إنجلترا تنادي
لأن لديها مربَّعًا على راحة يدها، وهو دلالة على الحماية حسبما قالت لها عرَّافة، كانت آيريس تعتقد أنها تنعم بمساحة من الأمان، مع أنها ضحكت عندما أخبرتها بذلك. كانت تشعر بالانبهار خُفيةً، لأنها كانت تحيا حياةً مصونة من الخطر.
في تلك الأزمة، شعرت أن النجوم تتبارى من أجلها كالعادة. كانت الجبال قد أرسلت لها إنذارًا أوليًّا. أثناء تلك الأمسية أيضًا، تلقَّت بضع مُفاتحات للرفقة التي ربما كانت لتنتشلها من عزلتها الذهنية.
لكنها قطعت عن عمدٍ كل خيط يربطها ببرِّ الأمان؛ بدافع وفائها المغلوط لأصدقائها.
فور أن دلفت إلى الردهة الساكنة الخاوية، شعرت بأنها تفتقدهم. أثناء سيرها في الرواق، مرَّت بغرف نوم خاوية، بسرائرها العارية وأرضياتها التي بُعثرت فوقها المهملات. كانت المراتب تتدلى من كل نافذة، والوسائد مكوَّمة في الشرفات الصغيرة.
لم تكن الرفقة وحدها هي ما ينقصها، بل افتقدت الدعم المعنوي كذلك. لم يتكبد أصدقاؤها عناء تغيير ملابسهم أثناء السهرة، إلا إن دعت الراحة إلى ارتداء السراويل الصوفية. في إحدى المرات، حقَّقوا انتصارًا بأن قُدمت ضدهم شكوى، عندما حضرت سيدة إلى طاولة العشاء وهي ترتدي سروال السباحة.
كان مُقدما الشكوى هما الأختان فلود-بورتر، اللتان كانتا دومًا ترتديان فساتين سهرة باهظة الثمن، لكن وقورة، أثناء العشاء. تذكَّرت آيريس تلك الواقعة بعد أن فرغت من الاستحمام. شعرت بشيء من الخجل لإذعانها للرأي العام، لكنها بحثت في حقيبة سفرها عن ثوب سهرة من قماش الكريب المجعَّد لم تكن قد أخرجته منها.
جدَّد الحمام الدافئ والراحة نشاطها، لكنها شعرت بالوحدة وهي تقف مستندة إلى سور الشرفة. لفتت وقفتها المتأملة وثنايا ثوبها الانسيابية انتباهَ الزوج — المدعو تودهانتر حسب سجل زوار الفندق — بينما كان يسير خارجًا من غرفة نومه.
لم يكن لديه أدنى فكرة عن هويتها، أو أنه كان بمثابة نجم استرشدت به في الوادي. كان يتناول هو وزجته وجباتهما في غرفة جلوسهما الخاصة، ولم يُخالطا عامة النزلاء قط؛ لذا استنتج أنها نزيلة وحيدة فاته أن يراها وسط التجمعات العامة.
استحسنتها عيناه الخبيرتان فتوقَّف.
وقال مُعلقًا: «الأجواء هادئة الليلة. وهو تغييرٌ جيد بعد صخب جماعة الغوغاء المريعة تلك.»
لدهشته، نظرت إليه الفتاة ببرود.
وقالت: «الأجواء هادئة حقًّا، لكني أفتقد أصدقائي.»
بينما كانت في طريقها إلى الأسفل، شعرت بالسعادة لأنها جعلته يدرك خطأه؛ فمُناصرتها لأصدقائها كانت أهم من غياب الاجتماعيات. لكن مع انتصارها، كانت تلك الواقعة بغيضة نوعًا ما.
كان عدم شعبية الجماعة مصدر زهو لها؛ إذ كان دلالة على الأفضلية نوعًا ما. كانوا كثيرًا ما يردِّدون بنبرة عُجب بالذات: «نحن لا نروق لهؤلاء القوم.» أو «هؤلاء الناس يُبغضوننا حقًّا.» حين كانت آيريس واقعة تحت تأثير التنويم الإيحائي الجماعي وسطهم، لم ترغب في أن تنعت بأي وصف آخر. لكن الآن وقد صارت بمفردها، لم يكن من المبهج أن تدرك أن النزلاء الآخرين، الذين من المفترض أنهم محترمون ودمِثو الأخلاق، يعتبرونها دخيلة.
كانت في مزاج كئيب ومتمرد عندما دلفت إلى المطعم. كان غرفةً مكشوفة كبيرة كُسيت جدرانها بورق حائط ذي لون أزرق داكن منقوش بالنجوم المذهبة التقليدية. كانت المصابيح الكهربائية مثبتةً في ثريات رديئة مصنوعة من الحديد المطاوع؛ مما كان يُعطي إيحاءً بأنه موقع تصوير لفيلم هوليوودي تقع أحداثه داخل قلعة من العصور الوسطى. لم تكن هناك سوى طاولات قليلة مُعَدة، ولم يكن هناك سوى نادل واحد وقف مُنزويًا عند الباب.
في غضون أيام قلائل، سيغلق الفندق أبوابه استعدادًا لموسم الشتاء. فبعد مغادرة الحشد الإنجليزي الضخم، صار معظم أفراد طاقم خدمة موسم العطلات زائدين عن الحاجة، وكانوا بالفعل قد عادوا إلى منازلهم في المقاطعة.
لا يبدو أن النزلاء الباقين تأثَّروا بأجواء الإهمال والعزلة التي تُلازم نهاية الموسم. تشاركت الأختان فلود-بورتر مائدةً مع القس وزوجته. كانوا في مِزاج رائع، وبدا أن علاقتهم توطَّدت؛ إذ كانوا يُنهي أحدهم نكات الآخر المنتقاة من مجلة «بانش».
اختارت آيريس متأففةً طاولةً صغيرة في ركن بعيد، وجلست تُدخن سيجارة فيما كانت تنتظر أن يُقدَّم إليها الطعام. كان الآخرون قد بدءوا بالفعل تناول طعامهم، وكان شعور مستجد على أحد أفراد الحشد أن يكون ضمن المتأخرين.
نظرت إليها السيدة بارنز، التي لم يسمح لها كرم أخلاقها بأن تُضمر لها البغض لفظاظتها، نظرةَ إعجاب، وقالت:
«كم تبدو تلك الفتاة جميلة وهي ترتدي ثوبًا!»
قالت الآنسة فلود-بورتر محددة: «ثوب ما بعد الظهيرة. نحن نحرص دائمًا على ارتداء ثوب سهرة على العشاء عندما نكون في أي مكان داخل أوروبا.»
قالت الأخت الصغرى مفسرة: «إن لم نتأنَّق في ملابسنا، فسنشعر أننا خذلنا إنجلترا.»
مع أن آيريس تناولت وجبتها على مهل شديد، اضطرَّت لأن تعود في النهاية إلى الردهة. كانت مُنهَكة بما لا يسمح لها بالتنزه سيرًا على الأقدام، وكان الوقت مبكرًا على النوم. عندما نظرت حولها، كادت لا تصدق أنه منذ ليلة واحدة فحسب، كان المكان يعمُّه التألق والبهجة الأوروبيان. مع أن تلك الصفة الأخيرة جاءت معهم من إنجلترا. أما الآن وهي تخلو من الأصدقاء، فقد أثار دهشتها أن لاحظت زينتها التصنعية الرديئة. كانت الكراسي المذهَّبة المصنوعة من الخيزران قد فقدت بريقها، وكان البلى قد أصاب المفروشات والستائر المخملية القرمزية.
شعرت بغصة في حلقها عندما رأت كومة من أعقاب السجائر وأعواد الثقاب المستهلكة داخل أُصص النخيل. كان ذلك هو كل ما تركته زمرة أصدقائها من أثر.
فيما جلست بعيدة، راقبها القس وهو يضع غليونه في فمه قاطبًا حاجبَيه بتأمل. كان وجهه ذو الملامح المميزة ينمُّ عن القوة ورهافة الحس، ومزيج مثالي من المادية والروحانية. كان يشارك شباب أبرشيته لعب كرة القدم الخشنة، وبعدها يأسر نفوسهم، وكان لديه تفهُّم حقيقي لمشكلات نساء أبرشيته.
عندما أخبرته زوجته عن رغبة آيريس في العزلة، استطاع أن يتفهم شعورها؛ إذ كان يتوق في بعض الأحيان إلى الهروب من الناس جميعًا حتى زوجته. كان يميل إلى تركها لعزلتها المضجرة، لكن قلبه رق لحالها عندما رأى الهالات السوداء تحت عينيها، والحزن الذي ارتسم على شفتَيها.
في نهاية المطاف، قرَّر أن يُكابد صدها الجافي له في سبيل إراحة ضميره. كان يعلم أنه سيلقاه؛ إذ رفعت بصرها إليه بسرعة تأهبًا عندما رأته يقطع الردهة.
قالت في نفسها: «ها هو واحد آخر.»
من بعيد، كانت مُعجَبة بروحانية تعبيرات وجهه، لكنها الليلةَ كانت تعدُّه ضمن ناقديها العدائيين.
«جماعة من الغوغاء المريعين.» حضرت تلك الكلمات في ذاكرتها فيما كان يتحدث إليها.
«إن كنتِ ستعودين إلى إنجلترا وحدك، فهل تودِّين مرافقتنا؟»
سألته: «متى سترحلون؟»
«بعد غد، قبل أن ينطلق القطار المباشر الأخير لهذا الموسم.»
«لكني راحلة غدًا. شكرًا جزيلًا لك.»
«إذن، أتمنى لكِ رحلةً سعيدة.»
ابتسم القس من قرارها السريع وهو يقطع الردهة ليجلس إلى طاولة ويبدأ في عنونة ملصقات أمتعة السفر.
استغلَّت زوجته فرصة غيابه. رغبةً منها في الوفاء بوعدها، ذهبت إلى النقيض فلم تأتِ على ذكر طفلها لصديقتيها إلا مرة واحدة عندما ذكرت في معرض كلامها: «ولدنا الصغير». لكن الآن وقد قاربت العطلة على نهايتها، لم تستطع مقاومة إغراء عرض صورة فوتوغرافية له كانت قد فازت في مسابقة أطفال محلية.
نظرت لزوجها الذي يجلس مولِّيها ظهره وهي تشعر بالذنب، وأخرجت من حقيبتها حافظة من الجلد المرن.
وقالت وهي تحاول إخفاء فخرها: «هذا هو ابني الضخم.»
كانت الأختان فلود-بورتر من محبِّي الحيوانات فقط، ولم تكونا تُحبان الأطفال كثيرًا، لكنهما ردَّتا بكل العبارات اللائقة وبأسلوب مقنع مهذَّب جعل قلب السيدة بارنز يمتلئ زهوًا.
لكن الآنسة روز تطرَّقت إلى موضوع آخر على إثر عودة القس من طاولة الكتابة.
سألته: «هل تؤمن بالأحلام التحذيرية يا سيد بارنز؟ فقد رأيت أمس في الحلم حادث قطار.»
جذب السؤال اهتمام آيريس وحاولت جاهدةً سماع رد القس.
قال: «سأجيب عن سؤالك إن أجبت أنت عن سؤالي. ما هو الحلم؟ هل هو توجُّس مكبوت؟»
سمعت آيريس صوتًا مبتهجًا يقول في أذنيها: «تُرى، هل تودِّين رؤية صورة ولدي الصغير جابريال؟»
أدركت آيريس ساهية أن السيدة بارنز — التي كانت تحافظ على المظاهر الإنجليزية بارتدائها فستانًا من الدانتيل البني الناعم — كانت قد جلست إلى جوارها وأظهرت لها صورة لطفل رضيع عارٍ.
تظاهرت بالنظر إليها فيما حاولت الاستماع لما يقوله القس.
كرَّرت ساهية: «جابريال.»
«أجل على اسم كبير الملائكة. لقد أسميناه تيمنًا به.»
«كم هذا لطيف! هل أرسل لكما طفلًا أخرق؟»
اتسعت عينا السيدة بارنز باستنكار، واحمرَّ وجهها المرهف. ظنَّت أن الفتاة أساءت إلى الدين وأهانت صغيرها العزيز متعمدة بدافع الثأر من المِلل، فزمَّت شفتَيها المرتعشتين غيظًا وانضمَّت لصديقتيها.
شعرت آيريس بالامتنان عندما توقَّفت الهمهمة في أذنيها. لم تدرك زلة لسانها؛ فهي لم تسمع سوى جزء صغير من شرح السيدة بارنز. كان اهتمامها لا يزال منصبًّا على النقاش الدائر حول الهواجس.
قالت الآنسة روز طارحةً وجهة نظر القس جانبًا: «قل ما شئت، فالمنطق إلى جانبي. هم يحاولون عادةً حشر عدد زائد من الركاب في آخر قطار فاخر في الموسم. أعلم أني سأكون سعيدة للغاية عندما أصل سالمة إلى إنجلترا.»
فور أن نطقت بتلك الكلمات، حامت روح التوجس في الأجواء من حولهم.
صاحت السيدة بارنز وهي تُحكِم قبضتها على صورة جابريال: «هل تخشين بالفعل وقوع حادث؟»
أجابت الآنسة فلود-بورتر نيابة عن أختها: «كلا بالطبع، لكننا ربما نشعر أننا في مكان منعزل عن العالم هنا، وأننا نبعد كثيرًا عن أرض الوطن. والمشكلة أننا لا نعرف كلمة واحدة من اللغة المحلية.»
قاطعتها الآنسة روز قائلة: «نحن لا نُواجه أي مشكلة في الحجوزات وقسائم الشراء ما دُمنا نَلزم الفنادق والقطارات، لكن إن وقع حادث اضطرَّنا لأن نقطع رحلتنا، أو فاتتنا وسيلة مواصلات، أو شردنا في مكان صغير، فسنشعر بالتيه. علاوة على أن الأمور المالية ستكون مربكة؛ إذ لم نُحضر معنا أي شيكات مسافرين.»
اقتربت الأخت الكبرى من القس.
سألته قائلة: «هل تنصحنا باعتبار حلم أختي تحذيرًا من السفر غدًا.»
تمتمت آيريس بصوت خافت: «لا، لا تفعلا ذلك.»
انتظرت إجابة القس باهتمام مشوب بالألم؛ إذ لم تكن تتطلع للسفر على متن القطار نفسه مع هؤلاء الأشخاص المختلفين عنها، والذين قد يشعرون أن من واجبهم مصادقتها.
قال القس: «افعلا ما تميلان له. لكن إن غادرتما قبل الميعاد، فسيكون ذلك انتصارًا للخرافات، كما أنكما ستحرمان نفسيكما من يوم آخر في ذلك المكان البديع.»
قالت الآنسة روز معلقة: «كما أن حجوزاتنا بتاريخ بعد غد. من الأفضل ألا نُخاطر بحدوث أي تعقيدات. والآن سأذهب لأحزم أمتعتي لرحلة العودة إلى وطني العزيز إنجلترا.»
لدهشة الجميع، طغت نبرة انفعال فجأة على صوتها المتسلط. تريَّثت الآنسة فلود-بورتر حتى غادرت أختها الردهة، ثم قالت مفسرة:
«إنه التوتر. لقد تعرَّضنا لتجربة مُرهقة للغاية قبل أن نأتي إلى هنا. أمر الطبيب بتغيير كامل، فجئنا إلى هنا بدلًا من سويسرا.»
بعد ذلك أتى صاحب الفندق، وقلَّب محطات المذياع حتى نجح في التقاط محطة لندن على الموجة الترددية العالية في مجاملة لنزلائه. وسط التشويش الإذاعي، أخبرهم صوتٌ عذب مألوف: «كنتم تستمعون إلى …»
لكنهم لم يكونوا يستمعون إلى شيء.
كانت الآنسة فلود-بورتر تتخيل حديقتها تحت بريق قمر الحصاد الفضي. تساءلت إذا ما كانت براعم الأقحوان التي زرعت منها ثلاثة في كل أصيص قد تفتَّحت، وإذا ما نجت زهرات الميرمية من الحلزونات.
بينما كانت الآنسة روز تضع أحذيتها بسرعة في قاع إحدى الحقائب، سرت في جسدها قشعريرة عندما تذكَّرت أمرًا؛ إذ رأت مرةً أخرى حفرةً واسعة في أحد مراقد الأزهار بالحديقة، كانت تستقر فيها كومة من أزهار الدلفينيون العزيزة عليها منذ ليلة. لم تكمن المشكلة في خسارة كنزهما فحسب، بل أيضًا في عدم معرفة أين سيضرب العدو المرة القادمة، وهو أمرٌ مُرهق للأعصاب.
وكان القس وزوجته يفكران في طفلهما النائم في مهده. عليهما أن يُقررا إذا ما كانا سيسترقان النظر إليه فحسب، أم سيخاطران بإيقاظه بقبلة.
أما آيريس فتذكَّرت أصدقاءها وهم يغادرون في القطار السريع الهادر، وفجأةً لطمتها موجة من الحنين إلى الوطن.
كانت إنجلترا تنادي.