المفاجأة
لو علمت السيدة فروي أن أحدًا شكَّك في حقيقة وجودها لثارت غضبًا.
بينما كانت آيريس تتنفس الصعداء بعد أن صرفت شبحها الودود، كانت هي في منزلها الذي يستقر في أعماق الريف، تُضيِّف أصدقاءها في غرفة الاستقبال.
كانت غرفة صغيرة لها نوافذ معيَّنة الشكل كستها النباتات المتسلقة، فغمرتها بالظلام، فُرِشت أرضيتها بسجادة مهترئة، لكنها مع ذلك كانت غرفة رحبة، تناثرت بها كراسي من حقب زمنية مختلفة تآلفت مع قطع من الخوص تبعث على الدفء، وعوَّضتها خِزانةٌ جميلة ذات طلاء أحمر لامع زهوَ الألوان الذي كان يفتقر إليه القماش المنقوش الباهت للأثاث.
وأمام شبكة المدفأة الحديدية الخاوية، ارتصَّت آنية تحوي أزهار أقحوان ذهبية جميلة زرعها السيد فروي. لربما كان الضيوف يُفضلون إشعال المدفأة؛ إذ كان ثَمة برودة خفيفة بالجو — تُلازم عادةً المنازل الريفية القديمة — تُشبه تلك النابعة من البلاطات الحجرية، لكن كانت الشمس بادية من خلال ستار النباتات الخضراء، يسطع ضوءُها على مراقد الأزهار بالخارج؛ فمع أن الأضواء الكهربائية كانت مضاءة داخل القطار السريع، كان ضوء النهار لا يزال باديًا في الأفق جهة أقصى الشمال.
كانت السيدة فروي امرأة قصيرة ممتلئة، تملك شعرًا كساه الشيب، وتتمتع بالكثير من الوقار. بجانب شخصيتها المسيطرة في العادة، كانت تمتلئ بحيوية إضافية ذلك اليوم، نبعت من فكرة أن ابنتها بالفعل في طريقها إلى المنزل.
كانت البطاقة البريدية تستقر على رف المدفأة، مستندةً إلى الساعة المزخرفة الضخمة. على ظهر البطاقة كانت ثمة صورة ملوَّنة دون إتقان للجبال ذات القواعد الشديدة الخضرة والقمم البيضاء وخلفها السماء الزرقاء الزاهية. في وسط السماء، وبخط متسق دائري، كُتبت الرسالة.
«سأكون بالمنزل مساء يوم الجمعة. أليس ذلك رائعًا؟»
أرتها السيدة فروي لضيوفها.
وقالت مفسرةً بزهو مفرط: «كل شيء يبدو «رائعًا» في نظر ابنتي. أخشى أنه فيما سبق كانت تستخدم لفظة «بديع».»
نظرت إحدى الضيوف إلى سلسلة الحروف المتحركة المطبوعة أسفل الصورة وحاولت نطقها ففشلت.
سألتها وهي تشير إلى السطر المكتوب: «أهي في ذلك المكان؟»
«أجل.» نطقت السيدة فروي الاسم بسرعة وبحدة، بغرض إبهار ضيوفها؛ إذ كان ما نطقته هو اللفظ المحلي لعنوان ويني، لكن عندما تعود ابنتهما فستُبين لهما النطق الصحيح، وتُصحح لهما طريقة نطقهما وهما يحاولان تقليد كلامها الحلقي السريع.
حينها ستمتلئ الغرفة بتلك الضحكة التي تزيدها حيوية ورحابة.
تابعت السيدة فروي حديثها قائلةً: «ابنتي رحَّالة عظيمة. ها هي أحدث صورة لها. التُقطت في بودابست.»
لم تكن الصورة الشخصية تُظهرها بوضوح؛ إذ كانت باهظة الثمن. كان يظهر بها الجزء السفلي من وجه صغير مبهم الملامح، وقبعة تبدو واضحة للغاية في الصورة.
علَّقت السيدة فروي قائلةً: «تبدو كرحَّالة مخضرمة للغاية في تلك الصورة والقبعة تُغطي عينيها. وتلك الصورة في روسيا. وتلك التُقطت في مدريد، يوم عيد مولدها. وتلك في أثينا.»
كانت مجموعة الصور في الأساس مجرد تذكارات جيوجرافية، فبينما كانت السيدة فروي فخورة بما هو مكتوب على صورة الجبال، كانت تكره الفتاة الغريبة عنها التي بلغت خريف عمرها، والتي في نظرها لا تُشبه ابنتها في شيء.
أنهت الاستعراض بأن مدَّت يدها لتلتقط صورة شخصية باهتة موضوعة داخل إطار فضي على أحد الرفوف. كانت الصورة قد التُقطت في إلفراكوم، وتظهر بها فتاة صغيرة لها عنق دقيق ووجه مبتسم، يحيط به شعر مجعد فاتح كثيف.
قالت: «تلك هي الصورة المفضلة لي؛ فتلك هي ويني الحقيقية.»
كانت تلك هي الفتاة التي تدرس بمدرسة الأحد، وتضحك في وجه موظفي الكنيسة، وترفض من يطلبون يدها من رعايا أبيها، قبل أن تفرد جناحيها وتُحلق بعيدًا.
لكنها دائمًا ما تعود إلى العش.
نظرت السيدة فروي مجددًا إلى الساعة. حاولت أن تتخيل ويني داخل القطار السريع القارِّي الهائل الذي يمرُّ بأوروبا كلها. كان على الفتاة المسكينة أن تصمد ليلتين في القطار، لكنها كانت دائمًا تُقسِم إنها تحب تلك التجربة. كما أنها تعرف كل حيل الرحَّالة المحنَّكين لضمان راحتهم.
مع أنها سيدة اجتماعية، بدأت السيدة فروي تتساءل متى سيرحل ضيوفها. وضعت وليمة شاي سخية على مائدة غرفة الطعام تتضمن فطيرة توت أسود، وقد تركت إحدى الضيوف بقعة على أفضل مفرش مائدة تملكه. كانت قد وضعت طبقها فوقها شاعرةً بالذنب، لكن السيدة فروي رأتها. ولأن كل دقيقة تمرُّ قبل أن تدعك البقعة بالملح تجعل إزالتها أصعب، كان من الصعب عليها أن تغض الطرف كعادة المضيفات.
كما أنها كانت تريد أن تنظر إلى الساعة وحدها، وتتأمل بغبطة حقيقة أنه مع كل دقيقة تمرُّ يقترب موعد عودة ويني.
كانت أصابعها تتوق لإزالة مفرش المائدة، إلا أنها بعد أن اصطحبت ضيوفها إلى البوابة، لم تعُد إلى المنزل على الفور؛ فأمامها كان الحقل الذي تجمع منه الفطر كل صباح. كان يكسوه اللون الأخضر الزاهي، وكانت الظلال السوداء لأشجار الدردار تطول بينما تقترب الشمس من المغيب.
كان المنظر كئيبًا موحشًا، فجعلها تُفكر في زوجها.
«أتمنى لو يعود ثيودور إلى المنزل.»
يبدو أنه سمع أمنيتها؛ إذ ظهر فجأةً في آخر المرعى؛ فقد رأت هيئته الطويلة السوداء تسير على العشب، وكأنما يُسابق ظلال أشجار الدردار.
وحوله يتقافز بمرح كلبٌ يبدو أن له صلةً ما بسلالة كلب الرعي الإنجليزي القديم، لكن سلالته الأصلية زلت، فأقحمته في شجرة العائلة. أثناء موجة من الطقس الحار قُلِم فراؤه الكث، فتحوَّل إلى إحدى شخصيات والت ديزني.
كان سقراط بمثابة بشير العائلة ومبعوثها. فور أن لمح السيدة القصيرة الممتلئة ذات الشعر الأشيب، انطلق في خط متعرج نحوها، وظل يدور حولها وينبح بحماسة حاملًا إليها بشرى عودة زوجها إلى المنزل.
بعد أن أدى واجبه في جانبها من الحقل، انطلق عائدًا إلى السيد فروي حاملًا أنباءً سارَّة تفيد أن سيدة المنزل بانتظاره. بينما كان يتنقل بينهما وهما يدنوان أحدهما من الآخر، كان مالكاه يضحكان من وثباته المرحة الخرقاء.
قال السيد فروي: «لا بد أن الكلب المسكين يشعر براحة كبيرة بعد أن تخلَّص من ذلك الفراء الكث. من الواضح أنه يشعر بالانتعاش والخفة الآن.»
قالت زوجته معلقةً: «هو على الأرجح يخيَّل له أنه جنية. انظر كيف يطفو في الهواء مثل كومة من زغب الشوك.»
«أيها الأخرق العجوز العزيز، كانت وينسوم لتضحك من ذلك، أليس كذلك؟»
في مخيلتهما، سمع كلاهما ضحكة فتاة صغيرة مبتهجة.
تابعت السيدة فروي: «ألن تسعد بما فعلناه في حجرتها؟ ثيو، لديَّ اعتراف. لقد وصلت السجادة عندما كنت خارج المنزل، وأنا لست إلا بشرًا.»
أخفى السيد فروي خيبة أمله.
سألها: «هل تعنين أنك فتحت غلافها؟ حسنًا يا عزيزتي، أنا أستحق ذلك عقابًا لي على هروبي مع سقراط عوضًا عن أن أظل معك وأساعدك في ضيافة زائريك.»
«تعالَ نصعد لأعلى لتراها. إنها تبدو كرقعة طحلب.»
كانا قد اشتريا سجادة جديدة لغرفة نوم وينفريد، مفاجأةً لها بمناسبة عودتها. كانت تُمثل الاقتصاد الشخصي الصارم؛ إذ إنه بدخلهما البسيط، أي عملية شراء إضافية كانت تعني اقتصاص شيء ما من ميزانيتهما الأسبوعية.
لذا قلَّص هو حصته من التبغ، وتخلَّت هي عن زياراتها النادرة للسينما، لكن الآن وقد انقضت الأربعون يومًا، ما كان ليبقى من تلك الأشياء الممتعة إلا الرماد وبواقي التذاكر.
لكن السجادة باقية؛ مربع فني أخضر.
عندما وصلا إلى غرفة النوم، نظر السيد فروي حوله بعينين راضيتين فخورتين. كانت غرفة نوم فتاة صغيرة تقليدية، لها حوائط مطلية باللون الأصفر الشاحب، وصور محفورة ضوئيًّا مصفرة لحسناوات الفنان جروز ذوات العيون الصافية وُضعت داخل أُطُر مصنوعة من البلوط المطلي بلون داكن. كانت اللمسة العصرية موجودة كذلك في صور فوتوغرافية للممثلين كونراد فيد وروبرت مونتجمري، وكذلك لجماعات مدرسية وعصا الهوكي الخاصة بويني.
كانت الستائر ومفرش السرير الباهتة المصنوعة من قماش الكريتون ذي اللون الأصفر الشاحب قد غُسلت وكُويت حديثًا، وكانت تظهر على حوض غسل الوجه صابونة خضراء تبدو كالكعكة، ووُضعت شمعتان خضراوان — ليستا موضوعتين بغرض إشعالهما — في شمعدانين زجاجيين أمام مرآة طاولة التزيين.
قال السيد فروي: «لقد جعلنا الغرفة تبدو جميلة.»
«أجل، لكنها لم تكتمل بعد.»
أشارت السيدة فروي للسرير الضيق المصنوع من البلوط، حيث يُخبر النتوءان عند رأسه ونهايته بوجود قربتين دافئتين.
قالت: «لن تكتمل حتى تنام في ذلك الفراش. لا أصدق أني بعد ليلتين سأتسلَّل إلى الغرفة لأقبِّلها قبل النوم.»
قال السيد فروي ناصحًا إياها: «في الليلة الأولى فقط. لا تنسي أن ابنتنا فتاة عصرية، وجيلها يتحاشى إبداء العواطف.»
وافقته زوجته قائلةً: «أجل، ويني فتاة عصرية حتى النخاع؛ لهذا السبب تنسجم مع الجميع أينما ذهبت. أنا واثقة أنها حتى في رحلتها تلك، ستكون الآن قد اكتسبت بعض الأصدقاء النافعين الذين قد يمدون لها يد المساعدة إن احتاجتها. أتوقع أن تكون قد تعرَّفت بخيرة الناس على متن القطار. وعندما أقول «خيرة» فأنا أعني ذلك بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. تُرى أين هي في تلك اللحظة؟»
من حسن حظ السيدة فروي أنها لم تعرف الإجابة.