الفصل الثاني

ما هي المشكلة؟

تواجه الأنواع نوعين من المشكلات، وهما أن أعدادها من الممكن أن تنخفض وأن توزيعها من الممكن أن يتقلَّص. وأي من هذين أو كلاهما من الممكن أن يؤدي إلى تنافر في انسجام عمليات التنوع البيولوجي. وذلك الاضطراب في تكوين المجتمع، وتبعاته المتتالية على عمل النظام البيئي، من الممكن أن يؤدي إلى ندرة الأنواع وينتهي بها إلى الانقراض. من مهام الحفاظ على التنوع البيولوجي أن يوثق هذه التغيرات وتبعاتها، وأن يفهمها ومن ثَمَّ يتوقعها، وأن يتدخل لمنعها، وتخفيفها، وإصلاحها في بعض الأحيان.

لقد زاد تأثير البشر على الحياة على الأرض زيادةً كبيرةً جدًّا، ليس فقط منذ الثورتين الزراعية والصناعية، ولكنه زاد زيادة مطردة خلال حياتي. وبالفعل منذ عام ١٩٧٠ والاتجاه المتنامي نحو التصنيع، والتلوث، واستهلاك الموارد يضاعف من تأثير البشر على الغلاف الحيوي خلال الفترة التي سُميت إنذارًا بسوء العاقبة «التسارع الهائل». في نهاية المطاف يترتب الضرر اللاحق بالتنوع البيولوجي على متطلبات السكان البشر الذين يتزايد عددهم مع ارتفاع دخل الفرد وبالتبعية ارتفاع الاستهلاك. تمدنا الطبيعة بكميات من المواد أكثر من أي وقت مضى، لكن جاء هذا على حساب انخفاض عالمي غير مسبوق في مدى النظم البيئية وتماسكها، وتمايز المجتمعات البيئية المحلية، ووفرة الأنواع البرية. ويعود هذا بالدرجة الأولى إلى خسارة الموائل وتدهورها حيث تُحَوَّل الموائل الطبيعية لأغراض الزراعة واستغلال الأشجار في إنتاج الأخشاب. ورغم الأدلة القاطعة على ارتباط رفاهة البشر برفاهة الطبيعة — كما يُقال، كلنا في قارب واحد — فإن الجهود المتفانية للحفاظ على التنوع البيولوجي طوال جيل بالكاد أوقفت خسارته أو أبطأت من تدهور العمليات الطبيعية التي تحركه. لقد زادت سريعًا الحاجة إلى الأرض من أجل إنتاج الغذاء، وأعلاف الحيوانات، والطاقة، مما وضع العديد من خدمات النظام البيئية التي تعتمد عليها البشرية في خطر؛ وبذلك يقرر نوع واحد عن علمٍ مصائر عدد لا يُحصى من الأنواع الأخرى. قبل حقبة الأنثروبوسين (حقبة التأثير البشري) — العصر الذي أثر خلاله البشر على الطبيعة تأثيرًا وبيلًا — كان معدل انقراض الثدييات في الألفية الواحدة أقل من نوع واحد من كل ألف نوع. أما الآن فالاستقراءات لمجموعات معروفة من الأنواع تفيد بأن معدلات الانقراض الحالية أسرع بنحو ١٠٠ إلى ١٠٠٠ مرة. وهو ما يدنينا على نحوٍ يُنذِر بالخطر من موجة سادسة من الانقراض الجماعي. (ولدينا شيء من العزاء إذ إن الخسارة في العديد من الأصنوفات لا ينطبق عليها تمامًا معيار نسبة الخمسة والسبعين في المائة للانقراض الجماعي، فقد انقرضت البرمائيات بنسبة ٤١ في المائة، وانقرضت السيكاسيات بنسبة ٦٣ في المائة.)

هناك مثال الأسد الأفريقي. ربما لا يدهشنا أن يكون هذا الحيوان وهو في الطبقة العليا من الضواري معرضًا لخطر بالغ، لكنها ستكون صدمة إذا تركنا هذا النوع البالغ الشهرة والعالي المكانة على مستوى العالم ليصير على شفا الانقراض. لكن هذا ما حدث بالضبط وبسرعة تبعث على القلق؛ انكمش نطاقه الجغرافي نحو ٨٥ في المائة منذ سنة ١٥٠٠ ميلادية، وانخفضت أعداده بنحو ٧٥ في المائة خلال العقود الخمسة الأخيرة (شكل رقم ٢-١). أي إننا فقدنا خلال العقود الأخيرة ما يقدر ﺑ ١٤٠٠ أسد في المتوسط سنويًّا، وقد صار نطاق الأسود الناجية مفتتًا للغاية حتى إنه لا يوجد سوى ٢٠ إلى ٣٤ بلدًا من دول جنوب الصحراء الكبرى ما زال لديها موئل أساسي للأسود.

بل والأسوأ من ذلك أنه على مدار الأجيال الثلاثة الماضية للأسود — ٢١ عامًا — انخفضت ٤٧ جماعة سكانية جرى مراقبتها للأسود بنسبة ٤٣ في المائة في المتوسط، بما يفيد أن عددًا قليلًا لا يتعدى ٢٠ ألف فرد نجا. وكان هذا الانخفاض أسوأ في غرب/وسط أفريقيا بنسبة ٦٦ في المائة، ولم يكن أفضل بكثير في شرق أفريقيا، حيث بلغ ٥٩ في المائة.

fig6
fig7
شكل ٢-١: كثافة الأسود الأفريقية (أسد/كم٢) عبر (أ) التوزيع التاريخي للأسود (١٩٦٠–١٩٧٩)؛ و(ب) النطاق الحالي المُبيِّن لكثافات الجماعات السكانية للأسود.
fig8
شكل ٢-٢: الأسد سيسل.
شديدة هي محنة الأسود، التي ربما تحظى باهتمام خاص، لكون الأسد ملك الحيوانات، لكن بنظرة أكثر عدلًا سندرك أن الأسود ليست إلا واحدًا من ١٫٨ مليون نوع معروف من الحيوانات (شكل رقم ٢-٢). ومن ثم فإنه من قبيل الديمقراطية مع الأنواع يجوز أن نتوقع أن تحصل الأسود على نحو ٠٫٠٢ كلمة في هذا الكتاب. كما أن المساواة في الاهتمام بأنواع النباتات التي يقدر عددها ﺑ ٩ ملايين (٣٩٠ ألفًا منها موصوف)، بفرض تساوي كل العوامل الأخرى، من شأنها أن تنقص أكثر من نصيب الأسود العادل من الاهتمام فلا يزيد على جزء ضئيل من حرف (هذا قبل أن نضع في الاعتبار مقدار تريليون نوع من الميكروبات).
رغم أن انكماش التنوع البيولوجي وتدهوره قد يكون له تراكميًّا عواقب أوخم، فإن جرس الإنذار الداعي للحفاظ على التنوع البيولوجي يأتي من مقياس الانقراض البات. تستعين القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض، التي يصدرها الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، بخبراء لتقييم التهديدات التي تتعرض لها الأنواع وفقًا لمجموعة من المعايير (www.iucnredlist.org/). من بين ٧٦ ألف نوع قيَّمها الاتحاد الدولي لحفظ البيئة، ٤٠ في المائة منها مهددة بالانقراض (علاوةً على ذلك لا تزال ١٥ في المائة من أنواع الثدييات، و٢٤ في المائة من أنواع البرمائيات، و٢٩ في المائة من الأنواع البحرية «تنقصها البيانات» إلى حد مُقلِق).

وقد تعاون ٢١٠ علماء من ٤٢ بلدًا في حدائق كيو النباتية الملكية عام ٢٠٢٠، وتوصلوا إلى أن ٤٠ في المائة من أنواع النباتات مهددة بالانقراض. أكثرها عرضة للانقراض هي السيكاسيات (٦٣ في المائة)، وهي «حفريات حية» من النباتات البذرية، مثل نخل الدقيق، موجودة منذ ما قبل الديناصورات. والمسببات على منوال عبارات الرثاء المألوفة: تدمير موئل بري لإنشاء أراضٍ زراعية، والإفراط في استغلال الموارد الطبيعية، والبناء، والأنواع الغازية، والتلوث، وتغير المناخ؛ ويتعرض السِّماد، وهو شراذم الكائنات الضئيلة التي تراكمت على مدار أكثر من ألفية في شكل المواد العضوية للتربة، للتجريف. من بين النباتات المستخدمة كأدوية عشبية، هناك ٧٢٣ نوعًا معرضًا للانقراض. وقد استخدم تحليل بتاريخ عام ٢٠٢٢ الذكاء الاصطناعي فكشف أن هناك أكثر من ألف نوع مهدد بالانقراض.

إن تضاءل أعداد الحشرات التي تسقط على الزجاج الأمامي للسيارات يعطينا تقديرًا جاهزًا لتراجع أعدادها. تراجعت الكتلة الحيوية للحشرات الطائرة بنسبة ٧٦ في المائة على مدار ثلاثة عقود تقريبًا في أنحاء ٦٣ منطقة محمية في ألمانيا. ويرجح أن يكون للانخفاض العام في أعداد الحشرات الطائرة تأثير على التلقيح، وخصوبة التربة، ودورة المغذيات، والافتراس، والحيوانات العاشبة. لم يُوصف حتى الآن إلا ٢٠ في المائة من أنواع الحشرات؛ لذا فإنه من المُلِح أن نكتشف كيف تُسهم هي والأغلبية غير الموصوفة، في الخدمات البيئية.

مع حلول ستينيات القرن العشرين، أدت سفن الصيد المزودة برادارات، وأنظمة الملاحة الإلكترونية، والسونار إلى تطوير الصيد، مما ضرب مثالًا على الاستهلاك غير المستدام. في عام ١٩٩٢، انخفضت أعداد سمك القد الشمالي إلى واحد في المائة من معدلاتها التاريخية. ومما زاد من الإضرار باستقرار النظم البيئية البحرية صيد الأسماك غير التجارية بكميات هائلة. لم يعتبر أحد أو يتعظ؛ فسرعان ما أدى الطمع في الربح المضمون إلى انعكاس اتجاه الارتفاع الطفيف في مخزون الأسماك، فيما أدى ارتفاع درجات حرارة المحيطات إلى انخفاض الإنتاجية ومن ثَمَّ انخفاض مخزون الأسماك. لا بدَّ أن تركز القوانين التنظيمية على «بؤر حفظ مصائد الأسماك»، التي ينطبق عليها الجمع بين الاستغلال المتزايد، وارتفاع التنوع البيولوجي، وتدهور الحفاظ عليها. ومما يدعو للتفاؤل أن أسماك القد بدأت تزدهر مرة أخرى بل وبدأ يكتمل نموها في عمر متقدم في شمال شرق المحيط المتجمد الشمالي، حيث حُد من صيد القد وتقلص حجم الأسطول.

منذ ثمانينيات القرن العشرين وأعداد البرمائيات تتراجع؛ ففي عام ٢٠٢١ أُدرِج أكثر من ٤٠ في المائة من أنواع البرمائيات في القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة. ويعود هذا بالدرجة الأولى إلى الفطريات الأصيصية، التي ظهرت في شبه الجزيرة الكورية في أوائل القرن العشرين، وانتشرت في أنحاء العالم مع توسع التجارة الدولية في البرمائيات. إن الأمراض وتدمير الموائل وتعديلها، واستغلال الموارد الطبيعية، والتلوث، واستخدام مبيدات الآفات، والأنواع الدخيلة، وربما الإشعاع فوق البنفسجي باء تؤدي إلى انقراض البرمائيات بمعدل أسرع ٢٥٠٠٠–٤٥٠٠٠ مرة من معدلاتها الطبيعية.

قيمت القائمة الحمراء نحو ٤٠ في المائة من الزواحف (مقارنةً بنحو ٩٩ في المائة من الطيور والثدييات)، ووجدت أن ٢٠ في المائة منها مهددة بالانقراض. والمشكلة الرئيسية التي تواجهها هي تعديل الموائل، نتيجة للتعدين والزراعة والرعي والمزارع وتقلص حجم الموائل، على خلفية مشئومة متواصلة من الأنواع الجائرة، والتلوث، والأمراض، والاستخدام غير المستدام، والتغير المناخي العالمي، وتجارة الأحياء البرية. يُباع ما يعادل ٣٥ في المائة من أنواع الزواحف على شبكة الإنترنت، و٧٥ في المائة من الأنواع التي تُباع وتُشترى لا تخضع للوائح التجارة الدولية، و٩٠ في المائة من أنواع الزواحف التي تُباع ونصف الأفراد المبيعة تؤخذ من البرية.

الطيور هي الأخرى انخفضت أعدادها انخفاضًا حادًّا. فقد انخفضت أعداد الطيور في أمريكا الشمالية بنسبة ٢٩ في المائة (ثلاثة مليارات أقل) منذ عام ١٩٧٠. وتكشف شبكة محطات رادار الطقس عن انخفاض حاد في الكتلة الحيوية لحركة الطيور المهاجرة. يؤثر تدمير الموائل وتدهورها على ٩٣ في المائة من الطيور المهددة (الشكل رقم ٢-٣). وبالمثل انخفضت أعداد مجموعة أخرى من الفقاريات الطائرة، أي الخفافيش، انخفاضًا كان هائلًا في بعض الأحيان؛ فقد أتت متلازمة الأنف الأبيض على ما يزيد على ٩٠ في المائة من أعداد الخفافيش من الأنواع الطويلة الأذن، والبنية الصغيرة، والثلاثية اللون في أقل من ١٠ سنوات. لكن المبهج أنه قد تزايدت أعداد ٥ أنواع من بين الأحد عشر نوعًا من الخفافيش المراقَبة في المملكة المتحدة.
fig9
شكل ٢-٣: الأخطار الرئيسية على الطيور المهددة بالانقراض عالميًّا.

في عام ٢٠٢١ قَدَّر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة أن ٢٦ في المائة من أنواع الثدييات معرضة للانقراض. ثمة أمثلة بارزة لأثر البشر الضار سواء كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة. الأمثلة المباشرة نجدها في كل من لاوس وكمبوديا، حيث هلعت فرق العمل التابعة لي على مدار أكثر من عقد من الرصد بالكاميرات وهي توثق الانخفاض الحاد في نمور الهند الصينية حتى انعدمت، بسبب الصيد غير المشروع. ومن الأمثلة غير المباشرة فئران الماء التي ظلت تنمو في أنحاء بريطانيا على مدار ١٠ آلاف عام أو نحو ذلك قبل ثلاثينيات القرن العشرين، ثم انخفضت حتى وصلت إلى ٢ في المائة من عددها السابق نتيجة لتضافر عوامل خسارة الموئل وغزو حيوان المنك. فلننتبه لخط الأساس المتغير فالهلع الحديث من الانخفاض في أعداد القرش الحريري والقرش الأبيض الأطراف يُغفل حقيقة أنها قد انخفضت مسبقًا بنسبة ٩٩ في المائة منذ خمسينيات القرن العشرين.

عند تقييم الخسائر تُستخدم الأنواع معيارًا، لكن لنتذكر أن التنوع البيولوجي يشمل من المستويات ما هو أصغر وأكبر: الجينات، والتجمعات السكانية، والمجالات الحيوية البيئية، والمجالات الحيوية البيئية المجمعة، والنظم البيئية.

من الممكن أن تكون التجمعات السكانية، التي أحيانًا ما تكون متمايزة جينيًّا، متفاوتة في أوضاعها المتردية؛ فالأسود قد تكون عمومًا معرضة للانقراض، لكن تلك التي في غرب أفريقيا مهددة بشدة بالانقراض بينما تلك التي في جنوب أفريقيا أقلها مدعاة للقلق. أما من ناحية خسارة التنوع الجيني — الذي ابتُليَت به نمور فلوريدا وببغاوات الكاكابو النيوزيلندية — فلدينا أمل ضئيل في أن يكون لدى الأنواع تكيف جيني كافٍ لتظل باقية في المستقبل.

من ناحية النظم البيئية والمجالات الحيوية البيئية، هناك غابات بمساحة البرتغال تُقطَع سنويًّا على مستوى العالم. ويُعوَّض نحو نصف هذه المساحة عن طريق إعادة زراعة بعض الغابات (وإن كانت أقل تنوعًا عمومًا)، وهكذا يكون صافي الخسائر السنوية ٥ ملايين هكتار، أغلبها من المناطق الاستوائية. تغطي الغابات الاستوائية أقل من ١٠ في المائة من مساحة اليابسة على الأرض، لكنها موئل لثلثَي التنوع البيولوجي العالمي. والمستقبل أمامها قاتم بسبب إزالة الغابات بلا رادع والإغارة عليها بقطع الأشجار، والصيد، والتوسع الزراعي، واستيطان البشر. في الساعة الثالثة ظهرًا يوم ١٩ أغسطس عام ٢٠١٩ غشي الظلام ساو باولو، إذ اجتاحها الدخان المتصاعد من حرائق غابات الأمازون على بعد ٣٠٠٠ كيلومتر تقريبًا. هذه الحرائق، المترتبة على إزالة الغابات، من المحتمل أن تستمر بعواقب كارثية على التنوع البيولوجي وانبعاثات الكربون. ويتوقع أحد التنبؤات المشئومة أن تكون خسارة الغابات الاستوائية وتدهورها كفيلَين بالتعجيل بانقراض جماعي.

يخل فقدان التنوع البيولوجي البحري بقدرة المحيط على توفير الغذاء، والحفاظ على جودة المياه، والتعافي من الاضطرابات. منذ خمسينيات القرن العشرين، انخفض المصيد من أسماك الشعاب المرجانية بنسبة ٦٠ في المائة حسب وحدة الجهد المرجعية، وانخفضت للنصف المساحة العالمية للشعاب المرجانية الحية، وقدرة الشعاب على تقديم خدمات النظم البيئية. ورغم أن نسبة ١٫٢ في المائة فقط من مياه المحيطات الدولية محمية، فقد فشِلت محاولة رفعها إلى ٣٠ في المائة في ظل معاهدة الأمم المتحدة لأعالي البحار في أغسطس ٢٠٢٢. كان البلاستيك مشكلة جسيمة قائمة بذاتها (٩٠ في المائة من أفراخ طائر القطرس لديها بلاستيك في المريء)، وقد زاد عليه الآن ظهور الجسيمات البلاستيكية لتشكل خطرًا على مختلف الأنواع والمجتمعات، والموائل البرية والبحرية المهددة. فهي تعطي ركائز للبكتيريا والفطريات الضارة، وكذلك تثبط الإنزيمات مما يهدد خصوبة البشر وأشياء أخرى شتى. وقد أدت جائحة كوفيد-١٩ إلى تراكم أكثر من ٨ ملايين طن من البلاستيك المقترن بالجائحة على مستوى العالم، مع دخول أكثر من ٢٥ ألف طن في محيطات العالم (ثمة بصيص من الأمل المبني على التكنولوجيا مع الاكتشاف الذي انتهى إليه التنقيب البيولوجي في ٢٠٢٢ إذ اكتُشِف أن ثمة إنزيمين في لعاب يسروع عث الشمع يمكنهما هضم بلاستيك البولي إيثيلين).

على الصعيد المحلي، نجد أن مروج الزهور البرية الطبيعية في المملكة المتحدة التي كانت تزين فيما مضى كل منطقة، لم يتبقَّ منها سوى اثنين في المائة مما كان موجودًا في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد ذهب معها مأوى الملقِّحات وغذاؤها وتشمل أكثر من ٢٥٠ نوعًا من النحل. كذلك تأثر التنوع البيولوجي للنحل بالآثار شبه المميتة للنيونيكوتينويدات التي كان الغرض الأصلي منها تحسين المحاصيل الزراعية ودعم الحدائق. بعيدًا عن الكلام العلمي المحايد، كل هذا يتفق والتحذير المعبر لألويشيس هورن عندما قال: «بعد أن يدمر الإنسان الطبيعة سيأتي دوره ليرحل: فسوف تبتلعه الأرض المقفرة.»

هل عمليات الانقراض مهمة؟

يحدث الانقراض بحكم الطبيعة — يعلم الجميع أن الديناصورات انقرضت، باستثناء ما تطور منها وبقي كطيور — وما يفنى «بصورة طبيعية» قد لا يكون ما يشغل علماء الحفاظ على التنوع البيولوجي. إننا، في الواقع، إذا تأملنا الأمور على المدى الطويل، فسنرى أنه قد انقرض ٩٩ في المائة من الأربعة مليارات نوع التي تطورت على الأرض على مدار الثلاثة ونصف مليار سنة. علاوة على ذلك، فإننا إذ نتجه نحو انقراض جماعي، يكشف لنا سجل الحفريات أنه قد حدث خمسة بالفعل. إذا كان الانقراض أمرًا طبيعيًّا، فلِمَ يرى علماء الحفاظ على التنوع البيولوجي أن مهمتهم أن يتدخلوا؟

بعيدًا عن فترات الانقراض الجماعي، ما برحت معدلات الانتواع (عملية تتطور بها الجماعات السكانية لتصير أنواعًا مستقلة) ومعدلات الانقراض متشابهة. ومع ذلك فمعدلات الانقراض الحالية أكبر ألف مرة مما كانت عليه في سجل الحفريات. فلنقارن بين أحجام أجساد كل الحيوانات التي انقرضت في العصر البليستوسيني (قبل ٢٫٦ مليون سنة إلى ١١٥٠٠ سنة مضت) وبين أحجام أجساد تلك التي انقرضت في الخمسة آلاف سنة الأخيرة. الآن كما في الماضي، كان الانقراض ولا يزال أكثر انتشارًا بين الحيوانات الأكبر حجمًا. عمومًا، يصل خطر الانقراض لأقصى درجاته إذا كان النطاق الجغرافي صغيرًا، وكانت الكثافة السكانية من البشر مرتفعة، وفي دوائر العرض العليا (وهذا مؤشر على عوامل بيئية وبشرية متنوعة). بَيْدَ أن العلاقة بين خطر الانقراض وجوانب دورة الحياة تختلف بين الأصنوفات وبداخلها. وهذا يجعل تحديد عوامل الخطر الأشد فتكًا أمرًا صعبًا؛ فتقييم الاحتمالات يستلزم معرفة محلية، والأسوأ من ذلك أن تقييم النظام البيئي للألفية يتوقع أن من المحتمل أن تزيد معدلات الانقراض في المستقبل بمقدار ١٠ أضعاف. في الواقع، قد تكون الدوامة التي ما زالت تبتلع الأنواع في هوجة الانقراض أسوأ حتى من ذلك، بسبب العواقب الوخيمة للنمو السكاني المتزايد باطراد واستهلاك البشر للموارد بسرعة متضاعفة. وفوق كل ذلك هناك الاستنتاج المؤسف الذي توصل إليه ناشط الحفاظ على التنوع البيولوجي جيراردو سيبايوس وفريقه عام ٢٠٢٠ بأن الانقراض يُنتِج الانقراض؛ فمما يترتب على التفاعلات البيئية الوثيقة التي تربط بين الأنواع أنه حين يوشك أحدها على الانقراض أن يجر أنواعًا أخرى معه نحو الفناء. مع تضاعف أعداد البشر، وازدياد وطأة تأثيرهم، سيتنامى تدمير الطبيعة بلا هوادة ما لم يظهر ابتكار تكنولوجي بارز مدعم بتغيير جذري في السلوكيات؛ وهذا الأخير هو الاحتمال الأبعد أن يحدث.

تختلف الأنواع من حيث أدوارها في النظم البيئية؛ فالأفيال تخطط عناصر الموئل الطبيعي، أما حيوانات زبابات الفيل فهي لا تفعل ذلك. إلى جانب ذلك فإن بعضها «أكثر تميزًا» من غيره من الناحية التطورية؛ رغم أن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة يصنف خنزير الأرض في خانة الأقل مدعاة للقلق، فهو أكثر ثدييات العالم تميزًا من الناحية التطورية والممثل الوحيد الباقي لرتبة كاملة، وهي رتبة أنبوبيات الأسنان. إذا انقرض خنزير الأرض، فسيذهب معه جزء هائل من التاريخ التطوري الفريد.

وثمة أمر آخر لا تتساوى فيه كل الأنواع وهو القيمة التي يخلعها عليها الناس. فلم يتحمس الكل، ولا حتى كل علماء التاريخ الطبيعي، لجهود إنقاذ حلزون برمودا، وقليلون هم، حتى بين الأشد تطرفًا في تمسكهم بالمنطق، الذين اكترثوا كثيرًا لانقراض الجدري، أو انقراض دودة غينيا الطفيلية، من بين الكائنات الأكبر حجمًا. ولم يأسف إلا قلة من البريطانيين في القرن الثامن عشر على قطع دابر الذئاب من بريطانيا، وكذلك صراحةً لن يأسف الكثير من الأفارقة من سكان الحضر لأن تختفي الأسود من مناطق معيشتهم.

أجرى باحث الحفاظ على التنوع البيولوجي في جامعة أكسفورد، إيوان ماكدونالد، مقارنةً بين ١٠٠ نوع من الثدييات التي تفضل شعوب جنسيات مختلفة الحفاظ عليها. في عينة للشعوب الناطقة بالإنجليزية من الولايات المتحدة حتى أستراليا، كان أول ثلاثة أنواع هي: (١) النمر (بفارق كبير)، (٢) الفيل الأفريقي، (٣) الأسد، وكان ستة من أعلى ١٠ أنواع من القطط الكبيرة. لم تأتِ واحدة من القطط الكبيرة في المراكز العشرة الأولى لدى المزارعين المقيمين على حدود متنزه هوانج الوطني في زيمبابوي (بل يأتي العديد منها في النصف الأخير)، وكانت أعلى ثلاثة أنواع لديهم هي: (١) الحمار الوحشي، (٢) الزرافة، (٣) أرنب الجنيبات وكلها قابلة للأكل، ولا يأكل أي منها البشر أو ماشيتهم.

يذيع تفسير أثر الانقراض عمومًا عن طريق تشبيه صَوامِيل جناح الطائرة، وما يثيره من قلق إذ يذكرنا بأن الطائرة من الممكن أن تستمر في الطيران ما دامت الصواميل التي تفقدها تبدو بلا أهمية إلى أن تصير عواقب فقد الصواميل كارثية. كذلك التأثيرات المتراكمة لانقراض الأنواع داخل النظام البيئي من الجائز أن تؤدي في النهاية إلى خلل في الوظائف البيئية. من طبيعة النظم البيئية أن يؤدي فيها حدثٌ إلى آخر، كما تُبيِّن ذلك بأسلوب ماهر المحاكاة التجريبية لإبادة الحيوانات في كينيا. ذلك أنه حين استُخدمت حظائر مسيجة بهدف «التخلص» من الأنواع التي يزيد وزنها على ١٥كجم، شملت العواقب تأثيرات متوالية على كثافة الحرائق، وإنتاج الماشية، وتفشي الأمراض، وعدوى الفطريات، ومعدلات التمثيل الضوئي، ومعدلات النتح. كذلك أدى استبعاد الأنواع الكبيرة إلى تغيير التفاعلات بين النباتات والحيوانات عن طريق تغيير علاقة تبادل المنفعة بين النمل والشجر السائد، سنط الشوكة الصافرة. وأدى هذا بدوره إلى تحولات في إنتاج الثمار، ودفاع النمل عن الأشجار، وتغذي الحيوانات على البراعم، ونمو الشوك، وإنتاج غدد الرحيق، وطول الشوك. على النحو ذاته، أدت إزالة أحد أنواع نجوم البحر من منطقة مد وجزر صخرية في خليج ماكاه في شمال غرب المحيط الهادئ إلى هيمنة بلح البحر، الذي قضى بعد ذلك على العديد من الأنواع البحرية الأخرى. وها هو مثال أخير: ترتب على القيود المفروضة على الصيد التجاري للحيتان ارتفاع في أعداد الحيتان القاتلة، مما أدى إلى القضاء على ثعالب البحر التي كانت تحد فيما مضى من قنافذ البحر التي تتغذى بدورها على عشب البحر. مع تناقص ثعالب البحر، وتزايد قنافذ البحر، قلت كثافة غابات عشب البحر ١٢ مرة. توفر غابات عشب البحر الغذاء والموئل لطائفة واسعة تزيد على ١٠٠٠ نوع من الحيوانات والنباتات، تشمل أسماكًا ساحلية، وطيورًا بحرية، ومتغذيات بالترشيح مثل بلح البحر والبرنقيل، وكلها كانت عرضة للتأثر بهذه السلسلة المعقدة من الأحداث المتتالية. خلاصة الأمر أن حالات الانقراض يتردد صداها عبر سائر المستويات الغذائية.

كذلك يهدد الانقراض دورات وعمليات طبيعية ونواتج أخرى تتفاوت في أهميتها أو حاجة البشر لها. تسمى هذه المساهَمات «رأس المال الطبيعي»، وتُعرَّف بأنها ذلك الجزء من الطبيعة الذي يدعم جوانب هامة للناس، بما في ذلك النظم البيئية، والأنواع، والمياه العذبة، والتربة، والمعادن، والهواء، والمحيطات، وكذلك العمليات والوظائف الطبيعية. يدعم رأس المال الطبيعي الأشكال الأربعة الأخرى من رأس المال: رأس المال المصنع، ورأس المال التمويلي، ورأس المال البشري، ورأس المال الاجتماعي. على سبيل المثال، تلقيح الحشرات الضروري ﻟ ٧٥ في المائة من المحاصيل الغذائية، يساوي نحو ١٠ في المائة من مئونات الغذاء للعالم بأسره. تتناقص الملقحات على مستوى العالم، من حيث الوفرة والتنوع أيضًا، وقد انعدمت معها وفرة أنواع من النباتات معتمدة على التلقيح. الطيور والخفافيش هي الأخرى ملقحات هامة، وقد أدى انخفاض أعداد الطيور الملقحة في نيوزيلندا في نهاية المطاف إلى انخفاض إنتاج البذور وانخفاض تجدد الجماعات السكانية النباتية.

يعتمد ما يزيد على نصف إجمالي الناتج المحلي العالمي (٥٥ في المائة)، ويساوي ٤١٫٧ تريليون دولار أمريكي، على أن يكون التنوع البيولوجي وخدمات النظم البيئية في أفضل حال. بيد أن خُمس دول العالم مهددة بأن تنهار نظمها البيئية نتيجة لتدهور التنوع البيولوجي والخدمات المفيدة المرتبطة به. إن تقويض المشروع البشري من خلال التدمير غير المستدام للتنوع البيولوجي والمصادر الطبيعية ليس مقتصرًا على بلدان الجنوب، ولا هو في أسوأ حالاته بين الدول الأربعين أو نحو ذلك التي يسكنها المليار الأفقر من الناس على الأرض. فأستراليا وجنوب أفريقيا، وهما من مجموعة العشرين الاقتصادية، هما الأضعف في التنوع البيولوجي وخدمات النظم البيئية، وهو ما يعود بالدرجة الأولى لندرة المياه (التي من المتوقع أن تسوء مع الاحترار العالمي)، وأخطار تتسع لتشمل التلقيح حتى تآكل السواحل. ومن بين مجموعة العشرين، لدى إندونيسيا والبرازيل أعلى نسبة من النظم البيئية السليمة، لكن ذلك لن يطول كثيرًا: إذ شهدت إندونيسيا، وجنوب شرق آسيا بأسره، أسرع خسارة للغابات (حيث فقد الإقليم بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٢٠ ما يقرب من سدس غاباته، ما يعادل ٣٧٦٠٠٠كم٢، وهو ما يزيد على مساحة ألمانيا). وقد سُجِّل رقم قياسي مؤسف عام ٢٠٢١ حين فُقِد ١٣٢٠٠كم٢ من غابات الأمازون المطيرة (ما يعادل مساحة ولاية كونتيكت الأمريكية). رغم الوعي بأوجه الجور في التاريخ، فإن هذه الدول وغيرها التي تعتمد اعتمادًا اقتصاديًّا كبيرًا على المصادر الطبيعية بحاجة عاجلة لسياسات تنمية مستدامة تحمي التنوع البيولوجي الذي هو رأس مالها الطبيعي ويستحق الاعتبار في حد ذاته.

مسببات الانقراض

في عام ١٩٨٩ أطلق جاريد دايموند على الأسباب الأربعة الرئيسية لفقدان التنوع البيولوجي اسمًا لا يُنسى حين سماها «رباعية الشر»: (١) استنزاف الموارد، (٢) تدمير الموائل، (٣) إدخال أنواع غازِيَة، (٤) الانقراض الثانوي (مثل الطفيليات متخصصة العائل). من الممكن تغيير ترتيب هذه الأسباب الأربعة والتوسع في تفاصيلها، لكن كان دايموند محقًّا في أن التنوع اللانهائي لمشكلات التنوع البيولوجي يجتمع في حفنة من الموضوعات المتكررة، أبرزها تدهور الموائل (الناتج بدرجة كبيرة في نهاية الأمر عن الزراعة أو قطع الغابات)، والاستخدام المفرط أو الجور، الذي يمكن أن يكون مباشرًا، مثل قتل خفافيش الفاكهة المتوطنة في موريشيوس، أو غير مباشر مثل تراكم المواد الكيميائية الزراعية أعلى سلسلة الغذاء.

في أوائل سبعينيات القرن العشرين، سافرتُ إلى لندن مع مجموعة زملاء من طلاب البحوث للاستماع باهتمام عالٍ إلى عالم البيئة الأمريكي، بول إرليك، وهو يلقي خطابًا في قاعة ألبرت، التي كانت ممتلئة عن آخرها، عن أخطار القنبلة السكانية البشرية الموقوتة. شاع بين جيلنا القديم من علماء الحفاظ على التنوع البيولوجي الإيمان بأن النمو السكاني المتضاعف وأثره المتمادي هو السبب الأساسي لحالة الطبيعة المتردية. وبالفعل شهد عام ١٩٧٢ إقرار الأمم المتحدة للاستدامة والوعي البيئي قضيةً عالمية، في حين وضع كبار علماء تلك الفترة «مخططهم للنجاة». حين وُلد جدي الأكبر كان هناك أقل من مليار نسمة على الأرض؛ ومنذ وُلدت، راح التعداد يزيد مليار نسمة كل ١٢–١٥ سنة، حيث بلغ عدد السكان حاليًّا ثمانية مليارات وهو ما يزيد على ضعف عددهم في الليلة التي استمعنا فيها متوجسين لتحذيرات إيرليك. وفي العقود التالية لم يعد من الرائج الإقرار بالدور الأساسي لعدد السكان في أزمة التنوع البيولوجي، ناهيك عن مناقشته. بحلول عام ٢١٠٠ من المتوقع أن يصل عدد السكان إلى ١١ مليارًا، تحتم العدالة أن يُوزع أثرهم بالتساوي، حيث سيتأثر به التنوع البيولوجي في كل مكان، مهما بلغ دور التكنولوجيا البارع في الحد منه. في أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان هذا هو موضوع الساعة الأكثر إلحاحًا، ويبدو أن بوصلة الرأي قد بدأت تعود للإقرار بهذه الحقيقة، لا سيما في مواجهة تغير المناخ.

ما الذي علينا الحفاظ عليه؟

في سياق الهجرات السنوية الشهيرة في سيرينجيتي عام ٢٠٠٧، تساءل عالم البيئة مايك نورتون جريفيث مثيرًا: كم عدد حيوانات النو التي نحن بحاجة إليها؟ يجوز أن يُطرح هذا السؤال بشأن أي نوع، والمرجح أن يجيب عنه علماء الحفاظ على التنوع البيولوجي إجابة عملية، ضمن الحدود التي تسمح بها الأمراض التي يمكن أن تؤثر على مجموعات الحياة البرية، بقدر ما يمكننا الحفاظ عليه.

من أجل ضمان عدم تجاهل منطقة مهمة من مناطق التنوع البيولوجي لا بد من مخطط تصنيف نموذجي. أحد التصنيفات العالمية هو تصنيف الأقاليم البيئية للصندوق العالمي للحياة البرية: «وحدات كبيرة نسبيًّا من اليابسة أو الماء تحتوي على مجموعات مميزة من المجتمعات البرية المشتركة في غالبية عظمى من الأنواع، والديناميكيات، والظروف البيئية.» تمثل الأقاليم البيئية التوزيع الأساسي لتجمعات متمايزة من الأنواع والمجتمعات المحلية. يقر الصندوق العالمي للحياة البرية ﺑ ٨٦٧ وحدة متمايزة من الأقاليم البيئية لليابسة، مصنفة إلى ١٤ مجالًا حيويًّا بيئيًّا مختلفًا مثل الغابات، أو الأراضي العشبية، أو الصحاري. من المهم أن يكون كل مجال حيوي بيئي، وأكبر عدد ممكن من الأقاليم البيئية، في بؤرة اهتمام أنشطة الحفاظ على التنوع البيولوجي.

ما برحت الآلية التقليدية للحفاظ على التنوع البيولوجي أن كانت إقامة مناطق محمية. وقد زادت المناطق المحمية زيادة كبيرة زيادة ملحوظة منذ المؤتمر الدولي للمتنزهات عام ١٩٦٢؛ فهي الآن تغطي ١٥٫٤ في المائة من مساحة يابسة العالم و٣٫٤ في المائة من مساحة محيطات العالم. ناهيك عن السعي إلى الحيلولة دون فقدان الموائل والأنواع، تساعد المناطق المحمية في الحد من إزالة الغابات، كما أنها تدعم مصادر رزق ما يزيد على مليار شخص، وفقًا للمركز العالمي لرصد حفظ الطبيعة التابع للأمم المتحدة. تختزن المناطق المحمية ١٥ في المائة من مخزون العالم من الكربون الأرضي. علاوة على حماية نحو ٣٠٠٠ نمر، منعت محميات النمور في الهند فقدان الغابات، ومن ثَمَّ صدت انبعاث مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. غير أن المناطق المحمية بالكامل تضم ما يقل عن ربع المناطق التي عُيِّنَت على أنها ذات أهمية خاصة من أجل التنوع البيولوجي، ولا يزال العديد من الأقاليم البيئية البرية والبحرية لا يلقى العناية المستحقة.

تحديد الأولويات

الكلمتان الأشد إيلامًا في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي هما «تحديد الأولويات». ما هي كيفية تحقيق ذلك؟ يأخذ أحد المناهج بالفئات الوظيفية للأنواع: أنواع «رئيسية»، وهي أنواع ذات تأثير كبير جدًّا على نظام بيئي معين بالنسبة إلى مجموعتها السكانية؛ وأنواع «بارزة»، وهي اختيارات استراتيجية تستحوذ على أذهان عموم الناس؛ وأنواع «دالة»، وهي تمثل حالة الأنواع الأخرى؛ وأنواع «مظلية»، وهي التي لها حاجات بيئية ضرورية تحمي أنواعًا أخرى أيضًا.

من الاعتبارات المهمة اعتبار التكامل، وهو باللغة الدارجة الاستفادة لأقصى حد من كل دولار. على سبيل المثال، ما هو السبيل الأفضل لتحديد الأولويات عند الحفاظ على السبعة والأربعين نوعًا من آكلات اللحوم الموجودة في أمريكا الشمالية والوسطى؟ يعمد أحد المناهج إلى تعيين توزيعاتها للكشف عن الأنماط المكانية لكثرتها عمومًا، والمناطق التي تسود فيها، وموقفها من الانقراض، ومن ثَمَّ تحديد أصغر مساحة على الخريطة يمكن بحمايتها أن نحافظ على السبعة والأربعين نوعًا جميعًا.

تختلف الدول في درجة تحديد الأولويات عند الحفاظ على التنوع البيولوجي. الحيوانات الضخمة عظيمة الأهمية من النواحي الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، والحفاظ عليها عسير ومكلف. وقد قيم مؤشر الحفاظ على الحيوانات الضخمة الإسهامات المكانية والبيئية والمالية ﻟ ١٥٢ دولة من أجل الحفاظ على الحيوانات الضخمة الأرضية في العالم. رغم أن ٩٠ في المائة من الدول في أمريكا الشمالية والوسطى كانت مساهمتها كبيرة أو أعلى من المتوسط، فكذلك كانت ٧٠ في المائة من الدول الفقيرة عمومًا في أفريقيا، في حين كانت مساهمة ربع الدول الغنية عمومًا في أوروبا وآسيا ضعيفة إلى حد مخيب للآمال.

تنزع الدول ذات الناتج المحلي الإجمالي الأدنى إلى أن تدعم التنوع البيولوجي في أغلبه، على امتداد خط الاستواء غالبًا، حيث من الممكن أن تكون الأولوية للقضايا السياسية على حساب الحفاظ على التنوع البيولوجي. من ثم فإنه لا بد أن يتحمل المجتمع الدولي ولو جزءًا من تكلفة الحفاظ على التنوع البيولوجي. هذه الحاجة إلى تقاسم التكلفة تؤكد أن الحفاظ على التنوع البيولوجي وإن كان قائمًا على العلم فإن السياسة هي التي تنفذه. هناك إشكالية تحيز في أعمال الحفاظ على التنوع البيولوجي، خصوصًا في مسوحات التنوع البيولوجي. فهناك نظم بيئية وأصنوفات ومواقع (في أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا الجنوبية خصوصًا) لا تلقى الاهتمام الواجب، ربما لأنه من الصعب على الباحثين دخولها وغير آمنة للوكالات، ولا سيما بسبب الصراع المسلح.

ينطوي الحفاظ على التنوع البيولوجي على اختيارات صعبة تتعدى الفروق الدقيقة للأولويات البيولوجية للسياسة الواقعية. من أوائل الدراسات التي دمجت هذه الجوانب كانت دراسة أجرتها إيمي ديكمان من وحدة أبحاث الحفاظ على الحياة البرية التابعة لجامعة أكسفورد، حيث استكشف فريقها بُعدَين عند تحديد أولوية الحفاظ على ٣٦ نوعًا من عائلة القطط، السنوريات. جمع فريقها بين العوامل البيولوجية (خطر الانقراض، والتميز التطوري، وكتلة الجسم، والنسبة المحمية من النطاق، والموئل، وتداخل النطاقات) ومقاييس عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي. تعيش بعض الأنواع، مثل الوشق الإيبيري، في بيئة مميزة، لكن ٦٢ في المائة من الدول التي تعيش فيها النمور تعاني مشكلات جسيمة في البنية التحتية وسوء إدارة، وتشكل هذه البلدان المحرومة ٨٠ في المائة من نطاق النمور. بيت القصيد هو أنه ينبغي تصميم مناهج الحفاظ على التنوع البيولوجي على حسب كل بلد وحالة.

ما الذي سيتم عمله في المستقبل؟

تتطلب أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام ٢٠١٥ عكس مسار الاتجاهات السائدة في التنوع البيولوجي، نتيجة لفقدان الموائل وتدهورها، مع إطعام سكان العالم. تقصى فريق من مصممي النماذج سبعة سيناريوهات يحتمل أن تعكس مسار اتجاهات التنوع البيولوجي بتغيير جانب العرض (زيادة مستدامة في إنتاج المحاصيل وزيادة تجارة السلع الزراعية)؛ وجانب الطلب (تقليل المهدر من السلع الزراعية من البداية للنهاية والتحول بالنظام الغذائي بعيدًا عن السعرات الحرارية الحيوانية)؛ وجهود الحفاظ على التنوع البيولوجي (زيادة نطاق المناطق المحمية وإدارتها والتوسع في خطط التجديد والحفاظ على التنوع البيولوجي على مستوى مساحات واسعة من الأرض). وقد توصلوا إلى أنه من الممكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة نظريًّا، وإن كان من خلال تعاون دولي غير مسبوق. لكن على المستوى العملي، ستكون زيادة رقعة الأرض الخاضعة للحفاظ على التنوع البيولوجي، وإصلاح الأراضي المتدهورة، والخطط العامة للحفاظ على التنوع البيولوجي على مستوى مساحات واسعة من الأرض من الأمور التي تحتاج إلى جدول أعمال سياسي هائل. بيد أن النماذج تُظهِر أن مع الإرادة السياسية سيمكن تحقيق الاتجاهات الإيجابية في التنوع البيولوجي في منتصف القرن الحادي والعشرين. علاوة على ذلك، فإن النماذج تُظهِر أنه مع زيادة التركيز على الاستدامة في التجارة (وهو مطمح تناوله صراحةً المؤتمر العالمي الثاني للأمم المتحدة حول النقل المستدام عام ٢٠٢١)، والحد من إهدار الغذاء، وزيادة اعتماد البشر على النبات في غذائهم سيمكن تفادي أكثر من ثلثي الخسائر المتوقعة في التنوع البيولوجي والعودة عن انخفاض التنوع البيولوجي بسبب تحول الموائل بحلول عام ٢٠٥٠. أما التهديدات الكبرى الأخرى، مثل تغير المناخ والغزو البيولوجي، فمن الممكن أن تسود محليًّا ومن المرجح أن تسوء، وتتفاعل مع التغير في استخدام الأراضي تفاعلات ضارة.

أيًّا كانت النظرية، فإن الخلاصة هي أن التوفيق بين هذه الطائفة العريضة من العوامل المتفاعلة يشكل تحديًا سياسيًّا عسيرًا. في مقابل هذه النوعية من الخطط الكبرى المتفائلة، سنجد أن القول المأثور القائل بأن الطريق إلى الجحيم مُعبَّد بالنوايا الحسنة مناسب إلى حد مؤلم بعد العجز عن تحقيق أي من الأهداف العشرين المتفق عليها في آيتشي عام ٢٠١٠ للإبطاء من فقدان التنوع البيولوجي العالمي وتدمير النظم البيئية للعقد الثاني على التوالي رغم العديد من التحسينات.

من الممكن تحقيق هدف حماية التنوع البيولوجي للكوكب بطرق مباشرة أو غير مباشرة وعلى مستويات تتراوح من المحلية إلى العالمية. رغم أن أنشطة الصيد والتعدين واسعة النطاق غير المسئولة، وتصرفات بعض الشركات المتعددة الجنسيات، والآثار الظالمة للعيش البذخ لها وقع ضار البيئة، فإن العديد من التبعات على التنوع البيولوجي والبيئة الأشمل ليست في نهاية المطاف جرَّاء العمل البغيض لأشرار جشعين، وإنما تقع على عاتق أناس مثلي ومثلك، ومن ثم فإنها مسئوليتي ومسئوليتك ولو جزئيًّا أن نغير سلوكنا بصفتنا مستهلكين، ونشجع على التغيير السياسي الموجِّه للمشرعين. أحيانًا يكون ذلك التغيير مباشرًا؛ بإقناع أو إجبار شخصٍ ما ألا يستهلك نوعًا معينًا، أو يصطاده، أو يربيه كحيوان أليف، أو يُلحق الضرر بموئله. وأحيانًا يكون غير مباشر؛ بإقناع أحد سكان المدينة بألا يبتاع الطعام الرخيص من الريف البعيد، أو حتى من منطقة بعيدة من العالم. وسواء كانت التأثيرات، والحلول الضرورية، مباشرة أو غير مباشرة، محلية أو عالمية، فإن البشر يعيشون في نظام محدود حيث الموارد الطبيعية، الحية منها والغير حية، محدودة من حيث وفرتها وقابليتها للتجدد. إن المنفعة التي ستعود علينا من الاستدامة في نهاية الأمر تُملي علينا أن نستهلك رأس المال الطبيعي بحذر — وفقًا لمبدأ الحيطة — وبمراعاة.

توصل عالم الأحياء الملهَم من جامعة هارفارد، إي أوه ويلسون، إلى استنتاج مثير للجدل إذ استنتج أنه لا بد، وبالإمكان، إعادة تشكيل نشاط البشر بحيث تُكرس نصف الكرة الأرضية لحماية التنوع البيولوجي. وقد أشعل مشروع نصف الكرة الأرضية من جديد المناقشة الممتدة والمصيرية، حول ما إذا كان الناس والزراعة لا بد أن يتعايشوا مع الطبيعة، أم منفصلين عنها؛ تقاسم الأرض في مقابل الحفاظ عليها. يقارن هذا عمليًّا بين تبعات ممارسات الزراعة المحلية على الأمن الغذائي والتنوع البيولوجي التي تتنوع في الدمج بين إنتاج الغذاء والتنوع البيولوجي أو الفصل بينهما، على نطاق يتراوح من ممارسات الزراعة المكثفة، إلى المختلطة، إلى الحيوية، إلى التجديدية، وصولًا إلى الشبيهة بالبرية. يستدرج السبيل لتحقيق أعلى النتائج مصممي النماذج نحو شطحات متباينة من الخيال الغريب. أحد نماذج المحاكاة، التي تطرفت في الفصل بين الزراعة والتنوع البيولوجي، عمدَت إلى الاستفادة القصوى من السماد على مستوى العالم وتوزيع ١٦ محصولًا رئيسيًّا توزيعًا استراتيجيًّا على الأراضي الزراعية في العالم. نجحت نتائج المحاكاة في سد الفجوات الحالية في إنتاجية المحاصيل، وخفضت من مساحة الأراضي المستغَلَّة إلى النصف، لكنها قضت على جميع مظاهر التنوع البيولوجي في الأراضي الزراعية ما عدا أبسط أشكاله. من شأن الأرض «المستبقاة» أن تقترن بانخفاض انبعاثات غازات الدفيئة ومتطلبات الري، وأن تيسر احتجاز الكربون في النباتات الطبيعية المستعادة. لكن ما النظام السياسي الذي قد يحقق هذه النتيجة؟

استكشفت تجربة نموذجية مختلفة، تُدعى «عشر سنوات من الزراعة البيئية»، منظور التشارك. كان هدف المحاكاة توفير غذاء مستدام لمواطني أوروبا البالغ عددهم ٥٥٠ مليونًا، مع الحفاظ على التنوع البيولوجي والموارد الطبيعية والحد من تغير المناخ. أقنعت نماذج المحاكاة هذه الباحثين بالدعوة لانتقال عاجل إلى نظام زراعي إيكولوجي يعتمد على التخلص التدريجي من مبيدات الآفات والسماد الصناعية، والتوسع في تطبيق الزراعة الإيكولوجية، والتخلص التدريجي من واردات البروتين النباتي، واتباع أنظمة غذائية صحية أكثر بحلول عام ٢٠٥٠. من المفترض أن يؤدي كل هذا إلى توفير غذاء صحي للأوروبيين مع التقليل من البصمة البيئية لأوروبا الناتجة عن الغذاء في العالم وأن يؤدي إلى انخفاض انبعاثات غازات الدفيئة من قطاع الزراعة بنسبة ٤٠ في المائة مع استعادة التنوع البيولوجي المفقود.

قد ينظر القارئ الواقعي بتشكك إلى النماذج القائمة على منظور مثالي يعتمد على اتفاق دول العالم على تخصيص الأراضي الزراعية على نطاق عالمي مثالي. لكن مجرد إجراء الحوار يوضح مدى اعتماد النشاط البشري على النظم البيئية الطبيعية اعتمادًا حتميًّا، حيث العملة الأساسية هي التنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي، وحيث قد تؤدي حالة التنوع البيولوجي الآخذة في التردي إلى فرض مستويات غير مسبوقة من التعاون والمعاهدات الممتدة لأجيال. لديَّ أملٌ مستقبلي، تستطيع التكنولوجيا تحقيقه بالفعل ولكنه بحاجة إلى التوسع، وهو يقوم على تحرير الأراضي من الزراعة بأن يتغذى الناس على البروتينات والدهون الميكروبية، وغيرها من أشكال الإنتاج الغذائي العالية الإنتاجية، المنخفضة الأثر على البيئة. قد يبدو خطأً للوهلة الأولى أن موضوع الحفاظ على التنوع البيولوجي هو شاغل علماء التاريخ الطبيعي؛ لكنه بالأحرى أساس مستقبل البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤