من يدفع الثمن وكيف؟
في عام ٢٠٢١، حدد المنتدى الاقتصادي العالمي خمسة من أكبر التهديدات للبشرية على مستوى العالم فكانت: تقلبات الطقس، والقصور عن مواجهة تغير المناخ، وإضرار البشر بالبيئة، والأمراض المعدية، وفقدان التنوع البيولوجي. يتعارض الأخير مع الاقتصاد من جهتين. أولًا، النشاط البشري يستنزف الأرض: فاستهلاكنا يتجاوز بكثير قدرة الطبيعة على العطاء. ما هي الأدوات الاقتصادية التي يمكن أن تقلل من تأثير البشرية على التنوع البيولوجي؟ ثانيًا، غالبًا ما يكون الحفاظ على التنوع البيولوجي مكلفًا، فكيف يمكن دفع ثمنه؟
في مراجعة «اقتصاد التنوع البيولوجي» (٢٠٢١)، يحاجج السير بارثا داسجوبتا بالقول بأن الحل يبدأ بالإقرار بأن أنظمتنا الاقتصادية جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وليست منفصلة عنها. ولكي يكون النمو الاقتصادي مستدامًا، يجب أن يكون تفاعل البشرية مع الطبيعة مستدامًا، مما يعزز ثروتنا ورفاهتنا جميعًا وكذلك ثروة ورفاهة أحفادنا. إن استراتيجية «استمرار الحال على ما هو عليه» مصيرها الفشل؛ فمؤشر الكوكب الحي (وهو مقياس لحالة التنوع البيولوجي العالمي بناءً على اتجاهات أعداد الفقاريات في أنحاء العالم) يتناقص بمعدل متسارع؛ ووفقًا للاتجاهات الحالية، فسوف يصل إلى ١٥ في المائة من مستواه عام ١٩٧٠ بحلول عام ٢٠٥٠. يرى داسجوبتا أنه لا بد من ثلاثة تغييرات. الأول بديهي جدًّا حتى إنه لا بد أن يكون قد شعَر بالإحباط للاضطرار إلى شرحه:
-
(١)
يجب ألا تتجاوز مطالب البشرية من الطبيعة ما تستطيع تقديمه. إن الطلب على الغذاء والطاقة الأحفورية من أكبر العوامل المسببة لفقدان التنوع البيولوجي. من ثم فإنه من الممكن للتطور في إنتاج الغذاء والتخلص من الكربون أن يخفف من تبعات تغير المناخ، واستهلاك الأراضي، وتدهور البحار على التنوع البيولوجي، ليعود التوازن بين العرض والطلب. الحفاظ على الأصول الطبيعية واستعادتها سيحافظ على قدرتها على المنح ويعززها، والوقاية خير من العلاج: الحفاظ على الطبيعة أقل تكلفةً من استعادتها. سيحدد التعداد السكاني البشري المتزايد، وآثاره على البيئة، أنماط الاستهلاك العالمي. العالم المتقدم هو صاحب أكبر تأثير على الاستدامة العالمية حاليًّا، ولكن معظم التنوع البيولوجي والتهديدات الناشئة موجودة في الجزء الجنوبي من العالم المتجه نحو أهداف مماثلة، وهو خلاف يجب معالجته بمزيد من الصراحة.
-
(٢)
تحويل مقاييس النجاح الاقتصادي إلى مسار أكثر استدامةً. إن إجمالي الناتج المحلي مقياس شائع الاستخدام للنجاح الاقتصادي، لكنه غير مُرضٍ. فهو يتجاهل تدهور البيئة الطبيعية. ومن ثَمَّ، يشجع على السعي نحو النمو والتطور غير المستدامين. من الأفضل قياس «الثروة الشاملة» من حيث جميع الأصول، بما في ذلك رأس المال الطبيعي (مخزون العالم من الموارد الطبيعية بما في ذلك الجيولوجيا، والتربة، والهواء، والماء، والتنوع البيولوجي).
-
(٣)
تحويل النظم المالية والتعليمية لتمكين حدوث هذه التغييرات والحفاظ عليها للأجيال المستقبلية. لا بدَّ من سداد ثمن المجالات الحيوية البيئية، والنظم البيئية التي تعتمد عليها البشرية. يجب أن تكون هناك رسوم على استخدام المجالات الحيوية البيئية (مثل المحيطات) خارج الحدود الوطنية (وحظر استخدامها تمامًا حيثما تكون حساسة بيئيًّا). يجب أن يدفع الأغنياء المال لمساعدة الفقراء. يجب أن يوجه النظام المالي الاستثمارات نحو الأنشطة الاقتصادية التي تعزز الأصول الطبيعية وتشجع على الاستهلاك والإنتاج المستدامين. بعيدًا عن الأحذية الموحلة والمناظير التي كانت يومًا ما تميز الساعين للحفاظ على التنوع البيولوجي، سيتطلب هذا التزام الحكومات، والبنوك المركزية، والمؤسسات المالية الدولية. يُقدر تمويل حماية الطبيعة على مستوى العالم ﺑ ١٠٠ مليار دولار في السنة، وهو ليس بالمبلغ الكبير بالنظر إلى أن الدعم العام الضار للزراعة والوقود الأحفوري وحده يبلغ ٥٠٠ مليار دولار في السنة.
تحليل الدورة الحياتية الاقتصادية الكاملة أمر ضروري للحفاظ على التنوع، كما يتضح من حالة الذئاب في ويسكنسن. كادت الذئاب أن تُباد من الولايات المتحدة (حيث استمر منح المكافآت على صيدها حتى الستينيات)، لكنها عادت للازدياد تحت حماية القانون الأمريكي للأنواع المهددة بالانقراض حتى أدت المعارضة إلى شطبها من القائمة الفيدرالية: وهكذا قُتل ٢١٨ من ١٠٠٠ ذئب في ويسكنسن خلال ثلاثة أيام. نادرًا ما تقتل الذئاب الناس، ولكنها تقتل الماشية وتزعج الصيادين. ارتفعت أعداد الأيائل ذات الذيل الأبيض في أمريكا (إذ انخفض عدد الصيادين بين ٢٠١١ و٢٠١٦ بنسبة ٢٥ في المائة بسبب التحولات في نمط الحياة والتوجهات)، مما أدى إلى وقوع مليون إلى مليونَي حادث تصادم بين الأيائل والسيارات سنويًّا (٣٠٠٠٠ إصابة، و٢٠٠ وفاة، وتكاليف تبلغ ١٠ مليارات دولار أمريكي). في المتوسط يقع ١٩٧٥٧ حادث تصادم بين الأيائل والسيارات، و٤٧٧ إصابة، وثماني وفيات بشرية في ويسكنسن سنويًّا. من ١٩٨٨ إلى ٢٠١٠، عند المقارنة بين حوادث التصادم بين الأيائل والسيارات قبل وبعد عودة الذئاب، ارتبط وجود الذئاب في ويسكنسن بانخفاض بنسبة ٢٥ في المائة في حوادث التصادم بين الغزلان والسيارات (حالتا وفاة بشرية أقل)، مما أدى إلى توفير ١٠٫٩ ملايين دولار أمريكي في السنة، وهو أكثر ٦٣ مرة من تعويضات الماشية البالغة ١٧٤٠٠٠ دولار أمريكي. يأكل كل ذئب من ذئاب ويسكنسن الألف من ١٨ إلى ٢٠ أيلًا سنويًّا من أيائل الولاية البالغ عددها واحدًا وستة أعشار مليون، وهو ما يمثل خسارة بنسبة واحد في المائة للصيادين. قد يعكس انخفاض حوادث التصادم بين الأيائل والسيارات بنسبة ٢٥ في المائة «سيطرة الخوف على الفرائس»؛ فالذئاب تسير في الطرق (وهي تتفادى السيارات لذا تتعرض ﻟ ٢٠ حادث اصطدام فقط سنويًّا) مما يجعل الأيائل تتجنب الطرق. تفاصيل هذا البحث أقل أهمية من الحلول غير المباشرة التي يوضحها.
هذا النوع من التحليل الشامل للنظام هو جوهر التفكير في رأس المال الطبيعي، والذي شرحه ديتر هِلم بوضوح في كتابه «أرض خضراء ومزدهرة». يمكن أن يكون رأس المال من صنع الإنسان، أو بشريًّا، أو طبيعيًّا. النظم البيئية هي أصول رأسمالية طبيعية وتقدم خدمات متعددة: فهي تحافظ على مكتبة جينية، وتحافظ على التربة وتجددها، وتضبط النيتروجين والكربون، وتعيد تدوير العناصر الغذائية، وتتحكم في الفيضانات، وتصفي الملوثات، وتلقح المحاصيل، وتشغل الدورات الهيدرولوجية. لقد استُنفِدَت هذه الأشكال الضرورية من رأس المال الطبيعي ويزداد الوضع سوءًا بسرعة. غالبًا ما يصعب تدارك العواقب وكثيرًا ما تكون غير خطية، مهدَّدة بانهيار مفاجئ. علاوةً على ذلك، غالبًا ما تكون حقوق الملكية في رأس المال الطبيعي غير واضحة؛ ذات مرة كنت مشاركًا في دراسة لمواقع في جزيرة سولاويسي الإندونيسية مرشحة لتطبيق آلية خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها بالإضافة للحفاظ على التنوع البيولوجي وقد تَوقَّفَت لأن العديد من الدوائر ارتأت أن لها حق ملكية نفس الجزء من الغابة.
قيمة رأس المال الطبيعي كبيرة لدرجة أنها تغير التفكير البيئي، والتفكير المجتمعي. أحيانًا تكون القيمة واضحة: في عام ٢٠٢١، بلغت قيمة سياحة الشعاب المرجانية في كينتانا رو في المكسيك ٣٤٩٤ مليون دولار أمريكي. أحيانًا تتطلب قيمة رأس المال الطبيعي فهمًا؛ كانت النسور معدودة بلا قيمة في الأصل، ثم أُدرِكَت أهميتها لمكافحة الأمراض، والآن أُدرِكَت أهميتها للسياحة. وأحيانًا يكون الاستعداد لدفع القليل مجديًا جدًّا تراكميًّا: إذ يُقدر المال المدفوع للاستمتاع بالطيور المغردة الحضرية في برلين وسياتل على التوالي ﺑ ٧٠-١٢٠ مليون دولار أمريكي سنويًّا.
من منظور الرفاهة بين الأجيال والأخلاق معًا، فإن التدخلات السياسية ضرورية وملحة لإبطاء تدهور الطبيعة أو العدول به عن مساره. لأكثر من قرن ظلت المناطق المحمية هي الأداة الرئيسية لتنظيم حفظ التنوع البيولوجي. لكن النمو السكاني المتزايد، والتوسع الاقتصادي، والاهتمام بالمظالم التاريخية يضيف تركيزًا على الحفاظ على التنوع البيولوجي يتجاوز المناطق المحمية. لا يمكن توسيع المناطق المحمية بما يكفي لتقديم الحماية بنسبة ٣٠ في المائة بحلول عام ٢٠٣٠ (الاقتراح ١٠١ للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة)، مما يستدعي العمل مع المواطنين في إطار أدوات اقتصادية مثل الضرائب، والإعانات، والتصاريح القابلة للتداول التي يمكن أن تتحكم في التلوث أو تنظم استخراج الموارد الطبيعية. المدفوعات مقابل الخدمات البيئية على وجه الخصوص هي أداة اقتصادية تكتسب أهمية متزايدة في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي.
كما زعم جوهان دو توا عام ٢٠٢٢، فإن التطوير الزراعي والمجتمعات البرية عادةً لا ينسجمان بسبب تكاليف الحفاظ على التنوع البيولوجي. وهو يقترح «تحولًا استباقيًّا في الموقف تجاه نقطة الالتقاء بين الماشية والحياة البرية، من السيطرة على المشكلة إلى إدارة الأصول». لقد شهدت أفريقيا نموًّا تنمويًّا غير مسبوق، لكن أغلبه كان على حساب التنوع البيولوجي (مما يهدد على غير المتوقع الملايين الذين يعتمدون في معيشتهم على الطبيعة). في جنوب كينيا، حيث لا تزال الحياة البرية والرعي التقليدي متعايشين، يزيد سعر الأرض حول متنزه نيروبي الوطني ومحمية ماساي مارا الوطنية من تكاليف صيانة المناطق العازلة، والممرات، ومناطق انتشار الحيوانات خارج المنطقة المحمية ويزيد كذلك من تكاليف شرائها. هذا يدفع بنقل ملكية الأرض من الرعاة التقليديين إلى المضاربين. والأمر متفاقم حتى إن منع هذه النظم البيئية من الانهيار قد يكون متعذرًا اقتصاديًّا. أظهرت تحليلات الاستشعار عن بُعد لأكثر من ٤٠٠٠٠كم من الأسيجة الممتدة أنها كانت أكثر انتشارًا في المواضع التي تحولت فيها الملكية المشتركة إلى ملكية خاصة، خاصةً حيثما تكون قيم الأراضي مرتفعة. أدى هذا إلى تحويل الأراضي الرعوية ذات التنوع البيولوجي نحو استخدامات زراعية وصناعية وحضرية. تتجه الحوافز التخطيطية، والسياسات، والقوى الاقتصادية نحو تحولات اجتماعية بيئية غير مستدامة وربما لا يمكن التراجع عنها. سيحتاج التعايش المستدام المستمر بين الناس والطبيعة في مناطق السافانا الأفريقية إلى مجموعة من التدخلات المالية والسياسية والمتعلقة بالحوكمة.
التوفيق بين القيم العالمية والمحلية
من التحديات الأساسية لحفظ التنوع البيولوجي حماية الأنواع التي تكون عالية القيمة عالميًّا لكنها زهيدة القيمة أو بلا قيمة محليًّا. هذا ينطبق تحديدًا على الحيوانات الكبيرة، مثل الفيلة التي تدهس محاصيل الذرة في حركتها أو الحيوانات آكلة اللحوم التي تقتل الأغنام، فتسبب أكبر خسارة لأفقر الناس. هذه الأنواع الجذابة لها «قيمة وجودية» عالية في العالم المتقدم، وتولد قيمة سوقية عالية عالميًّا من ناحية السياحة الفوتوغرافية، والصيد الرياضي، وتذاكر دخول حدائق الحيوان. لكن هذا نادرًا ما ينعكس على المستوى المحلي، حيث يمكن أن تتكبد المجتمعات المتعايشة مع هذه الحيوانات خسائر متنوعة كبيرة.
في تطبيق مبتكر لاقتصاد السعادة، قاد كيم جاكوبسن فريقًا لإجراء دراسة استقصائية على الأشخاص المعايشين للأسود في زيمبابوي. كانت العوامل غير الملموسة (مثل الخوف والقيم المتمحورة حول البيئة) مهمة بقدر العوامل الملموسة (مثل خسائر الماشية)، إن لم تكن أكثر أهمية، لفهم التوجهات. علاوة على ذلك، تبين أن المتغيرات الاجتماعية-الاقتصادية، التي غالبًا ما تكون محور البحث في الصراع بين البشر والحياة البرية والتي تبدو مهمة عند دراستها بشكل منفصل، لم تكن ذات أهمية عندما كشفت التقنيات الإحصائية تأثير المتغيرات المتعلقة بالمعتقدات والتصورات والتجارب السابقة. فلا عجب أن خسارة الماشية بسبب الأسود كان لها تأثير سلبي على السعادة، وكانت القيمة الاقتصادية لهذا الضرر مكافئة ﻟ ٥٨٠٠ دولار أمريكي سنويًّا للشخص الواحد. هذا المبلغ يتجاوز بكثير قدرة معظم برامج التنمية على تعويض المجتمعات ماليًّا. علاوة على ذلك، كان للخوف من الأسود تأثير على الرفاهة، يكافئ في حجمه تأثير خسارة الماشية بسبب الأسود. كذلك من الممكن أن ينطوي التعايش مع الحيوانات الكبيرة آكلة اللحوم على تكاليف وخسائر كبيرة غير مباشرة. منها الوقت والمال المخصص لرعي الماشية وحراستها والسيطرة على الحيوانات المفترسة. قد لا تكون العواقب المتتالية واضحة من وجهة نظر دول الرفاهة الاجتماعية الناعمة بالراحة في شمال العالم؛ فمن الممكن أن يستهلك الوقت المطلوب لحماية الماشية الوقت المتاح لحضور المدرسة، في حين أن المال الذي ضاع بسبب افتراس الماشية كان يمكن لولا ذلك أن تُسدَّد به مصروفات المدرسة، مما يزيد من توريث الفقر بين الأجيال. يمكن أن تكون الخسارة الأكبر في أرواح البشر؛ ففي حين أن التماسيح وأفراس النهر والفيلة هي المسئولة عن أغلب الوفيات (عادةً ما تتسبب في ١٠٠٠ و٥٠٠ و١٠٠ وفاة على الترتيب سنويًّا)، فإنه في تنزانيا، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد حوالي ٥٠٠ دولار أمريكي، قتلت الأسود ٥٦٣ شخصًا بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٠٥.
على الرغم من أن الحيوانات الكبيرة الجذابة، والطيور بالطبع، يمكن أن تولد إيرادات كبيرة، فإنه في الدول النامية يتحول تدفق الإيرادات المخزي إلى الدول الغنية والنخب المحلية، مما يقلل من الحافز للحفاظ على التنوع البيولوجي على أرض الواقع. أدى هذا الارتفاع للتكلفة مقارنة بالفائدة على المستوى المحلي إلى قتل الدجاج الذي كان يحتمل أن يبيض ذهبًا؛ إذ يُسمَّم العشرات من الفيلة كل عام في مزارع زيت النخيل في إندونيسيا ويقتل أصحاب المزارع والأراضي في أمريكا الجنوبية اليغاور التي يرونها خطرًا على ماشيتهم. إن الحاجة الملحة لتدارك هذه النكبة المزدوجة — فقدان الحياة البرية وفقدان الإيرادات— يؤكدها أن جزءًا كبيرًا من النطاق المتبقي للحيوانات الكبيرة المهددة بالانقراض موجود على أرض يهيمن عليها الإنسان. يقع أكثر من ٨٠ في المائة مما تبقى من موائل نمور خارج المحميات؛ أكثر من ٩٠ في المائة في حالة اليغاور والفهود الثلجية. الحل الأمثل هو تحويل القيم العالمية المرتفعة للحيوانات الكبيرة آكلة اللحوم إلى حوافز مقابل الحفاظ عليها على نطاق محلي، مع تمكين السكان المحليين من الهروب من براثن الفقر القائمة. غالبًا ما تتولى جهتان حكوميتان مختلفتان مجالَي التنمية والتنوع البيولوجي، وحينما تلتقيان يبدو واضحًا من تجاورهما في عبارة «الحفاظ على التنوع البيولوجي بقيادة التنمية» لأيهما اليد الطولى. يكمن التحدي في ابتكار تنمية يقودها الحفاظ على التنوع البيولوجي. في هذا الصدد هناك وسيلة حظيت بالاحترام على مستوى العالم وهي مبادرة داروين، التي أعلنتها الحكومة البريطانية في قمة الأرض في ريو عام ١٩٩٢، وتدعم الدول النامية للحفاظ على التنوع البيولوجي والحد من الفقر من خلال تقديم منح للمشاريع لمساعدتها على تحقيق أهدافها بموجب اتفاقية التنوع البيولوجي واتفاقية الاتجار الدولي في أنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض.
يعمل مشروع لوانجوا للغابات المجتمعية ومشروع خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها والحفاظ على التنوع في وادي الزامبيزي السفلي على أكثر من مليون هكتار من الغابات المهددة في ١٣ مشيخة، ويربطان بين خمسة متنزهات وطنية. ترتب على هذا إقامة ممر حيوي للحياة البرية، مع تحول في معيشة ٢٢٥ ألف شخص في ٣٧٠٠٠ أسرة من خلال الإيرادات من رسوم الكربون في الغابات بموجب نموذج الأمم المتحدة لآلية خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها بالإضافة إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي. داخل إطار العمل هذا، يعالج مشروع «كربون الأسود» التهديدات المزدوجة الناجمة عن فقدان التنوع البيولوجي وتغير المناخ. ويحقق هذا من خلال إضافة أنشطة الحفاظ على الحياة البرية إلى الإدارة المستدامة للغابات، وإنشاء برنامج ائتمان ممتاز لكربون الغابات تابع للآلية الشاملة لخفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها، ومن هنا جاءت التسمية: كربون الأُسود. يشجع مشروع كربون الأُسود على الحفاظ على التنوع البيولوجي، ويقدم تخطيطًا لإدارة الأراضي ودعمًا لمكافحة الصيد غير القانوني، بجانب تدابير تجنب إزالة الغابات الخاصة بالآلية الشاملة لخفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها، ويحفز تطوير سبل بديلة لكسب الرزق. تدعم مبيعات ائتمان كربون الأُسود أنشطة التخفيف من الصراع بين الإنسان والحياة البرية والفوائد المجتمعية المرتبطة بالوجود المؤكد للحيوانات آكلة اللحوم وفرائسها: بحلول عام ٢٠٢٢، كان هناك زيادة كبيرة في تواجد الأسود والفهود والفيلة، وكان المشروع ناجحًا لدرجة أن جميع الائتمانات المتاحة قد بيعت. في الواقع كلنا مستهلكون، وقد كشفت معاينة أوكسفورد لعام ٢٠٢٢ للتأثيرات على التنوع البيولوجي أن أكبر تأثير كان الناجم عن استخدام الموارد والنفايات في المراحل الأولى من سلاسل التوريد، ويرجح أن يكون هذا منطبقًا على العديد من الأفراد أيضًا، وهو ما يجعل الخيار العملي الوحيد هو تعويض التنوع البيولوجي، وهي مهمة جسيمة بقدر ما هي إضافية بحق.
الآليات المالية لإعادة تنسيق القيم الاقتصادية العالمية والمحلية
من الأمثلة الكلاسيكية على «إخفاق السوق» أن يُستنزَف موردٌ ذو قيمة عالمية بسبب عدم وجود حوافز اقتصادية كافية للحفاظ عليه محليًّا. الحل هو «مدفوعات لتشجيع التعايش»، وتتضمن ثلاث خطوات: أن تُسنَد قيمة خارجية عالية لوجود الأنواع، تُترجم إلى مدفوعات محلية لأولئك الذين يتأثرون سلبًا بوجودها لتشجيع التعايش بين الإنسان والحياة البرية. هناك سؤالان يحددان ما إذا كان يمكن للمدفوعات لتشجيع التعايش أن تفيد كلًّا من الناس والحياة البرية: هل هناك تهديد للحياة البرية من المرجح أن تخفف منه المدفوعات لتشجيع التعايش، وهل من المرجح أن يمكن لتطبيق نظام المدفوعات لتشجيع التعايش على نطاق أن يضمن الحفاظ على الأنواع المستهدفة فيه؟ وُضعت ثلاثة أساليب مهمة، خاصةً للحيوانات آكلة اللحوم: خطط التعويض والتأمين، ومبادرات تقاسم الإيرادات، والمدفوعات مقابل الحفاظ على التنوع البيولوجي.
-
(١)
خطط التعويض والتأمين: بعد التحقق من التكاليف الاقتصادية المبالغ فيها غالبًا للتعايش، يمكن لإحدى الجهات — ربما المجتمع الدولي — أن تعوض التكاليف المتكبدة عن طريق دفع تعويضات مباشرة للأفراد المتضررين. المرجو أن يقلل ذلك من المعاناة، بالإضافة إلى العداء تجاه الأنواع التي تسبب المتاعب، ومن قتلها بدافع الانتقام (مثل أن يُحقَّق في كل حادثة من حوادث الاشتباه في افتراس النمور للماشية، وعند التأكد منها، يُدفَع تعويضٌ مباشر للمربي). كانت أول تجربة لي مع التعويض في السبعينيات، عندما عوضت الحكومة الإيطالية الرعاة عن الأغنام التي قتلتها الذئاب القليلة التي كانت تعيش حينها في جبال أبروتسو. وقد كشفت لي هذه التجربة بشكل لا يُنسى عن نقطة ضعف رئيسية: بالإضافة إلى استعصاء تحديد الخسارة، يمكن للناس أن يتصيدوا التعويضات ويمكن أن يتفننوا في طلب التعويضات بالاحتيال. في الحالة الإيطالية، كان على فريقنا، بقيادة لويجي بويتاني — ولديه الآن دور بارز في استعادة الحيوانات آكلة اللحوم الأوروبية — أن يفحص الأغنام الميتة للتحقق مما إذا كانت الذئاب هي التي قتلتها، أو ما إذا كانت أغنامًا ضعيفة أطلق عليها الرعاة كلابهم للمطالبة كذبًا بتعويض.
من الممكن حتى لعدد قليل من الأشخاص العدوانيين أن يحد جذريًّا من فرص بقاء مجموعة معينة من الحيوانات اللاحمة المهددة بالانقراض. لذلك فإن استرضاء مربي ماشية في غاية الحنق من الممكن أن يؤثر تأثيرًا كبيرًا. وكذلك قد يكون الحال مع مراقبة الأشخاص عديمي الضمير؛ فقد اكتشفنا في برنامج للتعويض عن أضرار الأسود في مكاديكادي، في بوتسوانا، أن عددًا قليلًا من الأفراد الناشزين الذين يستخدمون السم والفخاخ يمكن أن يفسدوا كل جهود برنامج الحفاظ على التنوع. يمكن أيضًا أن ينتج عن التعويضات دوافع فاسدة، فيقل الحافز لحماية الماشية، بل قد يصل الأمر لزيادة الخسائر وتفاقم النزاع. ومن الممكن أن تؤدي التعويضات المنخفضة على افتراس الماشية إلى أن يزيد الناس من أعداد ماشيتهم، مما يكثف الرعي، فيؤدي إلى انخفاض أعداد الفرائس البرية، فيتصاعد الصراع بين الحيوانات اللاحمة والبشر. وفي حال عدم دفع التعويضات، وهو ما يتعارض مع شعور بالاستحقاق ربما أوجده برنامج التعويض نفسه، فمن الممكن أن يثير ذلك مشاعر الغضب وانعدام الثقة، ويؤدي في النهاية إلى الانتقام.
يجب أن ترتبط الحوكمة الرشيدة وإدارة الماشية بالتعويض. بالتوازي مع برنامج التعويض الوطني في نيبال، للحد من الصراع بين البشر والقطط الكبيرة وتخفيف الفقر، انشغل مشروع «العيش مع النمور» بثمانية مجتمعات في المناطق الحدودية لمتنزهَي بارديا وتشيتوان الوطنيَّين في نيبال، وفقًا للنموذج المفاهيمي المتكامل والشامل للشكل رقم ٩-٣.كان القرويون الأشد فقرًا ذوو العائلات الكبيرة والتعليم المحدود يغامرون بدخول الغابة لجمع مواد يستخدمونها وقودًا ولتسقيف بيوتهم ولرعي الماشية، معرضين أنفسهم لخطر مواجهة نمر أو فهد؛ فتعرض ١٢٫٥ في المائة من الأُسر التي تمتلك ماشية لافتراسها. سعى برنامج «العيش مع النمور» لتعزيز التعايش عن طريق تقليل افتراس الحيوانات للماشية وإلغاء الحاجة إلى دخول الغابات. استفاد أكثر من ٤٠٠٠ شخص من المشروع وأظهرت المقارنة أنه في المجتمعات التي تدخل فيها الفريق، انخفض افتراس الحيوانات للماشية، وزادت الحظائر المحصنة ضد المفتَرِسات، كما زاد متوسط دخل الأسرة بنسبة ٢٥ في المائة، بالتوازي مع الوعي والمواقف الإيجابية والتسامح تجاه القطط الكبيرة.
تتطلب خطط التأمين من المشتركين دفع الأقساط (مما يقلل الاعتماد على التمويل الخارجي في الوضع الأمثل). كما هو الحال مع التعويض، غالبًا ما يشعر أصحاب المطالبات بالاستياء من أن المدفوعات غير كافية لتغطية التكاليف المباشرة أو الإضافية للتعايش (بما في ذلك التكاليف المباشرة والخسائر المترتبة على الحراسة، والتعاسة، والخوف).
عادةً ما تكون النتائج أفضل حينما تكون الأسر أكثر اعتمادًا على مواردها الطبيعية وماشيتها: رُبطَ برنامج للتعويضات في مزرعة مبيريكاني الجماعية في كينيا بانخفاض قتل الأسود، وفي الهند، وفرت خطة مجتمعية للتأمين والحوافز الحماية للفهود الثلجية وفرائسها. ومع ذلك ففي ولاية ويسكنسن في الولايات المتحدة لم يكن هناك فرق في درجة التسامح مع الذئاب بين من تلقوا تعويضات على الخسائر التي سببتها لهم أو من لم يحصلوا على تعويضات. يتخيل دعاة الحفاظ على التنوع البيولوجي بسذاجة أنه كلما أحاط الناس علمًا بنوع بري معين، زاد تقديرهم له؛ لكن على الرغم من معرفة أصحاب المزارع الكبيرة حول متنزه يلوستون بالذئاب، كان أغلبهم يكرهها.
-
(٢)
مبادرات تقاسم الإيرادات: يمكن أن تعوض إيرادات الحياة البرية (المكتسبة عن طريق سياحة التقاط الصور أو الصيد مثلًا) مجتمعًا ما عن خسائر تعايشه مع الأحياء البرية، إذا وصلت إلى أفراده. ازدادت أعداد الأسود في المحميات المجتمعية في ناميبيا حيث يحتفظ أصحاب الشأن المحليون بجميع الإيرادات الناتجة عن استخدام الحياة البرية. وبالمثل، صارت مشاعر ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان المحليين في أوغندا أكثر إيجابية نحو ثلاثة متنزهات وطنية، وهو متوقع، إذ تقاسموا إيرادات السياحة مستثمرين أكثر من ٨٠٠٠٠ دولار في المدارس والعيادات والبنية التحتية. في أغلب الأحيان تُصادر الأموال قبل أن تصل إلى الأشخاص الذين يتحملون التكاليف. حول الحوض الملحي لماكاديكادي في بوتسوانا، تحملت مزارع صغيرة للماشية بالقرب من حدود المتنزه تكاليف هجمات الأسود، بينما استثمرت الحكومة إيرادات السياحة في مستشفيات بعيدة. هكذا لم يَعُد رعاة الماشية متحمسين لتحسين رعاية الماشية، وبدلًا من ذلك أشاروا إلى تفضيلهم قتل الأسود.
إن زيادة الجدوى الاقتصادية من العيش بجوار منطقة محمية يمكن أن يشجع على الهجرة إليها، مما يزيد من المنافسة على أراضي الرعي، والاستيطان، وتحويل الأراضي في المناطق الغنية بالحياة البرية، ويعزز من الوقوع في براثن الفقر وتدهور التنوع البيولوجي. قد توفر المناطق المحمية، التي كانت حصون الحفاظ على التنوع في القرنين التاسع عشر والعشرين، فرصًا للمجتمعات المجاورة لها، لكنها قد تقيد أيضًا خيارات استخدامها الأراضي فيما يسمى بضغينة واضحة: «البدائية القسرية». تحملت الأسر المجاورة لمتنزه مانتاديا الوطني في مدغشقر خسائر قدرها ٤١٩ دولارًا، توازي نصف الدخل السنوي للفرد، بسبب فرض قيود على استغلالها للأراضي الزراعية.
رغم أن تقاسم الإيرادات المكتسبة من الحياة البرية قد يخفف من حدة براثن الفقر المحلية، فليس هناك أدلة كافية على أنه يوفر مخرجًا من الفقر المزمن أو أنه يعزز كثيرًا التنوع البيولوجي (إلا في المناطق التي تكون فيها سياحة التصوير عالية الأرباح: في محميات ماساي مارا يصل للأسر من السياحة مباشرةً أكثر من سبعة ملايين دولار أمريكي سنويًّا، وهو أكثر من ٥٠ في المائة من دخل الأسر السنوي).
-
(٣)
مدفوعات مقابل الحفاظ على التنوع البيولوجي: لا يستفيد التنوع البيولوجي حتمًا من التعويض أو تقاسم الإيرادات فوائد قابلة للقياس، أما مدفوعات خدمات النظام البيئي فهي مرتبطة بالنتائج المرغوبة. يتقاضى مربو الماشية المكسيكيون ما بين ٥٠ و٣٠٠ دولار إذا سجلت كاميرات الرصد على أراضيهم وجود يغور، أو كوجر، أو أصلوت، أو وشق كميت. في بعض الأحيان يُستخدم مؤشر: في نيبال، المدفوعات مرهونة بألا يقتل القرويون الفهود الثلجية ويُكافَئون على النهوض بالموائل ووفرة وعل البهارال، وهو من الفرائس المهمة للفهود الثلجية. في عام ١٩٩٦، بدأت الحكومة السويدية تطبيق نظام مدفوعات خدمات النظام البيئي للحصول على أعداد مستقرة من الذئاب، والوشق، والشَّرِه، والحفاظ عليها، خصوصًا في أراضي الرعي للشعب الصامي؛ الآن تجاوز العدد المعتمد لصغار الشَّرِه في منطقة حيوانات الرنة الهدف الذي يبلغ ٩٠ في السنة. ومع ذلك فإنه لا يبدو أنه يوجد من الناحية الثقافية مبلغ كافٍ لإقناع المزارعين السويديين بتقبل أي ذئاب. إن دفع الأموال للتحسينات مع الاستناد لخط أساس هو أمر يسير، لكن دفع الحوافز للحفاظ على التنوع صعب لأنه من الصعب قياس معيار الإضافة، أي التحسن مقابل ما كان سيحدث لولا هذه المدفوعات. تُسمى الآليات التي تجتذب مقدمي العطاءات، الذين قد يبدون موفرين من الناحية التنافسية لكنهم لا يقدمون الإضافة، «الاختيار السلبي» في الاقتصاد.
من أفضل الأمثلة على أنظمة مدفوعات خدمات النظام البيئي تلك التي تقلل الصراع عن طريق تخصيص المدفوعات لأولئك المتأثرين مباشرةً بالحياة البرية؛ التي تقلل من التكاليف المباشرة للتعايش بين الإنسان والحياة البرية؛ وتوفر للسكان المحليين دخلًا إضافيًّا مرتبطًا مباشرةً بالحياة البرية؛ وتتجنب المخاطر الأخلاقية والحوافز ذات الأثر العكسي؛ ولا تتطلب إيرادات خارجية إضافية كبيرة؛ وتربط تحديدًا بين المدفوعات ونتائج الحفاظ على التنوع المرغوبة؛ والتي من المرجح أن يكون لها تأثير إيجابي على فقر البشر. العالم المثالي للتعايش هو الوضع الذي يتلقى فيه السكان المحليون فوائد ملموسة ومتناسبة وموزعة بالعدل من الحياة البرية تتجاوز جميع الخسائر المتنوعة.
تلقى المزارعون البريطانيون ٧٠٠ مليون جنيه إسترليني من مدفوعات الركيزة الثانية في عام ٢٠١٨ لتقديم فوائد بيئية بموجب سياسة الاتحاد الأوروبي المشتركة للزراعة. بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سعت الحكومة إلى إيجاد آليات مبتكرة لتحقيق هذا بشكل أفضل، وهو ما تجلى ببراعة في المزاد العكسي للحفاظ على طائر القمري الذي انخفضت أعداده بنسبة ٩٨ في المائة منذ عام ١٩٧٠، وتناقصت ثلثًا آخر بعد ذلك. المزاد مشابه للمزادات المستخدمة لبيع الطيف اللاسلكي لشركات الاتصالات، حيث سمح للمزارعين بالمنافسة علنًا على عقود لتوفير حتى اثنين من الموارد الأساسية (بذور للغذاء، ماء للشرب) مع التعهد بعدم قطع سياجات الشجيرات التي تعشش فيها الطيور. يحتاج القمري للثلاثة جميعًا، موزعة في قطع ممتازة من الأراضي على أصغر مساحة، لكن قد يكون الأفضل أن يوفرها أكثر من مزارع واحد ليصل مؤشر سعادة القمري لأعلى مستوى (سُمي المؤشر اختصارًا «تا دا»). نُفذ النظام تجريبيًّا ﺑ ٧٢٠ ألف جنيه إسترليني من مدفوعات خدمات النظام البيئي الحكومية، فاجتذب ٦٣ مقدمًا للعطاءات في مقاطعتين. المفهوم الاقتصادي لأصغر مساحة تتجاور فيها أفضل توليفة من الموارد الضرورية يذكرني على نحو سار بمفهوم بيئي، «فرضية توزيع الموارد» التي طرحتُها لأول مرة عام ١٩٨٣، ويصف كيف تحل الحيوانات نفس المشكلة بالضبط عند تحديد مناطق معيشتها.
يمكن لأصحاب المصلحة تقديم مدفوعات الحفاظ على التنوع البيولوجي، بدلًا من أن تأتي من مصادر خارجية. يقال إن الحيوانات المفترسة تكلف مزارعي جنوب أفريقيا من ٢٢ إلى ١٧١ مليون دولار سنويًّا؛ لذا فإنهم يداومون على قتل الثعالب والوشق الأفريقي والفهود بشكل روتيني، ومعها عرضًا في ميتات شنيعة حيوانات تتراوح من الثعلب الخفاشي الأذنَين إلى ذئب الأرض وحتى الفهد الصياد. قيَّم حساب للربح والخسارة للتعايش مع الحيوانات المفترسة في كيب الشرقية في جنوب أفريقيا مدى فعالية كل هذا الفتك بالحيوانات، بالمقارنة مع البدائل غير الفتاكة. كشفت مقارنة قَبْلية وبعدية في ١١ مزرعة لسنةٍ من السيطرة بالقتل تلتها سنتان من السيطرة دون قتل (استخدام كلاب للحراسة، وألبكة للحراسة، وأطواق واقية) عن أن الخسائر في كل من الماشية والمال قد تقلصت جذريًّا بحلول السنة الثانية، سواء من ناحية أعداد الماشية التي ماتت أو تكاليف عملية حمايتها (الشكل رقم ٩-٤).في الإطار الزمني للتجربة على الأقل، انخفضت تكاليف المزارع بنسبة ٧٤ في المائة عن طريق التبديل إلى الأساليب غير القاتلة. بالطبع، لا يزال يتعين على شخص ما دفع الفاتورة: هل لا بد من تحمُّل الخسائر المتبقية ببساطة، كجزء أساسي مألوف من الزراعة (مثل الطقس السيئ)، وهل يمكن لبذل مجهود أكبر (بتكلفة) أن يقلل من المشكلة المتبقية؟ قد يشتمل تدقيق كامل على مقارنة بين المنهجَين من حيث تأثيرهما على عدد كل نوع من أنواع الأحياء البرية ومعاناتها، والقيمة الثقافية لصيد الفهود لدى المزارعين كما فعل آباؤهم وأجدادهم قبلهم. يعود للمجتمع الأوسع أمر تحديد أي من هاتين الوسيلتين لها شرعية في الوقت الحالي.
الاقتصاد على نطاق أصغر
نماذج التمويل: أثار صيد الأسد سيسل بالقوس والسهم عام ٢٠١٥ الاهتمام بالحفاظ على الأسود، لكن كم سيتكلف، وكيف يمكن سداده؟ إدراكًا للإمكانية الشاملة للقطط الكبيرة، في عام ٢٠١٨ قدرت مجموعة منا أن حماية ١٫٢ مليون كيلومتر مربع من المناطق المحمية الأفريقية التي تشغلها الأسود ستكلف حوالي مليار دولار أمريكي في السنة، وهو ليس مبلغًا كبيرًا، في سياقات ميزانيات التنمية. من الآليات التي قد تضيف إلى التمويلات الحكومية والخيرية هي إيرادات استخدام الحيوانات الجذابة استخدامًا رمزيًّا في أسواق البلدان الثرية. الحيوانات الوطنية، وتمائم الفرق الرياضية، والأزياء هي ثلاثة مناطق بارزة للربح من استخدام الحيوانات رموزًا مما يوضح الأموال التي يمكن أن تنتج عن ابتكار حقوق امتياز للأنواع.
وفقًا للمجلس البريطاني لإنتاج البيض، يُستهلَك يوميًّا في بريطانيا ٣٤ مليون بيضة، مطبوع على ٨٥ في المائة منها ختم الأسد البريطاني للجودة. إذا تُرجم كل ختم أسد إلى ٠٫١ بنس لصالح الحفاظ على الأسود، فإن هذا سيدر ١٠٫٥ ملايين جنيه إسترليني في السنة. يستخدم الدوري الإنجليزي الممتاز شعار الأسد المتوج كعلامة تجارية لبضائعه؛ ومن شأن التبرع بجنيه واحد للحفاظ على الأسود عن كل قميص كرة قدم يُباع أن يجمع حوالي خمسة ملايين جنيه إسترليني في السنة. أما الأزياء، فهل يمكن أن تعكس طبعة الفهد في متاجر الملابس ولعًا بالقطط المرقَّطة يؤدي إلى المساهمة في تكاليف الحفاظ عليها؟ للأسف، حتى الآن العلاقة ضئيلة بين الاهتمام بطبعة الفهد والاهتمام بالفهود في البرية، أو حتى مجرد التفكير فيها، لكن في حال أمكن إنشاء هذا الرابط فستكون التوقعات هائلة: من صعب الوقوف على الأرقام المتعلقة بطبعة الفهد أو غيره من الحيوانات، ولكن بما أن صناعة الأزياء العالمية تساوي ثلاثة تريليونات دولار سنويًّا، فإن نسبة ضئيلة لحقوق الامتياز ستُحدث تحولًا في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي.
التغييرات الصغيرة في خدمات النظام البيئي: يمكن جزئيًّا حساب قيمة شكل ما من أشكال التنوع البيولوجي من استخدامه المباشر، مثال على ذلك، حسابات الربح والخسارة لاصطياد الأيل الأحمر أو مشاهدة القنادس في مناطق المرتفعات الاسكتلندية. قدر المسح الوطني لصيد الأسماك وصيد الحيوانات والترفيه المرتبط بالحياة البرية في الولايات المتحدة أنه في عام ١٩٩٦ اصطاد ٣٥ مليون شخص الأسماك، واصطاد ١٤ مليون شخص الحيوانات، واصطاد ٩٫٥ ملايين شخص أسماكًا وحيوانات، وشارك ٦٣ مليونًا في شكل من أشكال مشاهدة الحياة البرية؛ فكان إجمالي الإنفاق ١٠١ مليار دولار أمريكي، حوالي ١٫٤ في المائة من الاقتصاد الوطني. تتسم المنافع غير المرتبطة بالاستخدام بأنها أصعب في تحويلها إلى عائد مادي، لكنها هي العنصر الأهم في الحفاظ على معظم النباتات والحيوانات (من الاقتراحات الغريبة فرض ضريبة على المناظير ومعدات مشاهدة الطيور مثلها مثل البنادق والذخيرة، لتوسيع دائرة دعم الحياة البرية بالمال). نادرًا ما يكون تقديم خدمة متعلقة بالنظام البيئي، مثل الحفاظ على التنوع البيولوجي، متناسبًا طرديًّا مع مساحة الأرض المخصصة له؛ فهل مساحة هكتار من الأراضي الرطبة المخصصة للحفاظ على التنوع بنصف قيمة مساحة هكتارَين؟ تنقسم الفائدة الهامشية للوحدة الإضافية من الموئل لحيوان أو نبات لجزئين: زيادة مباشرة في كمية الموائل، وزيادة في احتمالية استمرار الجماعة السكانية على المساحة الموسعة من الأرض. مع وضع المفهوم الحاسم للقيمة الهامشية في الاعتبار، فإن تضمين مقياس للتأثير على استعداد الجماعة السكانية للبقاء يستوعب الواقع البيئي أن زيادة صغيرة في مساحة الموئل أو جودته يمكن أن تكون عالية القيمة إذا كانت تعزز بدرجة كبيرة احتمالية استمرار الجماعة السكانية. من ضروريات الحفاظ على فأر الماء وجود ضفاف أنهار مغطاة بالنباتات وحشائش بارزة، بينما كان متوسط قيمة متر من موئل فأر الماء في عام ٢٠٢٠ يساوي ١٢ جنيهًا إسترلينيًّا، فإن القيمة الهامشية للمتر قد تتراوح من صفر إلى ٤٠ جنيهًا إسترلينيًّا أو أكثر، حسب مساهمتها في استمرارية الجماعة السكانية.
يستفهم إد باربييه، في كتابه الصادر عام ٢٠٢٢ «الاقتصاد لكوكب هش»: «ما هي السياسات المطلوبة من أجل «فصل» تكوين الثروة والازدهار الاقتصادي عن التدهور البيئي، للحفاظ على نصيب الفرد من الرفاهية والحد من المخاطر البيئية في الوقت نفسه؟» ويواصل قائلًا: «يجب أن ننهي بخس الطبيعة قيمتها حتى تعكس مؤسساتنا وحوافزنا وابتكاراتنا الندرة المتزايدة للموارد البيئية والطبيعية.» سيكون من الصعب تلخيص معضلة «من يسدد النفقات وكيف» على نحو أكثر إيجازًا من ذلك.