استراحة الشاي
ألجمت المفاجأة آيريس فلم تستطع الرد. نظرت غير مُصدقة إلى الأراضي الممتدة التي تُغطيها الرمال والنباتات الشائكة التي تمرُّ خارج النافذة، وكأنما تتوقع أن تراها تتحول إلى أكواخ سويسرية، أو أنهار إيطالية زرقاء.
قالت مندهشةً: «يا إلهي، أنت إنجليزية.»
«بالطبع. كنت أحسب أن مظهري تقليدي. هل ستأتين لاحتساء الشاي؟»
«أجل.»
تبعت آيريس مرشدتها إلى خارج المقصورة، وشعرت بالقلق عندما اكتشفت أن مقصورتهم كانت في نهاية الممر. يبدو أن مربع الحماية بكفها لا يضمن لها الحماية من حوادث القطارات رغم كل شيء.
سألت: «هل نحن قريبون من المحرك؟»
طمأنتها السيدة ذات الحلة التويدية قائلةً: «كلا، بل يفصلنا عنه مقصورات الدرجة العادية. ذلك القطار طويل للغاية، بسبب تزاحم نهاية الموسم. اضطروا لإقحام تلك المقصورات في القطار عنوةً.»
كان من الواضح أنها من النوع الذي يجمع المعلومات؛ فقد بدأت تبثُّها على الفور.
«فقط ألقِ نظرة في العربة التي تلي عربتنا عندما نمرُّ منها، وسأخبرك أمرًا.»
لم يُثِر ذلك اهتمام آيريس، بيْد أنها أطاعتها. بعدها، ندمت أنها فعلت؛ إذ لم تستطع نسيان ما رأته.
فعلى أحد المقاعد، رأت جسدًا ممدَّدًا بطول المقعد ومغطًّى ببطانيات. كان يستحيل معرفة إن كان لرجل أم لامرأة؛ فقد كانت الضمادات تُغطي الرأس والجبهة والعينين، وكانت ملامح الوجه مختفية وراء شرائط من الضمادات اللاصقة المتقاطعة. من الواضح أن الوجه كان مجروحًا حد التشوه.
تراجعت آيريس في هلعٍ ازداد عندما أدركت أن الرجل الشاحب ذا اللحية البستونية هو المسئول عن ذلك الشخص العاجز. بجواره كانت تجلس راهبة، تبدو القسوة البالغة على تعابير وجهها، حتى إنه كان يصعب الربط بينها وبين أي عمل رحيم.
بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، رفع المريض إحدى يديه بوهن. مع أنهما لاحظا حركة يده، تجاهلاها. كانا أقرب إلى حاجبَين مسئولين عن نقل كومة من الأخشاب، لا إنسان يتألم.
فجَّرت الأصابع المرتعشة داخل آيريس موجة من الشفقة الشديدة. ارتاعت عندما فكَّرت أنها أيضًا — إن لم يُحالفها الحظ — كان من الممكن أن تكون ممدَّدة تحت رعاية غريب غير مُبالٍ.
همست: «تلك الراهبة تبدو كمُجرمة.»
قالت لها السيدة ذات الحلة التويدية: «هي ليست راهبة، بل ممرضة.»
«إذن، فأنا أشفق على مريضها. إنه لأمرٌ مريع أن يمرض المرء أثناء رحلة، كما أنها ليست فرجة. لمَ لا يُسدلان الستار؟»
«سيكون ذلك مملًّا بالنسبة لهما.»
«يا للمسكين! أفترض أنه رجل، أليس كذلك؟»
كانت آيريس تتوق بشدة لأن تكسر وجه التشابه بينها وبين الجسد الذي يرقد بلا حراك، لدرجة أنها شعرت بخيبة أمل عندما هزَّت رفيقتها رأسها نفيًا.
«كلا، بل هي امرأة. لقد استقلوا القطار من محطتنا من على مسافةٍ أبعد. كان الطبيب يشرح للبارونة وضعها. لقد أصيبت إصابةً بالغة في حادث سيارة، وهناك احتمال حدوث إصابة خطيرة في المخ. ويحاول الطبيب إرسالها إلى ترييستي بسرعة لإجراء عملية جراحية معقَّدة لها. إنها فرصة أخيرة لإنقاذ تفكيرها المنطقي وكذلك حياتها.»
سألت آيريس: «هل الرجل ذو اللحية السوداء طبيب؟»
«أجل. وهو طبيبٌ ماهر جدًّا أيضًا.»
«حقًّا؟ أفضِّل أن يُعالجني طبيب بيطري.»
كانت السيدة ذات الحلة التويدية تسبقها فلم تسمع تمتمتها الاعتراضية. اضطرَّتا لأن تشقَّا طريقهما خلال الممرات المزدحمة، وكانتا قد قطعتا نصف المسافة عندما اصطدمت العانس بسيدة طويلة سمراء ترتدي ملابس رمادية تقف على باب مقصورة مزدحمة.
قالت معتذرةً: «أنا آسفة للغاية. كنت أنظر لأرى إن كان الشاي الذي طلبناه في الطريق. لقد أمليت طلبي لأحد المُضيفين.»
تعرَّفت آيريس على صوت السيدة بارنز، وتراجعت مُجفلةً لأنها لا ترغب في مقابلة القس وزوجته.
لكن رفيقتها صاحت بسعادة:
«يا إلهي، أنت إنجليزية أيضًا. هذا يوم سعدي.»
كانت عينا السيدة بارنز البنيتان الرقيقتان تدعوان إلى الثقة، فأضافت: «لقد قضيت عامًا في ذلك المنفى.»
سألت السيدة بارنز بتعاطفها الحاضر: «هل أنت في طريقك إلى الوطن؟»
«أجل، ولكن لا أصدِّق ذلك؛ فالأمر رائع لدرجة لا تُصدَّق. هل أُرسل أحد النوادل ليُحضر لك الشاي؟»
«سيكون ذلك لفتةً طيبة منك؛ فزوجي مسافر يُرثى له، مثل كثير من الرجال الأقوياء.»
استمعت آيريس لحديثهما بنفاد صبر؛ فقد بدأ الألم ينبض بشدة في صدغيها. عندما أتت السيدة بارنز على ذكر اسم زوجها، علمت أنها ربما تتأخر عن احتساء الشاي لأجل غير مسمًّى.
فقالت: «ألسنا نُعرقل الطريق؟»
عرفتها السيدة بارنز فمنحتها ابتسامةً مُصطنَعة؛ إذ إن حادثة جابريال ما زالت تحزُّ في نفسها.
سألتها: «هل اندهشت لرؤيتنا؟ لقد قرَّرنا في نهاية المطاف ألا ننتظر القطار الأخير، وقد أتت معنا صديقتانا الآنستان فلود-بورتر. في الواقع، لقد أتى الجمع بأكمله؛ فالزوجان الجديدان هنا أيضًا.»
كانت آيريس تُجاهد لشقِّ طريقها في الممر المُكتظ بعد أن ابتعدتا قليلًا، عندما قالت لها السيدة من وراء كتفها:
«تمتلك صاحبتك وجهًا عذبًا، كوجه العذراء المتألم.»
قالت آيريس مطمئنةً إياها: «بل هي امرأةٌ مبتهجة، وهي ليست صاحبتي بكل تأكيد.»
عبرتا آخر معبر من المعابر بين العربات التي تُصدر صوت صرير يُنذر بالخطر، ودلفتا إلى عربة المطعم التي كانت مُكتظة بالفعل. كانت الآنستان فلود-بورتر — اللتان ارتدت كلٌّ منهما معطف سفر أبيض من الكتان — قد أمَّنتا لنفسيهما طاولة، وجلستا تحتسيان الشاي.
عندما مرَّت آيريس من جوارهما في الممر الضيق، كانت إيماءتهما الرسمية لها بمثابة الإقرار المشروط الذي يسبق الإظلام التدريجي للمشهد الأخير في فيلم.
كان لسان حالها يقول: «سنتحدث إليك أثناء الرحلة، لكن بمجرد أن نصل إلى محطة فيكتوريا سنصير أغرابًا.»
بينما لم تظهر آيريس أي نية للانضمام إليهما، لم تستطع الآنسة روز أن تمنع نفسها من أن تُدير الموقف.
فنادت آيريس قائلةً: «صديقتك تُحاول لفت انتباهك.»
التفتت آيريس لتجد أن رفيقتها اكتشفت آخر موضع شاغر — طاولة ملاصقة للجدار — وحجزت لنفسها مكانًا. عندما انضمَّت لها، كانت السيدة ضئيلة الجسد تتلفَّت حولها بعينَين لامعتَين.
قالت: «لقد طلبت الشاي لصديقَيك اللطيفين. أليس ذلك كله ممتعًا؟»
كانت سعادتها عفوية وصادقة، فلم تستطع آيريس أن تتَّهمها بالمبالغة. حدَّقت بارتياب في ستائر النافذة المخملية الباهتة ذات اللون الذهبي، ومفرش الطاولة المتسخ، والطبق الزجاجي الذي يحوي مربى الكر؛ ثم نظرت إلى رفيقتها.
طالعها وجهها المتجعِّد الصغير ذو الملامح الباهتة، لكنها رأت التماعة في عينيها الزرقاوين الباهتتين، وميَّزت نبرة حماسة طفولية في صوتها.
فيما بعد، عندما تُحاول جمع الأدلة على ما تعتقد أنه مؤامرة غير عادية، سيجعلها ذلك التعارض بين مظهر العانس التي في خريف عمرها وصوتها اليافع تشكك في حواسها. على أي حال، لم تكن ذكراها جلية على الإطلاق؛ إذ لم تتذكر أنها نظرت بإمعان إلى رفيقتها مجددًا.
كانت الشمس تُرسل أشعتها الحارقة خلال النافذة، فاضطرَّت لأن تُظلل عينَيها بيدها معظم الوقت بينما كانت تحتسي الشاي، لكن وهي تستمع إلى ثرثرتها المتصلة المتحمسة، شعرت أن من تؤانسها هي امرأة تصغرها بكثير.
سألتها: «لمَ يرق الأمر؟»
«لأن ذلك سفر. نحن نتحرك. كل شيء من حولنا يتحرك.»
كانت آيريس تشعر كذلك أن المشهد كله يومض مثل فيلم سينمائي قديم. كان النوادل يسيرون متأرجحين داخل المقصورة المهتزة يُوازنون الصواني. مرَّت أجزاء من الريف سريعًا بجوار النافذة، وتساقطت ذرَّات السخام على الزبد وقطع الكعك اللزجة. وكانت ذرَّات الغبار تتراقص في أشعة الشمس، ومع كل انتفاضة بالمحرك، كانت الأواني الخزفية تتأرجح.
بينما كانت تُحاول احتساء بعض الشاي قبل أن يندلق كله من حافة الفنجان بفعل الاهتزاز، علمت أن رفيقتها — التي تُدعى الآنسة وينفريد فروي — تعمل معلمة لغة إنجليزية وهي في طريقها للوطن لقضاء عطلتها. كانت مفاجأةً صادمة لها أن علمت أن والدَي تلك السيدة البالغة على قيد الحياة.
قالت الآنسة فروي: «يقول أبي وأمي إنهما لا يتحدثان إلا عن عودتي؛ فهما ينتظراني بحماسة الأطفال، وكذلك سُق.»
ردَّدت آيريس: «سُق؟»
«أجل، اختصارًا لسقراط. ذلك هو الاسم الذي يُناديه به أبي. سقراط هو كلبنا، وهو من فصيلة كلاب الرعي الإنجليزية القديمة — لا ينحدر من سلالة نقية — لكنه لطيف جدًّا، وهو متيَّم بي. تقول أمي إنه يفهم أني عائدة للمنزل لكنه لا يعرف متى؛ لذا يذهب العجوز الأخرق لاستقبال كل قطار يصل، ثم ما يلبث أن يعود مُنكسًا ذيله، في تجسيد مثالي للاكتئاب. يتوق أبي وأمي لرؤية فرحته الجمَّة في الليلة التي أصل بها بالفعل.»
تمتمت آيريس: «أودُّ أن أراه.»
لم يُحرك مشاعرَها كلامُ رفيقتها عن فرحة والدَيها العجوزين، لكنها كانت تحب الكلاب كثيرًا. تخيَّلت بوضوحٍ هيئة سُقراط؛ كلب هجين له فراء كث كبير الحجم، وله هيئة مضحكة للغاية، وعينان كهرمانيتان تلمعان تحت خصل شعره، يثب فرحًا للقائها كجروٍ صغير.
فجأة، بترت الآنسة فروي حديثها عندما تذكَّرت أمرًا.
«قبل أن أنسى، أريد أن أشرح لكِ لمَ لم أقف إلى جوارك في موقف فتح النافذة. لا عجب أنك ظننت أنني لست إنجليزية حتمًا. لقد كانت المقصورة سيئة التهوية، لكني لم أتدخل احترامًا للبارونة.»
«أتعنين تلك المرأة المريعة التي ترتدي الأسود؟»
«أجل، تلك هي البارونة، فأنا مدينة لها. لقد وقع لبس حول مقعدي في القطار؛ فقد حجزت في مقصورات الدرجة الثانية، لكن لم يتبقَّ بها أي مقاعد شاغرة، فتحمَّلت البارونة للطفها الجم فارق الثمن كي أتمكن من السفر في مقصورتها بالدرجة الأولى.
تمتمت آيريس: «لكنها مع ذلك لا تبدو لي لطيفة.»
«ربما تكون مرهقة في المعاملات، لكنها تنتمي إلى عائلةٍ نلتُ شرف العمل معلمةً لديها. ليس من الحكمة أن أذكر أسماءً علنًا، لكني عملت معلمة خاصة لدى أرقى عائلات البلدة؛ فتلك المقاطعات المنعزلة لا تزال محكومة بالنظام الإقطاعي، وهي متأخرة عنا بقرون. لا يمكنك تصور نفوذ … نفوذ رب عملي السابق. ما يقوله يُنفَّذ، دون أن يضطرَّ لأن يتكلم حتى، بل يكفي أن يومئ برأسه.»
تمتمت آيريس التي تكره السلطة: «يا له من أمر مهين!»
وافقتها الآنسة فروي قائلة: «هو كذلك حقًّا، لكنه سائد في الأجواء، وبعد مدة يعتاده المرء ويصير خانعًا. وهذا ليس من شيم الإنجليز. الآن وقد قابلتك، صِرت أشعر بأني قوية. يجب أن نظل معًا.»
لم تقطع آيريس لها وعدًا بذلك؛ فالحادث المُفزع لم يُغيرها تغييرًا جذريًّا، بل وتَّر أعصابها فحسب. كانت تتبنى ذلك الانحياز العصري لليافعين، كما أنها لا تنوي أن تظل ملازمة لامرأة عانس في خريف عمرها لما تبقَّى من رحلتها.
سألتها بشرود: «هل ستعودين مرةً أخرى؟»
«أجل، لكن ليس إلى القلعة. الأمر غريبٌ بعض الشيء، لكني أردت أن أمضي اثني عشر شهرًا آخرين كي أتقن اللهجة؛ لذا قبِلت بوظيفة تدريس لأبناء … حسنًا، لنُسمِّه زعيم المعارضة.»
خفضت صوتها حتى صار همسًا.
«في الحقيقة، هناك جماعةٌ شيوعية صغيرة لكنها تتوسع، معارضة لرب عملي السابق. في الواقع، لقد وجَّهوا إليه اتهامات بالفساد والكثير من الفظائع الأخرى. أنا لا أشكك في صحة الأمر، فذلك ليس من شأني؛ فأنا لا أعرف سوى أنه رجل مُذهل، ذو شخصية جذَّابة رائعة. حسب صلة الدم … هل أطلعك على سر؟»
أومأت آيريس برأسها بوهن. كان الحر وأصوات القعقعة المتواصلة قد بدآ يُشعرانها بالدوار، ولم يُعِد إليها الشاي حيويتها؛ فقد انسكب معظمه في طبق فنجانها. كان المحرك يرتجُّ صعودًا وهبوطًا فوق القضبان المعدنية وكأنما يترنَّح، نافثًا حلقات من الدخان الحار الذي كان يتدفق من جوار نوافذه.
تابعت الآنسة فروي روايتها المتسلسلة، بينما استمعت لها آيريس باستسلام وضجر.
«كنت مُتشوقة جدًّا لأن أودع، أودع رب عملي، كي أطمئنه أن عملي لدى العدو — إن جاز التعبير — ليس خيانة له. أخبرني خادمه وأمين سره أنه غادر إلى كوخ صيده، لكني شعرت بطريقةٍ ما أنهما يحاولان إثنائي عن مقابلته. على كل حال، ظللتُ مستلقية على سريري دون أن أنام حتى الصباح الباكر، وقبل شروق الشمس، سمعت صوت مياه تتدفق في الحمام. وقد كان هو الحمام الوحيد في القلعة يا عزيزتي فتصميمها بدائي، مع أن غرفة نومي كانت تُشبه جناحًا ملكيًّا كتلك التي نراها على المسرح؛ فأثاثها كله مذهَّب ومصنوع من القماش المخملي بلون أزرق كريش الطاوس، وبها مرآة كبيرة دائرية مثبَّتة في السقف. على أي حال، تسلَّلت من غرفتي مثل فأر، فصادفته في الممر. وقفنا رجلًا عاديًّا أمام امرأة عادية. أنا في ثوبي المنزلي، وهو في رداء الاستحمام، وشعره مبتل ومبعثر، لكنه كان يبدو ساحرًا، بل إنه حتى صافحني وشكرني على خدماتي.»
توقَّفت الآنسة فروي كي تدهن آخر قطعة خبز بالزبد، ثم تنهَّدت تنهيدة ارتياح سعيدة وهي تمسح أصابعها اللزجة.
وقالت: «لا يسعني أن أخبرك كم شعرت بالارتياح لأني سأغادر تحت تلك الظروف الحسنة؛ فأنا أحاول دائمًا أن أظل على وفاق مع الجميع. بالطبع، أنا لست بالشخص المهم، لكني بوسعي أن أدَّعي صدقًا أني لا أملك أي أعداء على الإطلاق في ذلك العالم.»