقرًّا للملك
وبلاطه، فكانت حكومة البطالمة تراقب هذه المدينة بعناية، ومن ثم لا نكاد نتصور أن
أمرًا هامًّا كزيادة عدد المواطنين الإسكندريين يغيب عن يقظة الحكومة فلا يجعلها
تتخذ إجراءات لمراقبة تلك الزيادة في عدد المواطنين الذين يتمتعون بكل حقوق المواطن
الكاملة.
هذا ونعرف أنه في العهد الروماني كان الإمبراطور يراقب دخول الأفيبوي الإسكندريين
في صفوف المواطنين، وعلى ذلك فإنه من المعقول التسليم بأن الملك البطلمي الذي كان
مهتمًّا اهتمامًا كبيرًا بأحوال الإسكندريين أكثر من الإمبراطور الروماني، لا بد
كان يستخدم نفس الحق، وفضلًا عن ذلك رأينا فيما سبق أن بطليموس الثاني «أيرجيتيس
الثاني» قد منح حقوقًا مدنية في الإسكندرية لأجانب، وعلى ذلك يمكن الإنسان أن
يتساءل هل كان اليهود من بين هؤلاء الأجانب؟
وإذا كان الرد إيجابيًّا فنتساءل من جديد إذا كان الملك بطليموس «فيلومتور» الذي
كان هواه مع الساميين يمكن أن يكون قد فعل بالمثل؟ وأخيرًا يمكن أن نعيد إلى
الذاكرة أن أولاد المواطنين قد تلقوا تعليمهم في الجمنازيوم وأن التعليم الجمنازي
كان طبيعيًّا إجراءً لا بد أن يسبق الحصول على حق المواطنة (أي يكون الفرد مواطنًا)
ولا ريب في أن كثيرًا من اليهود كانوا شغوفين بأن يعلِّموا أولادهم تعليمًا
إغريقيًّا لأجل أن يكون في استطاعتهم الحصول على الحقوق المدنية، هذا ويُلحَظ أن
القرن الأخير من حكم البطالمة كان مرتبكًا كثيرًا وبخاصة في الإسكندرية، ومن
المحتمل أن العداوة الطويلة الأمد التي كانت بين حكومة البطالمة والإسكندرية قد
تمخضت عن فوضى إدارية كانت صالحة جدًّا لأولئك الذين كانت رغباتهم لم يمكن تحقيقها
في ظل قانون حازم، والخلاصة هي أنه كان في استطاعة يهود الإسكندرية أن يحصلوا على
حقوق وطنية بثلاث طرق وهي منح حقوق لأفراد بوساطة المدنية، والتعيين بوساطة الملك،
والدخول (سواء أكان ذلك قانونيًّا أو غير قانوني) في صفوف المواطنين عن طريق
الجمنازيوم.
هذا وكان الحصول في العهد الروماني على الحقوق المدنية من الأمور البالغة الأهمية
ولكن في العهد البطلمي لم تكن هناك حقوق أو امتيازات هامة تصحب الرعوية الإسكندرية،
وذلك أن الرعوية الإسكندرية كان لها شروط خاصة بها في كتاب قانون خاص بهم على غرار
القوانين الأثينية، فلم يكن المواطن يُجلد عند ارتكاب جريمة، ولكن كان يُضرب بطريقة
صورية لا تؤثر فيه، ولم يكن من الممكن إجباره على تأدية أعمال عامة أو تأدية عمل
شاق كالذي يُطلب من الفلاح المصري،
١٤٢ أما عن اليهود الذين كانوا يتمتعون بتشريعهم الخاص فإن معظم هذه
الامتيازات السابق ذكرها لم تكن ذات أهمية بالنسبة لهم، وعلى أية حال نجد أنه على
مر الأيام كانت تُمنح بعض الامتيازات التي كان يتمتع بها الإسكندريون اليهود أيضًا،
وذلك بموافقة صامتة من الحكومة؛ مثال ذلك امتياز عدم الضرب بالسياط بل بقِراب النصال،
١٤٣ وقد كانت مسألة حصول الفرد على لقب مواطن إسكندري لا يسعى إليها الفرد
بوجه خاص للفخر والعظمة أكثر منها لطلب المادة؛ فقد كان اليهودي عندما يحصل على
لقب
مواطن يشعر بالكبرياء؛ لأنه على مستوى واحد مع إغريق الإسكندرية ولأن أولاده
سيتعلمون في الجمنازيوم، ولأنه سيحضر الولائم والألعاب الإغريقية، ولأنه سيتكلم
ويكتب اللغة الإغريقية، والواقع أن كسب حقوق مدنية كان يعتبر بمثابة تعبير لميل
يهودي نحو التحرير (إذا جاز لنا أن نستعمل تعبير القرن التاسع عشر) وهذا الميل
يبرهن عليه بجلاء المحصول الأدبي الذي أنتجه يهود الإسكندرية في القرن الثاني ق.م
والهدف الهام لهذا الأدب كان الاقتراب أكثر فأكثر إلى الإغريق، وكذلك إنشاء ألفة
بين الهيلانستيكية واليهودية للبرهنة على أن اليهودية تشمل في جوفها فلسفة حقيقية
مفتوحة الأبواب لليهود والإغريق على السواء، وقد قامت الترجمة السبعينية نفسها
بالخطوة الأولى نحو التآخي مع الإغريق بما جاء في سِفر الخروج،
١٤٤ «لا تسب الآلهة»، هذا وقد أكدت صيغة الجمع العبرية في كلمة أيلوهيم
(الآلهة) فكأنما قُصد بذلك الإشارة إلى الآلهة الوثنيين، ولما كان كتاب التوراة
يقرؤه يهود مصر بالإغريقية فقط، فإنه كان من المحتمل أن المعنى الحقيقي لهذه الآية
لم يكن معروفًا لهم، وأنهم اعتقدوا بإخلاص في تسامح موسى نحو الآلهة الوثنيين، هذا
وقد اتخذ مؤلف «رسالة أريستاس» خطوة أخرى إلى الأمام في هذا الصدد بإعلانه أن
الإغريق واليهود عبدوا إلهًا واحدًا بعينه وأن الفرق بين الإلهين هو الاسم، يضاف
إلى ذلك خطوة أخرى اتخذها «أرتابانوس» الذي نسب إلى موسى تأسيس عبادات وثنية في
مصر
بما في ذلك عبادة الحيوانات المقدسة.
١٤٥
هذا ويمكن استخدام «رسالة أريستاس» في أنها أحسن برهان كذلك على الميل للتقريب
بين اليهودية والهيلانستيكية بصفة مُحَسَّة؛ إذ يمكن اعتبار هذه الرسالة أنها إعلان
لجماعة المحبين للإغريق في المجتمع اليهودي الإسكندري، والمقصود هنا أن الملك
وحاشيته قد ظهروا أنهم أصدقاء حقيقيون لليهود، ومن كبار المحترمين للتوراة، ومن
جهة
أخرى نعلم أن الاثنين وسبعين شيخًا يهوديًّا الذين ترجموا التوراة (السبعينية) لم
يكونوا متفقهين في الأدب اليهودي وحسب بل تلقَّوا تعليمًا إغريقيًّا حسنًا أيضًا
(Arist. 121) وقد أكد «أريستاس» أنهم خلصوا
أنفسهم من السمات الخشنة التي تتصف بها أخلاق أولئك الأشخاص الذين حُرموا من
التربية الإغريقية، هذا وكان الملك يقيم لشيوخ اليهود ولائم سمر، وكانت المحادثات
التي تدور فيها تكشف عن حكمة اليهود العميقة التي كانت تسمو كثيرًا عن حكمة
الفلاسفة اليونان، (Arist. 235) ومهما يكن من أمر
فإنه مما يستحق الذكر أن حكمة الشيوخ اليهود كما ذكرها «أريستاس» لم تكن تخرج عن
آراء عادية أُخذت عن ملخص من نظام أخلاق اليونان وسياستهم مع بعض إضافات من اعتقاد
اليهود في إله واحد لا إله غيره، والواقع أن الفكرة الأساسية التي يبرزها لنا
«أريستاس» هي الفكرة المدهشة (إلى حدٍّ ما) التي تكشف لنا عن أن اليهودية لا تخرج
عن كونها الهيلانية الحقيقية مزودة بوحدانية الله، والمفتاح لفهم رأي «أريستاس»،
نعثر عليه في تصوره للتوراة وترجمته للإغريقية، حقًّا كان «أريستاس» من كبار
المعجبين بالتوراة، ولكن من المهم جدًّا أن نؤكد أنها التوراة الإغريقية التي أُعجب
بها، وذلك أن «أريستاس» في كتابته يبرهن على كمال الترجمة التي وضعها الاثنان
وسبعون شيخًا بكل ما لديه من براهين ممكنة، وتنحصر في موافقة الملك وتصديق المجتمع
اليهودي الإسكندري وحتى حماية الله الخاصة، (Arist.
311) وقد أعلن صراحة «أريستاس» أن الترجمة صحيحة تمامًا بل
نجدها في بعض المعاني أكثر صحة من الأصل العبري، (Arist.
30) وهذا الابتهاج الذي أظهره أريستاس بالنسبة للتوراة وترجمته
قد شاركه فيه كل المجتمع الإسكندري، فقد رأينا فيما سبق أن اليوم المزعوم الذي تمت
فيه الترجمة إلى الإغريقية كان يُحتفل به سنويًّا في الإسكندرية، فما هو السبب يا
ترى لابتهاج عظيم كهذا؟
والواقع أنها ليست إلا ترجمة عادية ونحن متعودون أن نفكر في أنه ليس هناك قيم
روحية جديدة تُخلق بالتراجم، ومع ذلك فإنه من البدهي لم تكن في نظر «أريستاس» وفي
نظر كل اليهود الذين على شاكلته مجرد ترجمة بل كانت بمعنى تعد خلقًا جديدًا للتوراة
ويمكن أن نتحسس لذلك سببًا، وذلك أننا قد رأينا فيما سبق أن التوراة قد مرت بتغير
عندما تُرجمت إلى الإغريقية، والواقع أنه لم تكن هناك توراة بالإغريقية بل كان
إغريقيًّا في فكره وتعبيره، فكان في استطاعة كل فرد أن يقرأ التوراة الإغريقية،
وفي
استطاعة كل إنسان أن يقنع نفسه بعمق وصدق الآراء الدينية والخلقية التي أتى بها
موسى مانح القانون اليهودي، وكذلك بأهمية القوم الذين كانوا قد منحوا مثل هذه
التعاليم، والواقع أن مركَّب النقص الذي كان يضرب بأعراقه في روح كل يهودي محرر
من
المهاجرين الذين كانوا على اتصال مع أقوام لهم ثقافة عالية قد أزيل بدرجة كبيرة
بسبب أن التوراة لم تَعُدْ بعدُ كتابًا متوحشًا مختومًا بسبعة أختام بل قد صار
مفتوحًا لكل العالم المتمدين ومن ثم أصبح يهود الإسكندرية في مقدورهم أن يدخلوا
بكبرياء العالم الإغريقي بوصفهم رجالًا أصحاب مكانة عالية لا بوصفهم سفلة من
البرابرة المقهورين، وهذا هو السبب الذي من أجله أكد بشدة أريستاس لليهود ضرورة
بقائهم مخلصين لتعاليم التوراة،
١٤٦ وذلك لأن الطريق للتحرير الثقافي لليهود كانت ترشد إليه التوراة
الإغريقية، وذلك بمطالعته والتعليق عليه لا عن إهمال تعاليمه، وسواء أكان الإغريق
يميلون إلى الترحيب باليهود أم لا، فهذا أمر آخر (وسنرى بعدُ أنهم لم يكونوا على
استعداد للترحيب بهم) غير أن اليهود من جهتهم قد عملوا كل الاستعدادات الضرورية
ليضمنوا لكل من الأمتين أن يتقابلوا على أساس المصادقة، وهذا يفسر القصد العميق
لمجهود «أريستاس» ليبرهن على أن الإغريق كانوا مهتمين بترجمة التوراة، وأن فكرة
الترجمة بأكملها ترجع إلى علماء بلاط بطليموس الثاني وإلى الملك نفسه، ومن ثم نفهم
أن التوراة لم تصبح حلقة اتصال بين العالَمَيْنِ المختلفينِ اليهودي والإغريقي إلا
بموافقة الإغريق، هذا هو الملخلص النهائي لدعاية «أريستاس» وقد ظلت طبقة عِلْيَة
القوم من سكان يهود الإسكندرية مخلصة لمنهاجه إلى أن انفجر بركان الكراهية التي
كان
يُكنها شعب الإسكندرية في نفوسهم لليهود وأخذوا يهزءون بهم.
والحديث عن حالة حياة اليهود في الإسكندرية يقودنا إلى أن نتساءل فيما إذا كان
تحرر اليهود في جهات أخرى في مصر كان يتبع نفس الخطوط الرئيسية أم لا؟ والجواب على
هذا السؤال هو بالنفي، وذلك لأن اليهود في القرى كانوا يسلكون مسلكًا مختلفًا،
وتفسير ذلك أن يهود الإسكندرية فقط ومن بينهم بوجه خاص الطبقة الراقية هم الذين
كانوا في حاجة إلى تبرير سفسطائي كالذي قدمه لنا «أريستاس» لوضعهم بالنسبة للإغريق،
ولا نزاع في أن مستوى سكان الريف من اليهود من الوجهة الاجتماعية والعقلية كان
صراحة أحط من مستوى اليهود الإسكندريين، وتقدم لنا الأوراق البردية براهين على
عملية امتصاص مختلفة، وأعني بذلك امتزاج القرويين اليهود بالسكان المصريين، والواقع
أن الثقافة الإغريقية لم تكن قوية على نطاق واحد في كل مكان من البلاد المصرية،
وذلك أنها بعد كل شيء لم تكن إلا نباتًا أجنبيًّا في حين أن الثقافة المصرية على
العكس كانت متأصلة في حياة التربية المصرية، ونجد في النهاية أن السكان الإغريق
قد
تأثروا إلى درجة ما ببيئتهم المصرية، ومن ثم نجد يهودًا سمَّوا أنفسهم بأسماء مصرية
في الأوراق البردية، وهؤلاء اليهود كانوا رعاة وفلاحين وصناعًا يسكنون في قرى
ملاصقة لجيرانهم المصريين، ولدينا وثائق عدة وبخاصة من إقليم «طيبة» تكشف لنا عن
جهل المواطنين القرويين، وكثير منهم لا يستطيع كتابة اسمه بالإغريقية، ولا غرابة
إذن أن كان هناك يهود لا يمكنهم أن يكتبوا أسماءهم بالإغريقية أيضًا
(Corpus, P. 190, No. 46; Ibid. P. 222, No.
107). فهل كانوا يعرفون أية لغة أخرى، وعلى أية حال كانوا لا
يعرفون العبرية، ذلك لأن اللغة العبرية لم تكن الحاجة ماسة إليها، بسبب أن التوراة
الإغريقي كان يقرأ في الأرياف كما كان يقرأ في الإسكندرية على حد سواء
١٤٧Yazaros.
وليس من المرجح أن اللغة الأصلية لأفراد من اليهود مثل سيمون بن باعز
١٤٨ صانعي الفخار في القرية السورية التي جاء ذكرها في المتن رقم ٤٦
١٤٩ كانت لغة آرامية، وذلك لأنه في خلال القرنين الثاني والأول ق.م كانت
اللغة الآرامية على ما يظهر يستعملها فقط المهاجرون الذين وفدوا حديثًا على مصر،
وعلى ذلك فإنه من المحتمل جدًّا أن لغتهم كانت المصرية كما كانت اللغة العامة لكل
الأرياف التي حولهم، وما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن الإغريق واليهود كانوا
متأثرين ببيئتهم المصرية؛ فقد سمَّوا أنفسهم بأسماء مصرية وتكلموا المصرية وعبدوا
آلهة مصرية،
١٥٠ يضاف إلى ذلك أنه حتى بعض الكاهنات من اليهود الخاصات بملكات مصر
المؤلهات اللائي قدِ اخْتِرْن من أشد الأسرات تمسكًا بالأرستقراطية كن يُسَمَّيْنَ
بأسماء مصرية خالصة،
١٥١ وعلى ذلك فإن اليهود الذين كانوا من هذا النوع لم يكن في مقدورهم تجنب
تأثير البيئة الشامل، أما أولئك الذين حاولوا البقاء على يهوديتهم فكان في مقدورهم
عمل ذلك فقط بسبب إخلاصهم الراسخ لأصلهم القومي وديانتهم، فكانوا يراعون تعاليم
التوراة لمجرد أنها مكتوبة في التوراة، وكانت المحافظة على العطلة يوم السبت على
ما
يظهر هامة لهم، فنقرأ في الوثيقة رقم ١٠
١٥٢ أن رجلًا من ضيعة «أبوللونيوس» في قرية فيلادلفيا يحتمل أنه مدير أعمال
مبانٍ لم يعمل في يوم السبت، ويجب علينا لتقدير تمسك اليهود بعطلة يوم السبت أن
نعيد إلى الذاكرة مقدار العمل العظيم الذي كان يُنجز على يد المستعمرين الجدد وسرعة
العمل وشدة نُظَّار الأعمال مثل «أبوللونيوس» و«زينون».
وبطبيعة الحال كان الشعور القومي عند يهود مصر موجَّهًا نحو فلسطين، وقد أظهرنا
من قبل أن تأثير فلسطين في السنين الأولى من عهد البطالمة لم يكن بحال من الأحوال
قوميًّا، وقد بقيت نفس الروح متَّبَعة في عهد «بطليموس فيلومتور» الرابع، هذا ولم
يكن أونياس الرابع بن الكاهن الأكبر الذي فر إلى مصر مع حشد من أتباعه من أتباع
يهوذا مكابايوس؛ فقد كان عليه بدلًا من مغادرة مسقط رأسه باحثًا عن ملجأ في الخارج
أن ينضم إلى حركة المقاومة، والظاهر أنه لم يكن عدوًّا للإغريق بل من الممكن أنه
كان يميل إلى الهيلانية، ولو أنه كان بطبيعة الحال معارضًا بدوره لقواد الحزب
الهيلاني في أورشليم الذين كانوا أجرموا في حقه بقتل والده، وهذا يمكن أن يُفسر
بالعمل الرئيسي الذي أحرزه في حياته وهو بناء معبد يهودي في ليوتنوبوليس (تل
المقدام الحالي)، والواقع أن بناء مركز ديني كهذا كان يعد مخالفة صريحة لتعليم كتاب
التوراة الذي يقول إن الله لا ينبغي أن يعبد إلا في مكان واحد يختاره الله نفسه،
كما كان لا يمكن إنجازه إلا على يد يهودي لم يكن يشعر بأنه مجبر على أن يحافظ
بالتفصيل على تعاليم التوراة، وقد اقترح العلماء الأحداث أن عمل أونياس هذا يرجع
إلى سببين؛ الأول رغبته في أن يمد يهود مصر بمركز ديني خاص بهم، والآخر هو إقامة
معبد حقيقي بدلًا من معبد أورشليم الذي دنسه أصحاب الميول الهيلانستيكية، فالسبب
الأول لا يفسر إقامة معبد «ليوتنوبوليس» وذلك لأن مركز اليهودية المصرية كان
الإسكندرية لا في مكان غير معروف في ريف مصر، وخلافًا لذلك فإن أونياس كان يمكن
أن
يقيم معبدًا ليهود مصر إذا كان هؤلاء اليهود قد رغبوا في أن يقيم لهم مثل هذا
البناء، وسنرى أن يهود مصر لم تُعِرْ معبد «أونياس» التفاتًا، أما السبب الثاني
فإنه يكون صحيحًا إذا فرضنا أن المعبد كان قد أقيم قبل عام ١٦٤ق.م، وذلك لأنه بعد
هذا التاريخ لم يكن من الممكن أن يعتبر مدنسًا نجسًا، ونحن لا نعرف السنة التي أقيم
فيها معبد «أونياس» ولكن المرجح أنه قد أقيم بالقرب من نهاية مجال حياته لا في
بدايته.
والسبب الحقيقي لإقامة هذا المعبد يحتمل أن يكون لرأي سياسي من جانب حكومة
البطالمة، هذا بالإضافة إلى غرور «أونياس» المخاطر الذي كان يرغب في الظهور بلباس
الكاهن الأكبر المقدس مستعرضًا نفسه للناس، والواقع أن «أونياس» لم يكن في مقدوره
أن ينسى قط وظيفة الكاهن الأكبر أي إن القيادة السياسية لقوم اليهود كانت حقه، لا
حق المغتصبين لها في أورشليم، وهذه المطامع التي كانت نفس «أونياس» تصبو إليها لم
تجد ترحيبًا إلا من الحكومة البطلمية التي كان في مقدورها أن تستعمل إقامة معبد
ليوتوبوليس كوسيلة ضد دعاية السلوكيين بين يهود فلسطين، ونحن هنا لا نتحدث عن
السياسة البطلمية، ولكن بحْثنا في اليهودية المصرية، ومن الحقائق الثابتة أنه لا
يوجد في كل الأدب الإسكندري أي ذِكْر لمعبد «أونياس»، أما معبد أورشليم من جهة أخرى
فكان دائمًا في منزلة عالية من جانب اليهود المصريين وحتى من جانب اليهود المصبوغين
بالصبعة الهيلانستيكية؛ مما برهن مؤلف «رسالة أريستاس» على إعجابهم العميق
واحترامهم لمعبد «أورشليم»، وهذا يدل على الحج إلى «أورشليم» وجمع المال للمعبد
هناك كما شوهد ذلك غالبًا في العهد الروماني المبكر، على أن شعائره كانت تؤدَّى
في
عهود البطالمة، ومن ثم يمكننا أن نعتبر إقامة معبد «أونياس» لم تكن بمثابة مظاهرة
من جانب يهود مصر تدل على أحاسيس معادية لأورشليم، بل كان عمل رجل مخاطر وأنه عمل
ليس له أهمية دينية أو قومية.
هذا وكانت خيبة «أونياس» في أن يؤثر على يهود مصر منتظَرة، وذلك لأن عواطفهم
بالميل إلى دولة اليهود الهسمونية الجديدة تظهر بوضوح إحساسهم، وعلى الرغم من أن
المهاجرين الوافدين من فلسطين إلى مصر كانوا في العادة أعداء للحكام الجدد فإن
تأثيرهم كان مهمَلًا، وقد رأينا فيما سبق أن مثل هذه الميول العاطفية كان لها رد
فعل سياسي كما يظهر ذلك من الدور الذي لعبه القائد اليهودي مع كليوبترا الثالثة
أثناء حربها في فلسطين كما سبق ذكره، ومن الطبيعي لدى الحكومة الهسمونية أن تشجِّع
على إنماء هذه العواطف، وقد حول مرتين على إغراء اليهود المصريين للاحتفال بالعيد
الجديد الذي افتتحه الهسمونيين «هانوكاه».
ومن المرجح أن الاحتفال «بالييروم» في مصر كان كذلك جزءًا من دعاية الهسمونيين
السياسية، على أن الأدب العبري الجديد حتى ولو كان غير مختص بالهسمونيين فإنه أضاف
كذلك إلى حب فلسطين وإعزازها بين اليهود المصريين؛ مثال ذلك كتاب «يسوع سيراح» الذي
أظهر فيه معارضة للوثنية، وكان دائمًا على استعداد لتعليم تلاميذه كيف يحاربونها،
١٥٣ أو قصة يوديث
Judith المُفعَمة
بالعاطفة القومية، وحتى نجد المعارضين الجدد للهسمونيين وهم الفارسيون الذين هربوا
إلى مصر من اضطهاد ملوك الصدوقيين كانوا عاملًا كبيرًا في زيادة التأثير الدال على
أن فلسطين قد أصبحت مشهدًا لإحياء القُوى، وتأثير فلسطين هذا كان له رد فعله على
الأدب الإسكندري أيضًا، ولم يكن لكتاب مثل «أريستاس» هوًى مع الهسمونيين.
ومن المحتمل جدًّا كذلك أنه كان في ذهنه هذا الطراز من اليهود الفلسطينيين عندما
كان يتكلم عن السمات البربرية الخشنة في أخلاق اليهود، ومع ذلك فإنه في الوقت نفسه
الذي كانت تدعو فيه مقالة أريستاس إلى التفاهم القلبي بين الإغريق واليهود، كان
هناك كاتب يهودي آخر من المشردين يُدعَى «باسون السيريني» الذي كتب تاريخًا في خمسة
أجزاء عن الحركة الوطنية في فلسطين ومدح بحرارة زعيمها «يهوذا مكابايوس»، ووصف
الإغريق وأتباعهم من اليهود بأنهم مستبدُّون قساة وخَوَنة أشرار، وقد لخص تاريخ
«باسون» يهودي مصر، وهذا الملخص معروف بالكتاب الثاني للمكابيين، وقد كان نفس الكره
يملأ قلب كاتب إسكندري غير معروف حشر قِطعًا من عنده في الرواية الإغريقية لسِفْر
«إستر»، وبذلك نقل القصة من موضعها الفارسي إلى بيئات بلاط هيلانستيكي ودمغ «هامان»
بأنه مقدوني، وقد كان ذلك بداية اتجاه جديد في الأدب الإسكندري وهو اتجاه مضاد من
أساسه لوجهة نظر «أريستاس» المحب للهيلانستيكية ومن شابهه من الكُتاب، وبعد مضي
زمن
قصير؛ أي في باكورة الحكم الروماني في مصر بلغ هذا الاتجاه قمته في الإنتاج الأدبي
مثل كتاب المكابيين الثالث أو حكم سليمان، وقد تصادم هذا الكره للإغريق الذي زِيد
في حدَّته بانبعاث الروح القومية في فلسطين بما يقابله من كره الإغريق لليهود، وقد
استمد هذا العراك قوته من الأحوال السياسية في دولة كانت تتدهور بسرعة، وكذلك من
حماس الإسكندريين الوطني، والظاهر أن الأمل كان ضعيفًا في أن العصر المقبل سيقدِّم
سلامًا وأمانًا لليهود في مصر؛ فقد كان مكرهم وخداعهم ودسائسهم مَدْعَاة إلى تألُّب
الرومان عليهم والتنكيل بهم إلى أقصى حد.