حلم داخل الحلم
في البداية، منعت المفاجأة آيريس من الاحتجاج. كان ينتابها ذلك الشعور المُربك بأنها العاقلة الوحيدة وسط عالم من المجانين. تحوَّلت دهشتها إلى حنق عندما نظر البروفيسور إلى هير وأومأ له في إشارة للفهم المتبادل.
ثم تحدَّث إلى آيريس بنبرة رسمية.
«أعتقد أن بإمكاننا أن نعتبر ذلك تفسيرًا نهائيًّا. إن كنت أعلم بتلك الملابسات لما تدخَّلت. أتمنى لك الشفاء عاجلًا.»
قال هير بابتسامة متشككة: «من الأفضل أن نذهب ونترك الآنسة كار لتستريح.»
شعرت آيريس كأن أحدًا يكتم أنفاسها بوسادة ناعمة، فكبحت غضبها، وحملت نفسها على الحديث بنبرة هادئة.
«يؤسفني أن الأمر ليس بتلك البساطة. وحسبما أرى، فهو لم ينتهِ بعدُ بأي حال من الأحوال. لمَ قد تتصور أنني أكذب؟»
قال البروفيسور مطمئنًا إياها: «أنا لا أتصور ذلك، بل أنا مُقتنع أنك ارتكبت خطأً ما، لكن بما أنك أتيت على ذكر الإنصاف، فيجب أن تُقرِّي أن كفة الأدلة لا ترجح لصالحك. يجب أن أكون منصفًا. هل بإمكانك أن تُوضحي لي ما الأسباب التي قد تدعو ستة أشخاص للكذب؟»
تيقَّظ حدس آيريس فجأةً.
قالت: «لا أستطيع ذلك، إلا إن كان شخصًا واحدًا هو من ابتدأ الكذبة والباقي يدعمونه. وفي تلك الحالة، ستكون كلمتي ضد كلمته. ولأني إنجليزية مثلك، ولأن الأمر يخص سيدة إنجليزية، فمن واجبك أن تُصدقني.»
أثناء حديثها، كانت ترمق البارونة بنظرة تحدٍّ واتهام. قابلت البارونة تلك التهمة بهدوء تام، لكن البروفيسور كحَّ معترضًا.
وقال: «لا تخلطي بين الوطنية والتعصب. بجانب ذلك، فإن ما تُلمحين إليه غير معقول، فما دافع البارونة للكذب؟»
بدأ رأس آيريس يدور.
قالت بوهن: «لا أعرف. الأمر كله غامض للغاية، فلا أحد يرغب حتمًا في أن يُلحق أذًى بالآنسة فروي؛ فهي ليست بالشخص المهم، كما أنها كانت تتفاخر بأنه لا أعداء لها، وقد أخبرتني بنفسها أن البارونة عاملتها بلطف.»
سألت البارونة بدماثة: «ماذا فعلت؟»
«أخبرتني أنه حدث لبس بخصوص مقعدها، فدفعت أنت فارق الثمن كي تسافر في تلك المقصورة.»
«يا لها من لفتة طيبة مني! يسرُّني أن أسمع عن سخائي. مع الأسف، أنا لا أعرف شيئًا عن ذلك الأمر، لكن قد يستطيع جامع التذاكر إنعاش ذاكرتي.»
التفت البروفيسور لآيريس بحكم المقتضى.
وسألها: «ماذا ينبغي أن أفعل؟ أنت تُصعبين الأمر للغاية بإصرارك على وجهة نظرك تلك، لكن إن كنتِ مُصرة فسأستجوب الرجل.»
قال هير عارضًا خدماته: «سأذهب لأعثر عليه.»
كانت آيريس تعلم أنه يريد فرصة للهرب. كانت تشعر أنها تحظى بتعاطفه لكن ليس بثقته.
بعد أن ذهب، بدأ البروفيسور يتحدث إلى البارونة والطبيب، على الأغلب لمزيد من الاستفسار. كانت آيريس تتشكك في كل نظرة وكل تغير في نبرات الصوت، وخمَّنت أنه يشرح لهما حساسية موقفه، ويُشدد على سخافة تهمتها؛ إذ بدت على البارونة وداعة نمرة مُتخَمة تقتل بدافع المرح فحسب.
كانت سعيدة عندما عاد هير — وقد برزت خصلة شعره النافرة لأعلى مثل ريشة — مُصارعًا لشق طريقه في الممر، يتبعه جامع التذاكر، الذي كان شابًّا عفيًّا يرتدي زيًّا موحدًا ضيقًا للغاية، ويُذكر آيريس بدُمى الجنود، وتعلو وجنتيه العريضتين دائرتان قرمزيتان، وله شاربٌ أسود مصفَّف بالشمع.
عند دخوله، تحدَّثت إليه البارونة بحدة، ثم أشارت للبروفيسور كي يُتابع هو الحديث.
خلال ذلك الوقت، كان توتُّر آيريس قد بلغ مداه. كانت واثقة للغاية أن جامع التذاكر سيكون إحدى ضحايا التنويم الإيحائي الجماعي، فكانت متأهبة عندما قطب هير وجهه قائلًا:
«إنه يُخبر القصة نفسها.»
«بالطبع.» حاولت آيريس أن تضحك. «أتوقع أن يكون أحد فلَّاحيها؛ فهو يبدو ريفيًّا. على ما يبدو، هي تملك الجميع، وفيهم أنت والبروفيسور.»
قال مُحثًّا: «لا تنفعلي. أنا أعرف كيف تشعرين؛ فقد مررت بذلك الأمر من قبل. سأخبرك بالقصة كلها، إن استطعت أن أزحزح تلك السيدة الصغيرة من مكانها.»
قابلت الفتاة الصغيرة — التي كانت تنظر إلى هير نظرات تسبق سنها — إشارته لها بأن تترك المقعد بهز كتفيها ونظرات محتجة عابسة، لكن في نهاية المطاف عادت على مضض إلى مقعدها الأصلي، فجلس هو في المقعد الذي كانت تشغله في الأصل العانس المراوغة.
وقال لها: «هوِّني عليك، فما لم تكن الآنسة فروي غير مرئية، لا بد أن آخرين في القطار رأوها حتمًا.»
أومأت آيريس قائلةً: «أعرف، لكني لا أستطيع التفكير؛ فذهني مشوَّش للغاية.»
فهم البروفيسور الذي كان يهمُّ بمغادرة المقصورة المغزى من حديث هير؛ فقد عاد أدراجه ليتحدث إلى آيريس.
«إن جئتيني بدليل قاطع على وجود تلك السيدة، فسأظل على استعداد للاقتناع، لكني آمل بصدق ألا تُعرضينا أو تعرضي نفسك للمزيد من الإهانة.»
كانت آيريس تشعر بالإنهاك فلم تُجادله.
بل قالت بوداعة: «شكرًا لك! أين يمكنني أن أجدك؟»
«في قسم المقصورات الخاصة.»
أضاف هير: «نحن نتشارك مقصورة صغيرة. ألم تعرفي أننا أثرياء؟ فقد أطلقنا معًا سلسلة متاجر لبيع المنتجات الفاخرة.»
قالت آيريس باندفاع بعد أن غادر البروفيسور: «أنا أكره ذلك الرجل.»
قال هير محتجًّا: «كلا، هو ليس عجوزًا فاسدًا، لكنك أثرت خوفه الشديد لأنك يافعة وجذَّابة.»
ثم تلاشت الابتسامة من أعلى شفتيه، وقال:
«أريد أن أضجرك بقصة حدثت بالفعل. منذ بضعة أعوام، شاركت في مباراة راجبي دولية باستاد تويكنهام. قبل بداية المباراة، قُدِّم الفريقان لأمير ويلز الذي صافحنا جميعًا. بعد أن سجَّلت الهدف الرابح — كان عليَّ أن أشير إلى ذلك — تلقَّيت ركلة على رأسي أثناء إحدى الهجمات أفقدتني وعيي. فيما بعد، عندما كنت أرقد مرتاحًا في عنبر خاص داخل المستشفى، دخلت عليَّ الممرضة منفعلة وقالت إن زائرًا مميزًا جاء لرؤيتي.»
سألته آيريس، محاولةً أن تُبدي اهتمامًا حقيقيًّا: «أكان الأمير؟»
«هو بنفسه. بالطبع لم يمكث لأكثر من دقيقة. ابتسم لي فحسب وقال إنه يأمل لي الشفاء العاجل، وإنه آسف لتعرُّضي لذلك الحادث. كنت منفعلًا لدرجة أني حسبت أني لن يغمض لي جفن، لكني نِمت فور أن غادر. في صباح اليوم التالي، قالت لي الممرضات: «هل أسعدتك رؤية مدربك؟»
«مدربي؟»
«أجل، مدرب الفريق.» لم يكن قطعًا الأمير. ومع ذلك، رأيته بوضوح مثلما أراكِ الآن، وقد صافحني وقال كلمات لطيفة عن محاولتي. لقد بدا لي حقيقيًّا، وهذا ما يمكن أن يفعله مقدار ضئيل من تشوش الذهن لأفضلنا.»
زمَّت آيريس شفتيها بعناد وقالت:
«كنت أظن أنك تُصدقني، لكنك مثلهم جميعًا. أرجوك اذهب.»
«سأذهب لأني متأكد أنك يجب أن تنعمي ببعض الراحة. حاولي أن تنامي قليلًا.»
«كلا، يجب أن أفكر في ذلك الأمر. إن تركت نفسي أصدقكم جميعًا فسأخشى أن أكون قد جُننت. وأنا لست مجنونة. لست مجنونة.»
«هدِّئي من روعك.»
«كم تحسن تهدئة رضيع. لا ينقصك سوى قبعة مضحكة.» ثم خفضت آيريس صوتها وقالت: «اسمع. أنا ينقصني الكثير من المعرفة هنا؛ لأني لم أفهم تلك الأسئلة. هل تفهم تلك اللغة حقًّا؟»
«صِرت أعرفها أفضل من الإنجليزية الآن، وهي سهلة للغاية حتى لدرجة أن البروفيسور لا يمكن أن يخطئ بها. آسف، لكن لا يوجد أي ثغرات في أي مكان، لكنك تبدين مُنهَكة للغاية. دعيني أُحضر لك شيئًا يساعدك.»
«كلا، لقد وعدتني الآنسة فروي أن تُحضر لي شيئًا، وأفضِّل أن أنتظرها.»
فهم هير من نظرة التحدي في عينيها أنها مُصرة على رأيها؛ لأنه كان يرى أن الآنسة فروي ما هي إلا شبح، لم يظن أن آيريس ستستفيد من أي شيء قد تُحضره؛ لذا قرَّر أن يُجدد عرضه لاحقًا. أما الآن فأفضل ما يمكن أن يُقدمه لها هو أن يتركها وحدها.
لكن فيما كان يهمُّ بالمغادرة تذكَّر أمرًا، وأشار لآيريس كي تتبعه إلى الممر.
قال معترفًا: «هناك جزء صغير لم أفهمه؛ فقد تحدَّثت البارونة لجامع التذاكر بلكنة غريبة عليَّ.»
صاحت آيريس بانتصار: «إذن هذا يُثبت أنهما أبناء مقاطعة واحدة.»
«مم! لكن هذا لا يفيدنا؛ إذ لا نعرف ماذا قالت له. سلام عليكِ. أراكِ لاحقًا.»
بعد أن غادر هير، انكمشت آيريس في مقعدها، وأخذت تتأرجح مع حركة القطار. كان يمرُّ مقعقعًا خلال عدة أنفاق قصيرة متتابعة، وكان الهواء يعجُّ بأصوات هادرة وكأنما تمرُّ مدحاة هائلة على السماء لتبسطها. في الواقع، أصابتها تلك الضوضاء بالقلق. لم تكن قد أكلت إلا شيئًا يسيرًا طوال اليوم، فبدأ الإرهاق يتملك منها. لم تعتد شعور المرض؛ لذا كان الخوف يعتريها، لكنها كانت تخشى أكثر ضجيجَ عقلها.
أجفلت بشدة عندما ظهرت ممرضة عند الباب وأشارت للطبيب، لكنها بالكاد شعرت بالراحة لغيابه؛ فقد كانت أفكارها تتسابق في دائرة مشوشة مركزها حادثة الإغماء التي تعرَّضت لها.
«لقد كنت على الرصيف، وفي لحظة غِبت عن الوعي. أين ذهبتُ؟ هل كان استيقاظي في غرفة الانتظار، وتلك النسوة وذلك الحاجب العجوز المضحك حقيقيين؟ بالطبع كانوا كذلك، وإلا ما كنت لأكون على متن القطار.
لكني قابلت الآنسة فروي بعد ذلك. هم يقولون إنها من نسج خيالي، لكن إن كانت من نسج خيالي فهذا يعني أن غرفة الانتظار والقطار أيضًا كذلك، وأني لست على متن القطار على الإطلاق، وأني لم أستيقظ بعد. وإن كان ذلك صحيحًا فهو كفيل بأن يدفع المرء إلى الجنون.»
جاهدت لتُصارع موجة الهيستيريا المتصاعدة بداخلها.
«لكن ذلك غير معقول؛ فأنا مستيقظة، وأنا هنا في ذلك القطار. وهذا يعني أني قابلت بالفعل الآنسة فروي، لكني بصدد لغز ما، وعليَّ أن أحارب مجموعة من الأكاذيب. حسنًا. إذن سأفعل.»
في تلك المرحلة، كانت قلقة على نفسها لا على الآنسة فروي. كانت مدلَّلة منذ ولادتها؛ لذا كان من الطبيعي أن تؤثر نفسها، ولأن نفسها تلك مرحة وجذَّابة، فلطالما اتحد الكون كي يُبقيها في تلك المكانة المميزة.
لكن الآن أنانيتها تلك كانت تتشابك مع مصير عانس مغمورة. مرةً أخرى، بدأت تسترجع وقائع مقابلتهما، وفجأةً زالت الغمامة التي غشَّت ذهنها، وبدأ جزء كان مُعتمًا في عقلها يُنير.
نظرت إليها البارونة بينما نهضت بنشاط من مقعدها، وسألتها: «هل ساءت حالتك سيدتي؟»
أجابتها آيريس: «بل تحسَّنت، شكرًا لسؤالك! سأختبر ذواكر إنجليزية، من باب التغيير. سأتحدث إلى بعض الزوار الإنجليزيين ممن كانوا معي بالفندق ورأوا الآنسة فروي.»