أدلة جديدة
الآن وقد أثبتت لنفسها أن الآنسة فروي موجودة حقًّا، بدأت آيريس تتساءل عما حدث لها. عندما تذكَّرت بحثها المكثَّف للقطار، تأكَّد لها أنها لا يمكن أن تكون على متنه، لكن أيضًا يستحيل أن تكون في أي مكان آخر.
كانت الممرات والمقصورات تعج بالسياح؛ لذا يستحيل أن تكون قد فتحت بابًا أو نافذة وقفزت من القطار، دون أن تلفت الانتباه لنفسها على الفور. كان من المؤكد كذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكون قد لفَّها في حزمة وألقى بها على القضبان دون أن يُثير انتباه الجميع.
لا يوجد مكان يصلح لأن تختبئ فيه. ولم تستطع آيريس أن تتصور سببًا قد يدفعها لأن تُقدِم على ذلك الفعل. في المجمل، كان وجود جماعة كبيرة من الشهود يحول بينها وبين وقوع أي مكروه لها، عارضًا كان أم مقصودًا.
في يأس، طرحت آيريس تلك المشكلة جانبًا، وقالت مجادلةً: «لا يمكن إثبات أنها مفقودة حتى أثبت أنها كانت موجودة في المقام الأول. تلك هي مهمتي. بعد ذلك، يحين دور الآخرين ليُكملوا من بعدي.»
عندما تذكَّرت معايير البروفيسور للأدلة التي يُعتد بها، شعرت أنها تتفهم فخر صاحب معرض بمعروضاته؛ فشهودها يجب أن يرقَوا لأعلى معايير الذوق الرفيع؛ أن يكونوا إنجليزيين حتى النخاع.
نظرت إليها البارونة عندما فتحت حقيبتها وأخرجت مرآتها الصغيرة وأحمر شفاهها. رغم أنها بدت غير مكترثة على الإطلاق، وكان وجهها يخلو من أي تعابير، كانت تُعطي بطريقة ما انطباعًا بأن عقلها يعمل في الخفاء، وكأنما تغزل خيوطًا ذهنية.
قالت آيريس في نفسها بانزعاج مفاجئ: «إنها تحيك أمرًا ضدي. يجب أن أسبقها.»
فور أن بدأت في التعجل، انهارت أعصابها مجددًا. بدأت يداها ترتعشان فلطَّخت شفتيها بلطخة حمراء فاقعة، أشبه بفاكهة مسحوقة أكثر منها بالزهر القرمزي الذي سُميت باسمه درجة اللون تلك. لم تستطع العثور على مشطها، فاستسلمت وخرجت مندفعةً إلى الممر.
حدَّق بها الرجال وتمتمت النساء متذمراتٍ بينما كانت تدفعهم جانبًا دون اعتذار. في الواقع، كانت تعي بالكاد وجودهم، إلا كعقباتٍ عديدة في طريقها. بعد كل ذلك التأخير، كانت تندم على كل لحظة ضاعت. في خضم انفعالها، رأت على مسافة كبيرة منها هيئة العانس الضئيلة بإبهام.
يتعين عليها الإسراع للحاق بها، لكن ظلَّت وجوه تحول بينها وبين هدفها؛ وجوه مبتسمة أو عابسة لغرباء. كانت ما تلبث تتلاشى مثل الضباب، لتُفسح المجال لوجوه جديدة. رأت لمحات لعيون وأسنان، وأجساد متلاصقة. ظلَّت تدفع وتجاهد، حتى احمرَّت وجنتاها، وسقطت خصلة مموَّجة من شعرها على وجنتها.
عندما وصلت أخيرًا إلى الجزء الأقل ازدحامًا من الممر، ذكَّرها مظهر البروفيسور — وهو يدخن سيجارًا بينما يتطلع من النافذة — بالتقاليد. شعرت بالخجل من نتيجة تعجلها، فبدأت تتحدث بسرعة.
«هل يبدو مظهري مُزريًا؟ لقد كان الحشد مريعًا. لم يَدعوني أمُر.»
لم يبتسم البروفيسور، فمع جمالها الأخَّاذ كان شعرها غير المصفَّف واحمرار وجنتيها يُعطيان انطباعًا عابثًا لا يروق له. ولم يرُق كذلك للسيد تودهانتر، الذي كان ينظر إليها بانتقاد خلال باب مقصورته الصغيرة المفتوح.
مع أنه كان يدَّعي أنه يجيد الحكم على جاذبية النساء، كان من النوع الذي يُفضل بركة تزينها أزهار الزنبق على شلال. كان لا يقف أبدًا ليتأمل صورة غير موضوعة داخل إطار، فتقديره للجمال يتوقف على أن تتهيأ الظروف الصحيحة. فالتحرر في المظهر لا يُسمح به إلا في ملابس المنزل، وهو بالطبع لا يليق برحلة قطار. مع أنه رأى آيريس كثيرًا، لم يلاحظها عندما كانت واحدة ضمن حشد من جميلات ترتدين ملابس قصيرة، بل لم يُلاحظها قط قبل ذلك المساء الذي ارتدت فيه فستان سهرة جذَّابًا.
سألت زوجته فيما كانت تُقلب صفحات صحيفة مصورة: «من تلك الفتاة؟»
خفض صوته.
«واحدة من تلك العصبة التي كانت تنزل بالفندق.»
«تبًّا.»
في المقصورة المجاورة، رفعت الآنسة فلود-بورتر رأسها من وسادتها الجلدية الناعمة التي لا تسافر دونها. أيقظت حركتها تلك أختها من قيلولتها، فحاولت هي الأخرى أن تُنصت.
غير شاعرة بجمهورها، تحدَّثت آيريس إلى البروفيسور بصوت عالٍ متحمس.
«لقد خذلك شهودك الرائعون. هم الستة جميعًا كاذبون. هم الستة.»
نظر إلى وجنتيها المتوهجتين بقلق بارد.
وسألها: «هل زاد ألم رأسك؟»
«أنا على ما يُرام، شكرًا لسؤالك! وأستطيع إثبات أن الآنسة فروي كانت برفقتي؛ فقد رآها النزلاء الإنجليزيون الذين كانوا معي بالفندق. سنتواصل مع المجلس البريطاني عندما نصل إلى ترييستي ليتحفظ على القطار ويُخضعه لتفتيش دقيق. سترى بنفسك.»
تحمَّست آيريس لانتصارها المرتقب. في تلك اللحظة شعرت كأنها ترى عَلم الاتحاد الملكي يُرفرف فوقها وتسمع أنغام النشيد الوطني.
ابتسم البروفيسور في صبر كئيب.
قال مذكرًا إياها: «أنا أنتظر أن تُقنعيني.»
«إذن ستقتنع.» التفتت آيريس لتجد نفسها أمام السيد تودهانتر. سألته بثقة: «ستساعدني في إيجاد الآنسة فروي، أليس كذلك؟»
نظر إليها مبتسمًا مُجاريًا إياها، لكنه لم يرد على الفور، بل توقَّف تلك الوقفة القصيرة المُتريثة التي تُميز أبناء مهنته.
ثم قال لها: «سيسرُّني أن أساعدك، لكن، من تكون الآنسة فروي؟»
«هي معلمة خاصة إنجليزية مفقودة من القطار. أنت حتمًا تذكرها. لقد استرقت النظر من نافذة مقصورتك فنهضت أنت وأسدلت الستار.»
«هذا بالضبط ما كنت لأفعله في مثل ذلك الظرف، غير أنه في حالتنا تلك لم يحدث ذلك الظرف؛ فلم تُشرفني أي سيدة بالتلصص عليَّ من نافذة مقصورتي.»
كانت كلماته مفاجئة لدرجة أن آيريس شهقت بقوة كأنها تهوي في الفراغ.
وقالت مندهشةً: «ألم ترَها؟»
«كلا.»
«لكن زوجتك نبَّهتك إلى وجودها. لقد تضايق كلاكما منها.»
تدخَّلت السيدة تودهانتر الحسناء، والتي كانت تُصغي للحديث، بنبرة لا تحمل رقتها المعهودة.
«لسنا صندوقًا سحريًّا، ولم يتلصص أحد علينا. هل تُمانعين إن أغلقت الباب؟ أود أن أرتاح قليلًا قبل العشاء.»
التفت البروفيسور لآيريس بلطف مصطنع.
قال: «لقد حاولتِ. دعيني أصحبك إلى مقصورتك.»
أزاحت آيريس يده قائلةً: «كلا. لن أدع ذلك الأمر. هناك شهود آخرون. هاتان السيدتان …»
اندفعت إلى داخل مقصورة الأختين فلود-بورتر اللتين جلستا مستقيمتين بوقار.
وقالت متوسلةً إليهما: «ستساعدانِني في إيجاد الآنسة فروي، أليس كذلك؟ هي سيدة إنجليزية.»
تدخَّل البروفيسور عندما نظرت إليه السيدتان مستفهمتين: «هلَّا شرحت لكما الأمر؟»
بالكاد استطاعت آيريس أن تتحكم في تبرمها وهي تستمع إلى شرحه المتكلف المهذب. كانت عيناها مركزتين على وجهَي الأختين الجامدين المدهوشين، ثم تحدَّثت الآنسة روز.
«أنا لا أذكر رفيقتك. ربما كان برفقتك أحد فعلًا، لكني لم أكن أرتدي نظارتي.»
علَّقت الآنسة فلود-بورتر قائلةً: «ولا أنا؛ لذا ستتفهمين أننا لن نستطيع مساعدتك؛ فالتعرف على شخص لسنا متأكدين من هويته يخالف مبادئنا.»
علَّقت الآنسة روز: «إنه أمر غير مُنصف البتة؛ لذا، رجاءً، لا ترجعي إلينا في ذلك الأمر. إن فعلتِ فسنرفض التدخل.»
كادت آيريس لا تُصدق أذنيها.
سألتهما بانفعال: «لكن ألا يخالف مبادئكما ألا تُحركوا ساكنًا لمساعدة امرأة إنجليزية ربما تكون في خطر؟»
ردَّدت الآنسة روز باستهزاء: «خطر؟ ما الذي يمكن أن يحدث لها على متن قطار مزدحم؟ كما أن هناك أشخاصًا آخرين يفوقوننا في قوة ملاحظتهم. على كل حال، لا يوجد سبب يدعوكِ لأن تتحاملي علينا فقط لكوننا إنجليزيتين.»
تحطَّمت آمال آيريس فجأة وألجمها الذهول. شعرت أن أبناء وطنها قد خانوها. ربما تتباهيان بارتدائهما فساتين سهرة حفاظًا على مكانة بلديهما، لكنهما خذلتا إنجلترا. سقط عَلم الاتحاد الملكي ممزقًا إربًا عند قدميها، وتلاشت أنغام النشيد الوطني المنتصرة حتى صارت مجرد صفير مزمار صغير.
شعرت بكره شديد تجاههم جميعًا جعلها تنظر بغضب إلى زوجة القس عندما أطلَّت برأسها من الباب.
ابتسمت السيدة بارنز ابتسامة عريضة وهي تشرح سبب وجودها.
«زوجي نائم الآن؛ لذا فكَّرت أن آتي لنتحدث قليلًا. أثناء السفر، ألعب أنا دور القائد، وهي تجربة جديدة عليَّ، ولا أتعرض لها سوى مرة واحدة في السنة.»
كانت تتحدث في لهفة كأنها تحاول تبرير نقطة ضعف زوجها، ثم التفتت إلى آيريس التي كانت تهمُّ بمغادرة المقصورة الصغيرة خلف البروفيسور.
«لا تدعيني أكون سببًا في مغادرتك.»
قالت آيريس بخيبة رجاء: «لا يوجد سبب يدعوني للبقاء؛ فأنت بالطبع لم ترَي الآنسة فروي، أليس كذلك؟»
سألتها السيدة بارنز: «أهي تلك السيدة الضئيلة التي ترتدي حلة من التويد، وتضع في قبعتها ريشة زرقاء؟ بالطبع أذكرها، وأذكر لطفها. نحن مُمتنُّون للغاية لها لإرسالها النادل بالشاي.»