وتدور عجلة الحظ
جلست السيدة لورا تتطلع إلى النافذة التي انعكست صورة المقصورة المُضاءة على زجاجها الذي يتسارع خلفه الظلام. ابتسمت لانعكاس وجهها المعتم، وعينيها المظلَّلتين، وشفتيها المنتصرتين. عجلة الحظ لا تزال تدور بالنسبة لها.
ولأن قدريهما متشابكان، كانت عجلة حظ الآنسة فروي تدور أيضًا. كانت العانس الودودة واقعة في مأزق، لكنها كانت متفائلة عنيدة. تشبَّثت بأمل في أن ينصلح كل شيء في نهاية المطاف، وأن تعود أخيرًا بعد طول غياب إلى البيت.
كان حبها لديارها يُشبِه ذلك الولع المحموم الذي يحمل الوطنيين الغيورين على هجر مسقط رأسهم، ويحمل الرجال على خيانة زوجاتهم. مثلهم، تركت وراءها أكثر ما تحب؛ من أجل فرحة العودة.
كان غيابها المميَّز تجربة حماسية. أثناء الأشهر الستة الأولى في منفاها ذاك، كانت منبهرة بتجربة العيش في محيطٍ شبه ملكي، وهي تجربة كانت حديثة عهد بها. كل شيء كان مُبالغًا فيه وغير حقيقي، حتى إنها كان ينتابها ذلك الشعور المُربك بأنها داخل قصة خيالية. هامت على وجهها وأضاعت طريقها وسط متاهة من الردهات ذات الأعمدة والشقق المذهَّبة. بدا أن السلالم الرخامية بلا نهاية، وأن ثَمة عددًا غير محدود من الأروقة ضُعفت جميعها في المرايا الضخمة؛ وبهذا كان نصف القلعة على الأقل مجرد وهم.
حملت المناظر الطبيعية بجمالها الذي يحبس الأنفاس الطابع غير الواقعي نفسه. في خطاباتها لأسرتها، تخلَّت عن محاولاتها وصف الجبال الزرقاء والأرجوانية، التي تبلغ قممها عنان السماء، والأنهار الزبرجدية المتفجرة، والوديان الخضراء اليانعة، والأجراف الشاهقة.
فكتبت تقول: «لا أجد ما يكفي من الكلمات لوصفها، لكنها جميعًا ببساطةٍ رائعة.»
حسب الموعد المحدد، في مطلع الشهر السابع لغيابها، انكسفت شمس نشوتها للمرة الأولى، وبدأت تدرك مساوئ السكن في قلعة. بادئَ ذي بدء، لم تعُد تُضيع طريقها، ولم تعُد السلالم الرخامية اللامحدودة؛ إذ إنها عرفت مواضع المرايا.
لكن كان ثَمة تفاصيل أخرى بغيضة، منها البراغيث التي تسكن السجاد كث الوبر والمفروشات الفاخرة؛ إذ كان عدد الكلاب كثيرًا وعدد الخدم قليلًا.
وغرفتها الواسعة، التي تُشبِه شقة ملكية مسرحية، كانت غير مريحة وباردة؛ إذ كانت مدفأتها الضخمة المصنوعة من الخزف الملوَّن — والتي تُشبه قطعة فنية في مذبح كاتدرائية — لا تُزوَّد بالقدر الكافي من الحطب.
كان يُقدَّم عشرة أصناف على العشاء، لكن لا يوضع أمام من يتناول العشاء سوى شوكة واحدة وسكين واحدة، يُنظفهما بمسحهما بالخبز.
الرجال جميعهم وسيمون ومهذَّبون، لكن لا يبدو أن أحدًا منهم يدرك أنها فتاة ذات شعر مجعد هوايتها المحببة هي رفض من يطلبون يدها.
قبل انقضاء آخر خمسة أشهر لها، غمرها الحنين للوطن حتى تحوَّل شوقها لمنزل إنجليزي، يطل على باحة كنيسة ريفية وخلفه بستان من أشجار التفاح، إلى شغف. كانت قد سأمت المناظر المسرحية، فودَّت لو بدَّلت بجميع تلك الجبال والأنهار ركنًا مِن مرج إنجليزي استقرَّت به أجمة من أشجار الدردار وبركة بط.
في الليلة التي سبقت عودتها غمرتها الحماسة؛ إذ كانت تتطلع لرحلتها فلم تستطع النوم. لم تُصدق الأمر، مع أن أمتعتها قد حُزمت وعُنونت بالفعل. إحدى الحقائب كانت تحوي ملاءات متسخة، تنوي غليها بعناية. كانت تغسل ملابسها الشخصية في الحمام خلسةً؛ فقد رأت العديد من الدِّلاء تُكَب في النهر الأخضر البديع الذي كان بمثابة مِغسلة عامة.
بينما استلقت وتقلَّبت سمعت هدير محرك أخمدته المسافة، فكان كأزيز بعوضة مُتضخم. كان صوت القطار السريع الليلي الذي أيقظ النائمين المشتاقين لوطنهم في الفندق في بقعةٍ أبعد من الوادي تبعته أفكارهم، كأنه زمَّار معدني ضخم يعزف لحنًا ساحرًا.
مثلما سيُنادي آيريس فيما بعد، انتشل العانس الودود من سريرها. هرعت إلى النافذة في الوقت المناسب كي تراه يمرق خلف الخور كسهمٍ ضوئي يخترق غياهب الظلام.
قالت في زهو: «في مساء الغد، أستقلُّ أنا أيضًا قطارًا سريعًا.»
كانت سعادتها غامرة وهي تترقب رحلتها الطويلة خطوة بخطوة وحدًّا بعد حد حتى تصل إلى محطة القطار الصغيرة التي كانت مجرد محطة توقُّف بسيطة مبنية وسط الحقول الخاوية. لن تجد أحدًا في استقبالها هناك؛ فأبوها يخاف أن يقفز سقراط الأخرق في خضم فرحته الغامرة أمام محرك القطار ويحاول أن يلعقه.
لكنها ستجدهم بانتظارها عند نقطةٍ أبعد من الزقاق. دمعت عيناها عندما فكَّرت في ذلك اللقاء، لكن حتى حينها ما ستكون قد بلغت نهاية رحلتها بعد، ليس قبل أن تعدو خلال بوابة معتمة بيضاء وحديقة تُضيئها النجوم لترى الضوء يتدفق من باب مفتوح.
قالت الآنسة فروي بغصة في حلقها: «أمي.»
ثم لمس قلبَها خوفٌ مفاجئ.
قالت في نفسها: «أنا لم أشعر من قبل بالحنين إلى الوطن. أهو نذير؟ ماذا إن وقع أمرٌ ما وحبسني عن العودة إلى الديار؟»
بالفعل وقع أمر، أمرٌ وحشي للغاية وغير متوقَّع، حتى إنها لا تُصدق أنه حدث حقًّا. كان مغامرة لا يمكن أن تحدث لأي شخص غيرها.
في البداية، كانت واثقة من أن أحدًا ما سيأتي لإنقاذها عما قريب. قالت لنفسها إن من حسن طالعها أن قابلت تلك الفتاة الإنجليزية الفاتنة. كانتا من وطن واحد، وبإمكانها أن تعتمد عليها بكل ثقة؛ لأنها تعرف أنها كانت لتقلب القطار رأسًا على عقب بحثًا عنها، إذا كان الوضع معكوسًا.
لكن بمرور الوقت بطيئًا، دون أن يحدث شيء، بدأ الشك يتسلل إلى عقلها. تذكَّرت أن الفتاة قد أصيبت بضربة شمس خفيفة وكانت على غير ما يُرام. ربما ساء حالها، أو حتى وقعت فريسة للمرض الشديد، كما أنه يصعب شرح الوضع عندما لا يتحدث المرء لغة أهل البلد.
هناك احتمالٌ أسوأ، ربما حاولت آيريس التدخل فوقعت فريسة لتلك الآلة الهائلة التي انحشرت هي في أحد تروسها. عندما راودتها تلك الفكرة، تعرَّقت شفتها من يأسها وخوفها.
ثم فجأةً شعرت بالقطار يتوقف. خفت هديره وقعقعته حتى صارت كصوت سحق زاحف، ثم بارتجاجة هائلة توقَّف المحرك.
قالت في نفسها بظفر: «لقد افتقدوني، والآن سيُفتشون القطار.»
ثم عادت تتخيل الضوء المنبعث من خلال الباب المفتوح.
بينما هي تنتظر في ترقُّب فرح، كانت لتتفاجأ إن علمت أن العروس الجميلة — التي تبدو كنجمة سينمائية — تُفكر بها.
مع أنها لم تكن سوى دمية يُحركها الآخرون، كانت هي العنصر الأساسي لمكيدة تهدف لأن تُعيد إليها حريتها؛ ففي تلك اللحظة كان البروفيسور يقف في الممر خارج مقصورة السيدة لورا الخاصة. لم يكن عليها سوى أن تستدعيه كي تتحرك الأحداث التي ستقود في النهاية إلى تحرير الآنسة فروي.
وحيث إنه كان أمامها وقت كافٍ قبل أن يبلغ القطار ترييستي، أجَّلت ذلك حتى تتأكد لها حكمة قرارها. بمجرد أن تأجَّجت في ذهنها الفكرة لم يسعها أن توقف وهج الشهرة.
غير أنها في الحقيقة كانت قد حسمت أمرها بالفعل. انكشفت لها عيوب المحامي، إلا أنه يظل هو الجائزة التي راهنت عليها في الأساس؛ فعندما تحوز لقب السيدة براون سيصبح السير بيرفيل مجرد زوج، وهي تعرف كيف تتعامل مع ذلك الحيوان المنزلي المفيد. حتى الآن، كانت تشعر بالخزي بعد أن عرفت أن خطته لا تتضمن الزواج منها، وأنها في خضم توقها لإثارة انبهاره ونيل استحسانه تكوَّنت لديها عقدة نقص.
لكن تكتيكات الهجوم البارعة كانت تُناسبها أكثر. كان صوتها متعجرفًا عندما تحدَّثت إلى المحامي.
سألته وهي تتطلع إلى رصيف قذر يظهر دون وضوح في الضوء المرتعش الذي تبثُّه بضعة مصابيح: «لمَ توقَّفنا؟»
قال المحامي مفسرًا: «الحدود.»
«تبًّا! هل علينا أن ننزل من القطار ونمرَّ بنقطة التفتيش الجمركي؟»
«كلا، بل يصعد المسئولون على متن القطار. ما الذي ينوي ذلك المجنون الأشعث فعله؟»
قطب المحامي جبينه عندما رأى هير يندفع إلى مكتب البرق بينما يصيح بوجه الحارس الذي تبعه وكان يصيح به بدوره. من الواضح أنهما كانا يخوضان مباراة تشاتم من الطراز الأول، لكنها كانت غير مفهومة للركاب الإنجليزيين الذين فاتهم أفضل النقاط التي أحرزت فيها.
في الواقع، خطر للشاب النبيه أن بوسعه أن يوفِّر وقته الثمين في ترييستي إن استغل توقُّف القطار في إرسال البرقية التي طلبت منه السيدة بارنز إرسالها إلى مدينة باث بإنجلترا، لكن تلك الفكرة لم تجعله يحوز استحسان أبناء وطنه.
تذمَّر المحامي وهو ينظر إلى ساعة يده: «ذلك الأخرق يُعطلنا.»
لكن فاجأه أن وجد لورا هادئة تمامًا تجاه الخطر الذي يُهدد جدولهما الزمني.
قالت بتراخٍ: «وهل يهمُّ ذلك؟ فسنصل على أي حال.»
«لكن ربما فاتتنا مواصلتنا؛ فهي لا يفصلها سوى القليل عن موعد وصولنا. هذا يُذكرني بأمر. كنت أتساءل إذا كان في صالحك أن نفترق قبل أن نصل إلى إيطاليا؛ فربما صادفنا شخصًا نعرفه هناك.»
«أنا شخصيًّا لا أرى أن إيطاليا بمثابة ميدان بيكاديلِّي، لكنها لا تزال بلدًا معروفًا. فماذا تريد أن تفعل؟»
«بإمكاني أن أستقل قطار ترييستي-باريس السريع. هل تستطيعين تدبير أمورك بمفردك في ميلان؟»
«على أكمل وجه. سأعثر على أحدٍ ما، أو أحدٌ ما سيعثر عليَّ. على أي حال أستطيع أن أتدبر أمري.»
حمل صوتها نبرة ثقة — كتلك المقترنة بصرف الطهاة إلى عملهم — إذ كان البروفيسور قد عاد للتو إلى مقصورته. نهضت من مقعدها مُتأهبةً لاتباعه، عندما ظهر موظفو الجمرك في نهاية الممر.
كانت عملية التفتيش تلك ذات أهمية قصوى للآنسة فروي؛ لأن لورا لم تشأ أن يُقاطعها أحد، أرادت أن تنتظر ريثما تُفتَّش أمتعة البروفيسور. خلال تلك الفترة، استشعر المحامي موقفًا دعاه لطرح بضعة أسئلة إيحائية.
سألها: «لمَ تلك الجدية البالغة؟»
«أنسيت أن ذلك قد يكون أمرًا جادًّا بالنسبة لي؟»
«وكيف ذلك؟ فنحن لن نفترق للأبد، أليس كذلك؟ بإمكاني أن ألتقيك في لندن.»
«كم هذا لطيف!»
الآن ولم يعُد كبرياؤها يحول بين طبيعتها الأنثوية وتعبيرها عن ذاتها، شعرت لورا أنها سيدة الموقف؛ فهي تحمل بيدها البطاقة الرابحة.
قالت: «أتساءل إن كنت سأطيق حمل لقب براون، بعد أن كنت السيدة بارميتر.»
«وهل ستسنح الفرصة؟»
«إن وقع طلاق فسيصعب أن تخذلني؛ فالأمر لم ينتهِ بعد، أليس كذلك يا عزيزي؟»
«لكن يا عزيزتي لن يقع طلاق.»
«لست واثقة تمامًا. أعرف أنك بيَّنت لي بوضوح شديد أنك لا تنوي أن تضع بيد زوجتك دليلًا يحملها على تطليقك، لكنها ستقرأ عنا في الصحف، وليس ثَمة امرأةٌ تُطيق ذلك.»
«أنت تبدين واثقة تمامًا من ذيوع صيتك. ربما أنت مُطلعة على احتمالات ذلك أكثر مني؟»
نظر إليها المحامي شزرًا وكأنها شاهد عدائي؛ إذ أدرك الخطر الذي يختبئ وراء ابتسامتها.
كان غرضها التعجيل بأمرٍ ما.
قال ببرود: «بإمكاني أن أطمئنك بخصوص نقطة واحدة. إن رفع زوجك دعوى ضدك فقد تخسرين لقبك البرَّاق ذلك، لكني لن أطلب منك أن تقدمي تلك التضحية الكبرى؛ فهناك سيدة بروان بالفعل. زوجتي لن تُطلقني أبدًا.»
نظرت إليه آيريس باستنكار.
وسألته: «أتعني أنها ستتلقى الخبر وهي مُستلقيةٌ دون أن يهتزَّ لها طرف؟»
«هل يهمُّ على أي وضع ستتلقاه؟ ما أقصده هو أننا متفقان تمامًا. سيكون في غير مصلحتنا المشتركة أن نفترق، لكني لا أظن أن خطر التشهير قائم بالفعل. ماذا عنك؟»
كان يعلم أنه ربح الجولة، ولم يُخفِ ذلك عنها أيضًا. حرَّك صوته الفاتر الذي لا تتغير نبرته عاطفتها المتأججة.
قالت: «إن كان قائمًا، فيبدو لي أنني سأكون الخاسرة الوحيدة. فأنت تتباهى بأن زوجتك لن تطلقك، لكن زوجي سيفعل، وأنا أحمد الله على ذلك؛ فعلى الأقل أنا متزوجة من رجل حقيقي يملك مشاعر طبيعية لائقة.»
وضع المحامي نظارته أحادية العدسة على عينه في محاولة غريزية لحفظ ماء وجهه.
قال: «أخشى أني خيَّبت ظنك. لم أكن أعلم أني جعلتك تأملين فيما هو أكثر من مجرد عطلة ممتعة غير تقليدية.»
قبل أن يتسنى للورا الرد، دخل موظف الجمرك إلى مقصورتهما، وكان مهذبًا للغاية وودودًا عندما طلب فحص أمتعة السيد الإنجليزي البارز وعروسه الحسناء وجوازَي سفرهما.
بعد أن غادر، ظهر البروفيسور مجددًا في الممر وهو لا يزال يُدخن غليونه.
سرت القشعريرة في جسد لورا فور أن وقعت عيناها عليه؛ إذ ذكَّرها بما كادت تفقده بسبب تصريح متعجل. كانت لتخسر بيتها الفاخر، ومكانتها الاجتماعية، واحترامها، وربما حتى طفليها؛ بسبب رجل لا ينوي الزواج منها.
قالت لنفسها: «حمدًا لله أني استشففت نيته قبل أن أفعل!»
كان مكسبها خسارة للآنسة فروي؛ فالقطار السريع يحمل على متنه راكبةً خفية، لم يفحص أحدٌ جواز سفرها مع أنه سليم؛ لأنها مسافرة محنَّكة، أدركت حقيقة ما حدث عندما بدأ القطار يتحرك ببطء للمرة الثانية.
قالت في نفسها: «الحدود.»
لكن في الفترة بين صعود موظفي الجمرك على متن القطار ومغادرتهم، اجتاحتها دوَّامة من المشاعر؛ إذ خرجت من جوف الليل إلى نور الشمس، مرورًا بشفق الترقب المتدرج، ثم جاء الأمل والقلق المؤجَّلين، قبل أن يبتلعها الظلام مرة أخرى.
وعاد القطار ينطلق مسرعًا.