الأنثى في مهبِّ الموجات النسوية
(١) استشكالٌ: أين هي الأنثى؟ أو كيف نقطع المسافة بين «المرأة» و«النساء»؟
وحسب فوكو فنحن نتذوَّت في كل مرة في نطاق مساحةٍ خطابية أو سُلطةٍ رمزية ربما نقاومها لكننا نتشكل آخر الأمر في مداها. ولذلك لا يُوجَد «خارجٌ» تستطيع «الأنثى» أن تعتصم به كي تتحرر من سُلطة النحو الذي «أنَّثها» وحوَّلها إلى مادةٍ اجتماعية للسيطرة المعيارية تحت مسمَّى «المرأة» أو «النساء». وهذا يعني أن ما نعتبره معنًى «مطلقًا» في حقيقة الأمر — كما قال هيغل ذات مرة عن «روح» العالم — هو لا يعدو أن يكون «نتيجةً» متأخرة ناجمة عن مجموعة مسارات لا أحد بإمكانه أن يؤرخ لها في جملتها. إن المرأة في كل ثقافة هي نتيجة لمسارٍ معياري لا تسيطر عليه. إن هويتها حبلٌ رقيق ممدود فوق هاوية لا يُسبَر غورها تفصل بين «أنثى» الجسد و«نساء» المجتمع عبر قيود «المؤنث» النحوي. ومن ثَم علينا أن نسأل بديًّا: أين هي الأنثى؟ هل هي في الجسد أم في اللغة؟ هل هي ماهية أم معنًى ثقافي؟
إن «النساء» مقولة ينبغي أن نؤرخ لها بشكلٍ جديد حتى ندخل في النقاش حول «الأنثى» في ثقافتنا. وهو ما يعني إعادة تأويل مفهوم «المرأة» الحديث بوصفه نوعًا اجتماعيًّا طارئا سوف يؤدِّي إلى تغيير مفردات الخطاب حول «المؤنث» بعامة. لا نلتقي بالنساء في ثقافتَين مختلفتَين بنفس الدلالة. وتتوهم الأنثى غالبًا أن جسدها يُوجَد قبل اللغة التي تتكلمها. والحال أن مادة الجسد، كما بينَت ذلك جوديت بتلر، لا ماهية لها، بل هي فقط مفاعيل دلالية تتحدد داخل ثقافة بعينها. إنه بمجرَّد أن تدافع «المرأة» عن مفهومٍ نسوي معين حول «هويتها» حتى تكف عن ادعاء «الأنثى» التي تُوجَد «خارج» اللغة (في جسدٍ ما) وتتحول إلى نوعٍ اجتماعي.
وعلينا أن نسأل: ما هو الجانب الذي تتخلى عنه «الأنثى» كي تصبح «المرأة»؟ كيف نفهم هذا الانتقال «النسوي» الإجباري من «الأنثى» بعامة إلى «المرأة» بخاصة في ضوء الحركات «النسوية» الحديثة كما تبلورَت في المجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم؟
(٢) المرأة توقيعٌ جندري
لا تصبح الأنثى امرأة إلا عندما تعتنق نوعًا اجتماعيًّا مخصوصًا؛ إذْ هناك برنامجٌ إجباري على الأنثى أن تنخرط فيه حتى تتمكن من الدخول في حلبة ما هو «نسوي» بوصفه مساحةً معيارية هي التي تحدِّد هوية المرأة في كل مرة. ثمة فرْقٌ مزعج بين ما يُسمَّى كتابةً الأنثى وبين الخوض في مشكِلة تحرير المرأة. وحدَه تحرير المرأة هو مشكِلٌ نسوي، أما تجربة الأنثى فهي مغامرةٌ جمالية وأخلاقية حرة حول معنى «الذات» ليس بالضرورة أن تكون نزعةً نسوية. إن الانتقال النسوي من الأنثى إلى المرأة ليس قرارًا «ذاتيًّا»؛ لا تُوجَد «ذاتٌ» نسوية هي التي تقرر متى تصبح امرأة، أي متى تصبح نوعا «نسويًّا». لكن جسد المرأة هو دائما توقيعٌ ثقافي. وحين تظهر المرأة يكون وقت الأنثى قد صار ماضيًا جماليًّا. ثمة فرْق بين «الذات» الأنثوية و«الهوية» النسوية: بين إمكانية الأنثى وواقع المرأة. إن الأنثى وعد الكينونة أما المرأة فهي اختراعٌ اجتماعي. وهذا يعني أن «هوية» المرأة هي مفعولٌ لغوي (نحوي/خطابي) تنتجه كل ثقافة من أجل إنتاج وإعادة إنتاج الأجساد «النسوية» (المجندَرة) القابلة للاستعمال الاجتماعي (بناء الأُسر ومواصلة الإنجاب حفظًا للنوع أو حفظا للسلطة الرمزية التي يؤسس عليها مجتمعٌ ما سياسة الحقيقة التي تُبرر وجوده). إن تدجين الأنثى بواسطة المرأة هو دومًا ما تقوم عليه مقولة النساء. وهو دومًا يهدف إلى تسخير الأجساد المؤنثة في خدمة قرارٍ سلطوي سابق يتعلق بإنتاج وإعادة إنتاج الأجساد المناسبة لحفظ البقاء أو حفظ سُلطة البقاء. مع الاستدراك بأن الأسرة ليست الاستعمال الوحيد للجسد؛ إذْ هناك معايير جندرية خفية ولكن إجبارية، مبثوثة في كل مساحات المجتمع، من أجل تحويل إمكانية الأنثى إلى نوعٍ اجتماعي اسمه المرأة. مثلًا: كل سجلات المجتمع تخضع للتقسيم الجندري القائم على التمييز بين الذكور والإناث، ومن ثَم بين النساء والرجال. وهو قرارٌ سلطوي لا يقف عند مؤسسة الزواج فقط.
ولأنه لا تُوجَد «امرأة» في المطلق بل فقط تشكيلاتٌ «نسوية» تنتجها الثقافة وتعيد إنتاجها حسب متوالياتٍ لغوية ورمزية شديدة الحبكة بين «الجنس» (البيولوجي) و«الجنسانية» (الشبقيَّة) و«الجندر» (الاجتماعي)، فإن تصور «المرأة» لنفسها هو في كل مرة توقيعٌ أخلاقي يحمل بصمة مجتمع لا يمكن إزالتها. ومن ثَم لا يمكن فهْم ما تقوله النساء عن نفسها أو ما تكتبه المرأة عن نفسها إلا إذا استطعْنا أن نؤرخ له، نعني متى أمكننا قراءته في زمانيته الخاصة؛ هناك عمرٌ خاص لكل ما تقوله المرأة عن نفسها. لكنه عمرٌ يتجاوز أي امرأة بمفردها. ومن ثَم فإن تاريخ النساء هو الذي يبني تصوُّر المرأة لنفسها في كل مرة. وهو تاريخ سُلطة لا تراها؛ لأنها بمثابة أمرٍ قطعي معياري يجد منبته في النظام الأبوي الذي تأسس هو بدَوره على تكريس أطروحة الفرْق بين الجنسَين أو ثنائية الجنسَين التي أدَّت إلى بَلورة ميولٍ جنسية محصورة في «الجنسانية الغيرية» (بين ذكر وأنثى) واعتبار ما عداه رغبة غير قابلة للحياة. وبهذا المعنى فإن كل امرأة هي توقيعٌ جندري عليها السيطرة على مفاعيله الرمزية.
لكن تاريخ النساء لم يصبح وجهة نظرٍ رسمية إلا عندما ظهرَت الحركات النسوية الحديثة بوصفها مقاومةً صريحة وبنيوية للسيطرة الذكورية بعامة. لكن النسوية ليست مفهومًا متجانسًا. ثمة نسوياتٌ كثيرة ومتنافسة، وتنتمي إلى «موجاتٍ» مختلفة من التمرد على سُلطة «الرجال». كما أن التمرد نفسه ليس له نفس الدلالة في كل مرة. وهكذا فإن معنى «المرأة» ليس هو نفسه في كل «موجةٍ» نسوية. لقد صارت «الأنثى» اليوم مساحةً «جندرية» مفتوحة على مجموعةٍ متعددة من «الموجات» النسوية التي «تعاقبَت» على مسألة المرأة في المجتمعات الغربية منذ قرنَين، لكنها في مجتمعاتنا العربية-الإسلامية هي موجاتٌ «تتزامن» اليوم بطريقةٍ مربكة في حيوات «متجايلة»، كل جيل يريد التحرر من الآخر، داخل منطق عصرٍ واحد، وربما داخل عمرٍ واحد ولدى شخصٍ واحد.
(٣) أربع موجاتٍ نسوية
-
موجةٍ نسوية أولى، ظهرَت في أوروبا، بعد إرهاصاتٍ طويلة تعود إلى كتابات القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية؛ حيث كانت النساء تطالبن بالحقوق الطبيعية الدنيا وخاصة «الحق» في الاقتراع والمساواة القانونية مع «الرجال»، بحيث يتم إرساء الحياد الجنسي للتشريعات والقيم الكونية. وهي تمتد تقريبًا ما بين ١٨٤٠ و١٩٢٠م. وقد وجدَت مصادر إلهامها مثلًا في كتابات نيكولا دي كوندرسيه الذي دافع عن المساواة بين الرجال والنساء في مقالةٍ نشرها سنة ١٧٨٩م «عن قبول النساء في حق المواطنة»، أو أوليمب دو غوج صاحبة «الإعلان عن حقوق المرأة والمواطِنة» سنة ١٧٩١م.
-
موجةٍ نسوية ثانية، حدثَت في الولايات المتحدة الأمريكية، دُشِّن فيها نقد النظام البطركي والهيمنة الذكورية ومشاكل الجنسانية وتعنيف النساء والاغتصاب والطلاق. وهي موجةٌ نسوية راديكالية عقبَت الأزمات التي نجمَت عن الحربَين العالميتَين، وامتدَّت من سنة ١٩٦٠م إلى أواخر السبعينيات. ويبدو أنها وجدَت إلهامًا فلسفيًّا لها في كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الثاني المنشور سنة ١٩٤٩م؛ حيث أخذَت النسويات الأمريكيات في ترجمة مفاهيم الموجة الثانية في ورشاتٍ فلسفية وأدبيةٍ قوية، كما نرى ذلك مثلًا في كتاب بيتي فريدان اللغز الأنثوي المنشور سنة ١٩٦٣م؛ حيث تنقد مؤسسة العائلة من حيث هي النموذج الوحيد لتحقيق سعادة النساء. وتطالب بالمساواة في الأجور وعدم التمييز القائم على الجنس.
-
موجةٍ ثالثة، ثبتَت ملامحها في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، من أجل الإشارة إلى «نسوية الأقليات» مهما كان نوعها: عرقية أو ثقافية أو جسدية أو جنسية. واستعارة «الموجة الثالثة» تم تداولها في سنة ١٩٩٢م في مقالة ريبيكا ولكر، «لنكُن الموجة الثالثة» في مجلةٍ نسوية تُسمَّى «مس. ماغازين»؛ حيث أعلنَت قائلة «أنا الموجة الثالثة». ورأس الأمر في هذه الموجة الثالثة هو إعادة استنفار تلك المناطق الإشكالية التي تركَتها الموجتان السابقتان في الظل؛ حيث تقبع أقلياتٌ نسوية لم تؤخَذ في الاعتبار. لقد صار السؤال النسوي يدور حول المرأة التي وجدَت نفسها «أقليةً» أخلاقية بسبب اختلاف «العرق» أو «اللون» أو «الهوية» أو «الميول الجنسية» أو الانتماء «الثقافي» … ولذلك تتميز هذه النسوية الثالثة بأنها تقوم على مفهوم «التقاطعية» (intersectionality) حسب مصطلح الباحثة الأمريكية كيمبريلي وليامز كرينشو في معنى أن الهيمنة على النساء ليس لها أصلٌ واحد بل مجموعة من أشكال الاضطهاد تمس الجنس والجنسانية والنوع الاجتماعي والأصل القومي والهوية الثقافية، في تقاطُعٍ مركب بين الميز العنصري والميز الجنسي، لكن الموجة الثالثة لا تبلغ أوْجَها حقًّا إلا مع دراسات الجندر التي دشنَت ما سمَّته جوديت بتلر «النسوية التخريبية»؛ تلك التي تطول المعايير الجندرية التي ظلَّت تنظِّم الفرْق بين الجنسَين وتستغله سياسيًّا بوصفه مسلَّمةً طبيعية على كل أنثى أن تعتنقه بوصفه هويةً جندرية لا فكاك منها. ويمكن اعتبار كتاب بتلر اضطراب الجندر هو مصدر الإلهام الأكبر لهذا الجيل من النسوية.
-
موجةٍ رابعة، أخذَت في الظهور في ثنايا القرن الواحد والعشرين، وأخذَت تحتدُّ حوالي ٢٠١٢م، في نطاق سجالات حول الاستغلال الجنسي لنساءٍ ناجحات من الممثلات المشهورات، وهي تتميز بأنها ثمرة التطور التكنولوجي الفائق لشبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث تتحول مساحة الصداقة الرقمية إلى مجال فضح كل أنواع التحرش أو الكراهية ضد المرأة في الحياة اليومية، ومن ثَم إلى مجال تحقيق العدالة تجاه النساء؛ إنها مقاوَمةٌ افتراضية تستفيد من التكنولوجيا كي تحارب الاعتداءات الجنسية وثقافة الاغتصاب في كل الفضاءات الاجتماعية (الشارع، النقل، العمل، البيت، المدرسة، الجيش، المستشفى، السجن …) أكانت مختلطة أم غير مختلطة. فإن الإساءة الجنسية لا هوية ولا جنس لها. وهي حركة أخذَت شكل قضية رأي عام حول الفضائح الجنسية (ادعاءات الاعتداء الجنسي التي وجهَتها ممثلات هوليود ضد المخرج السينمائي الأمريكي هارفي واينستين) ثم تحوَّلَت بوتيرةٍ سريعة منذ ٢٠١٧م إلى هاشتاج «حركة أنا أيضًا» (#MeToo) بالإنجليزية أو «بلِّغ عن خنزيرك» (#BalanceTonPorc) بالفرنسية. وهي ظاهرة رصدَتها كاتبات نسويات نشِطات نذكُر خاصة لورا بايتس التي أنشأَت سنة ٢٠١٢م منتدًى افتراضيًّا مفتوحًا أسمَته «مشروع الجنسوية اليومية» (Everyday Sexism Project)؛ حيث بإمكان النساء التبليغ عن ا لتجارب اليومية للتحرش والاعتداء الجنسي.
(٤) في نقد العقل النسوي
لا يجدُر بالملاحظ «غير الغربي» أن يقبَل بمقولة «الموجات النسوية» وكأنها بنية تاريخانية مسلَّم بها. بل يحق لنا أن نتأول هذه الموجات النسوية الأربع بوصفها مجرَّد مجموعة من التأويلات المفتوحة على عمليات بناء مطَّردة لدلالة وإعادة دلالة «النساء» وفقًا لسياقٍ سلطوي معين. صحيح أن المرأة المعاصرة قد وُجدَت دومًا وتُوجَد ضمن نطاق موجةٍ نسوية تقدِّم نفسها بوصفه الركح الأخلاقي والمعياري المناسب لتحقيق الانتقال الجندري من استعداد الأنثى إلى هوية المرأة؛ ولذلك فإن معنى مقولة المرأة في الغرب هو معنًى نسوي مركب ومتعدد ولكن بشكلٍ تعاقبي؛ هناك «المرأة» التي اختُزلَت هويتها في «المواطنة» (الموجة الأولى أو الحقوقية)؛ وهناك «المرأة» التي أُسسَت هويتها على أطروحة بوفوار بأن الأنثى لا تولد امرأة بل تصير كذلك أو «اللغز الأنثوي» (الموجة الثانية أو الذكورية المضادة)؛ وهناك «المرأة» التي بنَت هويتها على عرَضية «الجندر» وهشاشته الإنجازية (الموجة الثالثة أو الجندرية)؛ وهناك، آخِر الأمر، «المرأة» التي تقدِّم هويتها في سياق فضح أشكال التحرش بالجسد؛ أكان مؤنثًا أو غير مؤنث (الموجة الرابعة أو موجة «أنا أيضًا»).
كان تاريخ الحركات النسوية الغربية عبارة عن تاريخ تطور حرية المرأة منذ نهاية القرن الثامن عشر في شكل «تعاقبٍ» نضالي لجملة من الحقب المتتالية كانت عناوينها الكبرى: المطالبة بالحقوق؛ نقد الذكورة؛ تفكيك الجندر؛ فضح ثقافة التحرش. ومع ذلك ينبه العديد من الدارسين إلى أن هذه الموجات النسوية لم تكن دومًا حركات تحررٍ سعيدة، بل قد شابتها عدة انحرافات وانزلاقات.
أمَّا في الموجة الرابعة فقد تحوَّلَت النسوية في بعض الأحيان إلى مكيدةٍ افتراضية للرجل بوصفه حيوانًا جنسيًّا مفترسًا، وهو موقف جرَّد المرأة المعاصرة فجأةً من مكاسبها النسوية السابقة؛ لأن العودة إلى فضح الرجل المتحرش يقدِّم المرأة وكأنها فرسية شبقيَّة تلعب دَور «الضحية» الأبدية للذكور. والحال أن العكس صحيح أيضًا وتم تسجيل حالات تحرُّشٍ نسوي بالرجال باعتبارهم ضحايا لنساءٍ شبقيات مفترسات. وهو موقفٌ بدائي لا بد أن النساء قد عانَين منه في العصور ما قبل الحديثة ومن ثَم هو ظاهرةٌ نسوية لا تضيف من الطرافة النقدية إلى قضايا المرأة إلا الجاذبية الافتراضية؛ فهي مرتبطة بشدة بشبكات التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرةٌ مشهدية فحسب. ومن هنا جاء النقد النسوي لهذه الموجة الرابعة بأنها تبقى رهينة الولوج إلى شبكات التواصل الاجتماعي وامتلاك التكنولوجيا، ومن ثَم هي موجةٌ محصورة في فئةٍ معينة من النساء.
(٥) نزاع النسويات في مجتمعاتنا المعاصرة
تبدو الحركات النسوية لدَينا راهنًا وكأنها ظاهرةٌ متفجرة، مرتبكة، متناقضة وتحمل ألقابًا ملتبسة (مثل الحديث عن «نسويةٍ إسلامية» في إيران منذ ١٩٩٢م مثلًا). لكن النسوية «الليبرالية» هي التي استحوذَت غالبًا على ركح النقاش. وبذلك تبدو النسوية لدَينا وكأنها انحصرَت في «الموجة» الأولى غالب الأمر، نعني الموجة الحقوقية، ووضعَت كل رهاناتها في خصومة «المساواة» بين الجنسَين. وهذا يعني أن الخطاب النسوي لا يزال مترددًا في خوضٍ رسمي للنقاش حول المرأة وفقًا لمنطق الموجات الثلاث الأخرى إلا بشكلٍ جزئي أو أداتي أو مدرسي. إن الموجات الثلاث الأخرى (نقد الذكورة، تفكيك الجندر، فضح التحرش) لا تزال محتشمة.
علينا أن نلاحظ أن كل موجةٍ نسوية — هي بشكلٍ أو بآخر — تترك مساحة أو فئة من «النساء» خارج اهتمامها. ومن ثَم تكون قد أجَّلَت جانبًا من حرية «المرأة» إلى وقتٍ آخر وأهدرَت بُعدًا من أبعاد «الأنثى» في ثقافةٍ ما وحقبةٍ ما. وتاريخ النسوية في الغرب كان تاريخ استكمالٍ تعاقبي مطَّرد ومتواتر لجوانب حرية المرأة الواحد تلو الآخر في استجابةٍ مخصوصة في كل حقبة لنوع التحدي الذي عاشته النساء.
على خلاف ذلك فإن ما هو طريف وربما استثنائي في حالتنا هو أن مجتمعاتنا تشهد تزاحُم الموجات النسوية على جندر المرأة ومن ثَم على أبعاد الأنثى، تزاحمًا متزامنًا ومتوازيًا في نفس الوقت بشكلٍ مربك. كانت الموجات النسوية في الغرب أعمارًا تعاقبية مختلفة من قضية معيارية واحدة هي قضية المرأة؛ أما لدَينا فهي موجات تتزاحم بطريقةٍ تزامنية وتنافسية على نحوٍ غير مسبوق. نحن نشهد ظاهرة لم يشهدها الغرب إلا لمامًا (بين الموجة ٢ و٣)؛ ظاهرة تعاصُر الموجات النسوية وتنازُعها المعياري حول هوية المرأة واستعدادات الأنثى بعامة، سواء في سياق تملُّك ثقافتنا العميقة (النزاع التأويلي حول «مصادر أنفسنا» من المعلَّقات والقرآن إلى الفقه المعاصر) أو في اختبار مقتضيات الحياة الخاصة الحديثة والمشاركة السياسية (النقاش حول دَور النساء في المجتمع المدني).
نحن لدَينا نزاع نسويات في أفُق فهم المرأة الراهنة لنفسها ومدى قدرتها على تطوير استعدادات الأنثى في ثقافتنا. إنه نزاعٌ تأويلي على هويةٍ مؤنثة أو مجندَرة قابلة للحياة يجري على قدم وساق بين المرأة/المواطِنة (الموجة ١) والمرأة/المتمرِّدة على النظام البطركي (الموجة ٢) والمرأة/الجندر التخريبي (الموجة ٣) والمرأة/المقاوِمة لثقافة التحرش (الموجة ٤).
ويبدو أن ما تريده النساء من عملية الانتقال الهووي من الأنثى إلى المرأة هو أن تتوفر على المعيار الجندري المناسب كي تصبح كائنًا «مرئيًّا» وليس مجرَّد لافتةٍ أخلاقية يكتُب عليها الرجال ما تريده السلطة البطركية في مختلف أعمارها التاريخية من الاستبداد بالحكم إلى السلطة الذكورية إلى الهرمية الجندرية إلى ثقافة الاغتصاب الموجَّهة ضد الأجساد الأقليَّة أو الهشة أو المعطوبة.
ومن ثَم فإن النزاع النسوي لدَينا لا يدور حول إلغاء الذكورة أو الاستغناء الجندري عن الرجال، بل نَواته هي التفاوض حول المعايير الجندرية المناسبة التي تجعل حقوق النساء والعلاقة مع الرجال والاضطلاع بالنوع الاجتماعي ومقاومة التحرش بالأجساد، أُطرًا معيارية موجبة تبني العيش المشترك دون تدمير هوية المرأة أو نبذ جانب من حياة الأنثى. وهنا صار علينا أن نميز بين «نسويةٍ سيئة» (هي عبارة عن ذكوريةٍ مقلوبة تريد الاستيلاء على مكان الجندر القضيبي المهيمن) وبين «نسوية جيدة» (هي عبارة عن مراجعة نقدية وتفاوضية لجندر النساء من أجل تحقيق هوية المرأة الناجحة في اختيار ذاتها)، ومن ثَم لا تبرر وجودها بمعاداة جندر الرجال، بل تتقاسم معهم النقاش الندِّي حول المعايير الجندرية الملائمة لبناء حياةٍ مشتركة قابلة للحياة وغير إكراهية، في أجساد لئن كانت مجندَرة دومًا فهي غير منبوذة أو مستغلَّة أو مُقْصاة.