كلمة في تقديم الطبعة الثانية
وصل إلى علمي — منذ ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب — مراجع كثيرة في موضوعه لم أكن قد اطلعت عليها، كما ظهرت في المكتبة الأوروبية مئات من كتب البحث والرحلة تزخر بالمعلومات الجديدة عن الشرق العربي القديم والحديث؛ لأن فترة ما بعد الحرب — كما هو معلوم — صرفت جهود الباحثين والمستطلعين في الغرب إلى تحقيق أحوال الأمم الشرقية التي برزت بعد الخفاء في ميادين السياسة الدولية.
وكانت أمم الشرق العربي في مقدمة الأمم التي انصرفت إليها جهود أولئك الباحثين والمستطلعين؛ إذ كانت في موقعها المتوسط بين القارات الثلاث قِبلة الأنظار، ومحور المقاصد، ومدار البحث في أصول التواريخ والعقائد، بل أصول الثقافة الأوروبية التي لا تعدو أن تئول إلى الديانات الكتابية أو ثقافة اليونان.
وأعود بعد المقابلة بين هذه المراجع الحديثة والمراجع التي اعتمدت عليها من قبل، فلا أرى اختلافًا في النتيجة، مع هذه الزيادة الضافية في المعلومات ومصادرها المتعددة.
فليس فيما وصل إلينا عن تاريخ الثقافة العربية شيء ينقض قواعد الفكرة الغالبة عن أثر حضارة العرب في التاريخ الأوروبي الحديث، وإنما تتجه هذه الزيادة إلى التوكيد والتثبيت، ولا تتجه إلى النقض والتغيير، فمن المراجع الأخيرة نعلم — مثلًا — أن أثر السلالة العربية أقدم جدًّا مما يظنه الكثيرون، وأنها توغل في القدم إلى ما قبل التاريخ، وقد يكون هذا الأثر نتيجة لهجرة العرب إلى القارة الأوروبية قبل هجرة القبائل الهندية الجرمانية إلى تلك القارة.
ويعزز هذا الرأي أن البلاد العربية كانت في تلك العصور القديمة أقدر على صناعة السفن، وأرقى عُدَّةً للملاحة في عرض البحار؛ لأنها كثيرة الغابات، موفورة المنابع التي يستخرج منها الطلاء واللحام.
ومن الباحثين اللغويين من يرجح نسبة بعض المواقع اليونانية إلى سلالة من العرب أسستها أو سكنتها في زمن مجهول، ومنها مدينة لاريسا (العريش)، ومدينة لسكرا (العسكر)، وجبل الفنديس (الفند)، وهو في العربية الجبل العظيم.
فالمراجع الحديثة تؤكد أثر العرب في القارة الأوروبية، وتعود به إلى أزمنة أقدم من تاريخه الذي كان مفروضًا قبل جيل أو جيلين.
وهذه المراجع الحديثة تزودنا في العصور التاريخية بالبراهين التي كانت تعوزنا لتقرير بعض الحقائق، والخروج بها من دائرة الظن والاستنتاج المعقول … فمنذ أربعين سنة كان المستشرق الإسباني بلاسيوس يظن أن الشاعر الإيطالي، دانتي أليجيري، قد استمد وصفه لمناظر الجحيم والأعراف والفردوس من الكتب الإسلامية التي تتكلم عن البعث وعن المعراج، وهو يشير إلى سبق أبي العلاء المعري إلى هذا الضرب من القصص في رسالة الغفران، ويبني ظنه على مجرد التشابه بين الأوصاف العربية والأوصاف التي ترددت في أناشيد الكوميدية الإلهية.
ولكن الدراسات الأخيرة تثبت وجود هذه الأوصاف العربية في المكتبة اللاتينية والإيطالية التي كانت متداولة في أيدي المثقفين من الإيطاليين في حياة دانتي، ويقول الدكتور محمد عوض محمد: إنه اطَّلع على هذه «الحلقة المفقودة» طبقًا لعنوان الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة والإيطالية.
… هذه الترجمة علمت كما هو منتظر في قصر الملك ألفونسو في إشبيلية، الذي كان يعد نفسه ملكًا مزدوجًا على المسلمين والنصارى على حد سواء. وفي حوالي عام ١٢٦٤م قام الطبيب اليهودي، إبراهيم الفقين، بترجمة قصة المعراج المتداولة بين الناس إلى لغة قشتالة، وهذه الترجمة فُقدت، غير أن العالم الإيطالي «بونا فنتورا» (١٢٢١–١٢٧٤) تولى ترجمة هذا النص الإسباني إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية.
ووُجدت نسخ من هذه الترجمة في أكسفورد وباريس والفاتيكان، وهذه النصوص نُشرت في وقت واحد بواسطة الأستاذ تشيرولي في إيطاليا، والأستاذ مونيوز في إسبانيا، وكلاهما لم يكتفِ بنشر هذا النص القديم الذي يرجع إلى عام ١٢٦٤؛ أي في العام السابق لميلاد دانتي، بل تحدث أيضًا عن أثره في كتاب دانتي.
وقد أورد الأستاذ جبرييلي أدلة عديدة تثبت أن هذه التراجم كانت متداولة وفي متناول الكتاب بوجه خاص، وأورد من جملة الأدلة قصيدة من مرتبة دون مرتبة دانتي بكثير، ولكنه معاصر له، ويشير فيها صراحة إلى محمد وقصة المعراج …
فالمراجع الحديثة التي تستقصي البحث عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية لم تُغيِّر شيئًا من قواعد الفكرة الغالبة التي شرحناها في هذا الكتاب، وإنما استحدثت في هذا البحث توكيدًا لها وأدلة عليها، ولا تزال تتجه كل عام إلى مزيد من التوكيد والتثبيت.
•••
أما الشق الآخر من هذا الكتاب — عن أثر الحضارة الأوروبية في العالم العربي الحديث — فهو من مسائل العيان التي لا تُلجِئُنا إلى تاريخ وراء ما نذكره ونشاهده يومًا بعد يوم.
إن العالم العربي يتقدم في الاستفادة من حضارة الغرب، ويخرج من محنة الخضوع السياسي للدول الغربية بكيان مستقل، وحياة ثقافية تُنسب إليه، وتوشك أن تسلك به مسلك المناظرة لأمم الغرب في ميادين الأدب والفن، ومسلك الاقتداء الناجح في ميادين العلم والصناعة … ومن الآمال الصادقة — لا من الأماني الحالمة — أن تكون مهمة الكاتب عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية وأثر الأوروبيين في حضارة العرب المحدثين مهمة الموازنة بين كفتين متقابلتين، قبل نهاية القرن العشرين.
ويعلم قارئ هذا الكتاب مَن نعنيهم باسم العرب في التاريخ القديم، فهم أولئك الأسلاف من المتكلمين بالعربية التي لم تكن في العالم عربية سواها قبل خمسة آلاف سنة. ويخلفهم اليوم بهذا الاسم جميع الناطقين بالضاد ممن يشتركون في تراث واحد، ويرتبطون بمصير واحد، كلما تميزت الأقوام بمصايرها في ميادين الفكر والعمل والاجتماع.
وصفوة القول في موقف العالم العربي اليوم أنه الموقف الذي يطيب فيه النظر إلى الغد، كما يطيب فيه النظر إلى الأمس، فلا يفرد فيه الفخر بالآباء دون الأمل في الأبناء.