تغير المناخ
تخيل ذئبًا إثيوبيًّا، بفَرْوه الأحمر الناري، وأنفه الطويل الذي يضرب به القوارض وهو متجه برشاقة لأعلى يتطلع أين يلجأ بعد الملاذ الأخير له فوق قمة الجبل. إنه بالفعل واحد من حوالي ٥٠٠ ناجٍ فقط من أندر أنواع الكلبيات في العالم، وهو ضحية منذ زمن بعيد لتقلبات غير مؤاتية في العصر الجليدي أدت لتفتت موئله في المناطق الجبلية الأفريقية. ومؤخرًا، تعرضت هذه الذئاب الشديدة الندرة لمجموعة من الأضرار المتتالية التي أثرت على بقائها: الصراع مع الرعاة، وداء السعار، والتهجين مع الكلاب المستأنسة، واستخدام المتمردين لها أهدافًا للتدرب على الرماية. لم يكن هذا النوع بحاجة إلى قشة أخرى لكسر ظهره المثقل بالفعل. لكن تلك القشة الأخيرة تزداد ثقلًا الآن إذ لا تكشف نظرة الذئب المتطلعة عن أي ملجأ مرتفع؛ لا يوجد ملجأ: إنه بالفعل في القمة؛ ولا يوجد بعدها سوى هاوية الانقراض. هذا المأزق، وهو ألا يتبقى مكان آخر للذهاب إليه، مألوف بشكل مؤلم في صور الدببة القطبية المنجرفة على كتل طافية من الجليد المتقلص وقد حُرِمت من مصدر غذائها من الفقمات، وهو ما حدث على نحو أقل وضوحًا لعدد لا يحصى من الأنواع غير المرئية التي أوشكت نطاقات توزيعها المتقلصة على الانهيار. تأمل حال سمك القد الأطلسي، الذي يزدهر في المناطق البحرية الباردة والعميقة وانخفضت أعداده بسبب الصيد الجائر على مدى القرن الماضي وانخفضت أكثر بسبب ارتفاع درجات حرارة المحيط. أو البنغول في كالاهاري، الذي حرفيًّا يبس مؤخرًا غذاؤه من النمل. وهذه مجرد بعض المآسي الفردية، مآسي الأجزاء المتحركة المضطربة من النظم البيئية التي تعاني عملياتها معاناة خطيرة مع التغيرات المناخية. القياسات المباشرة لثاني أكسيد الكربون في الجو، وفي الهواء المستخرج من عينات الجليد اللبية، تبيَّن أن ثاني أكسيد الكربون في الجو قد زاد بنسبة حوالي ٤٥ في المائة من عام ١٨٠٠ إلى ٢٠١٨، حيث التركيزات الحالية هي الأعلى منذ ٨٠٠ ألف سنة. وقد حدثت هذه التغييرات بسبب اختلال دورة الكربون بواسطة ثاني أكسيد الكربون الإضافي المنبعث من الأنشطة البشرية على غرار حرق الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات، والزراعة.
أعرب جيل سابق من علماء الحفاظ على التنوع البيولوجي عن تقديره لتصنيف جاريد دايموند المأثور عام ١٩٨٩ — «رباعي الشر» — حيث عدد التحديات التي تواجه التنوع البيولوجي: فقدان/تفتت الموائل، والصيد الجائر، والأنواع المدخلة، وسلاسل الانقراض. يتفاقم كل واحد من هذه التحديات بسبب تغيُّر المناخ. وهو ما يتجلَّى مدى انتشار تأثيراته في البيان التالي لصندوق الحياة البرية العالمي للطبيعة:
ترتفع مستويات البحار وترتفع درجة حرارة المحيطات. تهدد المحاصيل، والحياة البرية، وإمدادات المياه العذبة مواسم أطول وأقسى من الجفاف. إن التنوع البيولوجي في كوكبنا في خطر بسبب تغير المناخ، من الدببة القطبية في القطب الشمالي إلى السلاحف البحرية قبالة ساحل أفريقيا.
بينما أكتب هذه السطور الآن، في أعقاب مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في المملكة المتحدة ٢٠٢١ المقام في جلاسكو، يصعب عليَّ أن أصدق أنه قبل عقد فقط تقريبًا كان الجمهور العام المتعلم — حتى في قاعة محاضرات مليئة بطلاب جامعيين اختاروا دراسة الحفاظ على التنوع البيولوجي — بحاجة إلى أن تقنعه بأن الأدلة على تغير المناخ حقيقية. أما اليوم، فقد باتت تفاصيل تغير المناخ مألوفة للجميع، وبفضل نشطاء شباب مثل جريتا ثونبرج، يعرف معظم الأطفال في المدارس حاليًّا تفاصيل أكثر من التي كان يعرفها أساتذة الجامعة قبل عقد من الزمان. الخبراء متفقون على أن التنوع البيولوجي، ومن ثَمَّ الإنسانية، يواجه كارثة: في عام ٢٠٢٢ وقَّع أكثر من ١٤٠٠٠ عالم على تحذير علماء العالم من حالة طوارئ مناخية، وإن التهديد الواقع على التنوع البيولوجي شديد حتى إن عالِمَي الحفاظ على التنوع تشارلي جاردنر وجيمس بولوك دعوَا في عام ٢٠٢١ إلى «تغيير النموذج من التنوع البيولوجي البقاء على قيد الحياة»، وعبَّرا عن ذلك بأسلوب مؤثر حين كتبا قائلَين إن «الأرض تواجه حالة طوارئ مناخية تجعل أهداف الحفاظ على التنوع بائدة إلى حد كبير».
يتسم أحد جوانب تغير المناخ، وهو ظاهرة الاحترار العالمي، بالمخطط البياني الشهير على شكل «مضرب الهوكي»، حيث ارتفعت درجات الحرارة ارتفاعًا حادًّا منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر. يؤكد المشككون أن البيانات لأقل قليلًا من ٢٠٠ سنة من عمر الأرض ليست سوى نقطة في تاريخ الأرض؛ هذا صحيح، فعلى المقياس الزمني الجيولوجي، ليست الأرض اليوم شديدة الحرارة. في سياق علم الحفريات، مستويات ثاني أكسيد الكربون ليست عالية، ومعدلات تغير المناخ السريعة ليست غير مسبوقة. وفي مشهد التطور، دائمًا ما كان تغير المناخ عاملًا رئيسيًّا باعثًا على التكيف. لكن هذه الحقائق لا تنتقص من واقع أن تغير المناخ الذي يسببه البشر متفرد، وأنه إضافة مؤسفة إلى سلسلة مروعة من تهديدات البشر للتنوع الحيوي. والوضع الآن مختلف على أي حال، مع الهشاشة التي شملت الأنواع والنظم البيئية بسبب تأثيرات متعددة من صنيع البشر، وانقراض جماعي بدأ بالفعل. شهد عام ٢٠٢١ حرائق غابات كارثية في كاليفورنيا، وإخلاء جزر يونانية، وبلوغ درجات الحرارة في صقلية رقمًا قياسيًّا تاريخيًّا وهو ٤٨٫٨ درجة مئوية. المشكلة البيولوجية هي أن البشر — وجميع الحيوانات الأخرى — يجدون التغيرات أو الظروف المتطرفة غير المتوقعة وغير القابلة للسيطرة مرهقة، بل ولا يمكنهم التعامل معها، فهي تتجاوز قدرة الأنواع على التكيف سلوكيًّا وفسيولوجيًّا.
ارتفع متوسط درجة الحرارة العالمية على الأرض بمقدار أكثر قليلًا من درجة مئوية منذ عام ١٨٨٠. وقد حدث ثلثا هذا الاحترار منذ عام ١٩٧٥، بمعدل تقريبي من ٠٫١٥ إلى ٠٫٢٠ درجة مئوية في العَقد. وارتفاع درجات الحرارة ليس موحدًا في جميع أنحاء العالم؛ تزداد حرارة جميع المناطق، لكن بعضها، مثل الغطاء الجليدي القطبي، أكثر تأثرًا. يترتب على انحسار الجليد القطبي انعكاس أشعة الشمس إلى الفضاء بدرجة أقل لتُمتص بدلًا من ذلك في المحيطات والأرض، مما يرفع إجمالي درجة الحرارة، ويؤدي إلى المزيد من الذوبان. لقد قلَّ حجم الغطاء الجليدي القطبي الشمالي بأكثر من ٤٠ في المائة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، خاصةً في الصيف والخريف. إذا ذاب الغطاء الجليدي بالكامل، فسيرتفع مستوى سطح البحر العالمي بمقدار سبعة أمتار، وإذا ذابت الطبقة الجليدية غرب القطب الجنوبي، فسيكون الارتفاع بمقدار ثلاثة أمتار.
الآثار البيولوجية
إن الطقس، وهو تعبير قصير الأجل عن المناخ، بُعد أساسي للمَواطن البيئية للحيوانات والنباتات، ولذا فمن البديهي أن معظم الكائنات الحية ستتأثر بتغير المناخ. مقابل النطاق «الطبيعي» أو «الأمثل» للطقس الذي يميز الموطن البيئي المناخي الحيوي للأنواع، فإن التباين هو ما يميز مدى تطرف التقلبات (و/أو سرعتها)، وتعسر التوقع هو ما يصف مدى غرابتها. تتوالى العواقب من آثارها على الأفراد — نظرة ذلك الذئب الإثيوبي المشئومة لأعلى — لآثارها على الجماعات السكانية التي تشمل تغيير التوزيعات والنطاقات، وتزايد وقائع الانقراض، وتغيير ديناميكية الجماعات السكانية، والاضطراب الفينولوجي (أي التوقيتات الطبيعية)، وزيادة احتمالية الأمراض والأنواع الغازية. أول مرة صادفت فيها بعض المبادئ التي تشكل مثل هذا التوالي كانت في أواخر الثمانينيات، قبل أن يصبح مصطلح تغير المناخ شائعًا، أثناء العمل مع طالب دكتوراه لديَّ آنذاك، وقد أصبح بعد ذلك عالم البيئة الأيسلندي البارز، باول هيرستاينسن. لقد نظرنا في التغييرات التي كانت ناشئة حينها في التوزيعات الجغرافية للثعالب الحمراء والقطبية ذات النطاقات الجغرافية المنفصلة إلى حد كبير التي تداخلت في تندرا أمريكا الشمالية وأوراسيا. نشأ التداخل جزئيًّا نتيجة للتغييرات في توزيع الثعالب الحمراء خلال أوائل القرن العشرين، حيث توسعت خلال تلك العقود في الحدود الشمالية لتوزيعها إلى خطوط عرض وارتفاعات أعلى. وحيث إن سلوك وبيولوجيا الثعالب القطبية والحمراء متشابهان، فإن التنافس بين الأنواع (بين الأنواع المختلفة) يحدث حيثما التقت. في الواقع، تعكس الانخفاضات في توزيع الثعلب القطبي وكثرته، على النقيض، توسعات نطاق الثعلب الأحمر. لقد ركزنا على العواقب المتعلقة بالطاقة للاختلاف في حجم الجسم بين هذين النوعين المتشابهين جدًّا بخلاف ذلك؛ ببساطة حجم الثعلب الأحمر الأكبر يجعل من المكلف جدًّا أن يعيش في بيئات ذات إنتاجية أولية وثانوية منخفضة، مثل التندرا القطبية. أكدت السجلات التاريخية أن فرو الثعلب القطبي شكَّل نسبةً أقل من الفراء المستخلص من الحيوانات مع ارتفاع متوسط درجات حرارة شهر يوليو. أدى زحف الثعالب الحمراء لأعلى في السويد إلى زيادة نطاق ارتفاعها بمقدار ٣٣٠ مترًا لكل ارتفاع بمقدار درجتين مئويتين في الحرارة، مما دفع الثعالب القطبية إلى ارتفاعات خطيرة وتقلص المناطق المتاحة فوقها.
حتى عام ١٩٤٠، لم تكن حيوانات الغرير الأوروبية تظهر أبعد من التجمعات المتفرقة عند دائرة العرض ٦٣ شمالًا تقريبًا في جنوب الدول الإسكندنافية. وبعد ٤٠ عامًا فقط، ظهر الغرير على بُعد ٣٠٠ كيلومتر شمالًا، بعد الدائرة القطبية الشمالية، وصولًا إلى خطَّي العرض ٦٧ شمالًا في السويد و٦٨ شمالًا في النرويج. بحلول عام ١٩٩٥، استقر على طول ساحل البلطيق في السويد وحتى دائرة العرض ٦٥ شمالًا داخل النرويج. في فنلندا، انتشر شمالًا بمقدار ١٠٠ كيلومتر منذ عام ١٩٤٠ وتضاعفت أعداده في الجنوب. ربما تكون إبادة البشر للذئاب قد فتحت الأبواب أمام الغرير، لكن زيادة طول الموسم الخالي من الثلوج وارتفاع متوسط درجة حرارته كانا عاملَين رئيسيَّين.
في تحليل للبيانات الفسيولوجية والسلوكية قُيِّم الضرر المترتب على التعرض المزمن للطقس الحار المستمر، الناتج عن الاحترار الجاري، على الطيور التي تعيش في صحراء كالاهاري في جنوب أفريقيا خلال القرن الحادي والعشرين. يترتب على التعرض المزمن للطقس الحار المستمر أضرارٌ غير فتاكة، تتجلى في تراجع تدريجي للحالة الفسيولوجية، وتأخر القدرة على الطيران، وانخفاض حجم الفرخ، وانعدام التكاثر تمامًا، وهو ما سينتج عنه على الأرجح انخفاضات كبيرة في الأعداد، مما يؤدي إلى فقدان الكثير من أشكال التنوع البيولوجي للطيور في كالاهاري قبل القرن القادم.
ارتفاع درجات حرارة المحيط يقتل الطحالب، مما يتسبب في الموت جوعًا للعديد من عظاءات الإجوانا البحرية التي تعيش في جزر جالاباجوس، في حين يمكن أن يتعارض الطقس الذي ازداد دفئًا مع تعشيشها على الشاطئ، ونمو بيضها، وقدرتها على تنظيم درجة حرارة جسمها. يتغذى سمك التونة المهاجر ذو الزعانف الزرقاء في مياه شمال المحيط الأطلنطي الباردة، لكنه يتوجه إلى المياه المدارية للتكاثر؛ لذلك أثَّر ارتفاع درجات حرارة المحيطات سلبًا على عادات التزاوج والتكاثر لهذا النوع المهدد من سمك التونة، خاصةً في خليج المكسيك. في الواقع، تمتد الآثار الضارة للاحترار العالمي إلى أكبر حيوانات الأرض، الحوت الأزرق، حيث يتسبب ذوبان الجليد القطبي الجنوبي في تقليل أعداد الكريل، المصدر الرئيسي لغذاء الحوت الأزرق، وصولًا إلى أصغرها مثل الحشرات؛ فعلى الرغم من نجاحها في التنوع على مدار أكثر من ٤٥٠ مليون سنة من تغير المناخ على الأرض، فإن العديد من الحشرات تجد صعوبة في التكيف مع سرعة تغير المناخ. كان النحل ذو البقعة الصدئة منتشرًا في الأراضي العشبية وبراري الأعشاب الطويلة في الولايات المتحدة في الماضي، لكن الحرارة المرتفعة والأمطار الغزيرة، بالإضافة إلى الجفاف وذوبان الجليد مبكرًا، تعوق ازدهار نباتات التلقيح، وتقلل المناطق المتاحة للملكات لبناء الأعشاش والسبات، وتقصر الوقت المخصص لجمع العسل، مما يدفع النوع إلى حافة الانقراض. قد يكون أكبر ما يدعو للقلق هو عواقب تغير المناخ على النباتات، سواء كانت موجات الحر، أو زيادة الفيضانات، أو الجفاف، أو الطريقة التي يؤثر بها مباشرةً ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون والحرارة على نمو النباتات، وتكاثرها، ومقاومتها. من الصعب التنبؤ بالتأثيرات على النباتات الطبيعية والزراعة لكن عواقبها على البشرية من الممكن أن تكون مدمرة.
هناك ظاهرة أخرى مرتبطة بالطقس وهي ظاهرة النينيو، التي تصف ارتفاع درجة حرارة سطح البحر الذي يحدث كل بضع سنوات، وعادةً ما تتركز في المناطق الوسطى والشرقية الاستوائية من المحيط الهادئ. مؤخرًا في الألفية الأخيرة، عندما بدأ عالم الحفاظ على التنوع البيولوجي، الإكوادوري، هيرنان فارجاس، إجراء أبحاث على البطريق في جالاباجوس، لم يكن من الواضح ما إذا كانت الزيادة الظاهرة في تكرار وشدة النينيو مجرد سوء حظ أم شيئًا آخر؛ أما الآن فقد بات من المسلَّم به أنه عرَضٌ من أعراض تغير المناخ. تنخفض أعداد الأسماك نتيجة لظاهرة النينيو، وهو ما يضر بجميع الطيور البحرية، لكنه يضر البطريق في جالاباجوس بصفة خاصة بسبب توزيعه المحلي للغاية. بعد الاشتداد البالغ لظاهرة النينيو في ١٩٨٢ إلى ١٩٨٣ و١٩٩٧ إلى ١٩٩٨، انخفضت أعداد البطريق بأكثر من ٦٠ في المائة. لا تقطع ظواهر النينيو إمدادات غذاء البطريق تحت الماء فحسب، وإنما تغمرها أيضًا بالمطر البارد بينما ترتعد في أعشاشها؛ حاليًّا هناك أقل من ٦٠٠ زوج من الأزواج التي تتكاثر.
في الوقت نفسه، على الشاطئ، يميل جرذ الأرز الأصلي المتوطن على جزيرة سانتياجو في جالاباجوس نحو الانقراض، ومن المرجح أن يتفاقم هذا الوضع إذا أصبحت أحداث النينيو أكثر تكرارًا. ولنتذكر أن هذه الجرذان النادرة تتهددها بالفعل جرذان السفن الغازية علاوةً على تغير المناخ. جرذان السفن التي تكبرها حجمًا هي السائدة بشراسة لكنها تعاني من انخفاض دوري في أعدادها عندما تتعرض لجفاف ظاهرة النينا على الساحل الشمالي القاحل لسانتياجو. كما ذكرنا في الفصل الرابع، هذا يوفر لجرذ الأرز الأصلي مهلة كافية للعودة للتكاثر لأنه يستطيع العيش على نظام غذائي خاص من التين الشوكي، الذي لا يستطيع الجرذ الغازي هضمه. وعلى ذلك فإن سنوات النينيو الغزيرة الأمطار تتيح الفرصة للنباتات الخضراء لتزدهر ومن ثَمَّ تمكن جرذان السفن من العودة لتتكاثر أعدادها، لتزداد حدة المنافسة بين نوعَي القوارض؛ منافسة يخسر فيها جرذ الأرز الأصلي أمام جرذ السفن الغازي.
يمكن أيضًا لتغير المناخ أن يسبب تغييرات خفية في أعداد الأنواع، وهو ما يتجلى على أفضل وجه في الدرر النادرة لعلم البيئة: البيانات الطويلة الأمد، التي تحول لقطةً فوتوغرافيةً إلى فيلم وثائقي. يمكن أن يكشف هذا عن انفصال فينولوجي: عندما لا تعود العمليات التي تطورت على نحو متزامن منسجمة. تبين من ٥٠ عامًا من البيانات في غابات وايتم، في أوكسفوردشير، أن ارتفاع درجات الحرارة في الربيع أدى إلى وضع طيور القرقف الكبير بيضها مبكرًا عن ميعادها بثلاثة أسابيع؛ وقد تقدم توقيت مصدر غذائها الرئيسي، اليسروع، بنفس المعدل. إذن لا تزال هذه التروس في النظام البيئي متشابكة حتى الآن، وكل من المفترس والفريسة يواكب الاحترار. يتضح لنا مزيد من التعقيد مع غرير غابات وايتم المتجول ليلًا تحت طيور القرقف الكبير، الذي ظل مراقَبًا عن كثب لمدة ٥٠ عامًا. إنه يتغذى بشكل رئيسي على الديدان الأرضية، التي لا تصعد للسطح إلا في الليالي الرطبة اللطيفة. بين عامَي ١٩٨٧ و١٩٩٦، ازداد عدد الغرير أكثر من الضعف: كان ٦٤ في المائة من هذه الزيادة ناتجًا عن بقاء البالغين على قيد الحياة، و٣٠ في المائة عن بقاء الصغار، و٥ في المائة عن عدد المواليد، وقد تزامنت هذه الزيادة مع سنوات دافئة غير معتادة في أواخر تسعينيات القرن الماضي. زاد وزن حيوانات الغرير بشكل ملحوظ في شهور يناير التي صارت أقل برودة، مما أدى إلى ازدياد نجاتها خلال الشتاء وولادة المزيد من الصغار. غير أن نشاطها الأكبر في الشتاء مرتفع الحرارة أدى إلى سقوطها في حوادث مرورية أكثر، وتسبب الربيع الجاف في زيادة أعداد الطفيليات. عند تحليل «المنطقة الأنسب» (حيث لا الطقس شديد السخونة ولا شديد البرودة، وإنما الطقس المعتاد الذي تكيفت معه) تبين أن الحرارة، والأمطار، ومدى التباين بين الشتاء والصيف تفسر التغييرات في أعداد الغرير.
يهدد الخطر المتفشي لعدم التوافق عمليات النظام البيئي: تتغير المحفزات التي تدفع الإوز الأسود المهاجر للهجرة إلى ألاسكا ومنها، حيث يصل إلى هناك مبكرًا، مما يقلل من الكتلة الحيوية النباتية، التي تغير بدورها تدفق النيتروجين والكربون عبر الأراضي العشبية، مما يحول مصرف الكربون الصيفي إلى مصدر. أجرى كريستوفر تريسوس بحثًا بارزًا في عام ٢٠٢٠ حيث تصور العواقب حين يتعرض ٣٠٠٠٠ نوع بحري وبري لدرجات حرارة غير مسبوقة. لأن العديد منها قد يكون على نفس القدر من التحمل، ومن ثَمَّ سيعاني المتاعب في نفس المرحلة، فإن «تعرض الأنواع المتعددة لدرجات الحرارة في نفس الوقت تقريبًا قد يكون له تأثيرات مفاجئة ومدمرة على التنوع البيولوجي المحلي وخدمات النظام البيئي». قد تحدث هذه المرحلة الحرجة عندما يتعرض ٢٠ في المائة من الأنواع في تجمع لدرجات حرارة غير مسبوقة في نفس العَقد. يتوقع الباحثون حدوث اضطرابات جذرية وشيكة في التنوع البيولوجي؛ مع احتمال الانبعاثات العالية، في المحيطات الاستوائية بحلول عام ٢٠٣٠، وصولًا إلى الغابات الاستوائية ودوائر العرض العليا بحلول عام ٢٠٥٠. من المحتمل أن يتحول الموقع الجغرافي لهذا النطاق المناخي أكثر في الخمسين عامًا المقبلة مما حدث له في الستة آلاف عام السابقة، مما يضع ما بين مليار إلى ثلاثة مليارات شخص، وأنظمتهم الزراعية، في ظروف صعبة للغاية، إن لم يكن انهيارًا مجتمعيًّا.
خلال الجزء الأول من القرن الحادي والعشرين، حدث تغيير غير مسبوق في حالة الأمراض التي تحملها الناقلات في أوروبا حيث غيرت الأنواع نطاقاتها. على سبيل المثال، عادت الملاريا إلى الظهور في اليونان، ووصل فيروس غرب النيل إلى أجزاء من أوروبا الشرقية. منذ عام ١٩٩٠، أصبحت خمسة أنواع مختلفة من بعوض الزاعجة الغريب مستقرة في أوروبا. من بينها، يمكن لبعوض النمر الآسيوي نقل الأمراض المعدية مثل حمى الضنك وحمى الشيكونجونيا. على غير المعتاد تتسم التوقعات بالإجماع: فمن المتوقع أن يتحول بعوض النمر للانتشار في البلدان الشمالية، بما في ذلك المملكة المتحدة، خلال العقود المقبلة، حيث ستسمح الظروف مع ارتفاع الرطوبة والحرارة للبعوض بقضاء الشتاء في الشمال.
يحرك التنوع البيولوجي الدورات التي تسمح بالحياة على الأرض وحلقات الآثار المرتدة الباعثة على استقرار المناخ (عبر ثاني أكسيد الكربون)، مما حث الخبير في الاستدامة العالمية يوهان روكستروم في عام ٢٠٢١ للدعوة إلى «رعاية الغلاف الحيوي الذي يحمي مصارف الكربون ويعزز القدرة على الصمود». انقراض الماموث، وما ترتب عليه من خسارة الأرض المفتوحة (ومن ثَمَّ السطح العاكس أو البياض) لصالح غطاء الشجيرات، قد يكون هو السبب وراء ارتفاع الحرارة في سيبيريا بمقدار درجة واحدة مئوية. بحثًا عن التوافق بين الحفاظ على الثدييات الكبيرة وتخفيف تغير المناخ، توصل فريق يادفيندر مالهي عام ٢٠٢٢ إلى أن التآزر كان موجودًا من خلال ما أحدثته الثدييات الكبيرة من تغييرات مفيدة في أنظمة الحرائق في الأراضي العشبية الجافة، والسطح العاكس البري (حيث تتسبب آكلات الأعشاب في تحولات من الغطاء الحرجي المغلق إلى المفتوح في دوائر العرض العليا)، ومخزونات الكربون في نباتات الأراضي العشبية وتربتها، وكلها تحدث خصوصًا في المجال الحيوي البيئي للتندرا. ما يهم ليس الكربون المختزن في الثدييات على مستوى العالم — «إجمالي الكربون في الثدييات والطيور البرية مكافئ لحوالي ثماني ساعات من انبعاثات الوقود الأحفوري البشرية الحالية» — ولكن تأثيراتها القابلة للتوسع. فهي تُسهم في التكيف مع تغير المناخ (بمساعدة المجالات الحيوية البيئية على إظهار المقاومة، والمرونة، والتحول) من خلال تعقيد النظام البيئي. على سبيل المثال، يمكن للحيوانات العاشبة الكبيرة في الغابات المدارية أن تزيد من الكتلة الحيوية للأشجار فوق الأرض بمقدار ٦٠ طنًّا/هكتارًا عن طريق تقليل المنافسة من الأشجار الصغيرة وتفضيل انتشار الأشجار ذات البذور الكبيرة (ذات الخشب العالي الكثافة).
المستقبل
في الماضي كان الحفاظ على الطبيعة متركزًا بدرجة كبيرة على الحفاظ على الوضع الراهن للتنوع البيولوجي. هل يجب أن تتغير الأمور في مواجهة تغير المناخ؟ هل على صانعي السياسات اختيار السدود البحرية الصلبة أم السماح بتمدد المستنقعات المالحة الساحلية؟ وهل يجب أن يساعدوا الأنواع على الانتقال إلى الأماكن التي قد تبقى فيها على قيد الحياة؟ في إنجلترا، تميل الهيئة الرسمية الحكومية المعنية بالحفاظ على التنوع البيولوجي إلى «الإدارة التكيفية»، وإن كان في ظل قيود محدِّدة تتمثل في قلة الموارد والكثير من اللبس. في الولايات المتحدة، يسمح التفويض القانوني بحماية «مجتمع الحياة»، وخاصةً في البرية، لدائرة غابات الولايات المتحدة بحماية نظم بيئية بأكملها، والتنوع الواسع للتدرجات البيئية اللازمة لهجرة الأنواع وانتشارها، والأعداد القادرة منها على البقاء على قيد الحياة مع تغير المناخ. في سياق الحفاظ على التنوع البيولوجي، يواجه صانعو السياسات بصفة شبه دائمة تعدد المشكلات ونقص الأموال والقدرات، مما يضع الكفاءة والسعي لحل يفيد جميع الأطراف في مقدمة الأولويات.
الغابات هي الحل الطبيعي الأفضل لحالة الطوارئ المناخية. تحتوي الكتلة الحيوية للغابات المدارية على حوالي ٣٢٣ مليار طن من الكربون وثلثَي التنوع البيولوجي الأرضي في العالم. إذا توقفت إزالة الغابات واستعدنا الغابات المتضررة، فإن هذا قد يوفر حوالي ثلث كمية الكربون المطلوب خفضها. تقترح آلية خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها التابعة للأمم المتحدة أن تدفع البلدان المتقدمة ملايين الدولارات إلى البلدان النامية مقابل تحسين إدارة الغابات، وما يترتب على ذلك من خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. يمكن لإضافة مكون التنوع البيولوجي إلى برنامج خفض الانباعثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها أن توفر آليات للحفاظ على الأنواع الرئيسية. أدت محاولة للجمع بين الحفاظ على التنوع وخفض انباعثات الكربون في البرازيل إلى مبادرة مواقع الحفاظ على اليغور وخفض الانباعثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها، التي تُعرف بأنها البلديات التي توفر أفضل الفرص لتحقيق المنافع المشتركة بين الحفاظ على مخزونات الكربون في الغابات، واليغور، وأشكال أخرى من الأحياء البرية، حيث تحققت الفائدة لجميع الأطراف في ٢٥ في المائة من ٤٠ بلدية. لدى ٩٥ بلدية أخرى الإمكانيات لاستحداث مشاريع إضافية لخفض الانباعثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها مع إضافة عامل الحفاظ على التنوع البيولوجي، مما يوفر مكاسب كبرى للحفاظ على التنوع البيولوجي في المجالات الحيوية البيئية لغابات الأمازون والأطلنطي.
أتذكر خطاب مارجريت ثاتشر عام ١٩٨٩ أمام الأمم المتحدة، الذي ربما يكون أول اعتراف لزعيم عالمي بتغير المناخ. بعد ذلك، استمرت زيادة الكربون في الجو بلا توقف بمقدار جزأين في المليون سنويًّا؛ لذا أيًّا كانت الإجراءات التي اتُّخذَت فهي لم تكن مجدية: لقد حرقنا المزيد والمزيد من الفحم ودمرنا المزيد والمزيد من قدرة التنوع البيولوجي على احتجاز الكربون (تدمر البرازيل حاليًّا غابة الأمازون بمعدل هكتار/دقيقة). في عام ٢٠٢٠، أفادت لجنة تغير المناخ في المملكة المتحدة بأنه «بتقليل الانبعاثات من المملكة المتحدة إلى صفر، ننهي كذلك مساهماتنا في ارتفاع درجات الحرارة العالمية». هناك الكثير من التضليل في هذه التصريحات السياسية؛ لأن المملكة المتحدة في الواقع استهلكت بضائع عالية الانبعاثات أكثر حتى من ذي قبل، لكنها صدرت إنتاج هذه البضائع، إلى الصين في الغالب، لدعم أنماط حياتنا العالية الانبعاثات الكربونية غير المستدامة. بعد النتائج الباهتة لاتفاقية كيوتو (١٩٩٧) وباريس (٢٠١٥)، كانت النتيجة الأساسية لمفاوضات الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف عام ٢٠٢٢ هي اتفاق بشأن المناخ توصلت إليه ١٩٧ دولة، وهو ميثاق جلاسكو للمناخ. على عكس سابقيه، اعترف ميثاق عام ٢٠٢٢ بالروابط بين أجندة المناخ والطبيعة، والدور الحاسم لحماية النظم البيئية والحفاظ عليه واستعادتها لتقديم فوائد لكل من التكيف مع المناخ والتخفيف منه. كذلك شهدت الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف إعلانات كبرى متعلقة بالطبيعة، مع تركيز قوي على وقف إزالة الغابات والانتقال إلى ممارسات زراعية أكثر استدامة. تعهدت أكثر من ١٤٠ دولة، تمثل أكثر من ٩٠ في المائة من غابات العالم، بوقف إزالة الغابات بحلول عام ٢٠٣٠. أصدرت ٤٥ حكومة، تمثل ٧٥ في المائة من التجارة العالمية، خارطة طريق القطاع المالي للقضاء على إزالة الغابات بهدف إنتاج السلع الأساسية. وبلغت التزامات القطاع العام والخاص حوالي ١٩ مليار دولار أمريكي موجهة للطبيعة واستخدام الأراضي. لم تمنع إعلانات مؤتمرات الأطراف السابقة نشاط إزالة الغابات من الوصول إلى أعلى معدلاته عام ٢٠٢١، وارتفاع مستويات الكربون دون هوادة، فما الذي يختلف هذه المرة؟ هناك المزيد من المال، والمزيد من الضغط من المجتمع المدني لمحاسبة الشركات والحكومات، وفهم أوضح للمخاطر والفرص المرتبطة بفقدان التنوع البيولوجي، وقد تكون الشركات مستعدة للمشاركة.
غير أن الانبعاثات لن تنخفض إلا بالتحول عن الزراعة والنقل ونظم توليد للكهرباء القائمة على الكربون. تحتوي التربة على أربعة أضعاف الكربون الموجود في الجو: أدى إدخال الصناعة على الزراعة خلال القرن الماضي بدرجة كبيرة إلى ارتفاع نسبة الكربون في الجو مباشرةً وكذلك عن طريق إتاحة الفرصة لنمو عدد سكان العالم (مع التقدم الطبي) من مليارين إلى ثمانية مليارات. بغض النظر عن إعلانات السياسات الحسنة النية للحكومات الغربية، فإن الصين والهند وأفريقيا (التي يتضاعف إجمالي ناتجها المحلي كل عَقد) هي التي ستحسم الجزء الأكبر من انبعاثات الكربون في المستقبل. استهلاك الكربون هو العامل الرئيسي وراء انبعاثات الكربون، وهذا الاستهلاك نحن جميعًا مسئولون عنه بدرجات متفاوتة، في الداخل والخارج. استهلاك الكربون فيما بين الدول الفقيرة والغنية غير منصف على الإطلاق، وهو تفاوت عالجته خطط خفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها بجانب الحفاظ على التنوع البيولوجي.
حتى لو تمكنت البشرية جماعيًّا من عكس مسار الاحتباس الحراري العالمي قبل فقدان الأنواع بلا رجعة من النظم البيئية، فإن الاضطراب البيئي الناجم عن ارتفاع درجات الحرارة قد يستمر لنصف قرن أو أكثر؛ وجدت دراسة حديثة على أكثر من ٣٠٠٠٠ نوع من الثدييات والطيور والبرمائيات والزواحف والأسماك البحرية واللافقاريات أن فرص العودة إلى الحالة «الطبيعية» قبل التجاوز غير مؤكدة أو غير موجودة، في أكثر من ربع المواقع الخاضعة للدراسة على مستوى العالم.
من بين جميع التحديات التي تواجه الحفاظ على التنوع البيولوجي، ليس هناك أبرز من الحاجة الملحَّة للتخفيف من تغير المناخ حتى إنه يجب أن يغير كل فرد من سلوكه. وقد أُقِرَّ بذلك في خطابات مقنعة في الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف، وانتشر صداها بين جمهور مهتم بالأحداث العالمية. بيد أن جهود الماضي لم تكن مبشرة، وكما يعلق ديتر هِلم ببساطة في كتابه الآسر «الصافي صفر» فإن «التقاعس عن التصرف لا يُلغي عواقب عدم التصرف، فلا مفر منها». الأولويات الواضحة والحالية هي تقليل انبعاثات الكربون واستهلاكه، واختراع طرق بديلة لتوليد الكهرباء التي يعمل بها العصر الرقمي، وإبطاء النمو السكاني البشري؛ قد تؤدي بعض هذه الإجراءات إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي، من قبيل المنفعة المشتركة. ومع ذلك، سيكون من السذاجة أن نفترض أن حل مشكلة تغير المناخ من أجل البشرية، وإن كان ضروريًّا ضرورةً ملحة، سيكون كافيًا للوصول بالتنوع البيولوجي لبر الأمان. في الواقع، مع تسارع تأثيرات المناخ، من الضروري وقف الانطلاق المشئوم نحو الهاوية، حيث تهددنا كارثة مركبة، من تدهور الموائل، والجور على الأنواع، والأنواع الغازية، والاستخدام المفرط، ستجتاح التنوع البيولوجي قبل أن يسدد تغير المناخ الضربة القاضية.