(١) الأنثى جندرٌ نحوي أم نوعٌ فقهي؟
قد لا نعثر لأول وهلة على تعريفٍ «نحوي» صلب لدلالة المذكَّر أو
المؤنث أكثر من اسم الإشارة؛ إذْ يُعرَّف المذكَّر بأنه «ما يصح أن
تشير إليه بقولك: «هذا»، مثل رجل، كتاب»؛ كما يُعرَّف المؤنث بأنه
«كل اسمٍ دل على مؤنث، ويُشار إليه ﺑ «هذه»، نحو: هذه الشجرة».
٣ وهذا اصطناعٌ نحوي لا يوحي بأي تأسيسٍ أخلاقي.
أما من ناحيةٍ لغوية فإن فقهاء اللغة يؤسسون تأويلاتٍ أخلاقية
يقدِّمونها على أنها طبائع لغوية للذكور والإناث ومن ثَم للرجال
والنساء، وأخيرًا للمجتمع برمَّته. إن لسان العرب مثلًا، لا يُثبت
من المعاني المحايدة في تعريف الجنسَين سوى مجرَّد التناسب؛ فتعريف
الذكَر ليس سوى هذا: «الذكَر خلاف الأنثى.» وفي المقابل فإن تعريف
الأنثى ليس سوى هذا: «الأنثى خلاف الذكَر من كل شيء.» أما بقيَّة
التعريفات في الحالتَين فهي تحمل أحكامًا أخلاقية مربكة في التذكير
والتأنيث تبلغ حدًّا مزعجًا بحيث تهدِّد بتدمير هوية الأنثى وتؤسس
لعلاقةٍ ذكورية متسلطة لا غبار عليها. فيُقال «يومٌ مذكَّر» إذا
وُصِف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل؛ و«طريقٌ مذكَّر» أي مخُوفٌ
صعب، في حين يُقال «سيفٌ أنيث»؛ أي الذي ليس بقاطع، و«الأنيث من
الرجال» المخنَّث، بل إنه يُقال للموات الذي هو خلاف الحيوان
«الإناث». لكن ذلك لا يعني أية دعوة للمرأة قد تتشبه بالذكَر، فإن
العرب تلعن «المرأة الذَّكِرة والمذكَّرة والمتذكِّرة». ذلك أن
الذكورة هي شأنٌ خاص يحتكره الذكور ويُمنَع على المرأة المزاحَمة
أو الطمع فيه. ليس ذلك من باب عداوة المرأة أو الأنثى، بل من باب
أن العرب قد خصصوا لكل جنسٍ مزايا من نوعه لا يخرج عنها: إن الذكَر
يُمنَع من أن «يتأنث» بنفس الحدَّة التي تُمنَع فيها الأنثى من أن
«تتذكَّر». بالطبع لا يجدُر بنا أن ننكر أن سلَّم القيم السائد كان
يحث على أولية الذَّكَر على الأنثى صراحة. نقرأ في لسان العرب: «وفي حديث الميراث:
لأَوْلى رجلٍ ذكرٍ؛ قيل: قاله احترازًا من الخنثى؛ وقيل: تنبيهًا
على اختصاص الرجال بالتعصيب للذكورية.» لكن التعصب للذكورية هو أمر
يدخل في سياسة الهوية ولا يتناقض بالضرورة مع أفُق الانتظار الذي
يقع رسمه تلقاء الأنثى: إن «الأنوثة» ليس سبة أو تهمة، بل يمكن أن
تُعامَل باعتبارها نوعًا من الكمال الخاص بالمرأة؛ إذْ «يُقال: هذه
امرأةٌ أنثى إذا مُدحَت بأنها كاملة من النساء، كما يُقال: رجلٌ
ذكَر إذا وُصِف بالكمال.» وفي هذا الصدد يُقال: «بلدٌ أنيثٌ أي
ليِّنٌ سهل.» بل إن علماء اللغة قد بذلوا وسعهم في تأسيس هذا
المعنى التأويلي لتحديد دلالة المرأة؛ إذْ جاء في لسان العرب: «وزعم ابن الأعرابي أن
المرأة إنما سُمِّيَت أنثى، من البلد الأنيث، قال: لأن المرأة
ألينُ من الرجل، وسُمِّيَت أنثى للِينها.» والعرب تؤنِّث العطور
وتذكِّرها حسب التصنيف الهووي بين الجنسَين، وليس حسب خصائصها أو
استعمالاتها.
في ضوء هذه الإشارات النحوية واللغوية علينا أن نواجه أسئلةً
تأويلية معاصرة (لا سيما بعد ظهور المذاهب النسوية، وخاصة بعد
انبثاقة الدراسات الجندرية) من قبيل: هل فعلًا نستطيع أن نتحدث عن
خطاب عن «المرأة» عند العرب القُدامى؟ أم أنهم لم يعرفوا سوى مفهوم
«النساء»، كما هو مُثبَت في سوَر القرآن وفي كتُب الفقه؟ ثم ما
الفرْق في آخر المطاف بين خطاب المرأة وخطاب النساء؟ هل يتعلق
الأمر بمجرَّد فرْقٍ بين المفرد والجمع؟ أم أننا أمام نواةٍ
إشكالية أو جندرية لا زالت تستعصي على الامتحان النظري
والتاريخي.
علينا أولًا التمييز بشكلٍ واضح بين تقاليد الحركات النسوية
المعاصرة وبين النظرة الجندرية ﻟ «المرأة» كنوعٍ اجتماعي.
تقول جويت بتلر في تصدير الطبعة الثانية (١٩٩٩م) لكتابها
قلق الجندر: النزعة النسوية وتقويض
الهوية: «منذ عشر سنوات، أنهيتُ مخطوط كتابي
قلق الجندر وأرسلتُ به إلى
دار راوتليدج بغرض النشر. لم أكن أعلم أن النص سيكون له جمهور بهذا
القدر الواسع الذي كان له، ولا كنتُ أعلم أنه سيشكِّل «تدخُّلًا»
استفزازيًّا في النظرية النسوية أو سيتمُّ الاستشهاد به باعتباره
واحدًا من النصوص التأسيسية لنظرية الكوير أو الشذوذية.»
٤
يبدو أن مخاطبة المرأة في المفرد يختلف اختلافًا مربِكًا عن
مخاطبة النساء في الجمع. لنلاحظ بشكلٍ مؤقت فيما يخص ثقافتنا: إن
الأفكار النسوية العربية، والتي تمتد جذورها «الرجالية» إلى قرنٍ ونيف،
٥ هي في صميمها أجيال أو موجات «سياسية» أو حقوقية من
الاحتجاج على وضع النساء في المجتمع التقليدي. وهي تنخرط في تقاليد
النسوية الحديثة منذ إعلان وثيقة الثورة الفرنسية عن الحقوق
المدنية للإنسان والمواطن، وعلى مدى القرنَين التاسع عشر والعشرين؛
إنها تناضِل من أجل طيف من «الحقوق» المدنية ما لبث أن يتوسع حسب
محطات الحياة الحديثة (من حرية ومساواة وتعليم وشغل وانتخاب …) وهي
في الأغلب تحث «النساء» على التحرر من سُلطة «الرجال» في الجماعة
التقليدية باسم تصوُّرٍ فرداني وليبرالي لشخص «المرأة» بوصفها
«إنسانة» من حقها المساواة مع «الرجل»، وكأن الرجل هو كائنٌ معياري
مستقر ونموذجي يجب على المرأة أن تفتكَّ منه الاعتراف الحقوقي بها.
وهو تاريخٌ نسوي من نوعٍ تنويري صاحَب العرب المعاصرين سواء في
فترة النضال ضد الاستعمار أو فترة معارك الاستقلال ما بعد
الكولونيالي عنه.
٦ وما لبث أن تطوَّر في كل مهجة، خاصة منذ
التسعينيات من القرن الماضي،
وصار لدَينا كتاباتٌ حول «الأدب النسوي» و«النقد النسوي» و«الشعر
النسوي» و«الرواية النسوية» … إلخ،
٧ في خلطٍ غير متفكِّر فيه بين مسائل «النساء» و«المرأة»
و«الأنثى»، والحال أنها مساحاتٌ معيارية وهووية مختلفة إلى حدٍّ
مزعج. إلا أنه علينا أن ننبِّه إلى أنه ليست كل كتابة عن «المرأة»
هي كتابةٌ نسوية. إن كتابات «الرجال» عن المرأة ليست «نسوية»، بل
تتنزل في إطارٍ نقدي وتنويري أوسع (ولا ضر إن كان علمانيًّا أو
إسلاميًّا) قد لا تؤدِّي فيه النساء أي دورٍ تأسيسي؛ إذْ يردُّ
«المرأة» إلى «الإنسان» من أجل جعلها قابلة للنقاش في علاقةٍ
بنيوية مع «الرجل» ولكن دون أن تشارك فيه. إن مؤلفات الطاهر الحداد
٨ والشعراوي
٩ أو بوعلي ياسين
١٠ أو نصر حامد أبو زيد
١١ أو عبد الوهاب المسيري،
١٢ وغيرهم، هي لا تدافع عن حقوق «المرأة» إلا بقدر ما
تقبل الرد الماهوي إلى مفهوم «الإنسان»، وبالتالي بقدر ما يمَّحي
الفاصل الجندري الذي يفصلها عن «الرجل» في معنى محو الفرْق بين
«الأنثى» و«الذكَر» باسم «جنس» الإنسان الذي يشملهما.
أما الدراسات الجندرية فهي تطرح أسئلة غير مسبوقة حول جنوسة
«المرأة» يقع تصنيفها عادة على أنها تمثِّل الجيل الرابع من الحركة
النسوية العالمية والتي اشتدَّ
عودها في التسعينيات من القرن الماضي في أمريكا. لم يعُد يتعلق
الأمر بالدفاع الحقوقي عن «المرأة» بالمعنى النسوي (والذي ظل على
ما يبدو يفهم الجندر في إطار المطالبة النسوية بإزالة التمييز بين الجنسَين)
١٣ بل بتفكيكٍ تداوُلي لمفهوم «المرأة» ومفهوم «النساء»
نفسه وذلك باعتباره مجرَّد «بناءٍ اجتماعي» يجدر بنا أن نبحث عن
بناه ومفاعيله في كل الميادين، من النحو إلى التاريخ، ومن الاقتصاد
إلى الدين، ومن القانون إلى الأخلاق، ومن أنظمة القرابة إلى الأدب.
بذلك التفكيك فقط يمكن إعطاء المرأة فرصة التعبير عن هويتها الخاصة
بوصفها قادرة وتملك الحق في رسم هويتها الجندرية. لم يعد المشكِل
«حقوقيًّا» أو «مدنيًّا» (رغم أن بعض البحوث النسوية المطعمة
بالدراسات الجندرية قد وجدَت نفسها مضطرة لمواصلة التنوير النسوي،
وتحت وطأة نقد أنظمة التمييز ضد المرأة ظل التأصيل الجندري
محدودًا) بل صار متعلِّقًا بضربٍ غير مسبوق من «سياسة الهويات»
(اختيار النوع الاجتماعي، تكسير التقابل البيولوجي بين الذكَر
والأنثى، بَلورة هويةٍ جندرية حرة، التحول من جنس بيولوجي إلى آخر
… إلخ).
ما يهمنا في هذا المبحث هو مدى إمكانية مراجعة الفرْق بين المرأة
والنساء في ضوء الدراسات الجندرية. لا يتعلق الأمر بالدفاع النسوي
التنويري عن حقوق المرأة، بقدر ما يتعلق بالعمل النقدي على بَلورة
سياقٍ مناسب لفهم تجربة هوية الأنوثة في ثقافتنا العميقة. وهو أمر
يستوجِب إرساء تقاليد بحث جندرية طويلة النفس تحفر في تاريخ تقنيات
الذات وأشكال الذاتية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم.
١٤ لكن الدراسات الجندرية ليست نزعةً نسوية بالضرورة،
إنها موقفٌ نظري وإشكالي أوسع نطاقًا من التنوير النسوي. إلا أننا
قد نلاحظ أنه لم يتحقق الكثير على هذه الطريق، اللهم إلا بعض تجارب
النقد السردي الرشيق
١٥ أو بعض الوثائق التأسيسية حول النوع الاجتماعي للمرأة
١٦ أو ترجمة بعض الكتب التأسيسية حول المرأة.
١٧
وبعامَّةٍ لا تزال أبحاثنا الراهنة بالعربية تميل إلى مواصلة
الدفاع النسوي عن الأنثى بواسطة الدراسات الجندرية عن المرأة.
١٨ والحق أن ذلك قد يؤدِّي إلى تأمين استعمالٍ أداتي
وخارجي للمكاسب المعيارية التي تحقَّقَت بفضل الدراسات الجندرية،
لكن صعوباتٍ نظرية عميقة لا زالت تعسِّر الذهاب قدُمًا وبلا قيد أو
شرط أخلاقوي أو ديني في تبني أو احتمال الوعود الأخلاقية لفيلسوفات
الجندر، من قبيل جوديت بتلر، وهي وعودٌ تقويضية وتفكيكية من طرازٍ
رفيع. وفي صيغةٍ فلسفية مزعجة يمكننا أن نتساءل: إلى أي حد يمكن
للدراسات النسوية العربية أن تحرر النساء (ضد تاريخ التفاوت
الحقوقي بين الجنسَين) من دون تحرير الأنثى داخل المرأة (باسم حقها
في سياسة هويةٍ خاصة «ما-بعد-أنثوية») من تاريخها النسوي؟ ذلك بأن
تحرير النساء هو معركةٌ حقوقية وسياسية مع مجتمع الرجال وسلالم
أخلاقهم وتاريخهم الاستبدادي … إلخ، في حين أن تحرر جندر المرأة
(النوع الاجتماعي أو الجندر) أو جندر الأنثى (الكائن الهووي المفرد
والمستقل) هو مشكِلٌ ذاتي وما-بعد-نسوي تمامًا. إنه يخص طبيعة
الجندر بما هي كذلك، كما هي مختفية في حرمة الجسد ما-بعد-النسوي
واستعمالات الرغبة الخاصة وحرية التعبير الفردي واختيار الشخصية
الجندرية وسياسات الهوية … إلخ.
طبعًا، للغة رأيٌ آخر علينا استحضاره والتعامل معه. إن العربية
لا تفرِّق كثيرًا بين «المرأة» و«النساء» فليست الثانية غير صيغة
الجمع للأولى، كما أن الأولى هي صيغة المفرد للثانية. والجواب
الشائع هو أن النساء أو النسوة هو جمع المرأة من غير لفظهِ. ومن
الجدير بالباحث أن يتساءل: هل ثمة معنًى لأنْ تكون «النساء» جمع
امرأة «من غير لفظها»؟ من غير لفظه: يعني لا مفرد له من
لفظه.
علينا أن نلاحظ هنا هشاشة التسمية: إن «امرأة» هي مؤنث «امرؤ»؛
كما أن «النساء» هي جمع المرأة من غير لفظها. كما نرى، إن الأصل
هنا هو الذكَر. تأنيث «المرء» (ومعناه الإنسان) هو الذي أعطانا لفظ
«المرأة». إن السلسلة الاصطلاحية هشة؛ لأنها لا تملك منطلقها: لا
«امرأة» من دون «امرؤ»؛ ولا «نساء» من دون «امرأة وامرأتَين
وأكثر». قد يعني ذلك أن المعالجة النحوية للقرابة المعنوية بين
المرأة والنساء هي تعميةٌ اصطلاحية على مشكِلٍ معياري عميق لا
نراه. فقد قيل: إن دل الاسم على جمع ولا واحد له من لفظه سمَّوه
«اسم جمع». هذا يعني أن تسمية النساء هي قرارٌ لغوي خطير نابع من
سياسةٍ هووية واعية بنفسها لم يفهمها النحاة؛ ولذلك اضطُروا إلى
تبريرها بالحيل الاصطلاحية المتاحة.
إن العرب يؤنِّثون ويذكِّرون كل شيء حتى الجمادات؛ ومن ثَم هم
«يجندرون» العاقل وغير العاقل. لا نعني التأنيث والتذكير النحوي،
فلا معنى لأنْ يكون البحرُ مذكَّرًا والشمس مؤنثة، بل نعني التأنيث
والتذكير الذي من شأنه سحب الصفات الاجتماعية لنوعَي «المرأة»
و«الرجل» (الصفات الجندرية) على الصفات البيولوجية لجنسَي الأنثى
والذكَر (الصفات ما قبل الجندرية) ليس فقط لدى البشر والحيوانات بل
حتى لدى الجمادات أيضًا. بلا ريب، ليس كل تأنيث وتذكير «جندرة»،
فالنحو لا «يجندر» أحدًا، بل فقط ذلك التأنيث والتذكير الذي ينقل
«النوع الاجتماعي» (الجندر: المرأة/الرجل؛ النساء/الرجال) إلى
مناطق كينونة أو عوالم حياة، لئن كانت تؤنث وتذكر (بيولوجيًّا: مثل
الحيوانات)، فهي لا تتضمن أية تصنيفاتٍ «جندرية» معطاة سلفًا (حسب
النوع الاجتماعي: رجل/امرأة، نساء/رجال). الحيوان لا «يجندر»؛ ثمة
في عالم الحيوانات أنثى وذكر فقط، لكن ليس ثمة امرأة/رجل، أو
نساء/رجال. إن المشكِل الجندري ينبع من الخلط المتعمد بين معجمٍ
حيواني (أنثى/ذكر) ومعجمٍ اجتماعي (امرأة/رجل،
نساء/رجال). وهو خلطٌ لا علاقة
له بالطبيعة، بل هو موقف إنجازي لنوع من السلطة. وبالتالي فإن
المشكِل الجندري لا يمكن طرحه بشكلٍ مناسب إذا بقينا في حدود
الدفاع المدني عن حقوق «المرأة» ضد سُلطة «الرجل»؛ لأن ذلك يفترض
أننا قبِلنا بالتقسيم الجندري السائد؛ حيث لا تخرج «المرأة» عن
مفهوم المرأة ولا يخرج «الرجل» عن مفهوم الرجل إلا حقوقيًّا فقط.
الجندر ليس مشكِلًا حقوقيًّا إلا عرَضًا. بل هو مشكِلٌ
هووي.
ربما نعثر هنا على بعض إجابة عن هكذا سؤال: بأي وجهٍ يجدر بنا أن
نفهم أن القرآن المدني قد تضمن «سورة النساء» وليس سورة «المرأة»؟
وحتى لغة القرآن المكي هي لم تذكر «المرأة» بالتعريف بل جعلَتها في
أغلب المواضع القصصية مضافة إلى «زوجها» (امرأتي، امرأة فرعون،
امرأة نوح …) وما بقي من المواضع هي «امرأة» (أو امرأتان) في صيغة
التنكير، وليس «المرأة» ككائنٍ مخاطَب لذاته. قد يُقال إن هذا
المفهوم حديثٌ وقد تشكَّل في نطاق ثقافة «الفرد» التي ندين بها إلى
أفكار التنوير والحداثة. في حين أن النساء هو مصطلحٌ قديم ينتمي
إلى الثقافات التقليدية للجماعة. ومع ذلك فهذا التبرير ليس
مقنعًا.
إن مدونة الحديث لا تخلو من استعمال لفظة «المرأة» هكذا بالتعريف
وذلك في تقابُلٌ جندري صريح مع «الرجل» بالتعريف؛ حيث ورد الحديث
عن «شهادة المرأة» كيف هي «نصف شهادة الرجل»، وذلك بالتوازي مع
التقابل الذي يفصل بين «النساء» و«الرجال». وهذا يعني أن المفهوم
كان متاحًا، لكن قرارًا من نوعٍ أكثر خطورة هو الذي وجَّه أفُق
الأنثى نحو مفهوم «النساء» وليس مفهوم «المرأة». ومع ذلك فإن تعليل
ذلك من الداخل ليس يسيرًا.
ثمة مثلًا في لسان العرب ضعفٌ
مربِك في المادة اللغوية الخاصة بفعل «نسا» التي اشتُقَّت منها
كلمة «نساء»؛ حيث لا نعثر إلا على معانٍ متنافرة من قبيل عرق النسا
والنسيان بمعنى الترك والنسي في معنى الشيء المطروح الذي لا يُذكر
… إلخ. وهي عناصر دلالية لا تصلح لبَلورة معنًى إيجابي لمفهوم
«النساء». نحن لا نملك فقهًا للمرأة بل فقط فقهًا للنساء. وعلينا
أن نتساءل: لماذا فضَّلَت حضارتنا مخاطبة النساء في الجمع؟ هل كان
هناك تعمُّد في تحاشي مخاطبة المرأة في المفرد؟ باعتبارها جندرًا
مستقلًّا معياريًّا عن منزلة «الرجل»؟ وكيف يجدر بنا أن نفهم جهود
الإسلاميين المعاصرين من أجل كتابة كتب عن «فقه المرأة» (كما فعل
الشعراوي مثلًا في كتابه «فقه المرأة المسلمة»؛ حيث لا نعثر إلا
على فقه النساء وليس على فقه المرأة)؟ هل يحق لنا أخلاقيًّا أصلًا
أن نخاطب المرأة خارج أفق النساء؟ وكيف يمكننا أن نستفيد اليوم في
إيضاح عناصر هذا النقاش من الدراسات الجندرية التي ثورِّت الخطابات
النسوية حول العالم؟
ما نلاحظه هو أن المساهمات النسوية العربية قوية وعريقة. لكن
توتُّرًا خفيًّا صاحَبها منذ بداياتها: إنه التوتر بين مواصلة فقه
النساء (الذي تعج به المكتبة الإسلامية التقليدية) وبين بَلورة
خطابٍ تحرري أو جديد أو حداثي أو ما بعد تقليدي عن «المرأة». وكانت
نتيجة هذا التوتر الخفي هي إنتاج خطاباتٍ نسوية شبه-«رجالية» في
مقابل خطاباتٍ جندرية للمرأة، وهو تقابلٌ حادٌّ وإشكالي خفي بين
مواقف نسوية حقوقية قابلة للتطعيم بمصادر أخلاقية أو فقهية غير
حداثية (تتحدث عن النساء في صيغة الجمع دون التخلص من هواجس عدائية
ضد سيطرة الرجال) ومواقف أنوثية ما-بعد-نسوية
١٩ أو جندرية راديكالية (تنطق باسم اختلافٍ مفتوح للمرأة
في المفرد، غير مغلق على هوية الأنثى البيولوجية ودونما إحالةٍ
ضرورية على دور الرجل كبؤرة سلطوية بعينها، بل على مساحاتٍ هووية
مغايرة ومتنافرة مثل «التقاليد الجنسية» و«تقنيات السلطة» و«أشكال
الذاتية» و«المعايير الاجتماعية»).
إن تعويل الحركات النسوية على التشريعات المدنية وحتى الفقهية
التي تساعد على تحسين الوضع الحقوقي للمرأة، كما في مسألة الإرث في
تونس راهنًا، وتحصينها ضد العنف بجميع أشكاله (ولا يغرنك ما ترى من
التنوير فإن الغرب نفسه لا يزال مدرسةً كبيرة في تعنيف النساء وحتى
قتلهن تحت اسم «العنف الزوجي»، مثلًا ثلث النساء في أمريكا تعرضن
للاغتصاب والعنف والتحرش)، هو يضعها على حافة مشكِلة الجندر لكنه
لا يسمح لها بالدخول إلى إشكاليته العميقة. لا ندخل منطقة الجندر
إلا عندما نطرح السؤال غير المسبوق عن هوية الجندر؛ وعندما نميز
بشكلٍ جذري بين «الجنس» البيولوجي و«الجندر» أو النوع الاجتماعي،
وألا نؤسِّس «الجنسانية» (في معنى الميول الجنسية بحيث ينقلب
الجندر إلى دفاع عن الاستعمال الإباحي للأجساد)
٢٠ على «الجنس» (في معنى الوضع البيولوجي). والحال أن هذا
التوجه لا بد وأن يؤدِّي إلى مشاكل تفكيكية من طرازٍ غير مسبوق.
مثلًا: الزعم بأن المرأة ليست أنثى إلا بالعرَض وليس
بالذات؛ وبشكلٍ مواز، أن الرجل ليس
ذكرًا إلا بالعرَض وليس بالذات. أن المرأة ليست قدرًا أخلاقيًّا
على الأنثى؛ أن الأنثى ليست قدرًا بيولوجيًّا على المرأة. وبشكلٍ
مواز، أن الرجل ليس قدرًا أخلاقيًّا على الذكَر؛ وأن الذكَر ليس
قدرًا بيولوجيًّا على الرجل. أن الجندر (أي النوع الاجتماعي: رجل،
امرأة …) يمكن بل يجب أن يكون اختيارًا حرًّا وليس نوعًا
اجتماعيًّا معطى
نهائيًّا؛ لأنه
محتوم بوضعٍ بيولوجي لا يمكن تغييره. وأخيرًا، أن التحوُّل من جندر
إلى آخر هو ليس فقط ممكنًا طبيًّا بالنسبة إلى كل جسم عضوي (تحوُّل
الأنثى إلى ذكر أو العكس أو تحوُّل هووي يُحدَّد لاحقًا …)، بل هو
حقٌّ أخلاقي أو إمكانٌ معياري مفتوح أمام أي نوعٍ اجتماعي تقليدي
(من امرأة إلى رجل أو من رجال إلى نساء أو إلى أنواع اجتماعية
أخرى).
نحن نشهد انتقالًا غامضًا من دعوى «المساواة بين الجنسَين» (وهو
لب المعجم النسوي) إلى دعوى «المساواة في الجنادر» أو الأنواع
الاجتماعية (وهو محور المعجم الجندري). ولو أخذْنا مسألة الإرث في
الإسلام مثالًا، لوجدْنا النسوية المعاصرة تُطالِب بالمساواة في
الإرث «بين الجنسَين»، وذلك في نطاق النضال الحداثي ضد هيمنة ثقافة
الرجال/الذكور، ورثَة عقيدة الإله الواحد والزعيم الهووي وسلطة
الأب … إلخ. في حين أن دراسات الجندر إنما تصبو أصلًا إلى «تخريب»
مذهب الفرْق بين الجنسَين، ومن ثَم فتح الباب أمام «تعدُّد
الجنادر» لأكثر من «اثنَين»، وذلك في إطار النضال نحو «دمقرطة»
أشكال الهوية الحميمة، وفصلها ليس فقط عن التقسيم الجندري
الاجتماعي الثنائي التقليدي (رجال/نساء) بل حتى عن التحديد
البيولوجي الوراثي (ذكور/إناث).
ولو أخذْنا بجدية ما يُسمَّى «نسبة الجنس» (sex
ratio)؛ أي نسبة الذكور والإناث في تعداد
السكَّان في العالم راهنًا، ووضعنا في الحسبان وجهًا من الشذوذ في
نسبة الذكور، مثلًا في الدول الغنية؛ حيث قلَّت بشكلٍ طفيف عن نسبة
الإناث، فإنه يمكن عندئذٍ أن تُفاجئنا مشاكل غير مسبوقة: سوف تظهر
دعوات «بيو-سياسية» للمساواة «في الرجال» وليس دعوات «هووية»
للمساواة «مع الرجال»، كشرطٍ مزعج للصمود على مستوى «سياسة حفظ
النوع». كأن المشكِل الديمغرافي سوف يصبح أكثر حسمًا في رسم ملامح
الهوية المستقبلية للنوع البشري من المشكِل
الأخلاقي-القانوني-الديني؛ حيث سوف يفرض إعادة صياغة المسألة
النسوية: سوف ينقلها من المطالبة ﺑ «المساواة» بين الجنسَين إلى
المطالبة بتوفير «حمايةٍ» ديمغرافية لأحد الجنسَين دون
الآخر.
لكن دراسات الجندر سوف تجد نفسها معفاة من هذا الضرب من النقاش؛
إذْ بالاستغناء عن الفرْق التقليدي بين الجنسَين، هي سوف تستغني
أيضًا عن مؤسسة الزواج التقليدية، وبالتالي لن يكون ثمة اختلال في
نسبة الجنس بين الذكور والإناث؛ حيث ستتعدد «الجنادر» إلى ما لا
نهاية.
ومع ذلك، علينا أن نسأل: ألا تواصل النسوية لدَينا هيمنة الرجل؟
٢١ إن بعض النسوية ليس لها من هدفٍ أقصى سوى تحرير
«العذراء من القفص».
٢٢ إلا أن هذه معارك أخلاقية لا علاقة لها بمشكِلة
الجندر. بل: هل النسوية أمرٌ مفيد بالنسبة إلى المرأة العربية؟
٢٣ أم أن النسوية نزعة لا تخلو من سوء فهم لجندر
المرأة؟
ثم: كيف نحرر المرأة من العلاقة المزعجة بين النسوية الإسلامية
والإسلام الأصولي؟
٢٤ قد يجد البعض أن عبارة «النسوية الإسلامية» مجرَّد
«تناقُض في الألفاظ» (!)
٢٥ كيف نقطع المسافة الأخلاقية داخل نفس الثقافة بين
«نسوية الحجاب» و«نسوية الفيمن» (الحركة النسوية الأوكرانية) التي
طالت بعض مدننا؟
تقع «النسوية المسلمة» غالب الأحيان في موقف دفاعٍ هووي عن
النفس، ضد خطابٍ «استشراقي» عن «المرأة المسلمة». لكن من يكتفي
بالدفاع عن نفسه لا «يؤسس» لأي تجاوزٍ عميق لجندر المرأة التقليدي.
٢٦ وحين تتحول النسوية الإسلامية إلى دفاع «ما بعد حديث»
عن فقه المرأة المسلمة دفاعًا عن النظرة الاستشراقية للجسد
«المشرقن» بوصفه جندر المتعة الذكورية، هي تؤدِّي فقط إلى انبعاث
«نسويةٍ محافظة-جديدة» لا تحرر شيئًا من جندر المرأة التراثي.
٢٧
يبدو أن تأصيل الجندر في ثقافتنا؛ نعني قطع المسافة المشكِلة
والمركبة من «الجنس الآخر» (سيمون دي بوفوار) إلى «حل الجندر»
٢٨ (جوديت بتلر)
٢٩ هو عندنا معركةٌ فلسفية يبدو أنها لم تبدأ بعد.
(٢) الجندر والدين
إن وقْع دراسات الجندر على فهم الدين قد تحوَّل بسرعةٍ لافتة إلى
ورشة بحثٍ عملاقة
٣٠ تهدِّد أغلب الادعاءات التأويلية والأخلاقية وحتى
السياسية التي بناها «المؤمنون» و«الملحدون» في كل الثقافات، ليس
فقط عن أنفسهم وعن هوياتهم الخاصة، بل خاصة عن نموذج العيش الذي
أسسوا عليه مجتمعاتهم. ويبدو أنه لم يعد ممكنًا أو مبررًا أبدًا
مواصلة تأويل الدين أو حتى مواصلة أشكال التدين التقليدي من دون
الاصطدام بأسئلة الجندر التي أخذَت أول الأمر معنًى فضفاضًا يشير
إلى «النساء» أو أدوار المرأة بعامة، لكنه تحوَّل لاحقًا إلى
مصطلحٍ متين ومركَّب يشمل كل ميدان الذكورة والأنوثة في كل سياسات
الهوية والتمثلات التي تبنيها المجتمعات عن سلوكات الجنسَين. وربما
يمكن للباحث أن يعتبر نظرية «الكوير» (الكوير: هو غريب الأطوار أو
الشاذ ولكن من دون معنًى ازدرائي هو «الجنس الحر») هي الورشة التي
خرجَت منها أكثر التساؤلات طرافة عن مفردات الدين اليهودي-المسيحي،
ولا سيما المسيح أو الله،
٣١ ومن ثَم فإن الخطر المعياري الأكثر طرافة (أو تطرفًا)
ليس البحث في جندر الله بل في طرح السؤال اللاهوتي عن الإله
«الكوير» كما يمكن أن يؤمن به المثليون ما بعد المحدَثين، وهم
يحاولون الانتقال خارج أفُق الدين التقليدي «من اللاهوت المثلي إلى
اللاهوتيات الجنسية الحرة».
٣٢
بلا ريبٍ قد يبدو التمييز التقليدي بين «الجنس البيولوجي»
للمولود (ذكر/أنثى) وبين «الجندر» أو «النوع الثقافي» الذي يُفترَض
أن ينتمي إليه في حياته (رجل/امرأة)، بديهيًّا بل إنه إجراءٌ شكلي
في أي ثقافة؛ فهو لا يحتوي — لأول وهلة — على أي خطورةٍ معيارية
خاصة، نعني خطورة على أخلاقه أو سياسة هويته أو طبيعة السلطة التي
تُمارَس عليه أو يمارسها. لكن ما قد يبدو أبعد حقًّا عن النقاش حول
هوية الجندر هو نوع الإيمان الذي يمكن أن يعتنقه أو نوع الإله الذي
يمكن أن يؤمن به هذا المولود في يومٍ ما. طبعًا، نحن إلى حد الآن
قد تورطنا سلفًا في الحديث عن «مولود» وليس عن «مولودة». وهذا بحد
ذاته لا يُحَس من فرط الانصياع الصامت لتوزيعٍ جندري لا نراه غالب
الأحيان؛ لأنه يستفيد من تواطؤ النحو واللغة معه، قبل تواطؤ
المجتمع أو الدين.
لكن الباحث يصطدم هنا بظاهرتَين تعمل الواحدة منهما على طمْس
الأخرى؛ إذ بقدر ما يعمل كل دين على توحيد ماهية النوع البشري
بواسطة إيمانٍ «غير مجنوس» و«غير مجندَر» في آنٍ، ينزع السؤال عن
الجندر إلى تشقيق الهوية في ضوء الفرْق المعياري الذي تحمله في
«ذاتها» بين «الجنس» البيولوجي و«النوع» الثقافي، بين الهوية
الموروثة وسياسات التذوُّت الحر. إن الإيمان مجندَر سلفًا؛ وذلك
طالما هو يعتنق عقيدة «الإله»
٣٣ الواحد (الذكَر النحوي والأنطولوجي) الذي يحميه
«الرجال» وتخضع له «النساء» باسم تشريعٍ مقدَّس حول التمييز الجنسي
بين الذكَر والأنثى.
كان الدرس الأخلاقي التقليدي يعتبِر «الإنسانية» بمثابة الوحدة
الأخلاقية العليا أو الأخيرة التي انطلاقًا منها يبدأ الاتصال
بالكائن المتعالي أو الله. قد يبدو أن التبذير الوحيد هنا هو
التضحية بالكثرة البشرية المفردة في كل مرة وبأصالة كل شخص على
حدةٍ، وذلك من خلال المساواة الوجودية بين الناس كافة في «نفسٍ»
واحدة أو كلية هي الإنسانية جمعاء أي مجموع الزرافات المؤمنة التي
يمكن أن تنضوي تحت سُلطة الإله الإبراهيمي دون سواه. لكن ما يسكُت
عنه الدرس الأخلاقي التقليدي هو أمرٌ مضاعَف: ليس فقط التوزيع
الجنسي للمؤمنين بل التنضيد الجندري لهويَّاتهم.
إن المشكِل عندئذٍ هو: ما هو الدور الذي أدَّاه الجندر في تنظيم
لعبة المعنى الجنسي التي يقوم عليها الدين التوحيدي؟
٣٤ الإيمان لعبة معنًى مجنوسة ومعقدة بلغَت في كتابات
كيركغارد أو نيتشه إلى طَور المفارقة التي تدعو إلى التفكير من دون
أية ضماناتٍ لاهوتية جاهزة. إلا أنه من الاستخفاف الكبير بتعقُّد
الطبيعة الإنسانية أن ننخرط في إلحادٍ جديد،
٣٥ نعني قائم على محاججةٍ تستند إلى نتائج العلوم
الطبيعية الراهنة، من أجل دحض الإيمان أو مقاومته. كل إلحادٍ حجاجي
هو ضجيجٌ خارج أفُق الدين، وذلك أن الأسئلة الأكثر خطرًا عن هذا
السلوك في العالم إنما تُوجَد على مستوًى آخر من البحث. وإن أفضل
مثالٍ راهن على هذا المستوى الآخر هو مسألة الجندر. لا أحد يمكنه
التملص من جندره، وذلك أنه لا أحد على استعدادٍ لأن يُراجع جنسه.
طبعًا، ثمة متحولون، نعني بذلك الجندر الذي ينتج عن الانتقال من
جنس إلى جنسٍ آخر، وذلك بإجراء عمليةٍ جراحية على الجسم. ولكن هل
مجرَّد تغيير أعضاء الرغبة أو التناسل يؤدِّي فعلًا إلى تغيير
الهوية؟
على هذا المستوى يدخل الدين بأسئلةٍ محرجة: إن الجندر لا يغير
«الروح». طبعًا، يمكن أن ندخل في نقاشٍ معقَّد حول الفرْق بين
«الروح» و«النفس» (كما فعل ذلك الفكر الوسيط) أو بين «النفس»
و«الذات» أو بين الأنا والهو (كما يفعل المعاصرون)، إلا أن ذلك لا
يمكن أن يغيِّر طبيعة المشكِل من دون أن يؤدِّي إلى تدمير «الهوية»
التي يدَّعيها شخصٌ ما عن «نفسه»: أنه «هو» وليس شخصًا «غيره».
وحسب ماكنتاير أو ريكور أو رورتي لا يصمد عندئذٍ من معنى الهوية
إلا الرابط السردي. لا يحمي الفرد المعاصر من الانهيار سوى الهوية
السردية التي ينجح في تنظيمها حول نفسه. لكن الجندر يطرح صعوبةً
تتجاوز نقاش الفلاسفة المحدَثين حول الهوية/الذات المؤسِّسة.
٣٦
إن الدين التوحيدي قد وفَّر هو أيضًا سرديةً متماسكة حول أدوار
الجنس (بين الذكَر والأنثى) وأدوار الجندر (بين الرجال والنساء).
لكن هذه السردية قد تبدو فقيرة من حيث الاقتراحات التي تُقدِّمها
عندما نقف على سيطرة جندر على جندرٍ آخر باسم الجنس؛ ولذلك فإن
الاجتهاد من أجل إنقاذٍ تأويلي عنيف للمقاصد الدينية المفترضة من
قوامة الرجال على النساء أو من تفضيل الذكَر على الأنثى هو موقفٌ
خطير ويمكن أن يؤدِّي إلى زعزعة سردية الإله التوحيدي.
من أجل ذلك انخرطَت الدراسات النسوية بشكلٍ حثيثٍ فيما سمَّاه
بعض الباحثين «جندرة تاريخ الأديان»؛
٣٧ وذلك لأن الدين التوحيدي هو المدونة الأكثر تأثيرًا
على بناء الهوية الحديثة للإنسانية أكانت هويةً مجنوسة (مذكَّرة أو
مؤنثة) أو مجندرة (رجال/نساء). وصار المشكِل الحاسم هو: كيف ندرس
الدين من منظور الجندر؟ بالطبع علينا الاحتراس من مجرَّد الخلط بين
الدراسات النسوية ودراسات الجندر. لكن ما وقع هو أن تطبيق الجندر
على الدين قد جاء يشبه ضربًا من الثأر النسوي من الجندر التوحيدي.
وقد يبدو أن الجندر الذكوري لا يبذل احتجاجًا صريحًا حول التوزيع
الجندري للكتب المقدَّسة، من حيث إنه قد يُفترَض أنه في
صالحه.
لكن بعض الدراسات الجندرية
تشير إلى أن النساء أكثر ميلًا للتدين من الرجال.
٣٨ هذا المُعطَى الإحصائي يبعث على التساؤل: إذا كان
الدين هو مصدر التشريع الذي يستند إليه الرجال عادة في تبرير جندرة
دَور المرأة فكيف نفسر أو حتى كيف نفهم ميل النساء لأنْ يكُنَّ
أكثر تدينًا من الرجال؟ من اللافت أن التفسيرات المقدَّمة غالبًا
قد كانت هي نفسها تفسيراتٌ مجندرة: أن الأنثى تتماهى مع الإله
بوصفه صورة عن الأب الذكَر ومن ثَم تجد الدين أكثر جاذبية على خلاف
ما يفعله الذكور.
٣٩ لا ريب أنه تُوجَد تفسيراتٌ أخرى تحرص على اعتماد
مفهوم التنشئة الاجتماعية، مثلًا، حيث تفترض أن تجارب الطفولة
المبكرة للأنثى هي التي تهيئها للقيَم الدينية في دَور المرأة مثل
حل المشاكل والخضوع والرفق والحنان، وتعتبر في المقابل أن هذه
القيم هي أقل تناغمًا مع دَور الرجل. كذلك ثمة من يتخطى نطاق
التفسيرَين السابقَين، ويعتمد معالجة بنيوية: إن الموقع البنيوي
للأنثى داخل المجتمع، مثل الإنجاب أو قلة المشاركة في عالم الشغل
أو القيم المنزلية، هو العامل الأنسب لفهم ميل النساء إلى التدين.
ومع ذلك فإن السؤال لا يزال يُطرَح دومًا: لماذا تكون النساء أكثر
تدينًا؟ وهل هناك رابط بين الفيزيولوجيا والإيمان؟
لا يمكن تأويل الجندر
النسوي بمعزل عن ثقافة الجندرة التي غزَت كل الثقافات تقريبًا
وهيكلَت الحضارات الكبرى التي نعرفها. وإن أعلى فكرة تواجهنا هنا
هي فكرة الله المجندَر أو جندر الله. - ربما من المفيد أن نهتم ليس
بانتقال الإنسانية من الشرك إلى التوحيد بقدر ما يجدُر بنا أن
نوجِّه أسئلتنا نحو ظروف الانتقال من تأنيث الألوهية في عصر
«الربَّات» أو «الإلهات» إلى عصر الأرباب أو الآلهة في صيغة
المذكَّر، وإن كان يمكننا دومًا أن نحتفظ بالفرْق الاستعاري بين
الذكَر والمذكَّر هنا: إن الإله التوحيدي مذكَّر دون أن يُتصَور
بوصفه ذكرًا بالمعنى التناسلي. والتنبيه على أنه
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: ٣]
هو بالأساس تنبيهٌ جندري، وليس لاهوتيًّا إلا عرَضًا. إن المرور من
الواحد (يَهْوَه
YHWH) إلى الكثرة
(ألُوهِيم
Elohim) ربما هو حدثٌ
لاهوتي داخلي لا يمس بجندر الإله في ثقافة التوحيديين. «الله»؛ إذا
كان يرجع في جذره اللغوي السامي إلى «ألوهيم» اليهود فهذا يعني أنه
إله الآلهة أو الإله الذي لا تعدو الآلهة الأخرى أن تكون سوى
تعبيراتٍ أو أسماء أو تجلياتٍ عنه. لكن ما لا يتغير هو جندر الإله/الأب:
٤٠ إنه المذكَّر الواحد أو الوحيد من نوعه. وانطلاقًا منه
تبدأ سلسلة الجنادر في أدوارٍ سردية تأسيسية: الله/المذكَّر؛
الشيطان/المذكَّر؛ آدم/الذكَر؛ النبي: الذكَر. وذلك في تساوُقٍ
صارم مع الأب/الذكَر والملك/الذكَر والنحو/الذكوري. وإن ثلاثية
الإله/الملك/الأب ليست مجرَّد مدوَّنة سُلطة بل هي وثيقةٌ جندرية
تأسيسية تحوَّلَت إلى سياسة للحقيقة. وفي كل الأسماء الأخرى للإله
لدى اليهود (مثل مولاي
Adonaï أو
الاسم
Hashem) أو لدى المسيحيين (المنقذ
Yehoshua، ابن داود، ابن
الإنسان، المسيح
mashia’h) أو لدى المسلمين
(الله، الإله، الرب، وقائمة الأسماء الحسنى هي أسماءٌ مذكَّرة)، أو
في الترجمات اللاحقة من يونانية
(
Kyrios) ولاتينية
(
Dominus)، ظل معنى الألوهية
مجندرًا بعنايةٍ شديدة.
وعلينا أن نسأل: ما هو أصل الجندرة بما هي كذلك؟
لا يُوجَد أصلٌ آخر غير
اللغة، نعني قوانين النحو.
٤١ وحسب نيتشه لولا النحو لما كان هناك «أنا أفكر». إن ما
نسمِّيه «أنا» هو في أصله الصامت فخٌّ نحوي تحوَّل بالثقافة إلى
سُلطةٍ هووية. وبعد المنعرج اللغوي أصبح يمكن اعتبار هذا التخريج
بمثابة شكلٍ نموذجي لكل تصوُّرٍ جندري للمفاهيم الدينية الأساسية
من قبيل «الإله» و«الشيطان» و«آدم» … إلخ. علينا أن نتخيل: كيف كان
يكون معنى «الأنا» الإلهي أو الآدمي قبل ظهور اللغة؟ وخاصة: كيف
كان يمكن التعبير عن قرارات التذكير والتأنيث من دون نحو؟ وهو ما
يؤدِّي تواليًا إلى القول بأن جندرة الكائنات الاجتماعية إلى
«نساء» و«رجال» هو غير ممكن من دون صيغٍ نحوية تم «بناؤها» بعنايةٍ
سياسية مرعبة. إن تعليم اللغات في كل مكان هو إذن سياسةٌ جندرية
غير مباشرة ليس فقط تجاه الحيوانات العاقلة وغير العاقلة بل حتى
تجاه ميدان المقدَّس بعامة. لا يمكن تصور ميدانٍ مقدَّس أو خطابٍ
ديني من دون قراراتٍ نحوية تُؤنَّث وتُذكَّر في نوع من السخرية
السوداء. وحسبما تؤكده لوسي إيريغاراي، في كتابها «الجنس الذي هو
ليس واحدًا»، فإنه تُوجَد على الدوام فروقٌ ذات دلالة؛ أي جندرية،
بين اللغة التي يتكلمها الرجال واللغة التي تتكلمها النساء.
بلا ريبٍ يمكننا أن نحتج بأن الإله «مذكَّر» ولكن ليس «ذكرًا».
لكن هذا التمييز قائم على فراغٍ نحوي فظيع: المذكَّر هو ما يصح أن
تشير إليه بقولك «هذا». مثل رجل، حصان أو كتاب، بحر. وهو عندئذٍ
إمَّا حقيقي (رجل، حصان) وله أنثى من جنسه، أو مجازي (كتاب، بحر)
وليس له أنثى من جنسه. هذا يعني أن الإله مذكَّرٌ مجازي؛ أي لا
يُقابِله أي نوع من الأنوثة. ومن ثَم هو يقع خارج أفق الحيوانية
بعامة. أيُّ معنًى عندئذٍ لتذكير الألوهية عند الإبراهيميين؟ هل هي
مجرَّد «هذيَّة» نحوية أي مجرَّد سياسة إشارة أو تخاطب تم تقديسها
لاحقًا لأسبابٍ سلطوية؟ إمَّا أنَّ هذا هو ما جناه النحو على هذه
القطعة من الإنسانية، نعني أنه أمرٌ نابع من طبيعة اللغات السامية
ولا دافع له؛ وإمَّا أنَّ هذا الأمر هو قرارٌ ثقافي نتيجة نوعٍ
معين من سياسة الحقيقة قائم على استبداد الذكور على الإناث
استبدادًا تحوَّل إلى تكريسٍ هووي دخل في ميدان المقدَّس وانقلب
إلى حواس طويلة الأمد لشعوب بأكملها.
إن القراءة اللسانية للمفردات الدينية تُحوِّلها إلى استتباعاتٍ
أخلاقية لِبنًى تداولية لا تراها. وحين ننجح في إضاءة المفردات
النحوية بواسطة أسئلةٍ جندرية، فإننا نرتعب من هشاشة ادعاءات
الصلاحية التي ينبني عليها القول الديني حول الجنسَين. إنها
ادعاءات ليس لها من وجاهةٍ سوى شحنتها التداولية. وكل ما عدا ذلك
هو تبريراتٌ هووية لاحقة أو مفاعيل سردية تم بناؤها اجتماعيًّا
وتمثيليًّا على مراحل متطاولة، وإنْ كان ذلك قد لا ينقص شيئًا من
جلالتها.
إن الخطابات النسوية التقليدية حول منزلة النساء في هذا الدين أو
ذاك — وهي تقريبًا خطاباتٌ تنويرية تُدافع عن حرية النساء ضد سُلطة
الرجال — لم تعُد موقفًا نقديًّا مناسبًا منذ تسعينيات القرن
الماضي، عندما أخذَت تتكوَّن، خاصة بعد المنعرج اللساني، إضاءاتٌ
ما بعد كولونيالية وما بعد بنيوية ودراساتٌ جندرية حول الهشاشة
الأنطولوجية لمفاهيم الذكَر والأنثى التي أقامت عليها الأديان
العالمية فِقهها الهووي. لقد تبين أن مفردات الذكَر والأنثى، مثل
مصطلحات الرجل والمرأة، هي كلها بناءاتٌ تداولية ليس لها من
صلاحيةٍ سوى مفعولها الإنجازي داخل جماعةٍ لغوية أو تواصليةٍ
مخصوصة. وعندئذٍ لم يعد المشكِل هو فقه النساء أو البحث النسوي في
منزلة المرأة في الدين، بل صار القطب الجديد للبحث هو الدين والجندر
٤٢ في ضوء سياسات الهوية ومسألة السلطة باعتبارها مشكِلًا
تداوليًّا. كان الرهان النسوي تنويريًّا (تحرير المرأة) في حين أن
البحوث الجندرية هي تفكيكية أو كما تقول جوديت بتلر «تخريبية»؛
إنها تتعلق بمراجعة مقولات الذكورة والأنوثة وطبيعة دورها في تبرير
الهوية أو السلطة. وحين نقول إن الدين لا يعيِّن هوية النساء كما
تقول سرديات الخلق، بل يجندرها فقط، فنحن نعني أنه لا تُوجَد أصلًا
هويةٌ نسوية جاهزة للإناث، كما أنه لا تُوجَد هويةٌ رجالية جاهزة
للذكور. ما فعله الدين بخاصة هو «أقنمة» أو «شخصنة» وضعيات أو
أدوار تداولية كانت موجودة في الجماعات البشرية التقليدية وحوَّلها
إلى مفاهيم عقدية ودافع عنها باعتبارها مقدَّسات، أي مصادر تشريعٍ
روحي للهوية. وفجأةً، ربما، لم يعُد من معنًى لدراسة الدين سوى
التحول إلى ضربٍ من تأويلية الجندر. لكن هذا لا يعني أبدًا تشريع
الإلحاد، فهو كما نعلم مجرَّد موقفٍ ديني مقلوب، كما يمارسه اليوم
«الملحدون الجدد» في الكتابات الأمريكية، مثل ريتشارد دوكينز أو
سام هاريس. بل إن تخريب التصورات البالية للذكورة والأنوثة لا يعني
التخلي عن استعمالها. إن اللغات هي إلى حدِّ الآن لغاتٌ مجندرة،
وبالتالي لا يمكن لأحد أن يكف عن الجندرة. إن الرهان هو تخريبها من
الداخل حتى تكف عن ممارسة آلياتٍ تسلُّطية لم تعد تتمتع بأي حصانةٍ
روحية. إن الإيمان ليس مشكِلًا نحويًّا. وحين نكف عن جندرة الله أو
آدم أو النبي يكف الدين عن إنتاج ثقافة الملة وكأنها رسالةٌ
سماوية، والحال أنها مجرَّد ظواهر تداولية.
إلا أن الفلسفة اليوم لم تعُد مستعدة لأنْ تماهي بين مراجعة
الدين من وجهة نظر الجندر وبين أطروحة العلمنة. إن ما أشار إليه
هابرماس تحت عبارة «المجتمعات ما بعد العلمانية» هي أيضًا مجتمعات
«ما بعد-دينية»، وهذا يعني أنه لم يعُد من معنًى لأنْ يدَّعي أحد
المواطنين أنه ملحدٌ جديد أو أنه ديمقراطي. إن أخْذ الجندر مأخذ
الجد هو أخطر بأشواط كثيرة من موقف الإلحاد. لقد كان الفصل اللائكي
الفرنسي نفسه بين الدولة والكنيسة قائمًا بشكلٍ غير مباشر على فصلٍ
جندري أو تقسيمٍ جنسي بين الفضاء العمومي (حيث الرجال والعقل
والسلطة)، من جهةٍ، والحياة الخاصة (حيث النساء والمشاعر والحدوس)،
من جهةٍ أخرى. إن طرْح قضية المساواة في ضوء الجندر أخطر من مجرَّد
النضال من أجل تحرير المرأة من السلطة الدينية. إن العلمنة — وهي
في الغالب مجرَّد تدنيسٍ معياري للقيم المسيحية — ليست بريئة من
رواسب الجندرة التقليدية التي أنتجَت الأديان.
٤٣
ولذلك فإن أطرف ما في دراسة الدين من وجهة نظر الجندر هو فتح
المجال أمام وعودٍ تأويلية جديدة حول أنفسنا العميقة. وقد ظهرَت
فعلًا محاولاتٌ لتأصيل الجندر في نصوص المسلمين التأسيسية.
٤٤ لكن الأهم في مفهوم الجندر هو، كما تقول أطروحة لوسي
إيريغاراي، مناقشة «الفرْق الجنسي» (باعتباره حسب رأيها مشكِل
الكينونة الخاص بعصرْنا) بين الذكَر والأنثى، وذلك من دون أي
معاداةٍ مبدئية ضد الرجل؛ أي بالتمييز الصارم له عن «التراتبية
الجنسية»، ومن ثَم فإن المطلوب فلسفيًّا هو إذن تطوير «إتيقا
للفرْق الجنسي»
٤٥ من شأنها عندئذٍ أن تُضِيء في كل مرةٍ بأي وجه تكون
اللغة التي نتكلمها جميعًا مجندَرةً سلفًا وأنه لا تُوجَد لغةٌ
محايدة جندريًّا.
(٣) في جندرة الإرهاب
ما وجه الصلة بين الجندر والإرهاب الديني، ولا سيما عندما يتعلق
الأمر بالنساء؟ وأية إفادةٍ نقدية تضيفها دراسات الجندر حول علاقة
النساء بالإرهاب؟ هل نحن أمام إرهابٍ جديد؟ وهل ثمة إرهابٌ ذكوري
وآخر نسوي بحيث إن إغفال دَور «الجنس» بمعنيَيه (البيولوجي
والاجتماعي) سوف يجعلنا نهمل الوجه المخفي من حقيقة الإرهاب؟ أم أن
الإرهاب — أي استعمال الموت بوصفه وجهة نظرٍ ضد آخر بشري بلا ملامح
خاصة — هو ظاهرة لا جنس لها أو لا يمكن تجنيسها (في الأجساد) ولا
جندرتها (في المجتمع)؟ وبعامة كيف نفسِّر حدة البحث في دلالة
«الإرهاب النسوي»؟
٤٦
علينا أن نؤرِّخ أولًا لهذه الظاهرة، فهي جديدة بشكلٍ مزعج. وعلى
الأغلب هي خاصة بهذه الألفية الجديدة. كانت دراسة الإرهاب حقلًا
بحثيًّا في السبعينيات من القرن الماضي وكان رهانها هو التمييز بين
العنف والإرهاب أو بين إرهاب الجريمة المنظمة والمقاومة ضد
الاستعمار … إلخ. لكنها كانت — مثل كل حقول البحث التقليدية إلى حد
تلك الفترة — تحمل توقيعًا جندريًّا ذكوريًّا. ورغم مشاركة النساء
دومًا في جميع الحروب التقليدية فإن تحليل الإرهاب من وجهة نظر
الجندر هو ظاهرة غير مسبوقة إلى حدٍّ كبير. ويبدو أن التمييز بين
«النساء» (بالمعنى التقليدي) وبين «الجندر» قد ظهر في أواسط
العشرية الأولى من هذا القرن. وبدأ التأويل الجندري للإرهاب النسوي
بوصفه ظاهرة برأسها: أن الانتحار أو القتل أو الموت له حوافز
جندرية علينا دراستها. وعلينا أن نسأل: ما هو الشيء المميز في
الإرهاب القائم على الانتحار النسوي؟
٤٧
إن إرهاب النساء هو ظاهرةٌ جندرية جديدة على الرغم من أن جدتها
لم تمنعها من أن تغطِّي جملة مراتب أو أنواع الإرهاب: فهي لا تقف
عند الخدمات اللوجستية للإرهابيين بل تتعداها إلى التجنيد والعمل
الدعوي واحتجاز الرهائن واختطاف الطائرات. لكن الإرهاب النسوي لا
يبلغ المفارقة الأخلاقية التي تميزه عن الإرهاب الرجالي إلا عندما
تُقْدم النساء على استعمال الجسد الأنثوي — في بُعدَيه الأكثر
حميمية واستثناءً، ألا وهما الموت والجنس، ونعني بذلك التفجيرات
الانتحارية ودعوى «جهاد النكاح» — بوصفه تقنية إرهاب. ولأن الجنس
والموت من قبيل التجارب القصوى فإن التحليلات والمناقشات الرائجة
حول إرهاب النساء قد ظلَّت دومًا تحت وطأة تقاليد التفكير النمطي
حول المرأة ومدى قدرتها على التمرد ليس بالمعنى السياسي فقط بل
بالمعنى الجندري: أي مدى عصيانها لادِّعاء الصلاحية أو الحقيقة
الذي يرفعه المجتمع التقليدي حول جسدها. لا يزال جسد المرأة في كل
مكان وثيقةً أخلاقية أو دينية ضدها؛ ولذلك فإن «جندرة الإرهاب»
٤٨ سوف تفرض علينا مراجعةً خطيرة لمدى فهمنا لحقيقته
ومعالجته في المستقبل.
من المؤكد أن الموت ليس مؤنثًا، نعني ليس مذكَّرًا بالضرورة
طالما أن الموت الأنثوي يقتل أيضًا. ومن ثَم فإنه لا يُوجَد تفجيرٌ
انتحاري خاص بالجنس «اللطيف» وآخر خاص بالجنس «الغليظ». وليس ثمة
مساواةٌ أكثر مما في واقعة الموت؛ ولذلك فإن نكتة الإشكال لا تتعلق
بالنساء «بما هن كذلك»؛ أي وفقًا لتصنيفٍ فقدَ اليوم جزءً مربكًا
من صلاحيته، بل بنوع التمثيلات الجندرية السائدة التي نواجه بها
ظاهرة الإرهاب متى صدر عن المرأة المعاصرة. إن المشكِل هو نزاع
تمثيلاتٍ جندرية يندلع ما إن يكون الفاعل امرأة وليس رجلًا.
بذلك يمكننا أن نفسِّر ليس فقط نجاعة استعمال الموت بل إثارته
واضطرابه المعياري حين يكون الممثل مؤنثًا؛ إذْ لا تتميز نجاعة
الإرهاب النسوي عن نجاعة الإرهاب الرجالي إلا في مستوى البداهة،
كان إرهاب الذكور بديهيًّا ورسميًّا دومًا؛ وذلك لأنه كان يتِمُّ
في نطاق مجتمعاتٍ أبوية تعود إلى تاريخٍ سحيق حتى تحوَّل الوضع
الجندري للرجال إلى وضعٍ طبيعي. ولا نكاد ننتبه إلى المفعول
الجندري في السرديات التقليدية للإنسانية طالما كان البطل
مذكَّرًا، أكان أبًا (مؤسسة الزواج) أم ملِكًا (مؤسسة الحكم) أم
إلهًا (مؤسسة الدين). لكن المرأة الإرهابية قد زحزحَت هذه الصورة
الجندرية عن مكانها بأن استولَت على آلة الموت التي كانت دومًا
حكرًا ذكوريًّا. كانت الحروب تتم دومًا بين الذكور، كانت تحمل
دومًا توقيعًا ذكوريًّا، وفق عقيدة لا تترك للنساء إلا دورًا
مساعدًا وغالبًا ما يكون دورًا غير عنيف. ومع أن العصور السابقة
إلى حد القرن العشرين لم تعدم وجود نساءٍ «محاربات» إلا أن
«الإرهاب» ليس عملًا حربيًّا. ثمة فرْقٌ معياري بين الحرب، التي هي
ظاهرةٌ رسمية وقانونية وحتى دينية، وبين الإرهاب الذي هو ظاهرةٌ
عدمية، أي انتحارية. والسؤال عن جندرة الإرهاب هو: ما هو الدور
الذي أدَّاه الجندر (أي جملة التمثيلات الأخلاقية عن الذكَر
والأنثى والتصنيفات الاجتماعية المبنية على تقسيم العمل بين الرجال
والنساء) في بَلورة نوعٍ جديد من الإرهاب؟
تكمن إثارة الإرهاب المجندَر في عنصرٍ لا علاقة له بأدوات الحرب.
إنه إرهاب يقع في مخيالنا الثقافي: أكان قديمًا (القبيلة/الجماعة
الدينية) أم حديثًا (الجنس الناعم/خصائص الأنوثة …) والسؤال عنه هو
أقرب إلى نقطة التعجب منه إلى نقطة الاستفهام. هو ليس سؤالًا
معرفيًّا عن موضوعٍ سوسيولوجي بل هو حيرةٌ رمزية تمس تصوُّرنا
لأنفسنا العميقة، وذلك بسبب علاقة النساء بالهوية في أي
ثقافة.
حين تنبني علاقةٌ جماعوية بين النساء على أساس شعار «أخوات في الإرهاب»
٤٩ فإن مفهوم «الأختية»
(
sorority) الإرهابية من شأنه
أن يدمر ما تبقَّى من الهيبة الأخلاقية لمفهوم «الأخوة»
(
fraternity) الذكوري الذي قام
عليه مبدأ التعارف بين البشر المؤمنين في الملل الدينية ومبدأ
المواطنة بين العلمانيين في الدول المدنية الحديثة. كما أن صفة
«الأم الإرهابية» ليس أقل مفارقة، ثم سائر العلاقات مع الأنثى مثل
«البنت الإرهابية» و«الزوجة الإرهابية» و«الحبيبة الإرهابية» …
إلخ؛ إذْ لا يقع التفجير على مستوى القنابل فقط بل على مستوى
الهوية أيضًا. وما إن تفجِّر امرأة نفسها حتى تصبح كل مساحات
الهوية في خطر.
يتم استعمال إرهاب النساء (وفي بعض الأحيان إرهاب الفتيات
الصغيرات) بوصفه التعبير الأخير عن رعب الرسالة السياسية المعولمة.
المرأة هنا هي أقصى وسيلة إثارةٍ عدمية لِبثِّ صوتٍ دعوي لا يعوِّل
على أي نوع من الحداثة السياسية، فقط لأنه يصدر عن أجسادٍ سقطَت في
العصر في شكل كارثة. ولأن الإرهاب هو بالأساس ظاهرةٌ صوتية، أي
مجرَّد آلةٍ دعائية أساسها استعمال الموت المجاني من دون أي مضمون
أخلاقي قابل للتقاسم مع أعضاء الإنسانية الحالية، فإن تجنيد
النساء/الفتيات/الشابات/الأمهات لم يكن بالأساس لأسباب تقنية —
نعني ميزات التحجب والتنقب والتنكر والحصانة الخلقية والحميمية
الجسدية … إلخ — بل خاصة لأسبابٍ إشهارية: إن النساء الإرهابيات
تمارين مستفزةٌ جدًّا عن الرعب الأخلاقي المرئي. صحيح أن مرآوية
الرعب ليست حكرًا على النساء لكن تأنيث الرعب يمنحه نجاعةً
استثنائية؛ ولذلك فإن جندرة الإرهاب هنا هي سياسةٌ عدمية غير
مسبوقة في صنع الحدث والاستيلاء على الفضاء العمومي العالمي أي على
كل الشاشات التي تصنع المرئي وتبيعه وتتبادله وتحدِّد ثمن استهلاكه
داخل المجتمعات الفرجوية المعاصرة.
لكن الإرهاب ظاهرةٌ تاريخية في تطوُّرٍ مطَّرد. وهذا ينطبق أيضًا
على جندرة الإرهاب.
كان أقصى ما يمكن أن يبلغه «الجهاد الأنثوي»
٥٠ هو التفجير الانتحاري، لكن الدور الحاسم للنساء في
حركة القاعدة مثلًا لم يكن الانتحار بل توفير الحاضنة الثقافية
التي تنمي التحفيز الأخلاقي لتربية أولادٍ وبنات إرهابيين وهن
يتبعن هنا تأويلًا جندريًّا خاصًّا للعقيدة الراديكالية. كان جهاد
الأنثى هو وضْع نفسها على ذمة المجاهدين الذكور من حيث المساعدة
المادية والنفسية سواء في حياتهم (النصرة والمساعدة) أو بعد مماتهم
(تربية الأولاد على أساس العقيدة الراديكالية).
إلا أنه علينا أن نفرِّق في آخر المطاف بين استخدام النساء في
الإرهاب (وهذا في الأغلب موقفٌ ذكوري؛ حيث يبقى دَور النساء
الأمهات/المجندات/الشهيدات أداتيًّا،
٥١ ومن ثَم هو ليس قناعةً نسوية) وبين انخراط النساء
أنفسهن وبإرادتهن في «نمط الحياة» الإرهابية، أي سفر النساء
جسديًّا وروحيًّا بلا رجعة إلى مناطق تحوَّل فيها الإرهاب إلى
نموذج عيش بل إلى حياةٍ يومية حيث يتعلم المرء؛ أكان امرأة أو
طفلًا، كيف يعيد إنشاء هويته الشخصية. إن إرهاب النساء يختلف عن
إرهاب الرجال في كونه قد ضخَّ معنًى غير مسبوق في صناعة الموت: ليس
فقط تأمين الحاجات اليومية لحياةٍ معَدَّة للموت بل خاصة استعمال
الجسد بوصفه أداة جنسية للجهاد، ولا فرْق عندئذٍ بين الانتحار
والنكاح والإنجاب. نحن صرْنا أمام نشاطاتٍ إرادية مقننة في خدمة
صورةٍ إرهابية عن العالم، ولكن خاصة في خدمة حياةٍ يومية «حقيقية».
وحين يدخل الجنس على الخط فإن ماهية الإرهاب تكون قد تغيرَت
واصطبغَت بدلالةٍ غير مسبوقة: إنها دلالة الحقيقة.
لا يصبح العالم حقيقيًّا؛ أي قادرًا على تنصيب حياةٍ يومية قابلة
للاستمرار، إلا حين تُوجَد نساءٌ داخله؛ فالمرأة هي التي تؤمِّن
أفُق المعنى الخاص بأي حياةٍ يومية. ولا يصمد أي نموذج عيشٍ جماعي
بدون نساء؛ ولذلك فإن انخراط النساء في بناء حياةٍ يومية
للإرهابيين إنما كان تغيرًا استراتيجيًّا في حقيقة الإرهاب. صِرْنا
بعيدين جدًّا عن أي تشبيه له مع العنف بالمعنى الحديث. إن النساء
تُضفي اتساقًا أخلاقيًّا خطيرًا جدًّا على مشروع الإرهابيين
الأساسي أي تأسيس دولةٍ خاصة بهم. ولا جدوى من النقاش حول اسمها أو
شرعيتها أو حدودها.
من أجل ذلك لم يعد يمكن مقاومة الإرهاب إلا بإقحام مقولة الجندر
في تحليل الظاهرة. وليس فقط لأن أول ضحايا الإرهاب هم من النساء
بناء على أنهن بمثابة «لحم» المجتمع ونسيجه الحيوي. بل لأن انخراط
النساء في الإرهاب بوصفه نموذج عيشٍ قابل للاستمرار قد أضفى تعقدًا
غير مسبوق على دلالته.
علينا الإقرار بأن الإرهاب مجندَرٌ سلفًا؛ إذْ كان يحمل دومًا
توقيعًا ذكوريًّا. ومن ثَم فإن النساء لا تُغيِّر ماهية الإرهاب بل
تُضيف له توقيعًا إضافيًّا إلى جانب توقيع الذكور. لكن المشكِل ليس
كميًّا أو أداتيًّا هنا. أجل، إن الإرهاب قد احتفظ بنفس الميز
الجندري بين النساء والرجال. إن الإرهاب محافظٌ جندريًّا، وليس
عملًا ثوريًّا كما قد نتصور. والمرأة الإرهابية هي مهمَّشةٌ
جندريًّا (ليست جزءًا من مؤسسة القيادة أو هي «موضوع» جنسي
للإرهابيين). وحتى عندما تكف النساء عن تحمُّل دَور الضحايا
(الإرهاب قبل الجندر) وتتحولن إلى فواعل إرهابية هي تظل مهمشة. ومن
ثَمة: كيف نطرح عندئذٍ «مسئولية» النساء الإرهابيات؟ وفي المقابل
كيف نفهم إمكانية الشعور بالذنب لدى «التائبات»؟
تبدو المرأة الإرهابية مفهومًا متناقضًا بشكلٍ مزعج. إنها
«موضوعٌ» جنسي (حيث يمكن للاغتصاب أن يكون وسيلةً جندرية لتجنيد
النساء) لم يتحوَّل بعدُ إلى «ذاتٍ» جندريةٍ مستقلة (المرأة
المقاومة للإرهاب)
٥٢ إن داعش مثلًا قد أقدمَت على ما يشبه «الإبادة
الجندرية» (
gendercide)
٥٣ للنساء «الأجنبيات» (بالمعنى الفقهي): تحويل جسد
«الأنثى» إلى سلعةٍ جنسية في مقابل تجنيد «النساء» في التنظيم.
وهذه المفارقة في منزلة النساء (الاستعباد الجنسي والتجنيد الدعوي)
قد تم تسويغها فقهيًّا بكل يُسر؛ إذ إن مدونة الملة أو الشريعة
تسمح بذلك.
كان الدور الأخلاقي التقليدي للنساء هو منح الحياة؛ أما الإرهاب
فهو يضيف للنساء دورًا جديدًا هو القتل الهووي (القتل على العِرق
أو اللون أو الطائفة …) لكن ذلك يعني أن الإرهاب ليس مقصدًا
نسويًّا؛ لا تنتحر النساء من أجل قضيةٍ نسوية؛ ومع ذلك فإن دوافع
النساء ليست دينية.
إن الإرهاب يستخدم انفعالات «المرأة» (الهوية
المجروحة/التهميش/تقدير الذات …) كمفرداتٍ دعوية: كل أسباب العلاقة
«العادية» (وليس «العبادية») مع الرجل يمكن أن تَدفع المرأة
لاعتناق الإرهاب، بما في ذلك الحب والزواج. ومن ثم فإن الإرهاب عند
المرأة يكون في الأغلب مشكِلًا شخصيًّا،
٥٤ على خلاف الرجال الذين تكون أسبابهم في الغالب
دينية/هووية. وهذا جانبٌ عميق مفاده أن النساء يمكن أن يلعبن
دَورًا حاسمًا في بَلورة «ما بعد الإرهاب»؛ للمرأة دَورٌ خطير في
تجميع الشهادات وتجارب الجسد وبناء السرديات المضادة من أجل ترميم
الذاكرة وبالتالي في ترتيب سياسات الصفح.