أكاذيب
عندما عرض البروفيسور الاقتراح رأت آيريس فتحة الفخ، لكنه نسي أن يضع الطُّعم؛ فهي حرة نفسها، ولا يمكن لشيء أن يُجبرها على أن تسقط فيه.
قالت: «لن أذهب إلى أي مكان مع ذلك الطبيب.»
«لكن …»
«أرفض مناقشة الأمر.»
شرع البروفيسور في جدالها؛ لذا رأت أنه لا وقت للكياسة.
قالت له: «لا يسعني أن أتظاهر أني مُمتنَّة لاهتمامك؛ فأنا أعدُّه تدخلًا في شئوني.»
تسمَّر البروفيسور عندما سمع تلك الكلمة الأخيرة.
قال: «أنا لا أرغب على الإطلاق في التدخل في شئونك، لكن هير قلق بشأنك صدقًا، وقد طلب مني استخدام نفوذي لإقناعك.»
«لا يستطيع أحدٌ إقناعي بالذهاب برفقة ذلك الطبيب المريع.»
«في تلك الحالة، لم يعُد ثَمة ما يُقال.»
كان البروفيسور مُمتنًّا للغاية لانزياح تلك المسئولية عن عاتقه. كانت الفتاة مُصرة على مُعاداة كل من يمد لها يد العون. سيكون أمامه وقت كافٍ كي يُدخن قبل الجولة الثانية من العشاء.
لم يرُق لآيريس وجه البروفيسور، لكن ظهره الذي أداره لها والذي تكسوه حلته المصنوعة من نسيج «هاريس تويد» كان له طابع بريطاني مطمئن. أدركت في ذعر أنها مَن حملته على الذهاب.
بعفوية، نادته قائلةً: «لن أذهب برفقة ذلك الطبيب؛ فهو شبيه بالموت، لكني — بافتراض أني انهرت، وهو أمر أجده سخيفًا — فسأذهب برفقتك أنت.»
ظنَّت بذلك أنها ستسترضيه، لكنها لم تنجح إلا في إثارة ذعر كليهما.
قال البروفيسور بحدة حاول بها إخفاء توتره: «هذا مستحيل؛ فالظروف لا تُحتم ذلك. لقد قدَّم لك الطبيب عرضًا سخيًّا مُعينًا، أفضل من يُقدمه رجل طب.»
فتح لها باب الفخ مرة أخرى، لكنها هزَّت رأسها. لن تدخل إليه أبدًا إلا إن خُدعت.
كانت تلك فكرة مُقلقة؛ إذ بدأت تعتقد أنها لا يمكنها الوثوق في أحد، حتى هير خذلها؛ ففيما كان قلقًا بالفعل بشأن صحتها كان يُمازحها بشأن السيدة بارنز، التي طلبت منه، حسب قوله، إرسال برقية لرجل يُدعى جابريال، وإخفاء أمرها عن زوجها.
لما كان يستحيل تصوُّر أن تكون زوجة القس متورطة في علاقة غرامية سرية، استنتجت آيريس أن هير كان يحاول تضليلها.
كرهت محاولته الواهية، خاصةً أن السيدة بارنز كانت مرتبطة بذكرى مؤلمة؛ فهي من ساقت الآنسة فروي بعيدًا، وجعلتها تعود لتتحسس طريقها في غياهب العالم المظلم.
لم تستطع آيريس أن تغفر لها ذلك؛ إذ كانت تفتقد بشدةٍ الدعم الذي لا يستطيع أن يُقدمه لها سوى تلك المعلمة الضئيلة. في ذلك الموقف، كانت لتعلم أنها ستكون بمأمن بين يديها الخبيرتين. كانت خائفة، مريضة، بلا أصدقاء؛ فقد أحرقت جسورها معهم.
كما أنها كلما فكَّرت في ذلك اللغز، شعرت أنها تقترب من حدود ذلك العالم الذي تسكنه الظلال المتحركة، حيث تُطغي الخيال على الواقع، ولا يكون لها وجود إلا في حلم الملك الأحمر ملك بلاد العجائب. لو لم تتمالك نفسها فلربما يتوقف احتفاظها بسلامتها العقلية أو فقدانها لها على حقيقة وجود الآنسة فروي.
كان ثَمة آخرون على متن ذلك القطار الذي يعجُّ بالسائحين الذين يقضون عطلاتهم واقعين في مأزق أشد مما هي فيه. أحد هؤلاء كانت الفتاة المقعدة في العربة المجاورة. مع أنها كانت غائبة عن الوعي في أغلب الوقت، كانت كل ثانية تمرُّ عليها واعية تختبر فيها هلع الصدمة التي أسقطتها في غياهب الظلام، وإن طالت تلك اللحظة شيئًا ضئيلًا فإنها تُفسح المجال لغيمة من الشكوك المريعة.
«أين أنا؟ ماذا سيحدث لي؟ إلى أين يأخذونني؟»
لحسن حظها، قبل أن يتسنى لها الحصول على إجابات لتلك الأسئلة، دائمًا ما تنطفئ الشعلة مرة أخرى؛ لذا كانت هي أفضل حالًا من إدنا بارنز، التي كانت في كامل قواها العقلية وهي تكابد عذابًا ذهنيًّا مطولًا.
كانت في بالغ سعادتها وهي تترقب آخر نزهة جبلية لها عندما رأت الخطاب في خانة المكتب. شعرت بغصة تحذيرية خفَّفت قليلًا من وقع صدمتها من فحوى الخطاب عندما رأت خط يد حماتها.
كتبت السيدة الجليلة تقول: «ظللتُ أتساءل ما هو التصرف الأمثل. لا أود إثارة قلقكما أثناء رحلتكما الطويلة، لكني على الجانب الآخر أشعر أنه يتعين عليَّ أن أهيئكما لخبر مخيِّب للآمال. كنت آمل أن يكون جابريال في أفضل صحة عند عودتكما، وقد كان في أفضل حال حتى الآن، لكنه أصيب بنزلة برد في صدره. هو مرتاح للغاية الآن، ويقول الطبيب إن كل شيء يسير حسب أفضل التوقعات؛ لذا لا داعي لأن تقلقا.»
مرَّت إدنا بارنز بعينها في لمحة على الخطاب قرأت خلالها ما بين سطوره. إن كان غرض حماتها من كتابته هو إثارة قلقها، فقد نجحت تمامًا في مسعاها؛ فقد ضمَّنته جميع عبارات الطمأنة المألوفة. «لا داعي للقلق.» «حسب أفضل التوقعات.» «مرتاح.» تلك هي الصيغة المخفَّفة للتعبير عن حالة ميئوس من شفائها.
فنزلة برد في الصدر قد تُخفي وراءها التهابًا شُعبيًّا أو حتى رئويًّا، وقد سمعت أن تلك الأسقام إن أصابت رضيعًا قويَّ البُنيان فقد يقضي نحبه بعد بضع ساعات من المرض. كاد قلبها ينفطر وهي تتساءل إذا كان قد مات بالفعل.
ثم ناداها زوجها ليسألها عن فحوى الخطاب. كانت إجابتها: «حرير مارجريت روز.»
كذبت بدافع غريزة الحماية القوية كي تُجنبه العذاب الذي تُكابده. لم يكن ثَمة داعٍ لأن يُعاني كلاهما، إن استطاعت أن تحمل هي عنه ألمه. أخفت عذابها وراء ابتسامتها المعتادة، وفكَّرت مليًّا في سبب للمغادرة إلى إنجلترا في اليوم نفسه.
بينما كان القس يتناول حزمة الشطائر منها تجهيزًا لانطلاقهما في نزهتهما، استغلَّت حلم الآنسة روز فلود-بورتر التحذيري واتخذته ذريعة لذلك.
رغم خيبة أمله أذعن لطلبها. قرَّرت الأختان أيضًا ألا تُجازفا عندما سمعتا أن زوجة القس قد غيَّرت خطتها بناءً على هاجس تطيُّري. كان العروسان قد قرَّرا سلفًا الذهاب؛ وبذلك اكتمل خروجهما من الفندق.
للمرة الأولى، كانت إدنا بارنز سعيدة لأن زوجها يُعاني من دوار الحركة في القطار. بينما جلس مغمضًا عينيه كازًّا على أسنانه، حظيت بفترة راحة من الادعاء. كان سُلوانها الوحيد أنها تعلم أنه في طريقها إلى المنزل؛ لذا عندما حدث ما قد يُهدد بحدوث تأخير اضطراري في ترييستي، شعرت باليأس.
حينها واجهت أول امتحان فِعلي لمبادئها، وقد فاز فيها ضميرها؛ فقد كان خداعها لزوجها كي تقيه من المعاناه كذبة كبيرة، لكنها الآن كانت تقول في نفسها إن دافع الإنسانية يجب أن يأتي قبل الروابط العائلية؛ لأنه دافع إيثاري.
كانت مستعدة لأن تؤدي واجبها تجاه الآنسة فروي أيًّا كان الثمن، لكن عندما طمأنها أولئك الذين تثق في حكمهم أن المشكلة لا تستحق الاعتبار، تراجعت في قرارها.
فالسبب لا يستحق أن تبذل في سبيله تلك التضحية. من الواضح أن الأمر لا يعدو كونه ادعاءات اختلقتها فتاة مضطربة كي تلفت إليها الأنظار، لكن جابريال مريض، وهو بحاجة لها؛ لذا رجَّحت كفته.
بعد أن تعرَّفت على الآنسة كومر باعتبارها الآنسة فروي، أدركت فجأةً منفعة وجود شاب متأهب للمساعدة بإمكانه إرسال برقية إلى حماتها. ولأنها كانت تشك أن بإمكانها أن تتلقى الرد دون معرفة زوجها — إذ ربما ينادي موظف ما اسمها بصوت عالٍ — طلبت أن تنتظرها آخر الأنباء في كالييه. ستُنعش الرحلة البحرية القس، وسيكون من القسوة أن تتركه على جهله حتى يصلا إلى الوطن.
مع أن عينيها كانتا حزينتين، ابتسمت ابتسامةً خفيفة عندما فكَّرت في غيابه عن الوعي. مثل طفل كبير، كان يأسف على آلامه وأوجاعه، لكنه لم يكن يدري ما حُبس عنه.
قالت في نفسها: «وحدها الأم تعلم.»
كان ذلك بالضبط هو ما استقر في قلب السيدة فروي وهي جالسة في ضوء الغسق تترقب بشوق عودة ابنتها.