الفنون الجميلة
فنَّان جميلان لم يكن لهما نصيب كبير في الحضارة العربية؛ وهما: التمثيل والتصوير بنوعيه، ونوعاه هما: الرسم والنحت؛ أي صنع التماثيل.
وشأن العرب في ذلك كشأن كثير من الأمم الشرقية أو الغربية، فإن التمثيل والتصوير لم يكونا في التاريخ القديم من الفنون الشائعة بين شعوب الحضارة، ولا بين البداوة من باب أولى.
وكان في أول عهده مقصورًا على الرقص والغناء، ثم أُضيف إليه ممثل واحد يشغل الوقت بين الرقصات والأغاني ببعض الألاعيب والتراتيل، ثم أُضيف إلى الممثل الواحد زميل فزميلان، وتعددت الأدوار في العرض الواحد تبعًا لهذه الزيادة وهذا التنويع، حتى نشأت الرواية المسرحية على وضعها المعروف عند قدماء الإغريق.
فالشعوب التي دخلت عباداتها الدينية الأولى من أمثال هذه الشعائر لم تخلق فيها فرصة لتطوير فن التمثيل على هذا المنوال، وربما كان في المجتمع العربي سبب آخر من الأسباب التي حالت دون تطور التمثيل من أصل اجتماعي غير أصول العبادات؛ فإن التمثيل بعض الفنون التي ترتبط بالحياة الاجتماعية أوثق ارتباط، ولا يعقل التمثيل في بيئة لم تتعدد فيها أدوار الحياة الاجتماعية على حسب اختلاف الأعمال والصناعات والمشارب والطبقات، فإنما يقوم التمثيل من الناحية الاجتماعية على التجاوب بين الأفراد والأسر كلما تعددت العلاقات، وتنوعت المطامع والنزعات، ولم يكن في مجتمع البداوة مجال كبير لهذا التجاوب الكثير بين أسرة وأسرة، وبين إنسان وإنسان، وما كان من ذاك قائمًا في حياتهم البدوية أو حياتهم الحضرية، فقد وجد الكفاية للتعبير عنه في القصائد والأغاني، وألعاب الفروسية، وضروب المساجلات والمفاخرات التي تتفق لهم من حين إلى حين.
أما التصوير فقد قيلت في تعليل نقصه عند العرب أقوال شتى لا تستند إلى رأي جدير بالإقناع، ومنها أن قلة التصوير من قلة الإحساس، أو قلة انطباع المحسوسات في النفس بتلك القوة التي تفيض عنها، فتلتمس لها مخرجًا بالتمثيل والتجسيم.
ولما قيل: إن التصوير لم يبلغ مداه من التوسع والارتقاء في الحضارة العربية لأسباب دينية، قال المتهمون للقريحة السامية: إن تحريم الصور والأنصاب إنما هو نتيجة لضيق الحظيرة، ونضوب الحس، وليس هو بالسبب الأصيل لإعراض العرب عن رسم الصور ونحت التماثيل.
قالوا: ولولا انقطاع التعاطف الحي بين العربي وبين الحيوان لما صدف عن تشبيه الأحياء وتصويرها في الأبنية والأوراق كما صنع أبناء الأمم الأخرى في الشرق القديم.
ولكن الصحيح الذي ينساه أصحاب هذه الأقاويل، أن الشعوب الأخرى لا تعرف تعاطفًا حيًّا بين الإنسان والخلائق الحية التي تلازمه أوثق ولا أكرم من التعاطف الذي كان بين العربي والجواد أو الناقة، أو كلب الصيد، أو ظباء الفلاة ومهاها وطيورها وسائر حيواناتها. وقلَّما نظم شاعر عربي في عهد البداوة قصيدة من الشعر إلا استهلها بوصف محبوب، أو وصف جمل أو ناقة وصف جواد كريم.
ولم يُشبِّه الشعراء في أمة من الأمم القديمة جمال الأحباب والحسان بجمال المها والظباء كما فعل شعراء العرب الأسبقون ومن اقتدى بهم من الشعراء اللاحقين، وهذا ولا شك إحساس نافذ قد وجد سبيله إلى التعبير بفن من الفنون الميسورة لأبناء الصحراء؛ إذ ليس التصوير وحده وسيلة للتعبير عن الإحساس، ولا سيما التعبير في بيئة بدوية تمتنع فيها أدوات التصوير.
ويجوز أن يُقال في هذا الصدد: إن الفرق بين العرب والأوروبيين في تطور النحت والتصوير إنما هو فرق بين تخطيط المسجد وتخطيط الكنيسة كما توحيه العقيدتان.
فلم يكن في هذا الإسلام محل للوسطاء بين الله والإنسان، وليس فيه من ثم محل لأسرار الكهانة ومحاريبها، ولا لتجسيم الإله والقديسين، وليس بالمنظور من العبادة الإسلامية — مع هذا الاعتقاد — أن تحتضن الفنون التي تزخرف المعابد بالصور والتماثيل، وليس أفعل في تشجيع الفنون من رعاية المعبد وغيرة العقيدة، وهما قد فعلا في ترقية فن البناء بين المسلمين ما فعلته الرغبة في تمجيد القديسين من ترقية النحت والتصوير بين الأوروبيين.
فالمسجد لا يحتضن الصور والتماثيل، فلم يتسع لها المجال في الحضارة الإسلامية كما اتسع لها في الأقطار الأوروبية.
ولكنه لا يمنع البناء الجميل والقباب الفاخرة، فكان هو أساسًا لفن العمارة العربية الذي ضارع أجمل فنون البناء في القديم والحديث.
وقد كانت للسليقة العربية — أو الشرقية — سمة خاصة فيه تدل على طابع مستقلٍّ عن الأساليب التي اقتبس منها العرب فنون البناء؛ فمن الخطأ أن يُقال: إن الأسلوب البيزنطي هو أساس المدرسة التي اتخذت البناء في الشرق على هذا الطراز؛ لأن الطراز البيزنطي نفسه نفحة من نفحات الشرق التي خالفت بينه وبين أساليب القارة الأوروبية من قوطية أو رومانية، ولولا هذه النفحة من روح الشرق لما حدث هذا الاختلاف بين بناء بيزنطة وبناء الجرمان أو الطليان.
ومما لا شك فيه أن العرب قد اعتمدوا على فنون البناء في الأمم التي سبقتهم إلى هذه الفنون، ومنهم الفرس والروم والمصريون، وأنهم قد استعانوا بالبنَّائين من القبط والأرمن في كثير من العمارات، ولكن الذي لا شك فيه كذلك أن اليد الصانعة لم تكن في الحقيقة إلا الأداة المعبرة عن الروح العربية التي لا تلتبس بغيرها.
فمن ذا الذي يتملى منظرًا من مناظر القصور العربية ويعزل بينه وبين رشاقة النخلة الهيفاء، وخفة الفرس الضامر، وهودج الحرم المكنون، وتناوب الحياة بين الفضاء والظلال؟ ومن ذا الذي ينظر إلى تلك الأقواس والنوافذ ولا يعقد الصلة بينها وبين الحافر تارة، والخف تارة أخرى؟ بل مَن ذا الذي يسمع المقابلة بين المصاريع والقوافي في الشعر العربي ولا يلمح المصدر الذهني الذي أوحى به ماثلًا في الأنساق والمقابلات، أو في المربعات المتقابلة كما ظهرت في أول بناء مقدس حج إليه العرب، وهو البيت الحرام؟
فالروح العربي قد أضفى مثاله على طراز البناء المنسوب إليه بغير مراء، فلا يرى الناظر عربية ثم يخطر له أنها من وحي أوروبا، أو وحي الصين، أو وحي فارس على تشابه الطُّرز في بعض الصفات.
ونحسب أن هذا الطابع الصراح هو الذي منع اقتباس الطراز العربي بتفصيلاته في الأقطار الأوروبية التي اتصلت بالحضارة الإسلامية؛ لأنه إما أن يكون طراز إقليم أو طراز مسجد، وكلاهما لا يُقتبس بتفصيلاته لاختلاف المناخ والعقيدة والمراسم الدينية.
ومن هذا اقتبس الأوروبيون ما وسعهم اقتباسه من طراز البناء العربي متفرقًا في القصور والقلاع والأماكن التي لا شأن لها بالعقائد والمراسم الدينية.
ولا أدل على مدى السلطان الفني الذي كان لمصنوعات العرب بين الأوروبيين من محاكاتهم لها بغير تصرف فيها دون أن يفهموا معناها، ومنها ما كان حروفًا مكتوبة ينقلها الصياغ وهم لا يحسنون قراءتها؛ لأنهم حرصوا على محاكاة الزخارف والمزركشات العربية كما رأوها على الأقمشة والمعادن والأخشاب المرصعة أو المنقوشة.
وقد ذكر الأستاذ توماس أرنولد في كتاب «تراث الإسلام» أنهم عثروا في أرلندة على صليب من مصنوعات القرن التاسع — على الأرجح — نُقشت البسملة على زجاجة في وسطه بالحروف الكوفية، واشتملت كنيسة بمدينة فلورنسة في منظر تتويج السيدة العذراء على أنسجة بين أيدي الملائكة منقوشة بالحروف العربية، ودخلت الأشكال الشرقية على هذا النحو في ظهارات الصور وبين المناظر المرسومة على الجدران، فكان لها نصيب من توجيه فن الرسم عند نهضته في القرون الوسطى.
على أن العرب لم يتجافوا الصور بتةً في عصور الجاهلية أو عصور الدولة الإسلامية؛ لأن أشعارهم حافلة بأوصاف الدُّمى والعرائس والتصاوير في الملابس والمباني والآنية، وحلى الزينة، وقصور الملوك والأمراء. وقد أشار النابغة إلى دُمى الرخام حين قال:
وأحصى البحَّاثة المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه القيم عن التصوير عند العرب مئات الأبيات التي تدل على انتشار الرسم والنحت، ومصنوعات هذين الفنين في المباني والمصوغات والمنسوجات التي يصنعها المسلمون، وأتى على أسماء كثير من مصوري العرب الذين فرغوا لنقش الرسوم أو نحت التماثيل من المعادن والأحجار.
وليس بنا في هذا الفصل أن نتوسع في الشواهد والأمثلة التي تدل على وجود الصور والمصورين في الحضارة العربية، فإنما يعنينا هنا أن العرب لم ينفردوا بالتخلف في فني التصوير والنحت بين أمم العصور القديمة، وأنهم لم يقصروا فيهما لنقص في الحاسة الفنية أو العواطف الحيوية، وقد كان ذوقهم الفني زمنًا من الأزمان قدوة للأوروبيين في مجال الفن الذي يعم القصور والبيوت والمصانع والأسواق، ولا ينحصر في دوائر الفن ومراسم ذويه.