قطار الليل السريع
استيقظت آيريس تلك الليلة كالعادة، على هدير القطار وسط العتمة. قفزت من سريرها، وبلغت النافذة في الوقت المناسب لرؤيته يلفُّ منحنى البحيرة بشريط ناري. بينما كان يمرُّ مُقعقعًا من أمام الفندق، تمدَّدت اللطخة الذهبية لتصير سلسلة من النوافذ المضاءة، التي التحمت مجددًا مثل حلقات سِوار بمجرد أن مر.
بعد أن اختفى وراء منعطف الوادي، تتبَّعت مساره عن طريق سحابة الدخان الأحمر الكثيف المتراقص المتصاعد منه. ورأته في مخيلتها يمرق عبر أوروبا، وكأنه مكوك سريع يخترق نسيج الخريطة الملتهب، يلتقط المدن ويسلكها في خيط متوهج مارق. مرَّت أمام عينيها في لمح البصر أسماء مدن مضاءة ثم اختفت؛ بوخارست، ذاغرب، ترييستي، ميلان، بازل، كالييه.
اجتاحتها مجددًا موجة من الحنين إلى الوطن، مع أن عنوانها المستقبلي سيكون فندقًا، جالبةً معها عاصفة من التشاؤم؛ ذلك الإرث الذي تركته لها الجبال.
«ماذا إن وقع أمرٌ ما ولم أتمكن من العودة أبدًا؟»
في تلك اللحظة، شعرت أن أي شكل من أشكال الشر قد يعوق طريق عودتها. حادث قطار أو مرض أو جريمة كلها احتمالات قائمة من المنتظر بالفعل أن تقع لآخرين. كانت تحدث حولها في كل مكان، وربما ينقطع خط في مربع الحماية المرسوم على راحة يدها في أي وقت.
فيما كانت مستلقية تتقلب في فراشها، سلَّت نفسها بتذكر أن تلك ستكون آخر مرة تبيت في ذلك الفراش غير المستوي المصنوع من الريش. وخلال الليلتين القادمتين، ستنطلق هي أيضًا وسط الطبيعة المظلمة، وسيُبطل أيَّ تعويذة خاطفة للنوم وميضُ الأضواء كلما مر القطار السريع بمحطة.
لازمتها الفكرة عندما استيقظت في الصباح التالي كي تتطلع إلى ظل قمم الجبال المكسوَّة بالثلوج لقاء ضوء الشروق الأحمر.
قالت لنفسها بابتهاج: «اليوم، أرحل إلى وطني.»
كان الهواء باردًا نديًّا عندما تطلَّعت من نافذة غرفتها، وكان الضباب يرتفع من البحيرة التي التمعت صفحتها الخضراء من وراء أوراق أشجار الكستناء المصفرَّة التي يُحركها الهواء، لكنها لم تكترث إلى جمال اللونين الأزرق والذهبي البديع للخريف اللذين كسوا الطبيعة.
ولم تُبالِ أيضًا بنواقص غرفتها التي كانت عادةً تُكدر ذوقها الانتقادي. كانت جدرانها الخشبية مطليَّة بدرجة رديئة من اللون الأحمر المائل إلى الاصفرار. وعوضًا عن المياه الجارية، كان هناك حوض عليه علبة من القصدير تُغطيها منشفة رقيقة.
معنويًّا، كانت آيريس قد غادرت الفندق بالفعل، وابتدأت رحلتها قبل أن تنطلق فيها. عندما نزلت إلى المطعم، كانت تكاد لا تشعر بوجود النزلاء الآخرين، الذين شعرت بالنفور تجاههم منذ بضع ساعات فقط.
كانت الأختان فلود-بورتر، اللتان ارتديتا ملابس تناسب كتابة الخطابات في الهواء الطلق، تتناولان طعام الإفطار على طاولة بجوار النافذة. لم تتحدثا إليها، مع أنهما كانتا لتُومئان برأسيهما تحيةً لها إن التقت عيناهما بعينيها من باب الكياسة.
لم تُلاحظ آيريس أنهما لم يفعلا؛ فقد خرجتا من حياتها تمامًا. احتست قهوتها في صمت لا يقطعه سوى تعليقات الأختين من حين لآخر، مُتسائلتين إذا ما كان الطقس في إنجلترا قد ترفَّق بحفل زفاف عسكري محلي.
ظل الحظ مُلازمًا لها؛ إذ أعفاها من التواصل مع النزلاء الآخرين، الذين كانوا منهمكين في شئونهم الخاصة. أثناء مرورها من أمام مكتب الاستقبال، كانت السيدة بارنز تلفت انتباه نادل إلى خطاب موضوع في أحد كوَّات الرسائل. كانت حلتها الرمادية المصنوعة من القماش الناعم وكذلك رزمة الشطائر التي تحملها تدلان على ذهابها في نزهة.
كان القس الذي كان يملأ غليونه في الشرفة يرتدي ملابس غير تقليدية أيضًا؛ سروالًا قصيرًا، وسترة، وحذاء تسلق، وقبعة محلية مصنوعة من اللباد تزينها ريشة زرقاء صغيرة كان قد اشتراها تذكارًا لعطلته.
كانت تعلو وجهَه ابتسامةٌ سعيدة للغاية، حتى إن آيريس شعرت أنه يبدو مبتهجًا وصالحًا في آنٍ واحد، مثل قديس اعوجَّت هالته وهو يترك ضريحه ليكسب جلده الشاحب لونًا برونزيًّا من الشمس.
تلاشى تسامحها عندما آل إلى مسامعها حوارٌ كان مقدرًا له أن يؤثر على مصيرها.
قال القس مناديًا: «هل هذا خطاب من الوطن؟»
ردَّت زوجته بعد برهة من الصمت: «أجل.»
«اعتقدت أن الجدة أخبرتنا ألا ننتظر منها خطابات أخرى. ماذا تقول في خطابها؟»
«تريدني أن أشتري لها بعض الأشياء من لندن في طريق عودتنا؛ بعض الحرير من نوع «مارجريت روز». الأميرة الصغيرة كما تعلم.»
«لكنك ستكونين مُرهَقة. ذلك طلب لا مراعاة فيه.»
قالت السيدة بارنز بنبرة حادَّة للغاية: «كلا، بل هو كذلك. لماذا لم تفكر في ذلك؟»
تغاضت آيريس عن سلوكها الفظ ليلة أمس، وتركتهما يتابعان نقاشهما. أخبرت نفسها أنه مُحقٌّ في محاولة إعفائها من المهام المنزلية المُملة التافهة.
فيما كانت تمرُّ من أمام الفندق، اضطرَّت لأن تتراجع كي تتجنب التعدي على خصوصية الزوجين الحديثين، اللذين كانت غرفة جلوسهما مفتوحة على الشرفة. كانا يتناولان إفطارهما المكوَّن من الخبز والفاكهة في الهواء الطلق. كان الرجل يبدو متألقًا في ثوب منزلي صيني، وكانت زوجته ترتدي دثارًا أنيقًا فوق منامة من الحرير.
كان الزوجان تودهانتر يُثيران حنق آيريس؛ لأنهما يجعلانها تشعر بسخط غير مفهوم. كانت تشعر بالفراغ نفسه الذي تحاول تجاهُله عندما تشاهد مشهدًا عاطفيًّا بين ممثل وممثلة في فيلم ما. كان حبهما يطلُّ في أبهى ثيابه منقحًا بحصافة، ولا يُظهِر أمام الكاميرا إلا أفضل جوانبه.
شعرت بحماسة عندما نظر الرجل في عيني زوجته باهتمام شخصي بالغ وسألها: «هل كانت العطلة مثالية؟»
كانت السيدة تودهانتر تعلم بالضبط لكم من الوقت يجب أن تظل صامتة قبل أن تجيب عن سؤاله.
«أجل.»
كان توقيت ردها مثاليًّا؛ إذ استشفَّ منه ما لم تقُله صراحةً.
قال معقبًا: «لم تكن مثالية إذن. حبيبتي، لكن هل …»
غاب صوتهما عن أذنَي آيريس، فيما كانت لا تزال تشعر بشيء من الحسد. كانت تجربتها مع الحب مجرد سلسلة من المواقف التي انتهت إلى تمثيلية خطبتها.
شعرت أن النهار لن ينتهي، لكنه أخيرًا أخذ في التلاشي. لم يكن معها الكثير من المتاع لتحزمه، فاتباعًا للعُرف، أخذ أصدقاؤها معهم الجزء الأكبر من أمتعتها تيسيرًا عليها. أضاعت أو بالأحرى أغرقت بضع ساعات من وقتها في البحيرة، لكنها كانت متعجلة فلم تستلقِ في الشمس.
بعد أن بدلت ملابسها استعدادًا لرحلة السفر، نزلت إلى المطعم. كان طبق اليوم مغطًّى بالهلام بطريقة جذَّابة ومزينًا بأعواد الطرخون والسرفيل والبيض المفروم، لكنها ظنَّت أنه مكوَّن من سمك الإنقليس المسلوق. أشاحت بوجهها متقززة، وذهبت لتجلس على طاولة صغيرة مطلية باللون الأصفر الباهت في الحديقة المرصوفة بالأحجار، وهناك تناولت غداءً مكونًا من حساء البطاطس وحبات العنب الصغيرة.
كان ضوء الشمس يتلألأ من خلال المظلة الكثيفة التي كوَّنتها أشجار الكستناء، لكن الكرسي الحديدي كان باردًا وغير مريح. كان لا يزال أمامها أكثر من ساعة على موعد وصول القطار السريع، لكنها قرَّرت أن تنتظره في المحطة حيث بإمكانها الاستمتاع بجمال المنظر.
كانت قد أرهقت نفسها حد القلق؛ لذا كانت مغادرتها الفندق بمثابة خطوة في طريق رحلتها. شعرت بسعادة غامرة وهي تُسدد فاتورتها وتمنح بقشيشًا لمن تبقَّى من طاقم الخدمة بالفندق. لم ترَ أيًّا من النزلاء الآخرين، لكنها قطعت الحديقة مسرعة، كطالبة تتسلل من مدرستها، وكأنما تخشى أن يحدث ما يحُول بينها وبين المغادرة في اللحظة الأخيرة.
بينما كانت تقطع الممر الوعر يتبعها حاجب الفندق حاملًا أمتعتها، كان غريبًا عليها أن تعود لارتداء حلة سفر أنيقة وحذاء ذي كعب عالٍ مرة أخرى؛ إذ لم يكن بالشعور المريح بعد أسابيع من الحرية، لكنها تقبَّلته بصدر رحب باعتباره جزءًا من عودتها إلى الحياة المتمدنة. عندما جلست على رصيف المحطة واضعةً حقيبة سفرها عند قدميها، ترى بالأسفل التماع صفحة البحيرة، أدركت أنها بلغت قمة سرورها.
كان الهواء خاليًا من الرطوبة، وكان به لذعة البرودة التي تميز الارتفاعات. كان وهج الشمس يلفحها، فشعرت بدفئها وضوئها يغمرانها. نزعت قبعتها وحدَّقت في عمود الإشارة تترقب بحماسة لحظةَ هبوطه التي يعقبها ظهور محرك يبدو صغيرًا عند طرف القضبان.
كان هناك آخرون على الرصيف؛ فقد كان وصول القطار السريع هو الحدث الرئيسي لذلك اليوم. كان الوقت مبكرًا للغاية بالنسبة للمسافرين الفعليين، لكن كان هناك جماعات من زوار القرية وساكنيها يتسكعون حول أكشاك الصحف والفاكهة. كان حشدًا مرحًا وصاخبًا اختلطت فيه لغات عدة. لم تسمع آيريس أحدًا منهم يتحدث بالإنجليزية حتى أتى رجلان من الطريق المؤدي للقرية.
وقفا مستندين إلى السياج خلفها، يُتابعان جدالًا ما. في البداية، لم يُثيرا اهتمامها بما يكفي لكي تلتفت لترى وجهيهما، لكن صوتيهما كانا مميَّزين لدرجة جعلتها تتخيلهما على الفور.
كان للذي خمَّنت أنه الأصغر سنًّا بينهما صوتٌ شغوف غير منمَّق. كانت واثقة من أنه يملك ذهنًا متقدًا تتدافع فيه الأفكار. كان يتحدث بسرعة، وكثيرًا ما كان يتلعثم محاولًا إيجاد كلمة مناسبة، لا لقِصر مفرداته، بل لكثرة الاختيارات أمامه على الأرجح.
شيئًا فشيئًا حاز تعاطفها؛ لأنها أحسَّت أن ذهنه مُتناغم مع ذهنها — أو بالأحرى ناشزٌ مثله — ولأنها أيضًا نفرت من المتحدث الآخر غريزيًّا. كانت لهجته مُتحذلقةً تعمد أن تكون راقية، وكان يتحدث على مهل بنبرة سلطوية مُثيرة للحنق فشلت في إخفاء جمود عقله. «لا يا عزيزي هير.» شعرت آيريس أنه كان من الأحرى به أن يقول «واطسون.» «أنت مخطئ لدرجة كبيرة؛ فقد ثبت قطعًا أن أعدل وأفضل نظام قضائي هو نظام المحاكمة بواسطة هيئة محلِّفين.»
غمغم صاحب الصوت الأصغر سنًّا: «بل قل المحاكمة بواسطة هيئة من الخرقى. نحن نتحدث عن مواطنين عاديين. صحيح أنه لا يوجد شخص عادي، لكن كل شخص لديه تراكماته الخاصة من الأحكام المسبقة، ربما تكون امرأة ضغينة لبنات جنسها، أو كانت أخلاق رجل متزعزعة، جميعهم يلعنون السجين لأسباب مختلفة، وجميعهم لديهم أعمال ومنازل يتلهفون للعودة إليها، فيعدُّون الساعات ويتمسكون بظواهر الأمور.»
«هم يتلقَّون إرشادات من القاضي.»
«وكم يتذكرون من تلك الإرشادات؟ أنت أدرى كيف يشرد ذهنك وأنت تستمع إلى سلسلة من الكلمات المرسلة. علاوة على ذلك، حتى بعد أن يضع لهم النقاط على الحروف، يهرعون ثم يخرجون إليه بحكم خاطئ.»
«ولمَ تفترض أنه خاطئ؟ لقد توصَّلوا إلى استنتاجهم الخاص بناءً على شهادات الشهود.»
في خضم انفعاله، ضرب الشاب السياج بيده وقال: «الشهود! الشاهد هو الجزء الأسوأ من ذلك النظام؛ فربما كان غبيًّا لدرجة تجعل منه عجينًا يُشكله مُحامٍ مُراوغ، أو ربما يتمتع بقدر من الذكاء فيكذب ويضيع مستقبل رجل بائس، لا لسبب سوى أن يقرأ عن ذاكرته المدهشة وقوة ملاحظته ويرى صورته في الصحف. جميعهم ينشدون الشهرة.»
ضحك الرجل الأكبر سنًّا ضحكةً استعلائية ضايقت رفيقه وأخذها على محمل شخصي.
«عندما أتُّهَم بقتلك يا بروفيسور، أفضِّل أن يُحاكمني فريق من القضاة الذين يبحثون الحقائق بعقول قضائية مدرَّبة وعدالة نزيهة.»
قال البروفسور: «أنت متحيز، دعني أُقنِعك. هيئة المحلفين لديها ذكاء جمعي، يمكِّنها من الحكم على الأشخاص. بعض الشهود يعوِّل عليهم، وبعضهم الآخر يجب أن ينظر إليهم بعين الشك. على سبيل المثال، كيف تصف تلك المرأة السمراء التي تضع رموشًا مزيَّفة؟»
«جذَّابة.»
«مم! أما أنا فسأقول إن زينتها مبهرجة، وكذلك سيقول أي رجل عادي في العالم. الآن لنفترض أن شهادتها تتعارض مع شهادة تلك السيدة الإنجليزية التي ترتدي معطفًا ماركة «بيربري»، إحداهما ستكون كاذبة قطعًا.»
«لا أتفق معك؛ فربما يعتمد ذلك على وجهة النظر. الرجل العادي الذي يمتلك حديقة خلفية، إن رأى زهرة بنفسج فهو على أتم استعداد لأن يُقسِم على أن ما يراه هو زهرة بنفسج، في حين أنه إن ذهب إلى بستان نباتات فسيجد مكتوبًا تحتها «سيرينجا».»
«الاسم النوعي …»
«أعلم، أعلم. لكن إن أقسم مُواطن عادي نزيه أن زهرة السيرينجا بيضاء اللون، وأقسم آخر أنها بنفسجية اللون، فستكون هناك حتمًا فرصة لوقوع لبس. شهادات الشهود قد تكون كذلك.»
سأل صاحب الصوت الجامد: «ألا ترى أنك حِدت عن النقطة الأساسية؟ إن اعتلت كلٌّ من هاتين المرأتين منصة الشهود على نحوٍ منفصل، فأيًّا منهما ستُصدق؟»
بدورها، قارنت آيريس الشاهدتين الافتراضيتين. كانت إحداهما امرأة إنجليزية مميزة من سكان المقاطعات، لها قوام ممشوق ووجه عذب نبيه. إن كانت تعبُر المحطة وكأنها تملك حق المرور، فهي بالنسبة لها مجرد طريق مختصر لغايتها النهائية.
أما الحسناء السمراء، فكان من الواضح أنها مُتسكعة. ربما تكون تنُّورتها الملاصقة لجسدها وقميصها القروي المطرَّز هما ما ترتديه أي سيدة أوروبية أثناء عطلتها، لكن شفتيها الحمراوين الجذابتين وعينيها المعبرتين لم يمنعوا آيريس من أن تراها كغجريةٍ سرقت للتو دجاجةً لطهيها.
رغمًا عنها، كانت مضطرة لأن تُوافق البروفيسور في رأيه، لكنها مع ذلك شعرت بالحيرة تجاه الشاب عندما توقَّف عن الجدال؛ لأنها كانت تدعم الجانب الخاسر.
قال: «أفهم ما تعنيه. معاطف الحماية من المطر البريطانية تفوز في كل مرة، لكن مطاط الكونجو كان قضية دموية، وإن ساد الاعتقاد بقدرة المطاط على الحماية فقد يُثير ذلك بلبلةً مريعة. تعالَ لنحتسي مشروبًا.»
«شكرًا لك، اسمح لي أن أطلبه أنا؛ فأنا أريد الاستفادة من كل فرصة ممكنة للحديث باللغة المحلية.»
«أتمنى أن تنمحي من ذاكرتي؛ فهي لغة مثيرة للاشمئزاز، ومليئة بأصوات تُشبه البصق والعطس. أنت تُدرِّس اللغات الحديثة، أليس كذلك؟ هل تحضر الكثير من الطالبات محاضراتك؟»
«أجل، لسوء الحظ.»
شعرت آيريس بالأسف عندما ابتعدا عنها؛ فقد أثار جدالهما اهتمامها بعض الشيء. تزايدت أعداد الحشد على الرصيف، مع أن القطار لن يصل إلا بعد خمس وعشرين دقيقة، حتى إن وصل في موعده. اضطرَّت لأن تتشارك مقعدها مع آخرين، بينما جلس طفلٌ القرفصاء فوق حقيبة سفرها.
مع أن ذلك أتلف الحقيبة، لم تُمانع تطفُّله. لم يستطع الارتباك أن ينال منها لأنها كانت مستغرقة في اللحظة الحالية؛ فقد استحوذ عليها ضوء الشمس وأوراق الشجر المترقرقة والتماعة البحيرة مجتمعين ليأسروها في حالة من السكون الهنيء.
دون سابق إنذار، أتى الهجوم. وقع الأمر على حين غفلة.
فجأة، شعرت بألمٍ حادٍّ في مؤخرة عنقها. وقبل أن تستوعب الأمر، اهتزَّت الجبال ذات القمم البيضاء، وتحوَّلت السماء الزرقاء إلى اللون الأسود، واكتنفها الظلام.