ارفعي يدك
انتبهت آيريس من ذهولها لتُدرك أن البروفيسور كان يتحدث عن العشاء.
كان يقول باستبشار: «إن عجَّلت بالعودة إلى عربة الطعام يا هير، فلربما شرحت للنادل أن وجبة السمك قد فاتتنا.»
«لكنه سيدَّعي أنها لم تعُد طازجة؛ فهم مضطرون للتعجيل بالعشاء الثاني قبل أن نبلغ ترييستي.»
طقطق البروفيسور. «في تلك الحالة، يجب أن نعود على الفور. هلَّا سبقتني وطلبت لنا حصتين إضافيتين من اللحم، فنحن ذهبنا دون أن نتناول وجبة السمك؟»
«ليس ذلك خطأهم؛ فنحن من ذهبنا وتركنا وجبة السمك، لكني سأرى ماذا بإمكاني أن أفعل بهذا الخصوص.»
تريَّث هير والتفت إلى آيريس في شيء من التردد، وسألها: «هل تُمانعين؟»
أجابته بضحكة هيستيرية؛ إذ خطر لها فجأةً أن البروفيسور مع كونه واثقًا في قدرته على إدارة تحقيقها، لا يسعه المخاطرة بموهبته اللغوية حينما يكون المعني مصلحةً حيوية.
ثم قالت: «عد بالله عليك؛ فلا شيء يهمُّ أكثر من العشاء، أليس كذلك؟»
استاء البروفيسور الذي كان وجهه قد تهلَّل عند ذكر الطعام من عتابها. مع أنه كان يتضوَّر جوعًا، شعر أنه مضطر للدفاع عن حس العدالة الدقيق المعروف عنه.
سألها: «هل أنت مُنصفة؟ لقد دفعنا ثمنًا باهظًا لقاء تلك الوجبة؛ لذا من حقنا المطالبة بجزء منها على الأقل. كما أنك لا تُنكرين حتمًا أننا لم ندَّخر وقتًا أو وسعًا في محاولة إقناعك بخطئك.»
هزَّت رأسها نفيًا، لكن عبء يأسها ألجم لسانها. بدا لها أنه لم يعُد بيدها أن تفعل أي شيء آخر لمساعدة الآنسة فروي، فأي محاولة تدخُّل لن تُجدي نفعًا، بل ستُعرضها لردة فعل انتقامية.
لم يكن خوفها من نفوذ الطبيب نابعًا من الجبن فحسب، بل أيضًا من المنطق؛ فلكَوْنها الوحيدة على متن القطار التي تُصدق في وجود الآنسة فروي، يُحتم المنطق أنها لن تُفيدها إلا وهي حرة الإرادة.
فرصتها الوحيدة تكمن في إقناع البروفيسور أن ثَمة حاجةً حقيقية لمتابعة التحقيق. هي لا تحبه، لكنه يمتلك تلك الخصال التي لها وزن في مثل تلك الأزمة؛ فهو عنيد، وعطوف، لكن ذو رباطة جأش، ولا يحيد عن الإنصاف. إن تأكَّد له فعليًّا أنه مُحق، فليس بوسع شيء أن يهزَّه، وسيسعى بمثابرة لنيل غايته رغم أنف أي مُعارض.
لكن لسوء طالعها، كان تفكيره في تلك اللحظة منصبًّا على عشائه.
صُفِّي ذهنها المشوَّش فيما كان يهمُّ بمغادرة العربة.
قالت: «إن كنتُ مُحقة يا بروفيسور، فستقرأ في الصحف عن سيدة إنجليزية مفقودة، عن الآنسة فروي، عندما تعود إلى إنجلترا. وحينئذ، سيكون الأوان قد فات على إنقاذها. ألن يُطاردك الذنب لما تبقَّى من حياتك لأنك تأبى تصديقي الآن؟»
قال البروفيسور مُقرًّا: «ربما أندم على الأمر، إلا أنه لا يرجح أن تحين فرصة لذلك الندم.»
«لكن لو أنك فعلت أمرًا بسيطًا للغاية، فلن تضطرَّ للندم على الإطلاق، كما لن تضطر لبتر وجبة عشائك.»
«وماذا تريدينني أن أفعل؟»
«رافِق الطبيب إلى المشفى بترييستي وراقِبْ نزع ضمادة أو شريط لاصق عن وجه المريضة، فقط بالقدر الذي يكفي كي تتبين أن بها إصابةً حقيقية.»
مع أن اقتراحها ذلك أذهل البروفيسور، أمعن التفكير فيه ببطء بضميره الحي المعتاد. شجَّع ذلك آيريس على تتبع غنيمتها تلك بحجة جديدة.
«أنت تُقرُّ حتمًا بأن ليس بوسعي أن أفعل أي شيء؛ فأنا لست مخبولة، وقد يُعَد ذلك قتلًا عن غير عمد، كما أن الطبيب لن يسمح لي بذلك؛ لذا فالأمر يخلص إلى ذلك. اختباره النفيس لا يعني أي شيء على الإطلاق.»
إبَّان كلماتها تلك، تسلَّل الارتياب من الطبيب إلى عقله للمرة الأولى. بدا ذلك على وجهه المجعد وأصابعه الناقرة. اعتاد دائمًا أن يحسب التكلفة قبل أن يفكر في أي مشروع، مع أنه كان من المعتاد ألا تثنيه عن حس الواجب اليقظ لديه.
في تلك الحالة كانت الخسائر عديدة، أبرزها المالية. هو ليس مُسرفًا، لكن راتبه لا يُغطي سوى مستوى المعيشة الذي يحظى به في كامبريدج؛ لذا يضطرُّ لاجتزاز تكاليف عطلاته من رأس ماله. كي يحظى بتغيير ذهني كامل، يُسافر على الأقل ثلاث مرات في العام؛ مما يضطرُّه إلى الاقتصاد في إنفاقه.
لأن الجزء الأكبر من التكاليف في تلك الرحلة المميَّزة كان من نصيب رحلة القطار الطويلة؛ فقد حجز تذاكرها من خلال إحدى وكالات السفر الرخيصة المتخصصة في الأسعار المخفضة؛ لذا لا تُتيح له تذكرته أن يقطع رحلته في أي مكان.
مما يُصعب الأمر أنه يُعوزه النقود؛ فقد دفعه كرهه للسفر في إحدى المواصلات العامة للرضوخ إلى إغراء مشاركة مقصورة خاصة مع هير في رحلة العودة.
كما أن لديه سببًا آخر أكثر إلحاحًا لعدم التوقف في ترييستي والمبيت فيها؛ فالتأخير سيعني أن يُضحي بالتزام يعتزُّ به؛ فهو مدعوٌّ لقضاء عطلة نهاية الأسبوع القادم برفقة زميل عجوز — مثقَّف مُنزوٍ — يعيش في ركن منعزل من ويلز. إن وصل إلى إنجلترا يوم السبت لا الجمعة، فسيكون قد تأخَّر كثيرًا.
راقبه الطبيب بإمعان وهو يقطب وجهه ويُداعب عظمتَي وجنتيه.
سأله: «ألا يُناسبك التوقف في ترييستي؟»
«لا يُناسبني قطعًا.»
«هذا مؤسف؛ إذ إن مصلحتي تُحتم عليَّ أن أرجوك أن تفعل ما تطلبه منك تلك السيدة الشابة.»
سأله البروفيسور وهو مُغتاظ من ذلك الهجوم المزدوج على عطلة نهاية أسبوعه: «لمَ؟»
«لأني بدأت أقتنع أن ثَمة سببًا وراء قلق تلك السيدة المسكينة. هي دائمًا ما تُردد اسم «الآنسة فروي»، فهل ذلك اسم شائع في إنجلترا، مثل «سميث»؟»
«لا عهد لي به.»
«لكنها سمعته من قبل، وهو مرتبط لديها بتجربة مريعة. أنا لا أعلم ما حدث، لكني أعتقد أن ثَمة سيدةً تُدعى «الآنسة فروي»، وأن مكروهًا ما قد ألمَّ بها. أعتقد كذلك أن تلك الشابة المسكينة كانت على علم بالأمر، لكن الصدمة قد محت ذكراه.»
قاطعته آيريس: «تلك سخافة؛ فأنا لن …»
قاطعها هير بحدة: «صه!»
كان يُصغي باهتمام بالغ؛ إذ كان قد بدأ يتساءل إن كان الطبيب قد وجد التفسير الحقيقي لأوهام آيريس؛ فقد ظلَّت غائبة عن وعيها حتى قُبيل أن تتمكن من اللحاق بالقطار، مع أن تفسير ذلك كان ضربة الشمس، ربما كان ذلك تفسيرًا ساقه إليها شخص معني يريد تشويش ذاكرتها.
تابع الطبيب قائلًا: «أنت تتفهم حتمًا أني لا أرغب في أن أقع تحت طائلة الشك إذا أُعلن عن فتاة مفقودة لاحقًا.»
قال البروفيسور: «تلك فكرة مُحالة، كما أن سلطات المستشفى ستدعمك فيما تقول.»
«لكن كيف لي أن أُثبت أن تلك التي أتيتُهم بها هي المريضة لا منتحلة ما؟ لكن إن رافقتني إلى المستشفى أيها البروفيسور وانتظرت حتى ينتهي الجرَّاح من الفحص المبدئي، فلن يكون هناك مجال للشك. أنا ألوذ بسمعتك الحسنة.»
ابتسم البروفيسور ابتسامة كئيبة؛ إذ كان جائعًا بشدة. مع أنه بارع في لعب البريدج، لم يكن لديه دراية بالبوكر؛ ومِن ثَم بدا له عرض الطبيب إثباتًا قاطعًا على أن نظرية آيريس العجيبة ليس لها أدنى أساس من الصحة.
قال: «أظن أننا نُبالغ في توخي الحذر المهني.» على عكس هير، كان معتادًا على حفظ الأسماء، فتابع قائلًا: «الآنسة كار تدَّعي أنها ذهبت إلى عربة المطعم برفقة سيدة تدعوها الآنسة فروي، ومنذ ذلك الحين وجدنا أن تلك السيدة اسمها الآنسة كومر. هي ليست على ما يُرام، وهذا يُفسر الخطأ الذي وقعت به. في ظل تلك الظروف، لا يوجد أدنى دليل على أن الآنسة فروي الفعلية — هذا إن كان لها وجود — موجودة على متن القطار على الإطلاق.»
سأله الطبيب: «إذن، إذا وقعت مشكلة في المستقبل، فهل بإمكاني أن أطلب إليك دعم أي أقوال قد أُدلي بها؟»
«بالطبع. سأعطيك بطاقتي.»
ثم دار البروفيسور على عقبيه قاصدًا العشاء.
تكهَّن هير بأن آيريس على وشك الانفجار.
حتى تلك اللحظة، استطاع أن يكبح جماحها بإحكام قبضته على ذراعها تحذيرًا لها، لكنها كانت قد بلغت أقصى حدود صبرها.
قال: «لا تفتعلي مشكلة، فلن يُجدي ذلك نفعًا. عُودي إلى المقصورة الخاصة.»
بدلًا من الاستجابة لطلبه رفعت صوتها.
«آنسة فروي. هل بإمكانك سماعي؟ ارفعي يدك إن كنت تسمعينني.»