إضاعة الوقت
بصفة عامة، كانت السيدة فروي تقطن في الجانب المشمس من الشارع، لكن ذلك المساء بدت ظلال أشجار الدردار قد امتدَّت حتى بلغت ذهنها؛ إذ شعرت بكآبة لا تعلم لها سببًا.
لم يعُد ضوء الشمس المخضر يسطع من وراء النباتات المتسلقة التي كست النوافذ، لكنها اعتادت الظلام؛ فلدواعي الاقتصاد كان المصباح لا يُضاء إلا في آخر لحظة ممكنة، كما أنها لم تتأثر بالمنظر الكئيب خارج غرفة نومها التي تطل على أحد جوانب ساحة الكنيسة.
لأن أسرة فروي عاشت في البيوت المخصَّصة لخادمي الأبراشية لمدة طويلة، فقد تأصَّلت فيهم عادة السكن بالقرب من الكنسية. كانت قد عوَّدت نفسها أن تتخيل، كلما نظرت إلى شواهد القبور المائلة التي صار أصحابها في طي النسيان، مشهد بعث مهيب، تنفتح فيه القبور فجأة، وتتطاير محتوياتها في الهواء كسيل من الشهب اللامعة.
تلك الليلة، عندما استحال الأخضر رماديًّا تمامًا، ساورها أول مخاوفها.
«أتساءل إن كان صحيًّا أن ننام قريبين إلى ذلك الحد من تلك الجثث المتعفنة.»
في الظروف العادية، كانت لتهزأ بتلك الفكرة، لكنها لم تستطع أن تُزحزح القرد الأسود الذي جثم على عاتقها. ظلَّت المخاوف والهواجس الغامضة تُساور عقلها.
قالت لنفسها إنها ستكون مُمتنة للغاية لعودة ويني سالمةً. السفر حتمًا يحمل مخاطر، وإلا ما كانت شركات السكك الحديد لتصدر سياسات التأمين. ماذا إن مرضت ويني أثناء الرحلة واضطروا لأن يتركوها في غرفة انتظار ببلد أجنبي؟
يمكن أن يحدث لها أي شيء؛ حادث قطار، أو حتى ما هو أسوأ. المرء يقرأ عن تلك الأمور المريعة التي تحدث للفتيات اللاتي يسافرن بمفردهن. ويني لم تعد فتاة فعليًّا — حمدًا لله — لكنها تُعَد صغيرة بالنسبة لمن هم في عمرها.
في تلك اللحظة، تمالكت السيدة فروي نفسها.
ذكَّرت نفسها قائلةً: «لم يبقَ سوى ليلتين. من المفترض أن تكوني في بالغ سعادتك، لا أن تظلي مُكتئبة تُعانين وجعًا بالبطن. والآن لتكتشفي ما وراء كل ذلك.»
بعد مدة قصيرة، ظنَّت أنها توصَّلت إلى السبب الفعلي لاكتئابها. كان السبب هو بقعة التوت البري التي لطَّخت أفضل مفرش طاولة تملكه، والتي لم تزُل تمامًا بعدُ بالملح.
قالت: «أيتها الحمقاء، سيزول عندما يُغلى في المغسلة.»
نظرت باستهزاء إلى شواهد القبور، ثم خرجت من الغرفة بخُطًى ثقيلة ونزلت الدرج بحثًا عن زوجها.
على غير العادة، وجدته في الردهة جالسًا في الظلام.
سألته: «لمَ لم تُشعل المصباح أيها الكسول؟»
«سأفعل حالًا.» كان صوت السيد فروي باهتًا على نحو غير معتاد. «لقد كنت أفكر طويلًا. تلك عادة سيئة. غريبٌ أن وينسوم سافرت مرات عديدة، لكن تلك هي المرة الأولى التي أتخوَّف فيها على سلامتها. تلك القطارات التي تقطع أوروبا، أظن أني بدأت أشيخ، وأشعر أن الأرض تجذبني إليها.»
تُسارع قلبها فجأةً وهي تُصغي له. إذن، فقد تلقَّى هو أيضًا التحذير الخفي.
دون أن تتكلم، أشعلت عود ثقاب، وأشعلت به فتيل المصباح وأنارته، ثم وضعت عليه مدخنته. بينما كانت تنتظر أن يدفأ الزجاج، نظرت إلى وجه زوجها الذي كان ظاهرًا في الوهج الخافت.
بدا وجهه أبيض شاحبًا بارز العظام، كوجه رجل يفترض أن يأوي إلى فراش في ركن مبتل أسفل نافذتها لا رجل يفترض أن يُشاركها فراشها الوثير.
فجَّر مظهره غضب تلك السيدة القويمة الكارهة للكآبة.
قالت له موبِّخةً: «لا أريد أن أسمع منك ذلك الكلام مرة أخرى. أنت لا تقل سوءًا عن السيدة بارسونز؛ فهي تبلغ من العمر ستة وستين عامًا فقط، ومع ذلك عندما كنا عائدين من البلدة في تلك المرة الأخيرة، تذمَّرت من أن الحافلة ممتلئة وأنها مضطرة للوقوف. قلت لها: «يا عزيزتي، لا تدعي الجميع يعرف أنك لست معتادة على الدعة.» ثم قلت لها: «خذي مقعدي؛ فأنا صغيرة السن».»
سألها السيد فروي بامتنان: «وهل ضحك ركاب الحافلة؟»
زال شحوب وجهه في دائرة ضوء المصباح الخافت. قبل أن تُجيبه زوجته حلَّت حبال الستائر، وسحبت ستائر النافذة تُغلقها، حاجبةً ضوء الشفق الكئيب.
قالت: «أجل، لقد قهقهوا جميعًا، ثم بدأ أحدهم يُصفق، لكن عندما شعرت أن المزحة قد طالت بما يكفي، بترتها بأن نظرت إليهم.»
مع أن السيدة فروي كانت تفخر بحس دعابتها، كان حس الوقار لديها أقوى منه. رفعت رأسها عاليًا كأنها لا تزال تحاول إسكات جمهورها، وسألته: «أين سقراط؟»
«يؤسفني يا عزيزتي أنه ينتظر بالخارج حتى يحين موعد مُلاقاة القطار. أتمنى لو استطعت أن أجعله يفهم أن الجمعة هو اليوم المنشود.»
قالت السيدة فروي: «سأتولى أنا ذلك. سقراط!»
دخل الكلب الضخم مُهرولًا على الفور، فمع أنه مدلَّل للغاية فلا يطيع الأوامر في العادة، كان يحترم نبرة حادة بعينها في صوت سيدته.
أخرجت السيدة فروي ثلاث قطع من الكعك اليابس من علبة من القصدير ورصَّتها في صف على الأريكة المنخفضة، وقالت: «انظر يا عزيزي. مع أمك ثلاث كعكات لتُعطيكها. تلك لليلة، لكن ويني لن تعود الليلة. وتلك ليوم غد، لكن ويني لن تعود غدًا. وتلك ليوم الجمعة، وويني ستعود يوم الجمعة، وحينها يمكنك أن تذهب لملاقاة القطار. تذكَّر! تلك الكعكة.»
رفع سقراط بصره إليها وكأنما يحاول جاهدًا أن يفهم. تشع عيناه ذكاءً تحت خصلات فرائه التي تنسدل عليها؛ إذ تُرك رأسه دون تشذيب.
قالت السيدة فروي: «لقد فهم. لطالما كنت قادرة على التحدث إلى الحيوانات. ربما نتشارك الطاقة الروحية نفسها؛ فأنا أعرف ما يدور بذهنه، ودائمًا ما أستطيع أن أجعله يعرف ما يدور بذهني.»
التفتت مجددًا تجاه الأريكة المنخفضة والتقطت أول كعكة.
قالت موضحةً: «تلك كعكة الليلة، وقد انقضت تلك الليلة؛ لذا يمكنك أن تأكلها.»
بدأ سقراط يندمج في اللعبة. بينما كان يُبعثر الفُتات على البساط، تحدَّثت السيدة فروي إلى زوجها.
قالت: «وها قد انقضت الليلة بالنسبة لنا أيضًا؛ فحمدًا لله على ذلك! أتمنى أن تتذكر أنه لا يصح أن تسعى أنت وراء مشكلات ما كانت لتأتي إليك أو تنوي زيارتك طوعًا. علامَ تضحك؟»
كان السيد فروي يُقهقه وهو يشير إلى سقراط الذي كان يلتهم الكعكة الأخيرة.
قال مقلدًا إياها في تهكم وديع: «لقد فهم.»
جعل مظهر وجهه السيدة فروي تنسى خيبة الأمل التي أصابتها للتو؛ إذ بدا أصغر عدة أعوام، ولم يعُد يُراودها شك حول أين يفترض أن يبيت ليلته.
ربَّتت على ظهر سقراط، وقبَّلت أنفه، ونفضت عن فرائه فُتات الكعك اليابس.
وقالت لزوجها بنبرة لاذعة: «أجل يفهم، بل يفهم أكثر منك. ألا ترى أنه يحاول أن يُعجل بمرور الوقت؟»