محادثة قصيرة
عندما عاد الزوجان حديثا الزواج إلى الفندق، كان النزلاء الأربعة الباقون يجلسون بالخارج في الساحة المرصوفة بالحجارة أمام الشرفة، يستمتعون بالزمن الفاصل المريح للأعصاب «بين الضوءين». كانت الأجواء مُعتمة بما لا يسمح بكتابة الخطابات أو المطالعة، لكن الوقت لا يزال مبكرًا لارتداء ملابس العشاء. بدا من الأكواب الفارغة وبقايا الكعك على إحدى الطاولات أنهم احتسَوا شاي ما بعد الظهيرة في الهواء الطلق ولم يتحركوا منذ ذلك الحين.
كان معتادًا من اثنتين منهم، الآنستان فلود-بورتر، أن تستقرَّا في مكانهما. لم تكونا من النوع الكثير الحركة؛ كَوْنهما قد بلغتا العقد الخامس من عمريهما، وتأقلمتا على قواميهما وكذلك عاداتهما. كان لكليهما شعر أشيب مموَّج منمَّق، احتفظ بشيء من لونه الأصلي كان كافيًا ليمنح صاحبته لقب «شقراء» الشرفي. كانا يتشاركان أيضًا بشرةً صافية بطبيعتها وتعبيرات وجه حادة.
كانت ببشرة الأخت الكبرى الرقيقة — الآنسة إيفيلين — تجاعيد بسيطة؛ إذ إنها شارفت على الستين، بينما كانت الآنسة روز قد غادرت لتوِّها عقدها الرابع. كانت الأخت الصغرى أطول من أختها وأكثر امتلاءً، وكان صوتها أعلى، ولون بشرتها أدكن. كانت في شخصيتها الممتازة مسحة تنمُّر ودية، جعلتها تميل إلى توبيخ أختها.
خلال زيارتهما، كوَّنا فرقة رباعية مع القس كينيث بارنز وزوجته. كانوا قد جاءوا على القطار نفسه، وكانوا ينوون العودة إلى إنجلترا معًا. كان القس وزوجته يتمتعان بهبة حسن العشرة، والتي أرجعتها الأختان — اللتان تفتقران إليها — إلى الأذواق والميول المشتركة.
كانت الساحة مفروشة بكراسٍ وطاولاتٍ حديديةٍ مطليَّة بألوان زاهية، وتزيِّنها أحواض بها شجيرات دائمة الخضرة يكسوها الغبار. عندما تطلَّعت الآنسة فلود-بورتر حولها، تذكَّرت منزلها المبهج الذي يقع في مدينة ذات كاتدرائية.
حسبما تذكر الصحف، هطل المطر في إنجلترا؛ لذا ستكون الحديقة حتمًا في أبهى صورها، بعشبها الأخضر وسياجها الذي تُغطيه أزهار الأسطر والأضاليا.
قالت: «أتطلع إلى رؤية حديقتي مجددًا.»
قالت أختها فظة اللسان مصحِّحةً: «تقصدين حديقتنا.»
قال القس ضاحكًا: «وأنا أتطلع إلى الجلوس في كرسي مريح. ها قد أتى الزوجان.»
على الرغم من اهتمامه العطوف برفقائه، لم يُلقِ عليهما تحيةً ودية؛ إذ كان قد تعلَّم من محاولته الأولى — والأخيرة — أنهما يكرهان أي تدخل في خصوصياتهما؛ لذا استرخى في مقعده، ينفث دخان غليونه، وهو يراقبهما يصعدان سلالم الشرفة.
وقال بصوت يحمل استحسانًا: «يا لهما من زوجين جميلين!»
قالت الآنسة فلود-بورتر معلقة: «أتساءل من هما حقًّا. وجه الرجل يبدو مألوفًا بالنسبة لي. أنا واثقة أني رأيته من قبل في مكان ما.»
قالت أختها مقترحة: «ربما في فيلم سينمائي.»
قاطعتها السيدة بارنز بحماسة على أمل أن تجد اهتمامًا مشتركًا آخر؛ إذ كانت تُكن شغفًا للسينما يشوبه الشعور بالذنب: «هل تذهبان إلى السينما؟»
ردَّت الآنسة فلود-بورتر مفسرة: «لا نذهب إلا لمشاهدة أفلام جورج آرليس وديانا وينيارد.»
قال القس: «هذا يحسم الأمر؛ فهو قطعًا ليس جورج آرليس، ولا هي ديانا.»
«لكني مع ذلك أشعر أن هناك أمرًا غامضًا يتعلق بهما.»
قالت السيدة بارنز موافقة: «وأنا كذلك. أتساءل، أتساءل إن كانا متزوجين حقًّا.»
سألها زوجها مُباغتًا: «ماذا عنكِ؟»
ثم ضحك ضحكةً ودودة عندما احمرَّ وجه زوجته خجلًا.
«آسف على مباغتتك يا عزيزتي، لكن أليس من الأسهل أن نفترض كوننا جميعًا ما ندَّعيه؟ حتى القسيسين وزوجاتهم.» نفض الرماد من غليونه، ثم نهض من كرسيه. «أظن أنني سأتمشَّى حتى القرية لأتحدث قليلًا إلى أصدقائي.»
سألت الآنسة روز بفظاظة بعد أن غادر القس الحديقة: «كيف سيتحدث إليهم وهو لا يعرف لغتهم؟»
أجابت زوجته بفخر: «هو يحملهم على فهمه. بالتعاطف كما تعرفين، وبالإنسانية المشتركة. لن يمانع ملامسة أنفه بأنف رجل بدائي تحيةً له.»
قالت الآنسة فلود-بورتر: «أخشى أننا دفعناه للمغادرة بحديثنا عن الفضائح.»
قالت السيدة بارنز: «كان ذلك خطئي. أعرف أن الناس يحسبونني فضولية، لكني في الواقع أضطر لأن أحمل نفسي على إبداء الاهتمام بشئون جيراني؛ فذلك بمثابة احتجاج مني على الخجل العارم لدى أبناء وطننا.»
قاطعتها الآنسة روز: «لكننا نعتز بذلك؛ فإنجلترا لا تحتاج إلى الدعاية لنفسها.»
«بالطبع، لكننا لن نمر من هنا سوى مرة واحدة، ويجب أن أذكِّر نفسي أن الغريب الجالس بجواري ربما يكون واقعًا في ورطةٍ ما وربما أستطيع مساعدته.»
نظرت إليها الأختان نظرة استحسان. كانت امرأةً نحيلة في منتصف الأربعين، ذات وجه بيضاوي شاحب، وشعر داكن، وملامح عذبة. كان الصدق والطيبة يطلَّان من عينَيها البنيتين الواسعتين، وكانت مخلصة في أفعالها.
كان من المستحيل أن يرتبط اسمها إلا بالنزاهة المطلقة. كانتا تعرفان أنها تتكبَّد عناء الاسترسال في الشرح، خشية أن تُخاطر بإعطاء انطباع خاطئ.
وهي بدورها، كانت معجبة بالأختين؛ فهما سيدتان ذواتا مكانة مرموقة ولا غبار على احترامهما. يشعر المرء أنهما ستؤديان دورهما في لجان المحلفين بتميُّز، وتؤديان واجبهما تجاه الرب وتجاه جيرانهما، دون أن تسمحا لأحد بإعطائهما توجيهات تخص طبيعة ذلك الدور.
كانتا أيضًا تنعمان بحياة رغيدة؛ إذ تملكان منزلًا رائعًا بحديقة، ولديهما خادمات مدرَّبات جيدًا، وأصول مجمدة في البنك. كانت السيدة بارنز تعلم ذلك؛ لذا كَوْنها بشرًا، شعرت بالأفضلية عندما فكَّرت أن الرجل الوحيد في جمعهم هو زوجها.
كانت تقدِّر شعور التملك ذلك؛ لأنها وحتى عيد مولدها الأربعين، كانت تقضي عطلتها السنوية برفقة زمرة من النساء العزباوات الأخريات. منذ أن أنهت دراستها المدرسية، كانت تكسب عيشها من الاشتغال بالتدريس، حتى حدثت المعجزة التي لم تمنحها زوجًا فحسب، بل منحتها ابنًا أيضًا.
كانت هي وزوجها مُغرَمين بطفلهما لدرجة كانت تجعل القس يخشى أحيانًا أن حبهما الشديد له قد يُطمِع فيه القدر. في الليلة التي سبقت مغادرتهما لقضاء عطلتهما، عرض عليها اتفاقًا.
قال موافقًا، وهو ينظر إلى الطفل الغافي في مهده: «أجل، هو طفل جميل، لكني أشرف بقراءة الوصايا العشر للناس. وأتساءل أحيانًا …»
قاطعته زوجته قائلة: «أعرف ما تعنيه. الوثنية.»
أومأ برأسه.
وقال معترفًا: «أنا مذنب مثلك؛ لذا أنوي أن أؤدب نفسي. مقامنا بين الناس يُتيح لنا فرصًا مميزة للتأثير على الآخرين. يجب ألا نحيد عن الطريق، بل علينا أن نرتقي بشتى جوانب طبيعتنا البشرية. إن كانت تلك الرحلة فستفيدنا بشيء، فسيكون ذلك تغييرًا ذهنيًّا تامًّا يا عزيزتي، ما رأيك أن نتفق على ألا نقتصر في حديثنا عن جابريال أثناء رحلتنا؟»
وافقته السيدة بارنز، لكن الوعد الذي قطعته لم يمنعها من التفكير فيه طوال الوقت. تركاه في رعاية جدته الكفء، لكنها مع ذلك كانت قلقة على صحته لدرجة جنونية.
فيما كانت تعدُّ الساعات المتبقية على رجوعها لابنها، وفيما كانت الآنسة فلود-بورتر تبتسم متطلعة لرؤية حديقتها، كانت الآنسة روز تتابع تسلسل أفكارها الأصلي؛ فهي دائمًا ما تظل تُفتش وراء الحقائق حتى تكشفها.
قالت: «أنا لا أفهم كيف يمكن للمرء أن يكذب، إلا إن كان شخصًا مسكينًا يخشى أن يُطرَد من عمله. لكن … أمثالنا! نعرف امرأة ثريَّة تتباهى بتقديم إقرارات غير حقيقية في المراكز الجمركية. ذلك انعدامٌ مطلق للأمانة.»
بينما هي تتحدث، ظهرت آيريس عند بوابة حديقة الفندق. بذلت قصارى جهدها كي تتفادى الجمع الجالس حول الطاولة، لكنها لم تستطع تفادي سماع ما يقال.
علَّقت السيدة بارنز بصوتها الواضح الواثق الذي يميز مدرسات الصفوف: «لم تُراودني رغبة في الكذب يومًا.»
قالت آيريس في نفسها: «كاذبة.»
كانت في حالة من الإنهاك البالغ تُنذر بالانهيار. كانت قد استجمعت كل ذرة إرادة كي تحمل نفسها على الوصول إلى الفندق. أثارت تلك المحنة أعصابها حد الانهيار. ومع أنها كانت تتوق إلى سكون غرفتها، كانت تعرف أنها لا تقوى على صعود الدرج دون استراحة قصيرة. كانت كل عضلة في جسدها تئنُّ عندما ألقت بنفسها على أحد الكراسي الحديدية وأغمضت عينيها.
قالت في نفسها: «إن تحدَّث أحد فسأنهار.»
تبادلت الأختان فلود-بورتر النظرات وبرمتا شفتيهما امتعاضًا، حتى عَيْنا السيدة بارنز الودودتان لم تحملا لها أي ترحيب؛ إذ إنها وقعت ضحيةً لسلوكيات جماعتها السيئة وأنانيتهم.
كانوا يتصرفون كأنهم أصحاب الفندق، وكأن النزلاء الآخرين مجرد مُتطفلين، وكانوا يُصرون على تلقِّي معاملة خاصة يحصلون عليها بالرشوة. أثار ذلك التمييز في المعاملة حنق السائحين الآخرين؛ لأنهم كانوا قد التزموا ببنود التكاليف التي دفعوها لوكالة سفر، والتي تتضمن الخدمة.
استأثرت الزمرة بطاولة البليارد وكانوا يحتلون أفضل مقاعد، وكانوا أول من يأتيهم الطعام أثناء الوجبات، وتُقدَّم لهم الأصناف، يحظَون بمياه دافئة للاستحمام.
حتى القس شعر أن حِلمه قد نفد. كان يبذل قصارى جهده كي يلتمس العذر للشباب الطائش، مع أنه كان يدرك أن عدة أشخاص من ذلك الجمع لا يُصنَّفون شبابًا.
مع الأسف، كانت جماعة أصدقاء آيريس المزعومين تتضمن شخصين يُسيئان إلى صورة الشعب الإنجليزي. ولأنه يصعب تمييز فتاة عن أخرى وهن يرتدين ملابس السباحة، كانت السيدة بارنز ترى أنهن جميعًا يفعلن الشيء نفسه؛ يثملن ويزنين.
كن يُخلِلن جميعًا بمعاييرها للأدب بتشمسهن، ويُقلقون مضجعها بصخبهن؛ لذا كانت مُمتنَّة للغاية لقضاء يومين هادئين، وسط الطبيعة الخلَّابة والرفقة الودودة.
لكن على ما يبدو، لم يغادر الجمع كله؛ إذ تبقَّى بعض منهم، فها هي تلك الفتاة لا تزال هنا، وربما هناك غيرها. كانت السيدة بارنز تتذكر آيريس بإبهام؛ لجمالها، ولأن رجلًا بدينًا ممن يسبحون كان يسعى خلفها.
كان الرجل متزوجًا؛ لذا كان اختياره لها في غير صالحها، لكنها بدت مُرهَقة لدرجة جعلت قلب السيدة بارنز الحنون يؤنبها على عدم إشفاقها عليها.
نادتها قائلةً بنبرة مبتهجة للغاية: «هل تُركتِ بمفردك تمامًا؟»
جلعت محاولة التقرب غير المتوقعة تلك آيريس ترتعد. في تلك اللحظة، كان آخر ما تحتاج إليه هو أن تحظى باهتمام شخص بالغ، والذي حسب خبرتها يُخفي وراءه فضولًا.
أجابت: «أجل.»
«يا إلهي، يا له من أمرٍ مؤسف! ألا تشعرين بالوحدة؟»
«كلا.»
«لكنك صغيرة جدًّا على السفر دون رفقاء. ألم يكن بوسع أحد من أهلك مرافقتك؟»
«ليس لي أهل.»
«ليس لديك أي عائلة على الإطلاق؟»
«كلا، وليس لي أقارب. أوَلستُ محظوظة؟»
لم تكن آيريس قريبة بما يكفي لسماع شهقة الاندهاش التي صدرت من الأختين فلود-بورتر، لكن صمت السيدة بارنز أخبرها بأن فظاظتها آتت بثمارها. تجنبًا لأي محاولات استجواب إضافية، بذلت جهدًا عظيمًا للنهوض؛ إذ كانت جميع مفاصلها مُتيبِّسة، ونجحت في أن تجرَّ نفسها إلى داخل الفندق ثم إلى غرفتها بالطابق العلوي.
حاولت السيدة بارنز أن تتخطى تلك الواقعة بالضحك.
قالت: «أخشى أن أكون قد ارتكبت حماقةً أخرى. من الواضح أنها كرهتني، لكني شعرت أن ليس من الإنسانية أن نجلس كالتماثيل دون أن نُبدي أي اهتمام بها.»
سألتها الآنسة روز: «وهل أبدت هي أي اهتمام بك؟ أو بنا؟ هذا النوع من الفتيات شديد الأنانية. لن تُحرك ساكنًا أو تحيد عن طريقها قيد أنملة لمساعدة أي شخص.»
لم يكن لذلك السؤال سوى إجابة واحدة، لم تسمح طيبة قلب السيدة بارنز لها بالإفصاح عنها؛ لذا كتمتها بداخلها؛ إذ ليس بوسعها أن تكذب.
لم يكن بوسعها هي أو غيرها التبصر بأحداث الأربع والعشرين ساعةً القادمة، التي ستُكابد خلالها تلك الفتاة — التي ستقف وحدها في وجه حشد من الشهود — عذابًا نفسيًّا يُهدد سلامة قُواها العقلية من أجل امرأة غريبة لا تُكن لها أي مشاعر شخصية.
هذا إن كان هناك وجود للآنسة فروي.