غرفة الانتظار
عندما استردَّت آيريس وعيها، عادت إليها رُقَع من بصرها في بادئ الأمر. كانت ترى وجوهًا غير مكتملة تطفو في الهواء. كان يبدو أنه الوجه نفسه؛ ذو البشرة الباهتة، والعينين السوداوين، والأسنان النخرة.
شيئًا فشيئًا، أدركت أنها ممدَّدة على دكة فيما يُشبِه السقيفة تلتفُّ حولها مجموعة من النساء. كنَّ من الفلاحات، تتشابه ملامحهن العِرقية، وعزَّز من تشابههن مُصاهرتُهن لأقاربهن.
كن يُحدقن فيها بفتور ولا مبالاة، وكأنها مشهد لافت للنظر في الشارع؛ حيوان يُحتَضَر أو رجل يُعاني نوبةً ما. لم يكن في وجوههم الخالية من التعبير أي ذرة تعاطف، ولم تحمل نظراتهم المُتبلدة أي لمحة فضول. بلا مبالاتهن التامة تلك، بَدَوْن وكأنما يفتقرن إلى الغرائز الفطرية الإنسانية.
سألت بحدة: «أين أنا؟»
بدأت امرأة ترتدي ثياب عمل سوداء تتحدث بلغة حنجرية لم تحمل مقدار ذرة من معنًى بالنسبة لآيريس. أصغت إليها بالهلع والعجز نفسيهما اللذين تملَّكا منها أمس في الخور. في الواقع، كان وجه المرأة قريبًا جدًّا منها حتى إنها تبيَّنت تجاويف بشرتها، والشعيرات النابتة في فتحتَي أنفها، لكن الفلقة بينهما كانت كبيرة لدرجة جعلتهما يبدوان وكأنهما يقفان على كوكبين مختلفين.
كانت تتمنى أن يُنير أحدٌ ما عتمتها؛ أن يُزيح الستار الذي يُربكها ويُعميها. لقد وقع لها أمرٌ ما لا تعرفه.
كان احتياجها يتخطى قدرة الإيماءات على الشرح؛ فلن يُذهب ارتباكَ حواسها سوى تفسير واضح. في تلك اللحظة، فكَّرت في نزلاء الفندق الآخرين الذين فرَّت منهم فعليًّا. كانت مستعدة الآن أن تتخلى عن سنوات من عمرها كي ترى وجه القس القوي الروحاني، أو تنظر في عينَي زوجته الطيبتين.
في محاولة منها لاستيعاب الواقع، نظرت حولها. كان المكان مألوفًا نوعًا ما بحوائطه الخشبية الداكنة وأرضيته المغطَّاة بالرمال التي كانت بمثابة مِبصقة عامة. كان هناك شريط من ضوء الشمس المشوب بالغبار يسقط على أكواب سميكة مرصوصة على رف، وعلى رزمة من إعلانات ورقية يُرفرفها الهواء.
رفعت رأسها أكثر فشعرت بنبضة من الألم الخفيف تبعه هجمة من الدُّوار. لوهلةٍ شعرت أنها ستتقيَّأ، لكن ما لبث أن طغت صدمة التذكر على الغثيان.
كانت تلك هي غرفة الانتظار في المحطة. كانت تجلس هنا أمس، مع أصدقائها يحتسون مشروبًا أخيرًا. مثل شاحنات متدافعة تتصادم داخل عقلها، ترابطت أفكارها بدءًا بسلسلة الأحداث التي وقعت في محطة القطار. تذكَّرت أنها كانت تجلس على المنصة في ضوء الشمس في انتظار القطار.
بدأت دقات قلبها تتسارع بشدة. كانت في طريقها للعودة إلى إنجلترا، لكنها لا تملك أدنى فكرة عما حدث لها بعد أن فقدت الوعي، أو كم مر على ذلك من الوقت. قد يكون القطار السريع وصل وغادر دونها.
في خضم إنهاكها، بدت تلك الفكرة كارثية. شعرت بالدوار مرةً أخرى، وكان عليها أن تنتظر ريثما تنقشع تلك الغيمة من أمام بصرها كي تتمكن من قراءة عقارب ساعة يدها الصغيرة.
تهلَّلت أساريرها عندما اكتشفت أنه لا يزال أمامها خمس وعشرون دقيقة كي تجمع شتات نفسها قبل أن تنطلق في رحلتها. تساءلت: «ماذا حدث لي؟ ما الذي جعلني أفقد الوعي؟ هل هُوجمت؟»
أغمضت عينيها وحاولت بأقصى جهدها أن تُصفي ذهنها، لكنها لا تذكر في آخر لحظاتها قبل أن تفقد الوعي منظر السماء الزرقاء والبحيرة الخضراء الزاهية وكأنما تراهما من خلف بلورة.
فجأة، تذكَّرت حقيبتها وتلمَّست بيدها محاولةً العثور عليها. ارتاعت عندما لم تجدها بجوارها، ولم ترَها على الدكة. كانت حقيبة سفرها على الأرض، وفوقها قبعتها وكأنما تؤكد على حدود ممتلكاتها.
صرخت بعينين يملؤهما الهلع: «حقيبتي، أين حقيبتي؟»
كان بها نقودها وتذاكرها وجواز سفرها، ودونها سيستحيل عليها المضي في رحلتها. حتى إن ركبت القطار دون أي نقود، عند أول خط حدودي سيُعيدونها من حيث أتت.
أصابتها تلك الفكرة بالارتياع. كانت واثقةً أن أولئك النسوة تكالبن لسرقتها، وأنها عاجزة وواقعة تحت رحمتهن. عندما نهضت مسرعة من الدكة دفعنها لأسفل مرةً أخرى.
تفجَّر غضبها وحاولت مقاومتهن بضراوة. بينما كانت تُقاومهن، شعرت بدوَّامة من الارتباك؛ بألمٍ نابض، وأصوات تتعالى، وأضواء تومض أمام عينيها. سمعت أصوات نهيج ولهاث، وكأنها تيَّارٌ تحتي لصوت تدفقِ اندفاع مياه غريب، وكأن ينبوعًا مكتومًا تفجَّر فجأة من الأرض.
رغم محاولاتها، جذبتها المرأة ذات المئزر الأسود لأسفل مرةً أخرى، بينما دفعت فتاةٌ ممتلئة ترتدي مشدًّا يكاد يتمزق بكوب بين شفتيها. عندما رفضت أن تبتلع، عاملنها كطفل، فأملن ذقنها وسكبن المشروب الكحولي في حلقها.
جعلها ذلك تسعل وتُجاهد لالتقاط أنفاسها، حتى شعرت بالألم يعتصر رأسها. خشية هجوم آخر، استرخت واستسلمت لبؤسها وعجزها. أنبأها حدسها بأنها إن انفعلت، فقد تهتزُّ الحوائط في أي لحظة كما فعلت الجبال التي يكسوها الجليد تمهيدًا لغيابها عن الوعي تمامًا.
وتلك المرة ربما لن تُفيق، كما أنها لا تجرؤ على أن تُخاطر بأن تمرض في القرية وحدها بعيدًا عن أصدقائها. إن عادت إلى الفندق، فبإمكانها أن تطلب المساعدة المالية من النزلاء الإنجليزيين، وحتمًا يمكن استخراج جواز سفر آخر، لكن ذلك يعني التأخير.
كما أن هؤلاء الأشخاص غرباء بالنسبة لها، وقد انتهت عطلتهم تقريبًا. سيرحلون في غضون يوم، بينما قد تظل هي عالقة هناك لأجل غير مسمًّى، لتصير عُرضة للامبالاة أو حتى الإهمال. الفندق كذلك كاد يُغلق أبوابه.
قالت آيريس في نفسها: «يجب ألا أستسلم للمرض، يجب أن أهرب على الفور، بينما لا يزال هناك وقت.»
كانت واثقة من أنها إن تمكَّنت من ركوب القطار، فمجرد إدراكها أنه سيبتعد بها ميلًا بعد ميل نحو المدنية كفيل بأن يجعلها تصمد حتى تصل إلى مكانٍ تألفه. تذكَّرت بازل التي تقع على نهر الراين ذي اللون الأخضر الفاتح، بفنادقها الممتازة التي يتحدث موظفوها الإنجليزية. هناك يمكنها أن تمرض بينما تُعامَل بلغة مفهومة وتحتفظ بكرامتها.
كان كل شيء يعتمد على لحاقها بذلك القطار. ما تُعانيه جعلها فجأة تريد باستماتة العثور على حقيبتها. بينما كانت تُحاول جاهدةً النهوض مرةً أخرى، أدركت أن أحدًا ما يحاول أن يتواصل معها.
كان رجلًا عجوزًا يرتدي قميصًا متسخًا، وله وجهٌ صغير مجعَّد، ذو بشرة بُنية وتملؤه التجاعيد مثل ندبة خلفها غصن مقطوع في جذع شجرة. ظل يخلع قبعته الملوَّثة بالشحم ويشير لأعلى ثم لرأسها.
على التوِّ فهمت ما يعنيه. كان يقصد أنه بينما هي جالسة على الرصيف، أصابتها ضربة شمس.
أراحها ذلك التفسير للغاية؛ فقد كان لغز علتها يُخيفها ويُربكها؛ فهي نادرًا ما تمرض، ولم يحدث من قبلُ أن فقدت وعيها. إلى جانب ذلك، كان دليلًا على أنه رغم شكوكها، لم يكن التواصل مستحيلًا تمامًا، هذا إن كان بخصوص موضوعات غير معقَّدة.
مع أن قلقها من أن يفوتها القطار كان يسيطر عليها، استطاعت أن تبتسم للحمَّال ابتسامةً خفيفة، وكأنما كان ينتظر أي لفتة تشجيع، دسَّ يده داخل عنق قميصه المتسخ وأخرج حقيبتها.
نتشتها منه وهي تصرخ فرحًا. تذكَّرت الحشد الموجود على المنصة، فاعتقدت أنه لا أمل لديها في أن تجد نقودها، لكن ربما كان هناك فرصة ضئيلة ألا يكون جواز سفرها قد سُرق.
فتحت السحاب بسرعة بأصابع مرتعشة، فوجدت لدهشتها أن جميع محتويات الحقيبة موجودة؛ التذاكر والنقود وجواز السفر، وحتى فاتورة الفندق التي سدَّدتها كانت لا تزال موجودة داخلها.
لقد أساءت الحكم على نزاهة أهل القرية، وهو خطأ أسرعت تحاول إصلاحه. أخيرًا، ها هي في موقف تستطيع فهمه. كما جرت العادة، أتى مُنقذ ليؤكد معنى مربع الحماية على كفها. كان دورها الذي تمثَّل في دفع مبلغ زائد مقابل الخدمة المقدمة سهلًا.
تلقَّت النسوة نصيبهن من تلك النفحة بتعبيرات مُتبلدة. يبدو أن الذهول صعقهن فلم يستطعن إظهار فرحتهن أو امتنانهن. أما الحاجب العجوز فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ ظافرة، والتقط حقيبة سفر آيريس كي يوضح لها أنه بدوره استوعب الموقف.
رغم مقاومتها لاحتسائه، أنعشها المشروب الكحولي الخام، وكذلك التغير الذي طرأ على ظروفها بشكل كبير. شعرت أن حيويتها رُدَّت إليها وأنها صارت تملك زمام أمورها مرةً أخرى وهي تُظهر تذكرتها للحاجب.
كان وقع ذلك عليه كالصاعقة. ظل يُثرثر بانفعال وهو يجذبها من ذراعها ويقودها مسرعًا إلى الباب. فوْرَ أن مرَّا عبره، عرفت آيريس مصدر الصوت المتواصل الغريب الذي ساهم في جعل كابوسها أفظع.
كان صوت تدفُّق البخار الخارج من المحرك. ففيما كانت تهدر الدقائق النفيسة، وصل القطار إلى المحطة.
والآن هو على وشك المغادرة.
كان المشهد فوضويًّا على الرصيف. كانت الأبواب تُغلَق، والناس يهتفون بصيحات الوداع ويحتشدون أمام العربات. لوَّح أحد الموظفين بعَلم وانطلقت الصافرة.
لقد وصلا متأخرين دقيقةً واحدة. في اللحظة التي أدركت آيريس أنها هُزمت، انتهز الحاجب مجازًا اللحظة المؤثرة نفسيًّا، وانطلق يُرفرف معه. انتهز الفترة الوجيزة بين الاهتزازة الأولى للمحرك ودوران العجلات ليخترق الحشد كنمر عجوز.
كان لا يزال في جسده الهرم النحيل ما يكفي من القوة والرشاقة كي يتمكن من بلوغ أقرب عربة قطار وفتح بابها.
اعترضت طريقَه سيدةٌ ذات وقار ترتدي الأسود. كانت من النوع الذي يرتعد خوفًا منه غريزيًّا كَوْنه فلَّاحًا. على الجانب الآخر، فقد دفعت له زبونته مبلغًا يزيد بكثير عما يجنيه من بقشيش على مدى الموسم بأكمله.
لذا، كان يجب أن تأخذ مكانها في القطار. أحنى رأسه وعبر من تحت ذراع السيدة، وطوَّح حقيبة آيريس داخل العربة ثم سحبها هي أيضًا إلى الداخل.
كانت العربة قد بدأت تتحرك عندما قفز خارجها ليسقط متكومًا على أرض الرصيف، لكنه لم يُصَب بأذًى؛ فعندما نظرت آيريس وراءها لتُلوح له شاكرةً، ابتسم لها كعفريت بلا أسنان.
كان يفصلها عنه بالفعل عدة ياردات. مرَّت المحطة من جوارهم، وبدأت مياه البحيرة ترتطم بأوتاد رصيف المرسى. وخلال النافذة، تماوجت صفحتها الزبرجدية التي أهاجتها الرياح وصقلتها الشمس. فيما كان القطار يسلك المنعطف في مساره مارًّا عبر الثغرة بين الصخور، التفتت آيريس وراءها كي تُلقي نظرةً أخيرة على القرية؛ تلك الكومة المدهشة من المباني الصغيرة الملوَّنة التي استقرَّت على إفريز القرية الأخضر.