ذكرنا فيما سبق أن بطليموس قد ضم بمقتضى حلف تريباراديوس إلى مصر «لوبيا» و«سيريني»،
غير أن أطماعه السياسية ومقتضيات الأحوال حتمت عليه إن هو أراد المحافظة على مصر
أن يضم
إليها بلاد سوريا، وذلك لأن مصر كان لا يمكن أن تصبح دولة بحرية قوية دون أن يكون
لها
موانٍ على شاطئ بلاد «فينيقيا».
تاريخ العلاقات البحرية بين مصر وسوريا من أقدم العهود
حتى عهد البطالمة
ولا غرابة في أن نجد بطليموس يلح في الاستيلاء على سواحل سوريا؛ إذ ليس ذلك
بالأمر الجديد فقد دلت البحوث الأثرية على أن مصر كانت لها علاقة بجيرانها
الآسيويين منذ عهد ما قبل التاريخ، وبعبارة أخرى منذ العهد الجزري،
١ وفي الأزمان التاريخية تظهر سياسة مصر في علاقاتها مع آسيا على الأقل
في خطوطها العريضة، وذلك على الرغم من أن المصادر ليست جلية تمامًا من حيث
التفصيلات الفنية، ومن أجل ذلك لم يظهر أمامنا بصورة جلية حتى الدولة الحديثة إلى
أي حد لعب الأسطول المصري دورًا حاسمًا في النشاط المصري التجاري والحربي في عرض
البحر، والواقع أن السياسة المصرية في آسيا كان لها غرض مزدوج وهو تأمين الحدود
المصرية والحصول على منتجاتها الثمينة، وذلك في طوال تاريخها، ففي العلاقات التي
كانت قائمة في سوريا كانت المصالح التجارية أكثر أهمية في حين نجد أن فلسطين كانت
أهميتها تنحصر بوجه خاص في قيمتها الاستراتيجية من حيث الأمان من الوجهة الحربية،
وكانت أهمية بلاد آسيا لا تقل عن أهمية بلاد السودان لمصر، ولذلك كان يعيَّن فيها
نائب لملك لمصر، غير أن سيطرة مصر على هذا الجزء من إمبراطوريتها كان يضيع من يد
مصر أو يعرض لخطر عظيم على الأقل عندما كان الحاكم المصري يظهر أي تراخٍ، وهذا هو
نفس ما وجدناه في عهد البطالمة الأول، هذا ونجد في فلسطين وعلى فترات في بلاد سوريا
مراقبة ملحوظة، وذلك إما بإقامة معاقل أو حاميات في المدن الهامة.
٢
وإما بمساعدة رؤساء المدن الذين نصبهم الفرعون ملوكًا هناك، وكانوا مرتبطين معه
بالمواثيق والهبات التي كان يغدقها عليهم، وكذلك بالرهائن التي كانت في العادة تمثل
أولاد الأمراء،
٣ وهذا هو نفس ما نجده في عهد البطالمة، والواقع أن الموظفين المصريين
كانوا يُرسَلون إلى آسيا للمحافظة على المصالح المصرية ولم يقوموا بأي دور حاسم
هناك كما كانت الحال في بلاد النوبة.
هذا وكان المصريون مهتمين بالحصول على الخشب الذي كان يُجلَب من لبنان وبخاصة من
بلدة «ببلوص» (جبيل الحالية) الواقعة على الساحل، وكانت أحسن ميناء لتصدير الخشب
المستخرج من هذا الإقليم، فقد كان لها نشاط تجاري عظيم مع مصر يرجع إلى العهد
الطيني كما تدل على ذلك الآثار المكشوفة هناك.
٤
ولا ريب في أن هذه المواصلات كانت عن طريق البحر، وقد جاء على حجر «بلرمو» أن
«سنفرو» قد أحضر أربعين سفينة محملة بخشب «عش»
٥ هذا ولدينا رأس بلطة للملك «خوفو» أو «سحورع» وُجدت في سوريا جاء عليه
اسم بحار مصري،
٦ وفضلًا عن ذلك نشاهد سفنًا مصرية مصورة في معبد سحورع وكذلك في طريق
الملك أوناس الذي كشف عنه المؤلف حديثًا،
٧ وأهمية هذه التجارة البحرية بالنسبة لجبيل يمكن أن تُلحظ في السفن التي
كانت تمخر عباب البحر في أثناء الرحلات إلى بلاد «بنت» فقد كانت السفينة تسمى
غالبًا سفينة جبيل «تاكبنتي»، هذا ونجد في البردية التي تحتوي على متن يُدعَى
«تحذيرات حكيم»
٨ الفقرة المشهورة التي تشير إلى انقطاع هذه التجارة في العصر المتوسط
الأول وهي: إن القوم لا يسبحون شمالًا إلى «ببلوص» اليوم، فماذا سنعمل من أجل خشب
الصنوبر (عش) لزيتنا؟ وهو الذي يحنط به الرؤساء حتى «كفتيو» (دكريت).
والواقع أنه كان لا بد لتفسير المواصلات النشطة التي بين مصر وببلوص أن يكون هناك
اتصال عن طريق البحر، وذلك لأنه كان من الصعب أن تستمر برًّا بطريق فلسطين البرية،
وكان لا بد للوصول إلى هذا من وجود سيطرة قوية على كل الساحل حتى ببلوص لأن طريق
البر كانت وعرة لقلة الماء ووعورة الطريق الجبلية التي تعترض الإنسان في سيره حتى
يصل إلى هذه الجهات.
٩
ولا نزاع في أن الأسطول المصري كان من وقت لآخر على الأقل يستعمل في الحروب في
فلسطين لتجنب وعثاء السير على الأقدام في الصحراء، ولا أدل على ذلك مما نقرؤه في
نقوش القائد «وني» وهي التي دوَّنها على لوحته المشهورة وترجع إلى الأسرة الخامسة،
فقد ذكر لنا أن جنوده المصريين قد أرسلوا إلى الساحل الفلسطيني لشن غارة على عصابات
هناك للقضاء عليها.
١٠
أما في عهد الدولة الوسطى فلا نعرف إلا القليل عن تفاصيل حروبها في سوريا، ومن
أجل ذلك ليس في استطاعتنا معرفة الدور الذي قام به الأسطول في خلالها، وفي عهد
العصر المتوسط الثاني لدينا براهين أثرية وبخاصة أواني تل اليهودية العظيمة
الانتشار تثبت أنه كانت هناك مواصلات غاية في النشاط بين مصر وآسيا، ولكن دون أنعرف
أي شيء عن التفاصيل الفنية، وهذا هو نفس ما ينطبق على النشاط الذي كان بين مصر
وسوريا في خلال الجزء الأول من الأسرة الثامنة عشرة، فقد ذكرت لنا النقوش أن ملوك
مصر كانوا أصحاب نشاط في سوريا، وأن «تحتمس» الأول وصل إلى نهر الفرات، وكذلك كان
رئيس المجدفين «أحمس بن أبانا» قد اشترك في الحملة التي قام بها «تحتمس الأول» على
«نهرين»، غير أنه ليس لدينا في النقوش ما يخوِّل لنا القول إن الأسطول قد قام بدور
حاسم في هذه الحملة، وتدل شواهد الأحوال على أنها كانت غارة عابرة للاستكشاف أكثر
منها محاولة جدية قصد منها جعل كل هذا الإقليم خاضعًا للنفوذ المصري، ولقد كان على
تحتمس الثالث أن يبتدئ من جديد غزو هذه البلاد بصورة جدية، وذلك لأن نشاط «حتشبسوت»
الحربي كان قليلًا جدًّا بالنسبة لمن سلف من ملوك مصر.
وحملات تحتمس الثالث المعروفة جيدًا وهي التي تحدثنا عنها في الجزء الرابع من هذه
الموسوعة بالتطويل لا داعي للتحدث عنها بالتفصيل هنا فنجده أولًا هدَّأ الأحوال
في
فلسطين، وعلى ساحل سوريا ومن هذه القاعدة نجح في تخريب بلدة قادش التي قاومته بعنف
ثم ضرب بعد ذلك أهل «ميتني» (نهرين) ضربة قاسية، وكانت أقوى أعداء تحتمس الثالث،
وأشدهم مقاومة، وذلك بتخريب هذه البلاد التي كانت تمتد على جانبي نهر
الفرات.
هذا ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن هذا النجاح الذي أحرزه تحتمس
في شمالي سوريا يرجع بوجه خاص إلى استراتيجية جديدة أُدخلت في العام الثلاثين من
حكم هذا الفرعون، والواقع أن حملة هذا العام التي انتهت بتخريب «قادش» يعتقد أنها
أول حملة استُعملت فيها السفن لنقل جنود الجيش، وعلى ذلك تكون أول عملية بحرية
عظيمة في تاريخ الإنسان، على أن البراهين المباشرة على صحة ذلك قليلة، وقد أشير
لهذه الحملة في تاريخ تحتمس الثالث بكلمة «حملة»، وخصصت الكلمة الدالة على ذلك
بصورة سفينة مما يدل على أن الملك قد قام بهذه الحملة عن طريق البحر إلى سوريا،
ومنذ ذلك الوقت أخذت قوة مصر البحرية تزداد اتصالًا ببلاد سوريا وفلسطين حتى نهاية
الأسرة الثامنة عشرة إلى أن جاء عهد «إخناتون» ففقدت مصر سلطانها البحري كما فقدت
ممتلكاتها في الجزء الشمالي من إمبراطوريتها الآسيوية، فحل محلها السوريون، وعندما
أخذت مصر تفيق من سباتها كان الوقت متأخرًا لإعادة هذه السيادة البحرية، وذلك لأن
المواقع الحربية كانت في فلسطين وجنوبي سوريا، ولم يكن هناك أي أمل في استرجاع
المديريات الشمالية التي فتحها تحتمس الثالث، وأخلافه، كما أن الأسطول الذي كان
يُستعمل فيما بعد لنقل الجنود ومُعَدَّات الحرب لم يكن ضروريًّا كما كانت الحال
من
قبل، وذلك لأننا لم نسمع عنه في الحروب التي جاءت بعد ذلك، فقد زحف سيتي
١١ الأول بجيشه في الصحراء، وكذلك يظهر أن رعمسيس الثاني لم يستعمل
أسطولًا عندما شن الحرب على قوم «خيتا»، يضاف إلى ذلك أن رعمسيس الثالث، قد قابل
أقوام البحر
١٢ عند مصب النيل وقضى عليهم بمساعدة سفن نيلية وبمعاضدة الرماة الذين
كانوا يرمون سفن العدو من الشاطئ، وأخيرًا نفهم من قصة
١٣ «ونآمون» الشهيرة أن قوة مصر البحرية في خلال الأسرة الواحدة والعشرين
وهي التي كانت في يوم من الأيام تسود الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط قد قضى
عليها قضاء مُبرمًا.
وقد ظلت حال البلاد كاسدة من الوجهة البحرية إلى أن جاء عهد النهضة المصرية في
خلال الأسرة السادسة والعشرين فأخذت مصر تتصل ببلاد اليونان اتصالًا وثيقًا وبدأت
تستخدم الجنود الإغريق والبحارة الإغريق في حروبها مع «بابل» و«الفرس». ولقد اضطر
المركز الدولي الملك «نيكاو» ثاني ملوك الأسرة السادسة والعشرين (٦٠٩–٥٩٤ق.م) أن
يعزز قوة بلاده البحرية، فاتخذ سياسة جديدة لم تنتهجها مصر منذ عهد «تحتمس الثالث»،
فأنشأ أسطولًا بحريًّا يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وكانت سفنه
على غرار السفن الإغريقية وقتئذ من التي لها ثلاثة صفوف مجدفين، ثم نجد أنه في
السنين الأولى من حكمه قد بدأ بداية حسنة في هذه الناحية لدرجة أن قوم الفينيقيين
المعروفين وقتئذ بمهارتهم البحرية قد أصبحوا تحت سلطانه، وتدل شواهد الأحوال على
أن
«نيكاو» كان يعمل لإعادة الطريق المائية التي يحتمل جدًّا أنها كانت موجودة في عهد
الأسرة الثانية عشرة، وهي عبارة عن قناة تأخذ ماءها من فرع النيل «البلوزي» لتصل
إلى السويس وبذلك توصل بين البحرين (راجع مصر القديمة الجزء ١٢ والجزء ١٣) والواقع
أن الأسطول الذي بناه نيكاو كان يعد أكبر أسطول تجاري في البحر الأبيض المتوسط في
عهده، ولا نزاع في أن هذا الأسطول كان النواة الأولى في إقامة مجد مصر البحري في
خلال الأسرة السادسة والعشرين، وحتى بعد أن استولى الفرس على مصر ثم جُلُوا عنها
نجد أن مصر أخذت تعيد مجد أسطولها البحري الذي حاربت به الفرس وساعدت به اليونان
في
حروبها مع الفرس وكذلك في تجارتها مع بلاد آسيا واليونان، ولا غرابة إذن أن نجد
من
أهم ما تصبو إليه نفس بطليموس الأول أن يستولي على سوريا ليكون في مأمن من غارات
مناهضيه ويبعد عن مصر كل خطر خارجي من هذه الجهة، غير أنه لم يتعجل الحوادث، وذلك
لأن العامين اللذين كان فيهما «أنتيباتر» وصيًّا على عرش الإمبراطورية قد قضاهما
في
وضع أحوال الدولة في نصابها، وبوجه خاص في «أتولي» في حين أن «أنتيجونوس» كان يطارد
آخر أتباع «برديكاس» وهو «إيمنيس» الذي أجبره بعد أن هزمه إلى الالتجاء إلى «وكر
النسر» الشهير في «نورا» بآسيا الصغرى، وبذلك أصبحت كل بلاد آسيا الصغرى في قبضته
تقريبًا، وفي خلال تلك المدة كان بطليموس يعمل جاهدًا في تثبيت ممتلكاته وتوسيع
رقعتها.
والواقع أن مصر منذ عهد «نيكاو الثاني» كانت تتطلع لمد نفوذها في بحر إيجه، ومن
أجل ذلك أصبح أسطوله يعد أكبر أسطول بحري في عصره (راجع مصر القديمة الجزء ١٢)،
ومع
ذلك نجد أنه قبل عهد الإسكندر كانت سياسة مصر متجهة بصورة خاصة نحو آسيا وبلاد
«كوش» ولقد كان لزامًا على البطالمة بطبيعة الحال أن يهتموا بدورهم بحدود بلادهم
الجنوبية، وكذلك يناهضون أعداءهم الآسيويين، غير أن الأحوال في تلك الفترة قد تغيرت
وأصبح بحر إيجه هو المكان الرئيسي الذي تدور فيه المعارك لكسب المكانة الأولى في
السياسة العالمية، وذلك أنه في هذا البحر وجزره وسواحله قد نشأت وترعرعت المدنية
الهيلانستيكية التي سيطرت بنفوذها على الأمم الأخرى، حقًّا إن أهل بلاد الإغريق
منذ
النصف الثاني من القرن السابع أخذوا يَفِدون على مصر كما أسلفنا ويتعلمون عنها،
غير
أن المصريين قد تخلفوا عن الإغريق الذين ساروا بركب الحضارة قُدُمًا.
ولقد كان من رأي الإسكندر وسياسته التي يرمي إليها هو اتباع سياسة إدماج السلالات
التي استولى عليها، وأن يعيد نهضة الشرق، فكان يرى أن البلاد الشاسعة التي أخضعها
لسلطان قواته والتي كانت عواصمها في آسيا، أن لها مكانة تعادل مكانة مقدونيا وبلاد
الإغريق، ولكن تدل الظواهر على أن فكرة الإسكندر كانت تنحصر في أن الثقافة
الهيلانستيكية يجب أن تكون متأصلة في كل إمبراطوريته على ألا تكون هذه الثقافة خاصة
بعلية القوم، بل يجب أن تنتشر بين كل طبقات الشعب بقدر المستطاع، ونحن نعلم الدور
الذي خصصه الإسكندر للمدن الإغريقية سواء أكانت المدن القديمة أم التي أنشأها، وهذا
النفوذ الذي نالته الثقافة الهيلانستيكية كان لا يمكن أن يعظم إلا إذا أصبحت
مقدونيا مهد الملكية من جديد.
والواقع أن «مقدونيا» كانت تحتل فعلًا هذه المكانة بطبيعة الحال، وذلك لأنها كانت
تحتل مكانة لا ينازعها فيها منازع في كل مرافق الحياة الاقتصادية والسياسية، وفي
خلال القرن الثالث قبل الميلاد كانت بلاد الإغريق مزدحمة بالسكان وممتلئة بالحماس
وغنية بالنشاط الفياض، ولما كان رؤساء المقدونيين الذين قسموا حكم الإمبراطورية
التي خلفها الإسكندر فيما بينهم قد أرادوا أن يُظهروا قيمة البلاد التي يحكمونها
فإنهم من أجل ذلك كانوا في حاجة متزايدة للنشاط الصناعي الذي كان ينمو في هذه
الجمهوريات الإغريقية الصغيرة، وهي التي كانت قد مزقت وحدتها الأحزاب، ولكن على
الرغم من ذلك كانت تزخر بالشخصيات أصحاب العبقريات الجبارة، وقد رأينا عند التحدث
عن «بسمتيك الأول» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين في مصر كيف أنه استعان بالجنود
المرتزقة المدرَّبين على فنون الحرب لإحياء مجد مصر من جديد، ولا نزاع في أن مصر
كانت في حاجة ماسة إلى الإغريق وثقافتهم، وبخاصة عندما نعلم أن كل البلاد التي حول
البحر الأبيض المتوسط قد اعتنق حكامها الثقافة الإغريقية، وها نحن أولاء نرى
الإسكندرية تفتح باب مصر على مصراعيه على هذا البحر، والواقع أنه بفضل هذه الميناء
العظيمة الاتساع كان وادي النيل يتعلم من العالم الإيجي الآراء الجديدة، كما كان
يتبادل معه محاصيل تربته وصناعتها، هذا بالإضافة إلى ما كان يأتي عن طريقها من
البلاد الإفريقية ومن بحر الهند، ولا نزاع في أن التجارة كانت من أعظم مقومات
الحياة في مصر عن طريق البحر، ولن ندهش إذن عندما نرى بطليموس قد استولى في خلال
السنتين اللتين أعقبتا اتفاق «تريبا راديوس» على بلاد سوريا من أول لبنان، جنوبا
إلى ما نسميه الآن فلسطين، وهو الجزء الذي كان يسميه الإغريق عادة في تلك الأيام
سوريا الجوفاء، وذلك بالنسبة لانخفاض وادي الأردن.
وقد كانت هذه البلاد عند اتفاق «تريبا راديوس» من نصيب إغريقي يُدعَى «لاؤميدون»
Laomedon وقد حاول بطليموس في بادئ الأمر أن
يشتريها منه بمبلغ من المال،
١٤ وقد لمح له بأنْ لا فائدة من المعارضة في موضوع قد اتفق عليه مع كل من
أنتيجونوس وأنتيباتر، وعندما رفض لاؤميدون غزا بطليموس سوريا بجيش مصري بإمرة قائد
يُدعَى «نيكانور»
Nicanor وهو أحد سمار بطليموس
الذي كان بدوره على رأس أسطول ممتد على الساحل يحض المدن الفينيقية على التسلم،
ولم
يمض طويل زمن حتى استولى بطليموس على هذه البلاد بعد أن فر لاؤميدون هاربًا، ويقال
إن بطليموس استولى في خلال هذه الغزوة على أورشليم في يوم سبت؛ أي في يوم كان
يحرِّم فيه الدين اليهودي على معتنقيه العمل،
١٥ غير أن المؤرخ «بوشي لكلرك» يظن أن هذا الحادث قد وقع على أغلب الظن
بعد ذلك عام ٣١٢ق.م، ولا نزاع في أن بطليموس كان لا يمكنه تجنب الاستيلاء على هذه
المدينة من هذا المجتمع الغريب (كما كان يظهر للإغريق) عندما كان يمد سلطانه على
فلسطين في خلال عامي ٣٢٠–٣١٨ق.م، وعلى أية حال فإن فتْح سوريا وتملُّكها كان من
التقاليد المصرية القديمة، كما ذكرنا من قبل، منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة إذ
كانت بمثابة سد في وجه كل الممالك المعادية لمصر في آسيا، ولا ريب في أنها كانت
ضرورية لمصر في هذه الفترة من تاريخها البحري في عهد البطالمة، غير أن بطليموس
باحتلال هذه البلاد قد خلق سببًا لتذمر أي قائد عظيم يطمع في أن يكون سيد كل
الإمبراطورية المقدونية كما سنرى بعد.
وقد كان بطليموس يرى لأجل أن تكون مصر دولة بحرية قوية أنه لا بد من الاستيلاء
على قبرص، وكانت تسيطر عليها وقتئذ أسرات من أهلها فلم تكن من أجل ذلك غنيمة باردة
يمكن الاستيلاء عليها بمجرد القوة، وذلك لأن هذه الأسرات كانت صديقة لأولئك الحكام
الذين اشتركوا في اتفاق «تريباراديوس» وأن الهجوم عليهم يعد فضيحة، فكان على
بطليموس أن ينتظر حتى خلق فرصة يمكن بها تحويل هذه الجزيرة إلى ضيعة خاصة
ببطليموس.
النزاع بين بوليبرشون وكاسندر
ولكن مما يؤسف له أن آراء أنتيباتر قد رُفضت وقوبلت من أول الأمر بالمعارضة
الشديدة من قِبَل كاسندر الذي لم يرضَ أن يقبل مركزًا ثانويًّا، ولذلك لم يُطِقْ
سيادة بوليبرشون عليه، وتدل شواهد الأحوال على أن النزاع قد بدأ بين الوصي وكاسندر
منذ البداية، حقًّا كان بوليبرشون قد أحرز بعض النفوذ والسلطان عام ٣٢١ق.م أثناء
الحوادث التي جاءت على أعقاب حرب «لاميا» إذ أعاد «تساليا» إلى حظيرة الإمبراطورية
المقدونية لكن بوجه عام كان نفوذه ضعيفًا وأخذت سلطته تتداعى أمام أطماع كاسندر
الذي أخذ في البحث عن حلفاء يجمعهم حوله لمناهضة الوصي من أولئك الذين كان من
فائدتهم زعزعة أركان الإمبراطورية، ونخص بالذكر منهم «ليزيماكوس» شطربة «تراقيا»
و«أنتيجونوس» الذي استولى وقتئذ على فرجيا «هلسبونت» و«ليديا»، وكذلك بطليموس حاكم
مصر. وكانت الغاية التي ترمي إليها سياسة بطليموس وما تصبو إليه نفس أنتيجونوس هي
مساعدة كاسندر للقضاء على بوليبرشون ووصياته، والواقع أن أنتيجونوس كان كل أمله
بعد
موت أنتيباتر أن يكون هو الحاكم الحقيقي لإمبراطورية الإسكندر في آسيا، وقد كان
وقتئذ يملك جيشًا جرارًا يعتبر أكبر قوة حربية في أنحاء الإمبراطورية
جميعًا.
وقد كانت الأسرة المالكة قبل هذه الفترة لا تُعَدُّ شيئًا مذكورًا بالنسبة لمهام
الحكم، غير أنها مع ذلك كانت محترمة في أعين الشعب، ولكن نرى منذ الآن أن تفضيل
أنتيباتر لزميله بوليبرشون الذي كان يميل إلى البيت المالك وخروج كاسندر عليه جعل
كل قوة الإمبراطورية في ثورة على الأسرة المالكة، وقد فطن بوليبرشون وصحبه إلى تحرج
مركزهم أمام حركات كاسندر وحلفائه، ومن أجل ذلك اجتمع كبار الضباط في مقدونيا
للتدبير في الأمر، فعقدوا العزم على دعوة أوليمبياس أم الإسكندر من أبيروس لأجل
أن
تصبح الوصية على حفيدها الإسكندر أجوس ابن روكزان، ولتضع مهام الأسرة في آسيا في
يد
إيمنيس بتنصيبه القائد الأعلى هناك
١٧ وأن يحارب كاسندر في أوروبا، وذلك بعد أن يكسبوا لجانبهم حسن نية
الإغريق وتعضيدهم.
وقد كان هذا أمرًا ممكنًا يمنح الإغريق حريتهم التي سُلِبوها والقضاء على
الحكومات المستبدة والحكومات العسكرية التي كانت شائعة في المدن الإغريقية في عهد
وصاية أنتيباتر، وفي الحق كان آخر أمل في المحافظة على وحدة إمبراطورية الإسكندر
والإبقاء عليها سليمة يتوقف الآن على إخلاص إيمنيس ومهارته الحربية، ومن أجل ذلك
وضع الوصي بوليبرشون أموال الإمبراطورية وجنودها في آسيا تحت تصرفه، وبخاصة فرقة
جنود «الأرجيراسبيديس»
Argyraspides الذين عُرفوا
بشجاعتهم كما عُرفوا بخيانتهم، وقد وجهت إليه أوليمبياس خطابًا مؤثِّرًا طالبة إليه
النصيحة بوصفه الصديق الوحيد المخلص الذي يمكن للأسرة المالكة أن تتطلع إليه في
هذه
الأزمة القاسية، وقد أجابها إيمنيس مؤكدًا إخلاصه وولاءه لنصرة الأسرة، ولكنه في
الوقت نفسه نصح لها بألا تغادر أبيروس إلى مقدونيا وأنها إذا أتت إليها فعليها أن
تبتعد عن أعمال الانتقام والبطش بأعدائها، غير أنها أتت إلى مقدونيا ضاربة عُرْض
الحائط بكل ما نصح به إيمنيس ولكن على الرغم من أن لقبها الضخم بوصفها أم الإسكندر
الأكبر قد جذب إلى جانبها حب الشعب فإن ما ارتكبته من فظائع وآثام مع حزب أنتيباتر
قد ولَّد عداوة شديد على الأسرة المالكة التي كانت قد أخذت فعلًا في الانحدار نحو
الهاوية بسبب سوء تصرف أوليمبياس، ومع ذلك نجد أن إيمنيس لم يتخلَّ عن الأخذ بناصر
الأسرة الحاكمة على الرغم من العروض الخلابة المغرية التي كان يقدمها له أنتيجونوس،
١٨ والواقع أن إيمنيس قد أتى بالمعجزات في الحرب، غير أنه في نهاية الأمر
قد لقي حتفه خيانة على أتباعه (٣١٨–٣١٦ق.م).
أما الحرب التي قامت في بلاد الإغريق بين كاسندر وبوليبرشون فقد انتهت بنصر الأول
عام ٣١٦ق.م وذلك بعد معارك دامية.
وقد كان أول ما عمله بوليبرشون لأجل أن يجعل المدن الهيلانية في جانبه أنه أصدر
مننشورًا صرح فيه بإعادة دستور عهد «فليب الثاني» و«الإسكندر الأكبر» إلى المدن
الإغريقية، وبه أعاد لها استقلالها وحريتها، كما أمر بعودة المنفيين منها إلى
أوطانهم وقد كان هذا المنشور في صالح حزب الشعب، وفيه القضاء على الحكام المستبدين
أصحاب أنتيباتر وكاسندر.
ومن أهم الثورات التي قامت تعضيدًا لهذا المنشور تلك الثورة التي شبت في أثينا،
فقد رأيناها تعود إلى الحكم الديمقراطي، وحكمت بالإعدام على «فوسيون» عام ٣١٨ق.م
ولكنها لم تلبث أن وقعت من جديد في قبضة كاسندر عام ٣١٧ق.م حيث أقام فيها حكومة
ملكية مهذبة على رأسها صاحبه «ديمثريوس» من أهالي «فالين»، وقد كان من جراء هذه
الحروب التي استعرت نارها بين الرؤساء أن هلك فيها خلق كثيرون وانقسمت الأسرة
المالكة قسمين، فكان «كاسندر» في جانب «فليب أريداوس» و«أيريديكي»، في حين كان
«بوليبرشون» يناصر نفوذ «أوليمبياس» و«روكزان» وابنها الإسكندر الرابع، ولما أصبح
النصر في جانب أوليمبياس أمرت بقتل «أيريديكي» و«فليب أريداوس» غير أن كاسندر
حاصرها في بيتها وبعد مقاومة جبارة سلمت وحكم عليها بالإعدام بوساطة نفس أولئك
المقدونيين الذين كانوا قد هللوا لها من قبل (٣١٧-٣١٦ق.م).
وتفسير ذلك أنه عندما اشتدت نار الحرب بين كاسندر وبوليبرشون بسبب الأحقاد التي
كانت بين أعضاء أسرة الإسكندر الأكبر نجد أن فليب أريداوس وزوجه أيريديكي قد أزعجها
وأوغر صدراهما إرجاع أوليمبياس الذي كان يسعى إليه بوليبرشون، ومن أجل ذلك طلب
المساعدة من كاسندر وعَمِلَا على وضع كل قوة مقدونيا تحت تصرفه، غير أن مساعيَهما
باءت بالفشل، وذلك في حين أن أوليمبياس بمساعدة بوليبرشون وأمير أبيروس «أياكيدس»
Aeakides دخلت بلاد مقدونيا ثانية في خريف عام
٣١٧ق.م، وقد أحضرت معها روكزان أرملة الإسكندر الأكبر ومعها ابنها الإسكندر الرابع،
وقد تجمع الجنود المقدونيون بقيادة أريداوس وأيريديكي لمقاومتها غير أن اسمها قد
أنزل في قلوبهم الرعب والرهبة بوصفها أم الإسكندر لدرجة أنهم رفضوا محاربتها، ومن
ثم نالت نصرًا سهلًا رخيصًا، وبعد ذلك أصبح كل من فليب أريداوس وأيريديكي أسيرًا
عندها، وعندئذ أمرت بذبح الأول أما أيريديكي فقد خُيِّرَتْ بأن تأتي على حياتها
بنفسها إما بحد السيف أو بالشنق أو بالسم.
١٩
وبعد أن تم لأوليمبياس هذه الملكة العجوز ما أشبع شهوة انتقامها من أسرة أنتيباتر
عدوها الأكبر، وفي أعوانه قضت على مائة من مشاهير المقدونيين من أصدقاء كاسندر،
هذا
بالإضافة إلى أخيه «نيكانور» فقد أمرت بقتله،
٢٠ وأخيرًا أمرت بكسر ضريح أخيه «أولوس»
Iollos الذي قيل عنه إنه سم الإسكندر الأكبر.
وقد ظلت أوليمبياس سيدة الموقف تمامًا في مقدونيا مدة شتاء هذا العام، غير أن
كاسندر لم يلبث أن دخل مقدونيا دون مقاومة بعد قيامه بمناورات حربية بارعة للوصول
إلى ذلك، ولما لم يكن لدى أوليمبياس جيوش للوقوف في وجه كاسندر فإنها اضطُرت إلى
الاحتماء بقلعة «بيدنا» البحرية مع «روكزان» وابنها «الإسكندر» و«تيسالونيك»
Thessalonike ابنة زوجها فليب بن أمينتاس،
٢١ فحاصرها كاسندر عدة شهور بحرًا وبرًّا كما قضى على كل محاولة من جانب
بوليبرشون لخلاصها، وفي ربيع عام ٣١٦ق.م أُجبرت على التسليم بسبب الجوع الفتاك،
ولم
يَعِدْها كاسندر بأي شيء غير سلامتها وطلب إليها أن تسلم قلعتي «بلَّا»
Pella و«أمفيبوليس» العظيمتين، وبذلك أصبح سيد كل
مقدونيا، ولم يمضِ طويل زمن حتى طلب أقارب الذين قتلتهم أوليمبياس الانتقام لقتلاهم
منها، وكان ذلك بإيعاز من كاسندر، فحُكم عليها بالإعدام، ويقال إنها قد ماتت شُجاعة
جديرة بمكانتها وأخلاقها الجبارة، أما «تيسالونيك» فقد تزوج منها كاسندر وحبس كلًّا
من روكزان، وابنها في قلعة أمفيبولس وبعد فترة قصيرة أمر بذبحهما.
٢٢
بطليموس وإخلاء سوريا
أما الدور الذي لعبه بطليموس في هذا الحلف فلم يكن فيه ما يدهش فنجده في أول
القتال الذي نشب يطوف بأسطوله على ساحل كيليكيا دون أن يتمكن من منع إيمنيس في
تكوين جيش لمحاربة حلفه، هذا ونعلم أن جنود «الأرجيرابيديس» الذين كُلفوا في عام
٣٢١ بحمل «كنوروس» إلى «كيندا» Kyinda لم يكن في
مقدور بطليموس أن يقربهم إليه ويجعلهم ينخرطون في جيشه، بل انضموا إلى إيمنيس، وقد
اضطر بطليموس إلى إخلاء سوريا عندما دخلها إيمنيس، وذلك لحاجته إلى مواني «فينيقية»
لبناء أسطول عام ٣١٨ق.م، ولم يعُدْ إليها إلا عندما انتصر أنتيجونوس انتصارًا
ساحقًا عند الدردنيل في صيف العام السابق نفسه، وقد كان من جراء ذلك أن دعي إيمنيس
إلى آسيا حيث مات، وقد دخل بطليموس سوريا وفينيقيا هذه المرة دون قتال، وبعد ذلك
ترك الأمور تجري في مجاريها التي اقتضها الأحوال دون أن يُدخل نفسه في غمار هذه
الحروب التي كانت مستعرة في الشرق الأقصى بين أنتيجونوس وإيمنيس، وكذلك الحروب التي
كانت دائرة رحاها في بلاد اليونان، وفي مقدونيا بين كاسندر وبوليبرشون، وقد وقف
بطليموس في أثناء هذه الحروب موقفًا صحيحًا؛ إذ قام بدوره بوصفه شطربة مصر فنقش
على
نقوده اسم الملك «فليب أريداوس» وعندما قُتل الأخير هو وزوجه أيريديكي على يد
أوليمبياس وضع اسم الإسكندر الثاني بن روكزان بدلًا منه (٣١٦–٣١١ق.م).
وقد شغل بطليموس نفسه في خلال تلك المدة ببناء المعابد وإصلاح ما تهدَّم منها، ثم
أخذ بوجه خاص ينمِّي العلاقات التجارية بين مصر وجاراتها، والواقع أنه أفاد من
السكينة في بلاده في الوقت الذي كان فيه العالم الهيلانستيكي في حروب طاحنة، وقد
كانت مصر وقتئذ معتادة على التجارة بالمبادلة، ومن ثم لم تكن تُتداول فيها النقود
الأجنبية، على أن النقود المصرية كانت موجودة في عهدَيِ الأسرتين التاسعة والعشرين
والثلاثين، وقد ضربها ملوك هاتين الأسرتين خصيصًا لدفع أجور الجنود المرتزقة كما
تحدثنا عن ذلك في الجزء الثالث عشر من هذه المجموعة،
٢٣ وكانت التجارة الداخلية تستعمل السبائك التي كانت تُقبل بالوزن، وقد
أراد بطليموس أن يكون له عملة خاصة به وانتخب أولًا العيار «الأتيكي» ثم العيار
«الروديسي» وأخيرًا العيار «الفينيقي»، وهو العيار الذي اتُّفق عليه نهائيًّا في
مصر عند ضرب نقوده، وقد حلَّى بطليموس نقوده بوضع صورة النسر عليها، وهو الذي أصبح
فيما بعد رمز الأسرة الخاص، وقد صُور النسر في بادئ الأمر جاثمًا، ثم على يد الإله
«زيوس» أو على حلقة الآلهة «أثينا» «ألكيس»
Alkis،
وبعد ذلك رُسم وحده ناشرًا جناحيه على ظهر كل قطعة من النقود المصرية، غير أنه لم
يضع صورته على هذه النقود.
٢٤
هذا ولم يغفل «بطليموس» في الوقت نفسه جزيرة «قبرص» المجاورة له، وهي التي كان
يريد ضمها إلى أملاكه مع سوريا، فقد وضعها تحت حمايته، وذلك بإبرام محالفات مع
الأسرة التي كانت تحكمها وبخاصة أسرة «سوليس» Soles ويحتمل أن «أينوستوس» صاحب «سوليس» هو الذي أصبح فيما
بعد حماه، وقد أطلق اسمه بعد ذلك على ميناء «الإسكندرية» الغربية، وذلك لأن اسم
«أينوستوس» Enuostos يدل على فأل حسن، وكذلك
أبرم معاهدة مع أمراء «سلاميس» Salamis
و«بافوس» Paphos.
وبعد ذلك نجده أخذ ينظم شئونه المنزلية، ولا غرابة في ذلك؛ لأنه عندما وجد نفسه
لا شأن له مع «أنتيباتر» ولا مع «كاسندر» أجبر زوجه «أيريديكي» على أن تقبل على
نفسها ضرة كانت قد أحضرتها بنفسها من «مقدونيا»، وكان «بطليموس» مغرمًا بها لدرجة
عظيمة، ولذلك كان لا بد أن تحل مع «أيريديكي» يومًا ما، وهكذا نجد أن شخصية ثالثة
دخلت بيت «بطليموس» وأعني بذلك «برنيكي» وهي التي أصبحت بطبيعة الحال أم أسرة
البطالمة، وقد بالغ الشعراء فيما بعد في جمالها كما تحدثوا عن الحب الشريف الذي
ربط
بين الزوجين، ولكن هؤلاء الشعراء لم يَفُتْهُم القيام بتلميحات عابرة لاذعة عن
أخلاق «أيريديكي» دون رحمة أو شفقة منهم.
وسواء أكان «بطليموس» قد أحب هذه المرأة لذاتها أم لنسبها فإنه ليس هناك شك في أن
التاريخ لا يمكن أن يأخذ بصفة جدية شجرة النسب الرسمية التي أُلِّفت لها، فقد ورد
في نسبها أنها كانت أخت «بطليموس» من أبيه، وحتى من جهة أمها فإن نسبها لم يخْلُ
من
غمز، وإذا كان ما قيل عنها من أنها كانت قد تزوجت قبل «بطليموس» من رجل من عامة
الشعب صحيحًا، فإن ذلك يعد موضع دهشة، فقد قيل إنها بنت أخت «أنتيباتر» ومن ثم تكون
قد نزلت بنفسها إلى منزلة مزرية بهذا الزواج الأول، والأمر المؤكد أن «برنيكي» كانت
أرمل وأن الأطفال الذين وضعتهم من زوجها الأول قد تبناهم «بطليموس بن
لاجوس».
على أن الوقت المناسب ليشترك فيه «بطليموس» في الحرب التي ظل خارجًا عن نطاقها
حتى الآن قد حان، وكان ذلك في حوالي شهر يوليو سنة ٣١٦ق.م، وذلك أنه في حين كان
«كاسندر» سيد «مقدونيا» وفي حين كانت الأسرة المالكة قد اختفت من المسرح نجد أن
هزيمة «إيمنيس» وموته قد حدثا تقريبًا في نفس الوقت الذي قبض فيه على «أوليمبياس»،
وبذلك اختفى آخر رجل مخلص للأسرة المالكة في «آسيا» ولكن نجد في الوقت نفسه أن هذا
الحادث قد ترك في يد «أنتيجونوس» سلطانًا ضخمًا في كل «آسيا» مما جعله يطمح إلى
أن
يصبح النائب على كل إمبراطورية «الإسكندر» وكذلك ينتقم من «كاسندر» لقضائه على
أفراد الأسرة المالكة، والواقع أن قوته قد ظهرت بصورة جبارة حتى إن «كاسندر» صاحب
«مقدونيا» و«ليزيماكوس» حاكم «تراقيا» وبطليموس شطربة مصر و«سيلوكوس» شطربة بابل
عقدوا سويًّا اتفاقًا تدريجًا انتهى بأن أصبح حلفًا قويًّا على «أنتيجونوس» وفي
أثناء استعداد «أنتيجونوس» للحرب للاستيلاء على ساحل سوريا وصَلَهُ في ربيع عام
٣١٥ق.م في مركز قيادته إنذار نهائي من رجال الحلف الذين طلبوا إليه إعادة «سوريا»
بأكملها «لبطليموس» والنزول عن «فرجيا الدردنيل» للقائد «ليزيماكوس»، وعن بابل
«لسيلوكوس» وعن «ليسيا» و«كابودوشيا» «نسندروس»، ويحتمل كذلك أنه طلب إليه أن يسلم
«مقدونيا» لكاسندر، فضلًا عن ذلك يتسلم كل من هؤلاء الحلفاء نصيبًا من النقود التي
استولى عليها عَنوة بوصفها غنيمة من «إيمنيس» عدوهم المشترك، وفي مقابل ذلك يعترف
الحلفاء له بأن يصبح حاكمًا على شطربيات آسيا العليا ويتركونه مسيطرًا على هذه
الأملاك الشاسعة التي تعادل في اتساع رقعتها ما يقرب من مساحة الإمبراطورية
الفارسية القديمة، وإذا لم يقبل هذه الشروط فإن الفاصل بينهم وبينه سيكون حد السيف،
وقد أجاب «أنتيجونوس» بأنه على استعداد لخوض غمار الحرب، وبذلك قطعت المفاوضات
معهم.
ومنذ هذه اللحظة بدأ «أنتيجونوس» الذي كان يعلم أنه سيهاجم من كل جهة يأخذ لنفسه
العدة فأرسل القائد «إيجيسيلاس» إلى «قبرص» كما أرسل القائد «أدومنيس»
Idomenes، و«موشيون»
Moschion إلى «رودس» والقائد أريستوديم
Aristodime إلى «البلوبونيز» ومعه مال وفير لتجنيد جيش ليصد
كاسندر بمساعدة «بوليبروشون»، أما «أنتيجونوس» فقد قام لمهاجمة سوريا بنفسه في حين
أن بطليموس لم يبدِ أية محاولة للذود عن «سوريا» ظنًّا منه أن من الحزم ألا يعود
كرة أخرى إلى الطريقة التي نجحت معه منذ ثلاثة أعوام مضت، وذلك بأن ينتظر سير
الحوادث في الجهات الأخرى التي يهاجم فيها «أنتيجونوس» أعداءه، ومن أجل ذلك سحب
جيشه منذ بداية المناوشات من المواني «الفينيقية» وأرسل أسطوله يجول حول شواطئ
البحر، وكان يشمل مائة سفينة شراعية بقيادة «سيلوكوس»، وذلك ليمنع «أنتيجونوس» من
جمع أسطوله ومن قطع العلاقات مع المدن الإغريقية، وقد نجح «سيلوكوس» في إنزال ثلاثة
آلاف رجل في «قبرص» لمساعدة حلفائه على الفريق الذي كان ضلعه مع «أنتيجونوس»،
٢٥ يضاف إلى ذلك أن «بطليموس» عندما علم أن «أنتيجوس» قد أرسل نداءً للمدن
الإغريقية محضًّا إياها على القيام بثورة على «كاسندر» ومع هذا النداء أرسل مرسومًا
وهو تجديد المرسوم الذي نشره «بوليبرشون» عام ٣١٩ق.م مؤكدًا فيه تحرير بلاد اليونان
من ذل العبودية التي لم يتعودها، فإنه قام من ناحيته بنشر منشور آخر يعلن فيه منح
مدن الإغريق حرية أكثر من التي يمنحها «أنتيجونوس».
٢٦ وقد كان من جراء عمل «بطليموس» هذا أن وضع «الأثينيون» كل ما لديهم من
قوة بحرية في خدمة الحلف وكانوا فخورين بعملهم هذا.
وكان «بطليموس» قد غالى في إيمانه بقوة حلفه كما كان يبني آمالًا على فرص
المستقبل، ولكنه كان يجمع قواته على مهل في الوقت الذي كان «أنتيجونوس» يظهر فيه
نشاطًا جبارًا إذ أمر ببناء أسطول تحت أعين البحارة المصريين وبصرهم في مواني
«طربوليس» و«ببلوص» و«صيدا» وفي «كليكيا» و«رودس»، هذا فضلًا عن أن «سيلوكوس» لم
يكن في مقدوره منع الاستيلاء على «يافا» أو على «غزة» اللتين استولى عليهما
«أنتيجونوس» نفسه،
٢٧ وكذلك لم يستطع منع محاصرة «صور» وهي المدينة الوحيدة التي أغلقت
أبوابها في وجه «أنتيجونوس»، ومما زاد الطين بلة أنه لم يفلح في الاستيلاء على
السفن التي كانت في طريقها إلى «رودس» و«الهليسبونت»،
٢٨ وعلى ذلك شعر بطليموس أنه لا سبيل للمماطلة، وتعليل النفس بالأماني
فيجمع في «قبرص» أسطولًا عظيمًا، على ظهره عشرة آلاف جندي من المشاة، وذهب لينضم
إلى العمارة البحرية التي كانت بقيادة «سيلوكوس»، ويحتمل كذلك بالفرقة الأثينية
كما
يقول المؤرخ «بوشي-لكلرك»
٢٩ الذي أمر كذلك بالعودة من «أريترا»، وقد كان الجزء الأعظم من هذه القوة
مصيره إلى أن يحارب في «كاريا» أما «سيلوكوس» الذي أظهر أنه «قائد بحري» قليل
الكفاية فإنه بقي في «قبرص» مع «منيلاوس» أخي «بطليموس» يُثَبِّط من هِمَم حزب
«أنتيجونوس» ويمنع خيانة الحزب المصري هناك، وقد أصاب نجاحًا في ذلك بعد مشقة عظمية،
٣٠ وقد كان كل خوف «بطليموس» من «أنتيجونوس»، فلم يرغب في ترك مصر دون
الدفاع عنها كما أنه لم يرد أن يغادر مصر لتقدم «أنتيجونوس» في الزحف عليها إلى
أن
وصل إلى «يافا» و«غزة»، وبذلك كان في إمكانه أن ينقض على أرض الكنانة في أي
لحظة.
غير أن الحظ خدم «بطليموس» في هذه اللحظة الحرجة أكثر مما ساعدته الاحتياطات التي
اتخذها لحماية مصر، وذلك أن قائده البحري «بوليكليتوس» Polyclitos عند عودته من حرب في البيلوبونيز كان من حسن حظه أن
هاجم «غزة» جزء من أسطول «أنتيجونوس» على ساحل «كليكيا» وهزمه هزيمة ساحقة لم يكن
في مقدور «أنتيجونوس» في هذه اللحظة أن يكسر شوكة «صور» التي حاصرها، ولم يجسر في
الوقت نفسه على أن يغادر سوريا تاركًا هذه الميناء مفتوحة خلفه، ومن أجل ذلك فكر
في
أن يعقد صلحًا منفردًا مع «بطليموس» غير أن المفاوضات في ذلك فشلت، وفي خلال عام
٣١٤ق.م وهو العام الثاني للحرب التي شُنت على «أنتيجونوس» كانت الانتصارات سجالًا،
ولم يكن الأسطول المصري في هذه الحرب يشغل إلا مكانة ثانوية، وقد ترك «صور» محاصَرة
إلى أن تسلِم تحت ضغط الجوع والقحط، وكانت هي العقبة الوحيدة التي تقف في وجه جيوش
«أنتيجونوس» المهاجمة، وبعد أن تم «لأنتيجونوس» الاستيلاء على هذه المدينة الحصينة
أرسل أسطولًا بقيادة «ميديوس» Medios ليتفقد سواحل
بحر «إيجه». وقد نجح في طرد أساطيل العدو وترك سوريا في حراسة ابنه «ديمتريوس»،
ثم
ذهب إلى «سيلاني» في «فرجيا» حيث اتخذ مقر معسكراته للشتاء (عام ٣١٤-٣١٣ق.م) ليكون
قريبًا من «كاريا» لينقض عليها عندما تلوح الفرصة، والواقع أن «أنتيجونوس» استولى
على كل سواحل آسيا الصغرى في العام التالي.
وفي الوقت نفسه قامت ثورة في «سيريني» وكذلك أخذت أُسَر جزيرة قبرص تقلب ظهر
المِجَنِّ «لبطليموس»، وقد شغلت هذه الأحداث بال «بطليموس»، ومن أجل ذلك أخذ يعمل
على رفع مستوى نفوذه الذي أخذ في التدهور بكل ما لديه من عزيمة، فأرسل أسطولًا
وجيشًا بقيادة كل من «أجيس»
Agis و«أبانيتوس»
Epaenétos لإعادة «أوفيلاس» حاكم «سيريني» إلى
حكومتها، وقد انتهت هذه العملية بأن ذهب «بطليموس» نفسه إلى «قبرص» ليعاقب الملوك
الذين عصَوه كما يقول «ديودور»، وبعد أن عاقب رؤساء الأسر الذين اتصلوا
«بأنتيجونوس» والذين قاموا بثورات في السنة الماضية سلَّم «نيكوكريون»
Nicocreon القيادة الحربية في قبرص ووكل إليه
أمر المدن ودخل الملوك الذين خلعوا،
٣١ وقد عالج بطليموس بنفسه هذه التغيرات واكتفى في هذا الوقت بأن يكون في
«قبرص» خليفة له يخضع إليه في كل شيء ويحكم تحت حمايته، ثم اتجه بعد ذلك من «قبرص»
لينهب سواحل سوريا العليا و«كليكيا»، ثم عاد بعد جولته هذه إلى قبرص مع جيشه
محمَّلًا بالغنائم، ومن ثم إلى مصر ليجهز حملة لغزو «سوريا» الجوفاء (منخفض
الأردن).
غزو سوريا
وفي ربيع عام ٣١٢ق.م كان «بطليموس» على أهْبَة الاستعداد، وكانت الأحوال مواتية
لهذه الغزوة، وذلك لأن «أنتيجونوس» كان يستعد لعبر «الدردنيل» لمهاجمة «ليزيماكوس»،
و«كاسندر» وعلى ذلك لم تكن في سوريا قوة كافية للدفاع عنها؛ إذ كان كل ما فيها من
قوة للدفاع تنحصر فيما لدى «ديمتريوس» بن «أنتيجونوس» الذي لم يكن قد تجاوز العقد
الثاني من عمره، ومن المحتمل أنه قد رأى القوة التي كانت بقيادته غير كافية لمقاومة
جيش «بطليموس» الذي كان أعظم من جيشه قوة وعتادًا، وقد فكر في بادئ الأمر في
التقهقر، غير أن قوة الشباب الدافقة التي كانت تجري في عروقه أبت عليه التقهقر أمام
عدوه القوي، وبخاصة أنه كان يعتمد في حروبه هذه على أربعين فيلًا كانت لديه، وقد
كان الفيل في مثل هذه الحروب يعد آلة حرب عظيمة، هذا مع العلم أن جيش «بطليموس»
لم
يكن مجهزا بفِيَلَة، وقد تقابل الجيش المصري بقيادة كل من «بطليموس» و«سيلوكوس»
في
«غزة» مع جيش «ديمتريوس» فهزم جيش «ديمتريوس» هزيمة ساحقة فاصلة، وبذلك استعاد
«بطليموس» في واقعة واحدة «فينيقيا» و«فلسطين» وكل «سوريا»،
٣٢ وقد جاء ذكر هذا النصر في النقوش الهيروغليفية.
٣٣
ومما يطيب ذكره هنا أن «سيلوكوس» لم يضيع لحظة بعد هذا النصر؛ إذ أسرع إلى «بابل»
وقد كان دخوله فيها على حسب الرأي السائد هو بداية عهد قيام دولة «السيلوكيين» في
هذه البلاد، وقد أُرِّخ بأول أكتوبر عام ٣١٢ق.م.
٣٤
أما بطليموس فلم يعامل تلك البلاد التي فتحها من جديد بحد السيف إلا بالحسنى
والصفح الجميل، وذلك لما فُطِرَ عليه من مهارة وسماحة خلُق وحسن تدبير وبُعْد نظر
لما عساه يخفيه المستقبل، فنجده قد عام سكان «سوريا» بِرِقَّة، وبذلك وضعت المدن
التي كانت على أهبة المقاومة سلاحها مثل «صيدا» و«صور» والواقع أن «صيدا» قد
استقبلته بقلوب راضية مطمئنة، وفتح أهالي «صور» له أبواب مدينتهم، وطردوا الحاكم
«أندرانيوكوس» الذي أراد المقاومة، غير أن المؤرخين قد اختلفوا في فتح «أورشليم»
على يد «بطليموس» بالقوة الغاشمة فيه هذه الفترة، وذلك لعدم وجود تأريخ أكيد لهذا
الحادث، فقد قيل إنه استولى عليها كما ذكرنا من قبل في يوم سبت وهو اليوم الذي يحرم
فيه اليهود التعامل كلية.
٣٥
وقد قيل إن «بطليموس» قد نقل أعدادًا كبيرة من الإسرائيليين الذين استولى عليهم
في موقعة «غزة»، وهناك روايات أخرى عن هذه الموضوع سنتحدث عنها عندما نتحدث عن
اليهود في مصر، هذا ويقال إن الأسرى الذين سلَّموا في «غزة» وضعهم «بطليموس» في
مقاطعات الدلتا، والواقع أن هؤلاء كانوا جنودًا مرتزقين لا يهمهم أي مكان يسكنون
فيه، ولكن غرض «بطليموس» من وضعهم في الدلتا أن يكونوا على مقربة من الحدود
الآسيوية ليستعملهم في الحال وقت الحاجة.
٣٦
على أن واقعة «غزة» لم تكن نهاية حرب «سوريا»، وذلك لأن «أنتيجونوس» وابنه
«ديمتريوس»، لم يقولا كلمتهما الأخيرة في حرب «سوريا»، كما أن «بطليموس» من جانبه
لم تكن أطماعه قد انتهت في «سوريا»؛ إذ نعلم أنه كان قد أرسل قائدًا يُدعَى
«سيليس»
Cilles إلى نهر العاصي (الأرنت)
للاستيلاء على «سوريا العليا»، وهناك فاجأه «ديمتريوس» بهجوم خاطف وهزمه.
٣٧
وعلى إثر ذلك انضم «أنتيجونوس» بجيشه إلى ابنه واستولى ثانية على سوريا الجنوبية
التي أخلت أمامه حامياتها بسرعة عظيمة، وقد ضرب «بطليموس» في تقهقره أمام عدوه
«عكة» و«يافا» و«سماريا» و«غزة»،
٣٨ وذلك ليأسه من العودة إلى هذه البلاد، وقد رابط «بطليموس» بجيشه عند
الحدود منتظرًا هناك انقضاض جيش عدوه الجبار على مصر، ومما زاد الطين بلة أن حاكم
«سيريني» المسمى «أوفيلاس» قد خرج على ولائه لمصر (عام ٣١٢ق.م)، غير أن في ذلك
شكًّا، ولكن المرجح أن خروجه على «بطليموس» كان من جانبه هو؛ لأنه كان يريد أن يكون
ملكًا مستقلًّا على هذه البلاد، وإن صح ذلك فإن هذا كان يعرض مصر للخطر من ناحية
حدودها الغربية، وعلى ذلك نجد أن كل آمال «بطليموس» قد تلاشت كما فشلت كل مشروعاته،
هذا إلى أنه كان يرتعد فَرَقًا من غزو أرض الكنانة نفسها؛ لأنه لم يكن بجانبه أحد
ليأخذ بناصره في صد الهجوم عن بلاده.
والظاهر أن الأمور قد اتخذت مجرًى آخر مع الفريقين المتحاربين، فكان كل منهما
يتطلع لإنهاء هذه المنازعات والحروب الطاحنة، ونحن لا نعرف من أي جانب بدأت الرغبة
في المفاوضات، ولكن المحقق لدينا على حسب ما رواه «ديودور» أنه عُقدت معاهدة صلح
بين «بطليموس» و«بريبيلاس» وهو مفوض فوق العادة من قبل «كاسندر» و«ليزيماكوس» عام
٣١١ق.م من جهة وبين «أنتيجونوس» من جهة أخرى، جاء فيها أن يحتفظ «كاسندر» بقيادة
أوروبا إلى أن يبلغ «الإسكندر الرابع» بن «روكزان» السن القانونية لتولي عرش
إمبراطورية والده، وأن يعترف بأن «ليزيماكوس» هو سيد «تراقيا» وأن «بطليموس» هو
حاكم مصر بالإضافة إلى المدن التي على حدود «لوبيا» وبلاد العرب، أما «أنتيجونوس»
فقد أعلن أنه قائد كل «آسيا»، هذا وقد أعلن أن بلاد «هيلاس» قد أصبحت مستقلة بذاتها.
٣٩ ومن ثَم نفهم أن «بطليموس» قد نزل عن «سوريا» ولم تعُد بعدُ من
ممتلكاته، هذا وقد كان «كاسندر» مصممًا على ألا يترك «الإسكندر» ابن «روكزانا» حتى
يصل إلى سن البلوغ، فقد أمر بعد ذلك بقتله هو وأمه، وبارتكاب هذه الجريمة التي قضت
على أسرة الإسكندر محا «كاسندر» الرابطة الوحيدة التي كانت تربط حكام أجزاء
الإمبراطورية بعضهم ببعض، وبذلك أصبحت وصاية «بوليبرشون» لا قيمة لها، ومن ثم أصبح
كل شطربة في قطره ملكًا، وبخاصة في مصر حيث كانت التقاليد الفرعونية تحتم السيادة
التامة للفرعون، وقد أصبحت مصر بموت «الإسكندر الثاني» فرعون مصر عام ٣١١ق.م بلا
فرعون، ومع ذلك فإن المصريين أخذوا يؤرخون بسِنِي حكمه بعد موته إلى أن تولى
بطليموس فرعونًا على مصر رسميًّا حوالي عام ٣٠٥ق.م، على أن اليونان في مصر كانوا
يؤرخون بحكم «بطليموس» من جهة أخرى، والواقع أنه قد بدأ عصر جديد في حكومة البطالمة
كما سنرى بعد، ومع كل ما حدث نجد أن «أنتيجونوس» كان يريد أن يعيد بناء إمبراطورية
«الإسكندر» من جديد على أن يكون هو على رأسها.
وتدل شواهد الأحوال على أن وجود «سيلوكوس» في «بابل» يعد شوكة في جنب
«أنتيجونوس»؛ فقد كان يحكم قطرًا عظيمًا في وسط أملاكه، ولذلك رأى أن أول ما يوجه
إليه قوته هو أن ينقض على «سيلوكوس» ويقضي عليه، لذلك نراه بعد عقد المعاهدة يسافر
في الحال إلى الشرق ثم يرسل ابنه «ديمتريوس» من جديد لمنازلة هذا الدخيل في أملاكه
المزعومة، ومما يؤسف له جد الأسف أن المصادر لم تسعفنا حتى الآن بمعرفة ما جرى في
هذه البقعة من إمبراطورية «الإسكندر» المنحلة لمدة من الزمن، ولكن تدل الدلائل على
أن «بطليموس» كان يعلم شيئًا عما يدور في مملكة صاحبه «سيلوكوس» أي «بابل»، والظاهر
أنه قد أسرع بالاتصال به، وقد حدثنا المؤرخ «أريان» دون أن يذكر تاريخًا محددًا
عن
المبعوثين الذين أرسلهم «بطليموس» بن «لاجوس» إلى «بابل» برسالة إلى «سيلوكوس»
«نيكاتور» فاخترقوا الصحراء على ظهور الجمال وكانوا لا يسافرون إلا ليلًا اتقاء
حمارة الشمس التي لا تطاق،
٤٠ ويقول المؤرخ «بوشي لكلرك»
(Tom. I. P.
56) إنه لم يرَ وقتًا آخر كان فيه «بطليموس» مضطرًّا لاتخاذ
هذه الطريق الملتوية ليتصل بحليفه «سيلوكوس»، ومهما يكن من أمر فإن بطليموس كان
قد
عزم على نقض المعاهدة التي أبرمها مع «أنتيجونوس» بعد أن تخلص من المتاعب التي كانت
تشغل باله وتُقِضُّ مضجعه وقتئذ، والواقع أنه قد ذهب عنه كابوس جيش «أنتيجونوس»
برحيله إلى مقره في آسيا، هذا فضلًا عن أنه أرسل حملة موفقة قبائل «مرمريقا»
اللوبيين في «سيريني»، ومن المحتمل أنه كان قد وصل إلى اتفاق مع «أوفيلاس» حاكم
«سيريني»، هذا ونعلم من نقوش اللوحة التي جاء فيها ذكر هذه الحملة أنه أغدق على
الكهنة المصريين هبات كثيرة؛ مما جعل ألسنتهم تلهج بالمديح والثناء عليه، وهذه
اللوحة مؤرخة بصيف عام ٣١١ق.م وسنتحدث عنها فيما بعد وهي المعروفة بلوحة
الشطربة.
وقد رأى «بطليموس» أن الوقت قد حان ليفيد من الأحوال الحسنة التي كانت تحيط به،
وذلك بنقض ما كان بينه وبين «أنتيجونوس» من اتفاق، وكانت الفرصة سانحة لديه عندما
رأى «بطليموس» قائد «أنتيجونوس» الذي أرسله لمحاربة «كاسندر» في بلاد الإغريق قد
خان عمه واتفق مع «كاسندر»، وقد ضم إليه نائبه «فونيكس» الذي يقود الجيش له في
«فرجيا هليسبونت»،
٤١ وعلى ذلك انتهز «بطليموس» شطربة مصر هذه الفرصة وعلم على توسيع شُقة
الخلاف والقضاء على «أنتيجونوس» وسلطانه جملة.
وتدل شواهد الأحوال على أن الغرض الذي كان يرمي إليه القائد بطليموس من خروجه على
عمه «أنتيجونوس» هو طموحه إلى تأسيس مملكة مستقلة حول «كالسيس»، والواقع أن خيانة
بطليموس لعمه قد حرمته أسطوله الحربي، وكان أول عمل قام به «بطليموس» بن «لاجوس»
أنه أسرع في إرسال جيشه للسيطرة على البحر، وقد كانت السياسة التي وضعها تتفق مع
سياسة حليفه «سيلوكوس»، أخذ بعد ذلك «بطليموس» صاحب مصر يشعل نار الفتنة في بلاد
الإغريق وبخاصة في المدن التي على ساحل «آسيا» الصغرى مذكِّرًا إياها أن معاهدة
٣١١ق.م التي أُبرمت بينه وبين «أنتيجونوس» قد منحتهم الحكم الذاتي ولكنه قد تعهد
من
جانبه بأن يساعدهم في العمل على نيل هذه الحرية، ومن أجل ذلك أرسل قائده
«ليونيداس»
Leonidas الذي طرد حاميات مدن
«كليكيا تراشي» التي كانت تابعة «لأنتيجونوس»،
٤٢ ثم استولى هو بنفسه على مدن «ليديا» و«كاريا» و«فاسوليس» و«إكزانتوس»
Xanthos و«كونوس»
Caunos و«هيراكليس»
Herakles
و«برسيكون»
persicon غير أنه لم يفلح في
الاستيلاء على «هليكارناسوس» (عام ٣٠٩ق.م)، وقد أزعج ذلك «أنتيجونوس» ولذا أرسل
ابنيه «ديمتريوس» و«فليب» لمحاربة «بطليموس»، فزحف الأول على «كليكيا» لطرد
«بطليموس»، والآخر ليعيد «لفونيكس» إقليم «فرجيا هلسبونت» وقد كانت النتيجة أن أظهر
نواب «بطليموس» في «كليكيا» خضوعهم وسلموا «لديمتريوس» بدون قيد ولا شرط، وبعد ذلك
قصد «قبرص» ليعرف ما آلت إليه البقية الباقية من حكام أسرها فوجد «ديمتريوس» هناك
مأساة من أبشع وأفظع مآسي التاريخ البشري، وقد قصها علينا «ديودور» فاستمع لما
يقول: لقد أعلن «بطليموس» أن «نيكوكليس»
Nicocles
ملك «البافيين» قد اتصل «بأنتيجونوس» فأرسل اثنين من أصدقائه وهما «أرجاوس»
Aragaeos و«كاليكرات» بأمر لقتل «نيكوكليس»، وذلك
لأنه كان يخاف أنَّ عَدَمَ عقاب العصاة الأُوَل يشجِّع رؤساء آخرين على العصيان،
وقد وصل رسولا بطليموس إلى قبرص، وصدر أمر بإرسال كتيبة من الجنود بوساطة القائد
«منيلاوس» فحاصر جنودها بيت «نيكوكليس» وسلموه الأمر وطلبوا إليه أن ينتحر، وقد
حاول «نيكوكليس» أولًا أن يبرئ نفسه من التهم المنسوبة إليه، ولكن لما لم يصْغِ
إليه أحد قتل نفسه، ولما علمت زوج «نيكوكليس» بموت زوجها ذبحت نفسها، وكذلك ذبحت
بناتها العذارى حتى لا يقعن في أيدي العدو، وفي الوقت نفسه أوعزت إلى نساء إخوة
«نيكوكليس» بقتل أنفسهن معًا، وذلك على الرغم من أن «بطليموس» لم يأمر بتنفيذ مثل
هذا الأمر في النساء، بل على العكس ضمن لهن سلامتهن، هذا وقد كان القصر مفعمًا بجثث
الموتى وبالمصائب التي لم تكن في الحسبان، فقد أغلق إخوة «نيكوكليس» الأبواب
وأشعلوا النار في البيت وقتلوا أنفسهم بأيديهم، وبهذه الصورة قضى على أسرة ملوك
«بافوس».
٤٣
ويُلحَظ أنه في تلك الأثناء قطع «أنتيجونوس» الأمل من القضاء على «سيلوكوس» لقلة
ما لديه من جنود، ومن أجل ذلك عقد معه صلحًا، وكان هذا كل ما تصبو إليه نفس
«سيلوكوس»، والواقع أنه ليس لدينا وثائق أكيدة تحدثنا عن الزمان أو المكان الذي
تخلى فيه «أنتيجونوس» عن آسيا العليا التي أصبح «سيلوكوس» ملكها، وعلى أية حال فإن
«أنتيجونوس» بصلحه هذا قد نجى كل أملاكه.
رجع «أنتيجونوس» بعد هذا الصلح إلى «آسيا» الصغرى وفي عزمه الانتقام من مناهضيه
غير أنه لم يعلن ذلك في صراحة؛ لأنه لم يكن في نيته أن يفصم عُرَى الاتفاق الذي
أبرمه مع خصومه عام ٣١١ق.م؛ إذ رأى أنهم قد تجمعوا ثانية يدًا واحدة، وكان أول عمل
وجه إليه عنايته بعد أن استقرت له الأمور نوعًا في الشرق هو الالتفات إلى الأحداث
التي كانت تجري في «إيجه»، وقد كان في عزمه ألا يترك بأية حال من الأحوال
«لبطليموس» البلاد التي استولى عليها في «آسيا» الصغرى، أما «بطليموس» فكان من
ناحيته لا يهتم كثيرًا بهذه البلاد كما كان لا يرغب في إعلان حرب على أنتيجونوس»
عدوه الجبار، والواقع أنه كان يقظًا حازمًا في قراراته عند الضرورة، وقد شاهدنا
ذلك
في «قبرص» عندما أخذ الشك يدب إلى نفسه من جهة «بطليموس» ابن أخ «أنتيجونوس» ذلك
الخائن الذي انضم إليه فقد قابله في بادئ الأمر بسماحة وبشاشة، ولكن لما شعر بما
كانت تنطوي عليه نفسه من نوايا سيئة أمر بالقبض عليه وأجبره على تجرع السم، وبعد
ذلك كسب إلى جانبه جنوده الذين كانوا تحت إمرته بالهدايا وخرطهم في سلك جيشه.
٤٤
وتدل شواهد الأحوال على أن «بطليموس» قد طالت إقامته في جزر «أسكليبيادس»
Asclepiades مع زوجه «برنيكي» التي وضعت له
حوالي عام ٣٠٩ق.م ابنًا أسماه «بطليموس» فأصبح ولي عهده، ويقال إن العالم «فيليتاس»
من أهل «كوس» الذي صار فيما بعد مربيًا لولي العهد قد اتصل ببلاط «بطليموس» وأصبح
من المقربين إليه في هذه الفترة، وهو من أهل جزيرة «كوس» التي اختارها «بطليموس»
مقرًّا له ليراقب عن كَثَب حركات جيش «أنتيجونوس»، وكذلك مراقبة سير الأحوال في
«الأرخبيل» اليوناني، على أن ما لدينا من مصادر قد صمتت كلية عن الأحداث التي وقعت
بين الأطراف الذين وقَّعوا صلح ٣١١ق.م، وقد انقضى ثلاثة أعوام ٣٠٩–٣٠٦ق.م دون أن
نسمع شيئًا عنهم، وكل ما نعرفه عن تلك الفترة أن كلًّا منهم كان يظهر بمظهر الحامي
لحرية المدن الإغريقية، وفي تلك الفترة نصب «أنتيجونوس» ابنه «ديمتريوس» على إدارة
شئون «آسيا» الصغرى، أما هو فقد أراد أن يُظهر «لبطليموس» عزمه على بقاء سوريا تحت
حكمه، فأسس مدينة أطلق عليها اسم «أنتيجونيا» نسبة لاسمه «أنتيجونوس» عند مصب نهر
الأرنت
٤٥ وهي التي حلت محلها فيما بعد مدينة «أنطاكية» الحالية، يضاف إلى ذلك
أنه عمل على بناء أسطول يسيطر به على بحر «إيجه»، وفي أثناء انتظاره الفراغ من بناء
هذا الأسطول وإعداده قام ابنه بمراقبة شديدة للغاية على شاطئ «كاريا»، ومن المحتمل
أن هذه الفترة؛ أي حوالي نهاية عام ٣٠٩ق.م تمكن «ديمتريوس» من فك حصار
«هليكارناسوس» التي كانت قد حاصرها «بطليموس».
٤٦
أما «بطليموس» فقد سافر بأسطوله إلى «البلوبونيز» لسبب غير معلوم تمامًا؛ إذ كل
ما نعرفه أنه ذهب على حين غفلة ليحرر كلًّا من «كورنثه» و«سيسيون»
Sycyone من الجنود المرتزقين جلبهم «كراتيسيبوليس»
Cratesipolis حماة «بوليبرشون»، وكانت
وقتئذ أرملة «الإسكندر» حانقة تتعطش للانتقام من أهالي «سيسيون» الذين قتلوا زوجها،
٤٧ وتدل الأحداث التي تلت ذلك على أن «بطليموس» كان يهتم بالحوادث التي
تقع في بلاد الإغريق، وذلك لأنه رأى في هذه البلاد التي كان يغلي مِرْجَل الفوضى
فيها أن كلًّا من قواد الإمبراطورية كان له حزب فيها إلا هو فلم يكن له أي حزب،
وأن
الفرصة قد سنحت للتدخل هناك وإبراز نفسه في العالم الإغريقي، وذلك باتخاذ الشعار
الذي كان كل منهم يعلنه إن هو أراد الشهرة والسمعة في العالم الإغريقي، فقد كان
كل
منهم يعلن أنه جاء ليحرر المدن الإغريقية العريقة في الديمقراطية، وفعلًا أعلن
«بطليموس» شعاره في بلاد الإغريق وبخاصة في المدن التي كانت لا تنتمي إلى حليفه
«كاسندر» بأنه جاء ليحررها ويعيد لمدنها حريتها الغابرة، وقد عمل هذا وهو آمن مطمئن
لا يخاف شيئًا من جهة «آسيا» لأنه كان المسيطر على البحر وقتئذ، وقد بدأ «بطليموس»
دعايته بتحرير جزيرة «أندروس».
٤٨
حيث وضع فيها حامية كما أعطاها الحق في ضرب نقود خاصة بها، بعد أن يحرر «ديلوس»
التي كانت مركز الحلف الإغريقي وكانت منذ ما يقرب كان الأثينيون قد اغتصبوا هذا
الحق منها فيما مضى، وكانت هذه أول دعامة لإقامة مجتمع إغريقي في هذه الجهة بحماية
مصر، ولم يفُتْ «بطليموس» أن يحرر «ديلوس» التي كانت مركز الحلف الإغريقي، وكانت
منذ ما يقرب من قرنين من الزمان تحت سلطان الأثينيين (راجع مصر القديمة الجزء ١٢)
ويمكن أن ننسب لعام ٣٠٨ قبل الميلاد الهدية التي قدمها «بطليموس» إلى معبد
«أرتيميس» في «ديلوس» وهي عبارة عن إناء فاخر عليه نقش إغريقي الدال على اسم أفروديتي.
٤٩
هذا وقد ظهر ما قام به «بطليموس» الأول من أعمال مفيدة لسكان الجزر في عهد ابنه
«بطليموس» الثاني في المنشور الذي أصدره بعد وفاة والده بنحو ثلاثين عاما، وقد جاء
في هذا المنشور أن الملك المخلص «بطليموس» كان هو مؤسس الخيرات العديدة والعظيمة
لسكان الجزر وللهيلانيين الآخرين؛ إذ قد حرر المدن وأعاد في كل مكان القوانين
والحكومة الوطنية وخفف أعباء الضرائب.
٥٠
ومن أجل ذلك كان بطليموس الأول يعد في نظرهم في مصاف الآلهة، ولا نزاع في أن
تحرير «ديلوس» كان يعد ضربة قوية لكبرياء الأثينيين، وفي خلال تلك الفترة سمع
«بطليموس» بموت «أوفيلاس» حاكم «سيريني»، وكان يريد معاقبته على خيانته له، وكان
رجلًا طموحًا لم يُرْضِهِ أن يقتصر على حكم «سيريني» بل كان طموحًا إلى مد سلطانه
في جهات أخرى، ومن أجل ذلك تحالف مع «أجاتوكليز» ملك «سرقوزه» على محاربة «قرطاجنة»
وقد وعده الأخير بأن يمنحه حكم «قرطاجنة» الإفريقية عند النصر على عدوه، غير أنه
لاقى حتفه هناك غدرًا بيد حليفه، وعندما عاد «بطليموس» من بلاد اليونان أسرع إلى
إرسال ابن زوجه المسمى «ماجاس» وأمه هي «برنيكي» بجيش إلى «سيريني»، والظاهر أنها
سلمت دون مقاومة، وقد بقي «ماجاس» هناك حاكمًا عليها، فأعاد إليها الغنى والنظام،
٥١ ومن المحتمل أن «بطليموس» حبذ فكرة هجرة اليهود إلى هذه الجهة سدًّا
للفراغ الذي حدث فيها بسبب الحروب، ومن المعلوم أن اليهود كانوا يؤلفون ربع سكان
«سيريني».
أما «أنتيجونوس» فإنه في خلال تلك المدة كان يرقب عن كثب حركات «بطليموس» في بلاد
اليونان ومدنها، وكان مصممًا على أن يضمها إلى جانبه باستمالة أهلها ومنحهم حريتهم
التامة، ومن أجل ذلك أرسل في ربيع عام ٣٠٧ق.م ابنه «ديمتريوس» إلى «أنيسوس» على
رأس
أسطول عظيم يتألف من مائتين وخمسين سفينة شراعية مجهزة تمامًا بالرجال والعتاد،
إلى
رأس «سونيون»، وبعد أيام قلائل دخل ميناء «بيروس» وبعد أن طرد الحامية المقدونية
التي كانت فيها أعلن «ديمتريوس» تحرير «أثينا»، كما أعلن أنه مكلف من قبل والده
بتحرير كل البلاد الإغريقية، وقد كان من جراء هذا العمل البارع أن فتح «الأثينيون»
و«أنتيجونوس» تاج البلاد ولم يبقَ عليه إلا أن يتقبله، وفي انتظار ذلك أخذ
«ديمتريوس» يوطد العلاقات بينه وبين «الأثينيين» بعقد سلسلة من الزواج السياسي
فتزوج من الأثينية «أيونيديكي»، ويحتمل أنها كانت أرملة «أوفيلاس».
وقد عد هذا العمل تحديًا «لبطليموس» الذي لم يكن في حاجة إلى التحدي للاستعداد
للحرب؛ لأنه كان قد شعر أن الوقت لقطع العلاقات بينه وبين «أنتيجونوس» علنًا قد
قرب، وذلك لأنه لم يكن أمامه مسلك إلا الحرب أو الدفاع عن النفس، وبخاصة أمام قائد
وسياسي بارع مثل «أنتيجونوس»، وقد كان الأخير ينتظر تحركات الجيش المصري وبخاصة
لمهاجمة «سوريا» التي كان يريد «بطليموس» أن يستردها إلى أملاكه غير أن «أنتيجونوس»
لم يعطِهِ الفرصة لتنفيذ قصده؛ إذ أرسل لابنه «ديمتريوس» في «أثينا» بالإسراع بجيشه
إلى «قبرص» فغادرها في أوائل عام ٣٠٦ق.م، وكان «الأثينيون» يساعدونه بثلاثين سفينة
بقيادة أمير البحر «ميديوس»،
٥٢ وبعد أن حاول «بطليموس» عبثًا إغراء أهل «رودس» على الانضمام إليه طاف
حول «كليكيا» حيث جمع عددًا عظيمًا من الجنود، وقصد قبرص، وكان حاكمها وقتئذ هو
«منيلاوس» ليس لديه إلا عدد قليل من الجنود لحمايتها كما أن السفن التي كانت تحت
تصرفه وعددها ستون لا يمكن أن تغلق الطريق في وجه أسطول «ديمتريوس» وقد هُزم
«بطليموس» في أول واقعة، ومن ثم اضطُرَّ إلى الالتجاء إلى «سلاميس» حيث حاصره
«ديمتريوس» وهكذا نرى أن تواني «بطليموس» جعله يؤخذ على غِرَّة، ومع ذلك فإن مقاومة
«سلاميس» الطويلة قد مهدت له الفرصة للإسراع إلى نجدتها بأسطوله الذي كان أقل عددًا
من أسطول العدو، وعندما وصل أسطول «بطليموس» إلى «أكنيبون» طلب إلى العدو الجلاء
عن
الجزيرة قبل أن تأتي كل قوته للقضاء عليه.
وقد رد عليه «ديمتريوس» بجواب مقنع أنه على استعداد لسحب جنوده إذا وافق بدوره
على سحب جنوده من «كورنثه» و«سيسيون»، ولم يعبأ «بطليموس» بذلك وتقدم بجيشه أمام
«سلاميس» لفك حصارها بضربة قوية بمعاضدة أسطول «منيلاوس» أثناء المعركة، غير أنه
قد
أخطأ في حسابه إذ كاد يقضي فيها على كل أسطول «بطليموس».
٥٣
وقد نجا «بطليموس» نفسه بشِقِّ الأنفس ومعه ثماني سفن، واحتمى مؤقتًا في
«أكنيبون» تاركًا وراءه كل ما كان قد أحضره من سفن نقل وخدم وأصدقاء ونساء ونقود
وآلات حربية، هذا بالإضافة إلى ثمانية آلاف رجل من جيشه، وعلى ذلك لم يرَ «منيلاوس»
بعد ذلك بدًّا من التسليم، وعندئذ حذت حذوه كل مدن الجزيرة، ولقد كان مسلك
«ديمتريوس» بعد هذا الظفر العظيم مسلك الرجل الشهم فقد حفظ لنفسه «لاميا» الجميلة
ولكنه أرسل إلى «بطليموس» على جناح السرعة أخاه «منيلاوس» وابنه غير الشرعي
«ليونتيسكوس»
Leontiscos كما أرسل إليه
أصدقاءه وأخيرًا أطلق سراح الجنود الذين لم يريدوا الانخراط في سلك جيشه.
٥٤
وهذا النصر المبين قد هز أعطاف جنود جيش «أنتيجونوس» الأعور لدرجة أنهم لقبوه
ملكًا كما نادوا ابنه بلقب الملك «ديمتريوس»، وقد كان من حق الجيش كما جرت العادة
في الدستور المقدوني تعيين الملك، وقد قابل الملكان الجديدان هذا الشرف من قبل
الجيش والشعب بإغداق ما يتفق وعِظَم الحادث من الهبات، فقد منح الملكان اثني عشر
درعا تامة «للأثينيين» هذا فضلًا عن الغنيمة التي غنموها.
٥٥
هذا وقد وضعت قربان جنازية في المعابد التي كان الشعب يزورها كثيرًا، ومن المحتمل
أن تمثال نصر «سماتراس» المحفوظ الآن بمتحف «باريس» كان ضمن هذه القربان في معبد
«كابيريس» Cabires ومنذ هذه اللحظة أصبح
«أنتيجونوس» الملك الشرعي على الإمبراطورية في زعمه، ومن ثم كان يعتبر مناهضيه منذ
الآن خارجين عليه.
ويقال إن «بطليموس» بن «لاجوس» شطربة مصر كان أول من توَّج نفسه ملكًا على الرغم
من هزيمته، ثم حذا حذوه بعد ذلك الحكام الآخرون كلٌّ بدوره أمثال «سيلوكوس»
و«ليزيماكوس» و«كاسندر».
٥٦
ومع ذلك نرى قانون الملوك الذي وُضع في «الإسكندرية» يؤرخ تولي «بطليموس سوتر»
الملك بأول تحوت سنة ٤٤٣ من عهد «نابونصار» (أي ٧ نوفمبر سنة ٣٠٥ق.م)، ومن المحتمل
إذن أن «بطليموس» قد تردد بعض الوقت قبل أن يخلع على نفسه لقب الملك على إثر
هزيمته، ولكن يقال من جهة أخرى إنه توج نفسه ملكًا خوفًا من أن يقال إن هزيمته
الأخيرة قد كسرت جناحه وأذلته.
وعلى أية حال فإن موقعة «سلاميس» تعد بداية تمزق شمل إمبراطورية «الإسكندر
الأكبر» وأخلافه، فمنذ تلك اللحظة الحاسمة أصبح كل قائد في القطر أو الأقطار التي
يحكمها يطلق على نفسه لقب «ملك»، ومن ثم أصبحت الإمبراطورية المقدونية أثرًا بعد
عين، ومنذ ذلك العهد كذلك أخذ وجه التاريخ يتغير؛ إذ أصبحت كل مملكة من الممالك
التي انقسمت إليها الإمبراطورية المقدونية تسير على نهجها الخاص وسياستها الخاصة
التي تتفق مع بيئتها وتاريخها القديم وما جد عليها من تغيرات وتقلبات من جراء
الحروب الطاحنة التي قامت فيها منذ موت «الإسكندر الأكبر».