«بطليموس» بن «لاجوس» في عهد «برديكاس» (عام ٣٢٣–٣٢١ق.م)
كانت مصر من نصيب القائد المقدوني «بطليموس» عند تقسيم أجزاء إمبراطورية «الإسكندر»
بين قواده في ظل حكومة «فليب أردايوس»، وقبل أن نتحدث عن مراحل حياته في حكومة مصر
إلى
أن أصبح فرعونًا عليها يطيب أن نذكر شيئًا عن حياته في عهد الإسكندر الأكبر سيده
وصديقه.
لم تصل إلينا معلومات من مصادر يُعتمد عليها عن أصل نشأة «بطليموس» وحالته الاجتماعية
بل كل ما وصل إلينا عن أسرة «بطليموس» هي سلسلة نسب اختُرعت لتنسب أسرته التي أصبح
أفراد منها ملوكًا على مصر إلى أصل ملكي وإلهي، كما جرت العادة عند الأسر التي يتولى
أفرادها الملك ولم يكونوا من أصل ملكي، والواقع أن أسرة البطالمة قد جعلهم النسابون
المحترفون ينحدرون من صلب الإله «زيوس» بوساطة «هيراكليس» و«ديونيسوس»، وفي رواية
أخرى
أكثر تواضعًا قيل إن «بطليموس» كان من عامة الشعب وإنه عصامي وصل إلى ما وصل إليه
بمواهبه الشخصية، وإن «الإسكندر الأكبر» قد لمح فيه النجابة والفطنة من بين أجناده
العاديين (راجع: Justin. XIII, 4, 10)، واسم «بطليموس»
هو صورة شعرية لكلمة «بوليموس» Polemos التي تعني حرب،
أما اسم والده الهيلاني «لاجوس» La-agos فمعناه قائد
الشعب، ولما عظم شأن بيت البطالمة في العالم الهيلانستيكي وجدنا أن نسبته إلى لاجوس
كانت مبهمة وتعتبر غير لائقة بشرف أسرته، ومما يجب التنويه به هنا أن البطالمة لم
يُذكروا باسم «لاجيد» الذي نجده في الكتب الفرنسية بصورة عامة، وكل ما يُعلم عن هذا
الاسم هو وجود كلمة «لاجيداس» Lagidas في قصيدة للشاعر
«تيوكريتوس» Theocritus الذائع الصيت، ومن القصص
التي تروى عن البطالمة ونسبهم ما روي عن «بطليموس الأول» أنه عندما سئل أحد علماء
النحو: من هو والد «بلوبس» Pelops؟ وكانت هذه نقطة
غامضة جدًّا في علم الأساطير الإغريقية أجاب العالم المنحوس بقوله: إني سأجيبك على
ذلك
إذا أجبتني أولًا: من هو والد «لاجوس»؟
وتدل الأحوال على أنه كان صديقًا حميمًا للإسكندر كما كان موضع ثقة يعتمد عليه
وناصحًا رزينًا، وتدل المصادر التي في متناولنا على أنه اشترك مع الإسكندر في معظم
مواقعه الحربية خارج بلاد اليونان على الأرجح، وقد ذكر لنا بطليموس في مذكراته حملات
الإسكندر بالتفصيل بصورة لا يتسنى لأحد لم يكن شهد هذه الوقائع رأي العين (راجع:
Arrian, Anab. 1, 2, 7, 8).
والواقع أنه كان ملازمًا للإسكندر يسهر على سلامته كما كان يكلفه أحيانًا بالبعوث
التي تحتاج إلى رجل ثقة، ومما يؤسف له جد الأسف أن المؤرخين لم يذكروا لنا مرافقته
الإسكندر في غزوته لمصر، وأنه رآه وهو يضع الحجر الأساسي لعاصمة البلاد مستقبلًا؛
أي
الإسكندرية، وعلى أية حال فإنه ليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن «الإسكندر»
لم
يصحب «بطليموس» تابعه الأمين إلى مصر، ومن المحتمل جدًّا أنه جهز رحلته إلى واحة
«سيوة»، ولا غرابة في ذلك؛ فإن بطليموس كان صديقًا للإسكندر مدة حياة والده «فليب»
وقد
لاقى بسببه عنتًا واضطهادًا إلى أن مات «فليب» فأعاده «الإسكندر» إلى مكانة رفيعة
في
معيته.
وقد وجدنا «بطليموس» في شتاء عام ٣٣١-٣٣٠ق.م مع «الإسكندر» عندما كان يخترق الممرات
الفارسية وهو يقود ٣٠٠٠ مقاتل مكلفين بقطع خط الرجعة على الفرس (راجع:
Arrian III, 18, 9) وكذلك نجد «الإسكندر» يضعه في
مقدمة جيشه يقود ما يقرب من ستة آلاف محارب لمفاوضة «بسوس» والقبض عليه والأخير هو
قاتل
«دارا» ملك الفرس، وقد قبض عليه فعلًا وأمر «الإسكندر» بأن توضع حول رقبته الأغلال
وأن
يجرد من ملابسه ثم أمر بموته (عام ٣٢٩ق.م) وقد رقَّى بعد ذلك بطليموس؛ إذ أصبح أحد
السبعة الذين يتألف منهم المجلس الأعلى الحربي في نهاية عام ٣٣٠ق.م وذلك بدلًا من
«ديمتريوس» الذي كان قد اشترك في المؤامرة على «فيلوتاس» الذي كان يشغل وظيفة قائد
فرقة
الفرسان، وكذلك كان على اتصال مباشر بالإسكندر، وقد اتُّهم بالتآمر على قتل الإسكندر
(راجع: Arrian III, 27, 5, CF IV, 8, 9).
نشاهد بعد ذلك بطليموس يقود مع القائد هيفستيون Hephestion الفرقة التي يحتفظ بها الإسكندر بالقرب منه في سوجديان
(٣٢٩ق.م) وكان يقود مع «برديكاس» و«ليوناتوس» Leonatos: حصار صخرة
«كرونيس» Rock
Of Chrones (راجع: Arrian IV, 21, 4; Grote XII. P.
146).
وقد ظهرت شجاعته في منازلة الأسباسيين Aspasian فقد
جرح في أول مصادمة كما جرح فيها كذلك كل من «ليوناتوس»، و«الإسكندر» نفسه، وقد قتل
بيده
بعد ذلك بعدة أيام أميرًا هنديًّا قد أخطأ قتله بضربة حربة، وأخيرًا قامت فرقته بدور
باهر في القضاء على الأسباسيين عام ٣٢٧ق.م (راجع: Arrian, IV,
23–35) وبعد ذلك نشاهد مهارته الحربية في الهند في تسلق مرتفعات
«أورنوس» Aornos والاستيلاء عليها (راجع:
Arrian Ibid, 29-30).
ونجده في حصار بلدة «سانجالا» التي تعد أقصى
نقطة في الشرق وصلت إليها فتوح الإسكندر في بلاد الهند، قد استعمل حزمه ونظرته الثاقبة
كما هي عادته (راجع: Arrian V, 23-24) وعندما كان الجيش
في طريق العودة انحدر في نهر «إسكيني» وكان بطليموس وقتئذ يقود كذلك إحدى الفرق الثلاثة
من الجيش وهي التي كان عليها أن تنضم في زحفها لمحاربة «أوكزيدارك» Oxydarques، أما الفرقتان الأخريان فكان يقودهما «هيفاستيون»
و«الإسكندر» (راجع: Arrian, VI, 5, Diod. XVII, 104)
وقد كان من جراء عدم وجود بطليموس بجوار الإسكندر أن جُرح الأخير جرحًا بليغًا عندما
هاجم عاصمة الماليين، هذا ونجد بطليموس فيما بعد يُذكر في الأسطورة التي رُويت عنه
أنه
هو الذي نجى «الإسكندر الأكبر» في ذلك اليوم المشهود، ومن ثم سماه الإسكندر المخلص Soter (راجع: Arrian VI, 11,
8) وقد جاء ذكر بطليموس ضمن الثلاثة والثلاثين قائدًا بحريًّا
الذين وكل إليهم الإسكندر أمر الأسطول النهري الذي تجمع على نهر «هيداسبيس» Hydaspes والذي كان يقف على جانبه الآخر الملك
الهندي «بوروس» Porus (راجع: Arrian,
Ind […] 18, 5).
وتقص علينا الأساطير أن الإسكندر قد كافأه على
إخلاصه وتفانيه في حبه له، فقد روي أن الإسكندر عندما جَرَحَ بطليموس سهم مسموم كان
ساهرًا بجوار سريره يرعاه، وأنه قد أبرأه من علته بعشب كُشف له عنه في حلم رآه في
منامه
(راجع: Strabo, XV. P. 173; Justin
XII, 10, 3) وقد كانت محبة بطليموس لسيده التي كانت ممزوجة بالحذر
والمسايرة قد جعلته يصبح تشريفاتي الإسكندر ومدير بيته، وقد كان من سوء حظ بطليموس
أنه
شهد قتل كلينوس بيد الإسكندر، وكان أكبر صديق له وأقرب المقربين إليه، ولا غرابة
في ذلك
فقد نجاه من الموت المحتم (راجع: Arrian IV, 13, 7; Grote XII,
140).
ومن كل ما سبق أصبح واضحًا أنه عند وفاة الإسكندر لم يكن هناك من بين أصدقائه وقواده
إلا القليل الذي شغلوا مكانة بارزة كالتي كان يشغلها ابن لاجوس، وقد كان برديكاس
يظهر
له من أول الأمر أن بطليموس من أكبر مناهضيه، غير أن بطليموس كان حازمًا ليعطي طموحه
مجالًا ليظهر لبرديكاس بمظهر العداء قبل أوانه، وقد عرفنا أنه في مجلس القواد الأول
قد
اقترح أن تدار حكومة الإمبراطورية بوساطة مجلس من الضباط، غير أنه عندما رأى اقتراحه
رُفِضَ مال إلى حزب برديكاس في الإجراءات التي اتُّخذت كما أسلفنا، ومع ذلك كان حريصًا
أشد الحرص على مصلحته الشخصية عند توزيع مختلف المديريات والشطربيات بين القواد،
وقد
وضع كل همه ومجهوده في خلال هذا التقسيم في أن يحصل لنفسه على حكومة مصر الهامة التي
كانت تعد أغنى بلاد الإمبراطورية وفي الوقت نفسه أكثرها أمانًا من الغزو الأجنبي،
(راجع: Curt. X, 6, §§. 13, 16, 7, 916; Justin XIII, 2, 4; Arrian, Op.
Phot. P. 69, a; Paus. I, E, 82).
وبعد ذلك يظهر أنه أسرع بقدر المستطاع لتسلُّم مهام وظيفته في مصر في نهاية ربيع
٣٢٣ق.م ولكنه وجد أن «كليومنيس» الذي كان مُعيَّنًا من قِبَل الإسكندر محصِّلًا لضرائب
البلاد عامة، وكان مجلس القواد قد عينه عن قصد ليكون نائبًا لبلطيموس، صاحب نفوذ
عظيم
على الرغم من أنه أصبح بعد تولي بطليموس بصفة وكيل وحسب، يضاف إلى ذلك أن كليومنيس
كان
من أشد الناس إخلاصًا لبرديكاس، ولقد كان من الطبيعي أن ينشب بينهما شجار صامت، وبخاصة
أن كليومنيس قد جمع مالًا كثيرًا من الأهلين بالقوة والسلب، وكان في قتله راحة لنفوس
الشعب المظلوم المغلوب على أمره، ولذلك كان أول عمل عزم عليه بطليموس هو أن يتخلص
من
هذا المنافس العاتي، غير أنه لم يتعجل الحوادث بل أخذ يعد العدة لتنفيذ غرضه، ولم
يتسنَّ له ذلك إلا بعد أن أصبح سلطانه قويًّا في البلاد، وقد حانت له الفرصة عندما
قامت
ثورات في مدينة «سيريني» المجاورة لمصر، وقد كان لزامًا عليه أن يتدخل لإخمادها،
ولكنه
قبل أن يزحف على سيريني قبض على أعضاء حزب كليومنيس وحكم عليه بالإعدام واستولى على
كل
الأموال التي كان قد جمعها بوصفه محصِّل دخْل البلاد، وقد استخدم هذه الأموال في
تجنيد
الجنود المرتزقة من الإغريق، وليجمع حوله طائفة من الضباط المخلصين، ولم يكن بطليموس
يريد أن يقحم نفسه في الحروب التي قامت في البلاد الهيلانية وهي التي تدعى الحروب
«اللامبة» (٣٢٣-٣٢٢ق.م)، والواقع أن تلك الحروب قد تركت ذكريات أليمة في نفوس
الهيلانيين وعندما نجا القائد «أنتيباتر» من الموت في موقعة «لاميا» كان مبلبل الفكر
مُشَتَّتَه، وذلك بسبب ما سيئول إليه أمره بعد ذلك، وبخاصة أنه كان يخشى تدخل برديكاس
في أمور أوروبا التي كان يسيطر عليها، وقد انتهز بطليموس تلك الفرصة، وأبرم مع
«أنتيباتر» معاهدة ضد «برديكاس» (راجع: Diod. XVIII, 4)
ومن ثم حانت الفرصة لدى بطليموس لمحاربة برديكاس الذي كانت بذور الشقاق قد دبت بينهما
بصورة سافرة منذ أن عمل بطليموس على دفن الإسكندر في مصر وقتل كليومنيس الذي كان
قد
نصبه وكيلًا له برديكاس في مصر ليكون مناهضًا وعينًا له هناك، غير أن الأمر الذي
أزعج
برديكاس كثيرًا هو استيلاء بطليموس على سيريني، وآية ذلك أنه عندما قامت المنازعات
والاضطرابات في سيريني وبخاصة عندما نعلم أنها كانت جمهورية إغريقية عريقة في الحكم
الذاتي.
وقد كانت هذه المشاحنات بين الأحزاب فيها سببًا
في اجتذاب رجال المخاطرات من بلاد الإغريق، وما كان أكثرهم وقتئذ، ومن أجل ذلك نجد
أن
«تبيرون» الإسبرتي ياور وقاتل هاربال Harpale المدير
الخائن لخزانة الإسكندر قد جمع كل المشردين المحكوم عليهم في سيريني، غير أنه بعد
طرده
أحد ضباطه عاد لمحاصرة سيريني، ولكن الحزب الديمقراطي في المدينة المحاصرة قبض على
زمام
الأمور، وعندئذ نجد أن بعض أغنياء المدينة الذي نُفُوا قد طلبوا المساعدة من «تبيرون»
كما أن بعضهم الآخر طلب المساعدة من بطليموس الذي أرسل صديقه «أفيلاس» Ophelas على رأس جيش يصاحبه أسطول، فهزم تبيرون
وأُعدم على خازوق (راجع: Diod. XVIII, 19–21) وبذلك
أصبحت سيريني محاصرة حصارًا شديدًا ولم تلبث أن سلمت لبطليموس الذي قد ذهب بنفسه
هناك
ومعه نجدة لكسر كل مقاومة، وهكذا نجد أن هذه المدينة التي قاومت بطش الفراعنة وهزمت
جيش
الفرعون «إبريز» قد أصبحت جزءًا من شطربية مصر، ومن ثم أخذ يدير شئونها مؤقتًا «أفيلاس»
(راجع مصر القديمة الجزء الثاني عشر Justin XIII, 6,
20)، وكان من أثر انتصار بطليموس في سيريني وضمها إلى مصر في العالم
الإغريقي أن تأثر برديكاس تأثرًا عميقًا خوفًا من مناهضه الخفي، والواقع أن بطليموس
بضمه «سيريني» لم يناقض قرارات مجلس «بابل» الذي وضع تحت سلطانه بلاد «لوبيا» وبلاد
العرب وهما على حدود مصر.
وكل ما فعله بحملته هذه هو أنه أظهر إرادته في تنفيذ القرار بصورة عملية، ومع ذلك
فإن
«السيرينيين» لم يكونوا ليرضوا لأنفسهم أن تصبح بلادهم مديرية خاضعة لحكم أجنبي،
وعلى
أية حال فإن الحوادث المقبلة تدل على أنهم لم يصبحوا في معظم الأحيان مصدر قوة لملوك
البطالمة بل كانوا شوكة في جانبهم من الوجهة الحربية، على أن سيريني من الجهة العلمية
قد أمدت مصر البطلمية بطائفة من العلماء الذي لمع اسمهم في التاريخ الإنساني، ونخص
بالذكر من بين هؤلاء «كالليماكوس» الشاعر العظيم و«أراتوستينيس»، هذا بالإضافة إلى
عدد
من رجال الحرب البارزين، وقد جاء ذكر عدد كبير من الجنود السيرينيين في الأوراق البردية
من الذين استعمروا الفيوم والوجه القبلي، ولا نزاع في أن سيطرة بطليموس على سيريني
قد
أزعج برديكاس وأثار في نفسه عوامل الحقد كما ذكرنا على بطليموس، وبخاصة أنه لم ينسَ
له
الاستيلاء على جثمان الإسكندر ودفنه في مصر على غير إرادته، هذا بالإضافة إلى قتل
كليومنيس صديقه، ومن ثم قام النزاع السافر بين برديكاس وبين بطليموس، وذلك لأن وحدة
الإمبراطورية تساعد برديكاس للتغلب على بطليموس، وذلك لأن وحدة الإمبراطورية الشاسعة
التي تركها وراءه الإسكندر لم تكن قائمة على أساس متين يضمن كيان وجودها سليمة، فقد
كانت في حاجة إلى مَلِك قوي يصون وحدتها من التمزق الذي كان وشيكًا أن يصيبها، بل
على
العكس كان على رأسها ملك ضعيف مشلول الإرادة والجسم لا حول له ولا قوة.
حقًّا كان تحت إمرة برديكاس جيش آسيا وكان هو الوصي والحارس على فليب أريدايوس
المريض، فكان بذلك هو المسيطر الفعلي على شئون الإمبراطورية، ولكن برديكاس لم يكن
يحكم
البلاد دون متاعب تحيط به؛ فقد كان عليه أن يحسب حساب أطماع أميرات بيت الإسكندرية،
هذا
بالإضافة إلى ما كان يدب في نفوس رؤساء القواد الآخرين من غيرة وحقد عليه، وكان فضلًا
عن ذلك يريد كل منهم أن يصبح مستقلًّا في الجزء الذي يحكم عليه، ومما زاد الطين بلة
أنه
كان يهدد الإمبراطورية وقتئذ خطران؛ أولهما: قيام ثورة في جزء من بلاد الإغريق التي
حرمت استقلالها بتحريض من «أتولي» Etolie وبخاصة
«أثينا»، أما الخطر الثاني: فهو الفتنة التي أشعل نارها الجنود المرتزقة الإغريق
الذين
كانوا في «بكتريان» (بلاد الفرس) وهم الذين كانوا يريدون العودة إلى أوطانهم بعد
موت
الإسكندر.
حرب لاميا
وقد كانت الثورة التي هبت في بلاد الإغريق تعرف باسم الحرب اللامية، وكان من
نتائجها أن ثبت «أنتيباتر» في ملكه وأبعد كرايتروس وقضى على ليونات Leonnat فقد خر صريعًا في ميدان القتال في موقعة
«تيساليا»، وهؤلاء الحكام كانوا أخطر منافسين على برديكاس (٣٢٣-٣٢٢ق.م) وذلك لأن
ليونات كان يطمع في الاستيلاء على زمام الإمبراطورية، وقد كانت «كليوبترا» أخت
«الإسكندر الأكبر» وأرملة الإسكندر حاكم أبيروس تفكر في الزواج منه فانساق وراء
أطماعه ليصل إلى الحكم، أما إغريق بكتيريان فكانوا يؤلفون جيشًا من الجنود المدربين
قوامه عشرون ألفًا من المشاة وثلاثة آلاف من الفرسان، فأرسل عليهم برديكاس شطربة
ميديا المسمى «بيثون» وكان بدوره يرمي إلى إخضاعهم، ثم بعد ذلك يستخدمهم في
الاستيلاء على زمام الحكم من يد برديكاس غير أنه لم يكن في مقدوره منع الجنود
المقدونيين من ذبحهم، أما ما كان من أمر برديكاس فإنه بعد أن تخلص من أخطار عدة،
فإنه أصبح في مقدوره أن يعمل على تثبيت مركزه المحفوف بالمخاوف، ونعلم على حسب ما
ذكره لنا المؤرخ «هيرونيم» مواطن «كارديا»، أن «أوليمبياس» أم الإسكندر التي كانت
تمقته من أعماق قلبها تريد أن يتزوج من كليوبترا.
ويتساءل المرء هنا: هل كان مثل «ليونات» يرغب في أن يستولي على زمام الحكم وحده؟
وتدل الظواهر على أنه كان مكتفيًا في هذه اللحظة بوظيفة نائب الإمبراطورية، وذلك
لأنه على الرغم من نصائح صديقه «إيمنيس» أمين سر الإسكندر فإنه رفض الزواج من أخت
الإسكندر مفضلًا عليها ابنة «أنتيباتر»، ولكنه في الوقت نفسه كان يريد أن يصبح
نائبًا مطاعًا في إمبراطورية موحدة، وقد أفاد من تخلصه من حروب بلاد الإغريق إذ
فسح
له ذلك المجال لإتمام فتوحه في آسيا الصغرى.
والواقع أنه أخضع كلًّا من «أرمينا» و«بزيديا» و«أسوري» وبخاصة «كبودوشيا» التي
أصبحت شطربية يحكمها صديقه إيمنيس، ولكنه على الرغم من ذلك لم يكن في مقدوره أن
يمنع «أديا» حفيدة الملك برديكاس الثالث وهي ابنة سيناني Cynani حظية فليب أريدايوس من الذهاب مع والدتها إلى آسيا
الصغرى، وقد قتل تسيناني ولكن الجيش أجبر برديكاس على الزواج من الأميرة.
والواقع أن فليب لم يكن إلا ظلًّا في الحكم لأن هذه الملكة الفتية التي كانت في
الرابعة عشرة من عمرها — وهي التي سميت باسم «أيريديكي»
Eurydice — كانت تريد أن تثبت سلطان العرش وحقوقه، ومن جهة
أخرى كان خروج بعض شطاربة الإمبراطورية عليه أمرًا ملحوظًا، فعندما طلب برديكاس
إلى
«أنتيجونوس» مساعدة «إيمنيس» للاستيلاء على «كابودوشيا» لم يطِعْ أمره،
١ ومن ثم أصبح برديكاس في حرج، فعلى إثر رفض أنتيجونوس طلبه فر الأخير
إلى مقدونيا، وهناك تألف حلف من كل من أنتيجونوس نفسه ومن أنتيباتر وبطليموس
لمقاومة برديكاس وقد كان بطليموس ينتظر بثاقب رأيه تطور الحوادث بينه وبين برديكاس،
أما برديكاس فكان وقتئذ واقفًا موقف الحيران في أمره بين عَدُوَّيْهِ، هل يبادر
بالقضاء على أعدائه في مقدونيا أو يضرب ضربته الأولى في مصر؟ وأخيرًا انتهى به
الرأي إلى أن يقضي على عدوه بطليموس أولًا، وبعد القضاء عليه يوجه ضربته التالية
إلى أنتيباتر.
ولقد اتخذ «برديكاس» لنفسه الحيطة أولًا في آسيا الصغرى فجعلها تحت حراسة صديقه
«إيمنيس»، وعزز ذلك بأسطول لملاحظة الشواطئ، بإمرة القائد «كليتوس»
Clitos ثم عقد بعد ذلك معاهدة مع أهالي أتوالي
الذين كان عليهم أن يحاربوا أنتيباتر وبعد ذلك خلع شطربة كليكيا المسمى «فيلوتاس»
Philotas وهو صاحب «كراتريوس» ونصب مكانه آخر،
وكذلك خلع شطربة بابل المسمى أرخون، وكان على ما يُظن متهمًا مع بطليموس بخطف جثمان
الإسكندر، وكان يخاف خيانة كل هؤلاء، وأخيرًا عندما علم أن ملوك مدن جزيرة «قبرص»
كانوا في جانب بلطيموس ويحاصرون مدينة ماريون التي كانت باقية على ولائها له في
الجزيرة أرسل مساعدة لها.
٢
ولا ريب في أنه كان من حق برديكاس أن يفخر كل هذه الاستعدادات العظيمة التي تدل
على بعد نظر وروية، غير أنه في الوقت نفسه تجاهل الكُره السائد له الذي كان يعمر
قلوب كل أهالي الإمبراطورية، والواقع أنه كان لا يحفل بحب الناس له ما دام مطاعًا
فيهم، مما أدى إلى خيبته ولقاء حتفه في هذه الحملة التي رأسها لغزو مصر والقضاء
على
بطليموس عدوه الأول.
الحملة على مصر
زحف برديكاس بجيشه على مصر في ربيع عام ٣٢١ق.م عن طريق سوريا إلى الحدود المصرية،
وكان أسطوله بإمرة «أتالوس» يسير محاذيًا للجيش، غير أنه لم يكد يولي ظهره متجهًا
نحو مصر حتى أتته الأخبار أن «كراتريوس» و«أنتيباتر» عبرا «الدردنيل» لمهاجمته،
في
حين أن «أنتيجونوس» ولي شطره نحو «سارديس» حيث أراد أن يأخذ «إيمنيس» على غِرَّة،
٣ وكانت الطامة الكبرى عندما سمع
برديكاس أن قائد البحر كليتوس قد انضم إلى أعدائه، ثم حذا حذوه شطاربة «ليديا»
و«كاريا» و«مياندر» وأساندروس
Asandros، وأخيرًا
وجد أن القائد «نيوبتوليم»
Neoptoleme الذي كان
عليه أن يساعد «إيمنيس» قد انضم إلى معسكر أنتيباتر وكراتيروس، وقد زاد الطين بلة
أن جنود برديكاس الذين كان يقودهم أخذوا يقلقون باله بإظهار التمرد عليه، وآية ذلك
أنه عندما وصل إلى الحدود المصرية أراد أن يجعل لهذه الحملة التي قام بها على
بطليموس صبغة قانونية بأن يوافق الجيش عليها، ومن ثم دعا بطليموس ليظهر أمام المجلس
العسكري الذي كان يصدر الحكم عليه، وأنه إذا تخلف عن الحضور فإنه سيعلن عصيانه
وامتناعه عن الحضور أمام القضاء، وهذه الخطة التي رسمها برديكاس للقضاء على بطليموس
كانت قد نجحت من قبل مع أنتيجونوس في الخريف الماضي، ولو كان بطليموس من البساطة
وحضر المحاكمة للحكم عليه بأنه خارج على القانون بسبب أنه أخضع إغريق سيريني،
واستولى على بلادهم، كما أنه استولى على جثمان الإسكندر اغتصابًا، غير أن بطليموس
لم يكن ساذجًا فبدلًا من أن يرفض الحضور برَّأ نفسه بوساطة مفوضين عنه وقد أفلح
في ذلك،
٤ ولكن برديكاس لم يقنع بهذه البراءة ومضى في تنفيذ عزمه للقضاء على
بطليموس بحد السيف محافظة على كبريائه.
ومما يؤسف له جد الأسف أن برديكاس قد أظهر
في حربه التي شنها على بطليموس عدم كفاية، فلم يكن في مقدوره أن ينتخب مكانًا على
الفرع البلوزي للنيل ليعبر منه النهر دون خوف أو وجل، حقًّا نجده قد حاول عبر النهر
للمرة الأولى عند مكان كان يحميه بطليموس ويُدعَى «جدار الجمل»، وذلك أنه أخذ في
كرْي قناة قديمة مهجورة لأجل أن يجري فيها ماء النهر الذي كان يقف حجر عثرة في
طريقه، وبذلك عبر فرع النيل، ولكن هجومه على الحصن كلَّفه خلقًا كثيرًا دون فائدة،
وكان من جراء انطلاق الماء بشدة في القناة التي أصلحها أن غرق معسكره، وعندئذ ظن
برديكاس أن هناك مؤامرة دُبرت للقضاء على جنوده الذين بدءوا على إثر ذلك يفرون من
ساحة القتال، ولذلك لم ير بدًّا من أن يسير في النهر بجيشه نحو «منف»، وقد قام
بمحاولة جديدة لعبور النهر عند أسفل «بوبسطة» في مكان كانت توجد فيه جزيرة تقسم
تيار النهر، مما كان يسهل عليه عبور النهر، ولكنه أخطأ الحساب؛ إذ قُضيَ على
محاولته بالفشل الذريع، ففقد برديكاس هناك أكثر من ألفي مقاتل لاقوا حتفهم غرقًا
دون حرب، أو التهمتهم الحيتان على رأي ديودور.
وقد كان من جراء هذه الكارثة أن هاج الجيش على قائده الأعلى الذي أظهر عدم
الكفاية، فأعلن كبار الضباط في وجه برديكاس أنهم لن يطيعوا أوامره، في حين أن
فريقًا منهم من بينهم القائد العظيم «سيدوكوس» الذي أصبح فيما بعدُ ملك سوريا، قد
عاملوه بالطرق التي اعتاد الجيش اتباعها في محاكمة الضباط الخارجين، فحكموا عليه
بالإعدام وحزوا رقبته (يوليو سنة ٣٢١ق.م) وفي اليوم التالي من إعدام «برديكاس»
اجتمع رجال الجيش وظهر في وسطهم بطليموس محييًا ومسلمًا على المقدونيين بحب وسلام،
ثم قدم بعد ذلك اعتذاره عن سلوكه في محاربة برديكاس، ولما كان الجيش تنقصه الأطعمة
أمر بتوزيع القمح عليهم بكثرة كما أمد المعسكر بكل أنواع المؤن والذخيرة، ولقد كان
مسلك بطليموس بهذه الصورة مدعاة لحب الجيش واحترامه،
٥ وبعد ذلك عقد الجيش جلسة عرض فيها على بطليموس أن يحتل مكانة برديكاس
غير أنه أبى، وكان ذلك عن بعد نظر لأنه رأى أن توليه هذا المنصب يثير غيرة رفاقه
القدامى في الجيش، هذا فضلًا عن أن قبوله سيحرمه ملك مصر الذي يحرص عليه كل الحرص،
كما كان يلقي به في معمعة المغامرات التي لا بد منها لكل من يتولى نيابة حكم
الإمبراطورية التي خلفها الإسكندر، يضاف إلى ذلك أنه على الرغم من وجود فليب
أريداوس والإسكندر الرابع على العرش سويًّا، وكان برديكاس يصحبهما معه في كل مكان
ذهب إليه، فإنه كان لا يمكن المحافظة على الإمبراطورية بهذه الصورة.
وعلى أية حال كان بطليموس راضيًا بمصر نصيبًا له من هذه الإمبراطورية الضخمة، وقد
رأى بطليموس الحكمة ألا يترك مكان نيابة الإمبراطورية خاليًا فنصَّب كل من «بيثون»
و«أريدايوس» أحد المقربين من الإسكندر الأكبر وصيَّيْنِ على الإمبراطورية مؤقتًا،
هذا ولم يمضِ أكثر من يومين على وفاة برديكاس حتى وصلت أخبار الأحداث التي كانت
تجري في آسيا؛ فقد جاءت الأنباء بهزيمة كراتيروس على يد إيمنيس في كابودوشيا، وأنه
مات في ساحة القتال (حوالي عام ٣٢١ق.م) وأن أنتيباتر عندما وصل إلى كليكيا وجد نفسه
في مأزق حرج؛ إذ قُطعت بينه وبين مقدونيا المواصلات، هذا فضلًا عن أن الأسطول لم
يسعفه بالنجدة بل طارد في بحر قبرص قائد برديكاس، وذلك بأمر من أنتيجونوس وكليتوس،
والواقع أن هذه الأخبار المزعجة لو كانت قد وصلت قبل قيام برديكاس بالحرب على
بطليموس لأصبحت كارثة للأخيرة وأعوانه، غير أن نصر بطليموس على أنتيباتر وإنتيمونوس
يدعونهما لعقد اجتماع عام يكون مقره «تريباراديوس» (ربلة الحالية في سوريا)، وتدل
شواهد الأحوال على أن بطليموس لم يذهب مع الوصيين أو الملكين إلى مكان الاجتماع
حرصًا منه وبعد نظر؛ إذ الواقع أنه كان قد حدد أطماعه بالاكتفاء بملك مصر، فكان
عليه أن يبقى فيها ولا يخرج منها.
ولا نزاع في أن اجتماع تريباراديوس الذي عُقد في خريف عام ٣٢١ق.م كانت تسوده
البلبلة، وعلى أية حال انتهى بتنصيب أنتيباتر وصيًّا على الإمبراطورية، وقد أسفر
التقسيم الذي عمل في تريباراديوس تثبيت بطليموس في ملك مصر بوصفها ضيعة كسبها بحد
السيف.
٦ ومهما يكن من أمر فإنه لم يكن من المستطاع خلعه منها في هذه الأحوال بل
على العكس أضيفت له بلاد «لوبيا» و«سيريني» التي كانت فعلًا في قبضة يده، وتوثيقًا
لعُرى هذا الاتفاق زوَّج «أنتيباتر» ابنته «أيريديكي» من «بطليموس» ولا نزاع في
أن
بطليموس كان في مقدوره في هذا الموقف بعد انتصاره على برديكاس أن يصبح وصيًّا، غير
أن هذا المنصب الذي كانت تحفه عوامل الحقد والغيرة لم يُغْرِهِ ولم يخدعه، ومن ثم
أظهر مهارته السياسية وبعد نظره برفضه لهذا المنصب؛ إذ الواقع أنه كان لا يمكن
مهاجمته في شطربيته إلا من رعاياه الجدد، وعلى أية حال فإن التقسيم الذي اتفق عليه
في حلف تريباراديوس بالنسبة لمصر لم يكن إلا تأكيدًا للقرار الذي اتُّخذ سابقًا
في
«بابل» وفضلًا عن ذلك فإن مركز الإمبراطورية قد انتقل الآن من «آسيا» إلى «أوروبا»
وهذا كان أقل خطرًا على استقلال مصر.
حقًّا كان من نصيب «سيلوكوس» جد الأسرة المناهضة لمصر «بابل» غير أنه لم يكن من
المستطاع التنبوء بالعظمة التي سينالها بيته في المستقبل، ومن جهة أخرى ظهرت مملكة
أخرى بمقتضى حلف تريباراديوس كانت أعظم خطرًا من السابقة في بلاد الأناضول، وذلك
أن
أنتيجونوس الأعور قد حافظ هناك على حكوماته، واتخذ لنفسه لقب «الحاكم فوق العادة
لآسيا» والقائد الأعلى لجنود الإمبراطورية، وعلى الرغم من أن أنتيباتر قد تقدم في
السن فإنه كان مع ذلك نشطًا وطموحًا خاليًا من الشكوك، وعلى استعداد لأن يتتبع
خُطَا برديكاس، هذا وكان يلوح له وجود خطر يمكن
أن يهدد بطليموس نفسه في المستقبل ويجعله يندم على عدم اهتمامه بصورةٍ جِدِّية
بإمبراطورية الإسكندر، كما أنه أدرك إهماله في اجتماع تريباراديوس في عدم طلبه
صراحة ضم بلاد سوريا التي عزم في قرارة نفسه على أن يضمها إلى مصر لما كان لها من
أهمية بالغة لحفظ كيان بلاده كما دلت الأحداث التاريخية في كل عصور حياة مصر كما
فصلنا القول في ذلك.