الفلسفة والدين
من الآراء التي شاعت بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر أن الأمم الشرقية تطلب العلم للمنفعة، ولا تطلبه للمعرفة والمتعة العقلية، كما كان يطلبه الإغريق في الزمن القديم.
وآية ذلك عند أصحاب هذا الرأي أن المصريين والبابليين والفرس والهنود كانت لهم علوم يتدارسونها، ولكنها كانت كلها من قبيل الصناعات التي تنفعهم في البناء والزراعة، وعلاج الإنسان والحيوان، وأن الإغريق وحدهم الذين عرفوا العلم والفلسفة كلفًا بالبحث والنظر المجرد لغير منفعة مقصودة من منافع المعاش.
وهذا الرأي يروج بين الأوروبيين بغير تمحيص ولا مناقشة؛ لأنه يعجبهم ويُرضي غرورهم ومصلحتهم في وقت واحد: يُرضي غرورهم؛ لأنه يميزهم على الأمم الشرقية بأشرف المزايا الإنسانية، ويُرضي مصلحتهم؛ لأنه يسوغ لهم استعمار الشرق واستغلاله في عصر الاستعمار والاستغلال.
ولكن الطريف في الفكرة أنها هي نفسها ليست من الأفكار الفلسفية أو العلمية التي تخلو من المنفعة والتسليم بغير سبب معقول؛ فإن العقل المطبوع على الفلسفية والبحث المجرد لا يقبل أن يتركب العقل الإغريقي طبعًا وأصلًا على غير التركيب الذي استقر في السلالات البشرية الأخرى، ولا يستريح إلى هذا الحكم المعتسف بغير علة يرد إليها هذا الاختلاف العجيب في أصل التركيب.
والواقع أنه لا اختلاف هناك في أصل الطبيعة بين العقل البشري في الإغريق والعقل البشري في السلالات الشرقية التي ذكروها، وإنما يقع الاختلاف لأسباب موضوعية تجوز على الإغريق كما تجوز على المصريين والبابليين والعرب والفرس والهنود.
وإنما امتاز الإغريق بالبحوث الفلسفية في زمن من الأزمان لسبب واضح: هو أن هذه البحوث كانت مباحة عندهم؛ حيث كانت تمتنع على غيرهم من أبناء الدول الشرقية العريقة، وهي لم تكن مباحة لهم لمزية أصلية في طبيعة التركيب كما وهم القائلون بذلك الرأي المتعجل العسوف، ولكنها أبيحت لهم لأن بلادهم نشأت وتطورت دون أن ينشأ فيها ملك قوي وكهانة قوية، ولو قامت عندهم الدولة القوية والكهانة القوية كما قامت في مصر وبابل لكان شأنهم في أسرار الدين والمسائل الإلهية كشأن البابليين والمصريين.
فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تنشأ فيها الممالك الراسخة، وتنشأ مع الممالك كهانات قوية السلطان تستأثر بالبحث في أصول الأشياء، وحقائق التكوين، وتتولى شئون العلم والتعليم كأنها حق لها مقصور عليها لا يجوز الافتيات عليه، وإلا كان المفتئت كالمعتدي على نظام الدولة ومحراب العبادة، ومتى طال الأمد بهذه الكهانات جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر تمكَّن سلطانها، وتشعبت دعاواها، وتلبست معلوماتها بلباس الأسرار والطلاسم، وابتعدت شيئًا فشيئًا من نطاق البحث الحر إلى نطاق المحفوظات والمأثورات.
ولو نشأ لليونان دولة كهذه الدولة، وكهانات كهذه الكهانات؛ لما اجترءوا على التعرض لمسائل الخلق والخالق وطبائع الكون ومكوِّنه بين سواد الناس وجمهرة النظارة، ويسمعهم من شاء منهم بلا رقيب ولا حسيب.
إذا حدث للأوروبيين ما حدث في الشرق حين قامت في بلادهم الكهانات القوية، وبسطت سلطانها على التعليم ومعارض البحث في حقائق الدين، وأسرار الطبيعة، وقوانين الوجود، فبطلت الفلسفة والدراسات العلمية في القرون الوسطى، وحيل بين الناس وبينها إلا بإذن من رجال الدين في حدود النص المقررة كما كانوا يفهمونها، ويبيحون فهمها، واستطاعت الكهانة الأوروبية أن تفعل ذلك وهي حديثة العهد لم تبلغ من العراقة مبلغ الكهانة المصرية أو البابلية؛ إذ كانت تعد أعوامها بالعشرات أو المئات القليلة، وقد غبرت على الكهانات القديمة ألوف من الأعوام بعد ألوف.
على أن الإغريق لم يتحركوا للبحث في الأسرار الإلهية والعلوم الطبيعية إلا بهداية من أمم الكهانات التي سبقتهم إلى التدين وعبادة الخالق العظيم، يوم كانوا يجهلون قدرة الخالق، ولا يعرفون أنها صفة لإله العالم بأسره، كما عرفها الموحدون في ظل الإله الواحد العظيم.
كان في أرض الإغريق وفي جزيرة كريت أناس من السلالة الإغريقية التي تشملهم على اختلاف القبائل واللهجات، وكانت لهم حضارة يظهر من بقايا الحفر في مواضعها أنها ازدهرت قبل ميلاد المسيح بسبعة عشر قرنًا على أقل تقدير، فلم تكن لهم فلسفة، ولا نبغ بينهم حكماء متفلسفون في طوال تلك القرون، وإنما نبغ فلاسفتهم على الشواطئ الآسيوية أو الجزر القريبة منها بعد احتكاكهم بالأمم الشرقية ذوات الحضارة العريقة.
ولو لم يكن لعقائد الشرقيين وعلومهم فضل في تنبيه أذهان الإغريق إلى أصل الوجود وتقديرات الفكر الإنساني الأول لعلل الأشياء، لما كان هناك معنًى لظهور الفلاسفة الأولين على مقربة من تلك الحضارات، وليس بصحيح أن الإغريق قصدوا الفلسفة النظرية ابتداءً منذ أخذوا في البحث عن حقائق الأشياء؛ فإن فيثاغوراس كان يمزج الدين بالحكمة، ويُشرف على تنظيم الجماعات السرية التي تطمح إلى ولاية الحكومة.
وليس أدل على الصبغة الشرقية في الفلسفة الإغريقية الأولى من غلبة علم الفلك والرياضيات على رواد هذه الفلسفة الآسيويين، ومن غلبة الصبغة الدينية على فيثاغوراس وأكسينوفان والمريدين لهذين الحكيمين، ومن عدد السبعة الذي أطلق على الحكماء السبعة السابقين، ومنهم تاليس وصولون؛ فإن المعارف الفلكية تقدمت في بابل ومصر قبل أن يتناولها الإغريق بألوف السنين، والجماعات الدينية السرية انتقلت من بلاد الكهانات القديمة إلى آسيا الصغرى وما يليها. وليس هذا كله مما يفهم منه أن السليقة الإغريقية هي التي ابتكرت البحوث الفلسفية، أو كانت هذه الفلسفة ملازمة لها في جميع العصور.
على أن المصادر الشرقية — ومنها التوراة وأقوال المصريين والبابليين — ظاهرة في أقدم المذاهب الإغريقية، وهو مذهب طاليس الذي لا يخلو مذهب فلسفي بعده من بعض آرائه؛ فهو — كما قال الشهرستاني — يرى «أن للعالم مبدعًا لا تُدرك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يُدرك من جهة آثاره، وهو الذي لا يعرف اسمه فضلًا عن هويته إلا من نحو أفاعيله وإبداعه وتكوينه الأشياء؛ فلسنا ندرك له اسمًا من نحو ذاته، بل من نحو ذاتنا» … إلى أن يقول: «ونقل عنه أن المبتدع الأول هو الماء … والماء قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما، وهو علة كل مبدع وكل مركب في العنصر الجسمان، فذكر أن من جمود الماء تكوَّنت الأرض، ومن انحلاله تكوَّن الهواء، ومن صفوة الماء تكوَّنت النار، ومن الدخان تكوَّنت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكوَّنت الكواكب …»
قال الشهرستاني: «وفي التوراة في السفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان، فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال. وكان ثاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية …»
•••
أما حب العلم للعلم فشأن الإغريق فيه كشأن جميع الأمم والسلالات، وحسبك أنهم سموا علم الهندسة علم «قياس الأرض» بعد تقدمه وظهور تطبيقات له غير مساحة الأرض، وتقسيم المزارع والمروج. ولعل هذا مما يشير إلى الأصل الذي اقتبسوا منه معارفهم الهندسية؛ لأن المصريين كانوا يحتاجون إلى إعادة مسح الأرض بعد الفيضان، ولم تكن باليونان حاجة إلى المساحة والتقسيم كل عام.
وإنما جاء الفارق الظاهر في أسلوب الاشتغال بالعلوم من ضعف الكهانات في الأوطان الإغريقية، وقوتها في الأوطان الشرقية، فلما ابتدأ الإغريق بحوثهم مضوا فيها طلقاء من قيود الدولة والدين، وتيسر لهم ما تعذر على غيرهم لهذا الفارق العرضي، لا لفارق في تركيب العقول وعناصر التفكير.
وليس أصعب من إثبات السلالة الإغريقية الخالصة لجميع الفلاسفة الموزعين بين آسيا الصغرى وأرض يونان وجزر الأرخبيل وصقلية والإسكندرية وتراقية، وهي تشتمل على شتى الأجناس غير الإغريق.
ومن الواضح أن فيض البحوث الفلسفية عن الإغريق لم يكن ذلك الفيض الدافق العرم الذي يحطم القيود ويقتحم السدود؛ لأن سدًّا من أضعف السدود التي ابتليت بها الأمم الشرقية في تاريخها الطويل قد غيَّض ما فاض من قرائح اليونان في بضعة أجيال معدودات؛ فانقضى عصر الفلسفة اليونانية أمام صدمة مقدونية وأخرى رومانية، وعاش الإغريق بعد ذلك في بلادهم دون أن يظهر منهم فيلسوف واحد إلى هذه الأيام.
فلا جرم تفعل الحواجز والقيود التي استلزمتها طبيعة تكوين الدولة في الأمم الشرقية مثل ما فعلته في اليونان خلال عصور الجمود والإقفار. ولا حاجة بنا إلى تفسير آخر غير هذا التفسير نغوص فيه على أصول التركيب التي لا تقبل التعليل بعلة من علل الفلسفة، أو علل الدراسة العلمية، فإنما هي عوارض من أثر البيئة والتاريخ أصابت الساميين بأسبابها المعروفة، كما أصابت الفرس والهنود أيضًا وهم غير ساميين، ثم أصابت الإغريق والأوروبيين أيضًا دهورًا طوالًا تحت سلطان الدول والكهانات، فكانوا أضيق بالبحث العلمي صدرًا من شعوب الشرق جمعاء، وحسبنا من ذاك محاكم التفتيش وعقوبات الإحراق والحرمان.
ولم تكن للعرب في الجاهلية دولة قوية كالدول التي قامت بين النهرين أو على ضفاف النيل، ولكنهم عاشوا عيشة البدو الرحل في طلب الكلأ والماء، أو عيشة البدو الرحل في تجارة القوافل بين الصيف والشتاء، وأحوجتهم مطالب المعاش إلى الغزو والدفاع بغير هوادة ولا انقطاع. وما من أمة سامية أو غير سامية تقضي أيامها في أمثال هذه الشواغل ثم يتسع لها المقام لدرس الفلسفة وتحصيل المعارف النظرية التي يعين عليها الأمان والاستقرار …
ومن ضروب التجني التي لا تُحمد من العلماء أن يُقال: إن العقل العربي لن يستطيع التفلسف بحال من الأحوال؛ لأن الفارابي وابن سينا مثلًا كانا من سلالة فارسية على أشهر الأقوال، ولم يكونا من سلالة عربية أو سامية، كأنما كانت للفرس قبل ذلك فلسفة فارسية، أو كان لهم عذر كعذر العرب في هجر البحوث الفلسفية طوال العهود التي مرت بهم في الحضارة والعمران.
وإنما الرأي السليم الذي يقبله المنطق والعلم على السواء أن موانع الفلسفة واحدة؛ حيث كانت الأمة من مواقع الأرض، وكيفما كانت السلالة من عناصر الأجناس والأقوام؛ فالإغريق في موضع العرب لا يتفلسفون، والعرب في موضع الإغريق لا يحجمون عن الفلسفة ودراسة العلوم.
على أن يعقوب الكندي عربي أصيل لم يُعرف له نسب دخيل، وفلاسفة الأندلس كانوا من العرب ولم يكونوا من الفرس أو الأوروبيين، أو كانت عروبتهم كالإغريقية التي ينتمي إليها سكان تراقية وجزر الأرخبيل وكريت وصقلية وآسيا الصغرى وجالياتهم بصور وصيدا ووادي النيل.
ولعل هؤلاء الفلاسفة الأندلسيين هم أحق الفلاسفة المسلمين بالتنويه بهم في معرض الكلام على توجه الأوروبيين إلى البحوث الفلسفية والدراسات المنطقية؛ فإن فلاسفة الشرق كالفارابي وابن سينا وغيرهما لم يذاعوا بين الطلاب الأوروبيين عامة إلا من هذا الطريق، وكان الفضل المباشر في تعريف الأوروبيين بهم لأمثال ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن زهر، وغيرهم ممن زاولوا الفلسفة والطب، أو زاولوا الطب على انفراد. أما قبل ذلك فقد كان العلم بهم مقصورًا على الخاصة والمتفرغين للاستبحار في العلوم.
والأوروبيون قد بدءوا بالاطلاع على فلسفة ابن سينا قبل أن يسمعوا بأسماء الفلاسفة الأندلسيين؛ لأن رايموند، أسقف طليطلة، أمر بترجمة بعض مؤلفاته إلى اللاتينية قبل منتصف القرن الثاني عشر للميلاد، ولم يكن هذا أول عهد المتفقهين من أبناء أوروبا العربية بالاطلاع على الثقافة العربية في حلقات الدرس بالجامعات الأندلسية؛ فمن تلاميذ هذه الثقافة قبل نهاية القرن العاشر رجل اشتهر بها، وعدَّه أبناء عصره من السحرة وأصحاب الخوارق لفرط ما أدهشهم من سعة علمه، ووفرة محصوله، وهو الكاهن جربارت، الذي عُرف باسم سلفستر الثاني حين ارتقى إلى عرش البابوية سنة تسعمائة وتسع وتسعين.
وجاء الفلاسفة الأندلسيون ففتحوا الباب على مصراعيه، وكان فقهاء المسيحية يبغضون أكبرهم وأشهرهم أبا الوليد بن رشد؛ لاتهامهم إياه بالنزعة المادية وإنكار خلود النفوس الفردية، لكنهم كانوا يستريحون إلى ابن باجة وابن طفيل؛ لأنهما يؤمنان بالإشراق والمعرفة التي تستلهم بالتأمل والرياضة.
وقد ظهرت توجيهات هذين الفيلسوفين المعتدلين في آراء القديس توما الأكويني وألبرت الكبير، ولم تخف مع ذلك توجيهات ابن سينا نفسه فيما كتبه ألبرت الكبير عن «المعرفة» على الخصوص، بل بقيت لابن رشد أيضًا توجيهاته القوية في مدارس الفلسفة الأوروبية قرونًا عدة بعد تحريم كتبه، وإشهار هذا الحرمان في العالم المسيحي كله، ولم يزل عزيز المكانة على المفكرين والمتفلسفين إلى عهد النهضة الفلسفية الحديثة بعد موته بعدة قرون.
•••
ويظن — والظن من الأوروبيين قبل الشرقيين — أن الفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي كان له أثر كبير في عقول النُّساك والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، فإنه نشأ في مدينة مرسية قبل ختام القرن الثاني عشر للميلاد، وانتقل من دراسة علوم الكلام ومذاهب الفلسفة إلى الرياضة الصوفية والإيمان بوحدة الوجود، وقد حببه إلى المسيحيين أنه وحَّد بين الأديان كما وحَّد بين حقائق الوجود، فقال:
وهو القائل:
ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين، وهو جوهان أكهارت الألماني، قد نشأ في القرن التالي لعصر ابن العربي، ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم. وأكهارت يقول كما يقول ابن العربي: إن الله هو الوجود الحق ولا موجود سواه، وإن الحقيقة الإلهية في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي مصيرها إلى الاتصال بالله، من طريق الرياضة والمعرفة والتسبيح، وإن صلة الروح بالله ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام.
ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة في مذاهب «سبينوزا» الذي نشأ في هولندة، وأصله من يهود البرتغال الذين أُكرهوا على التدين بالمسيحية؛ فقد كان كلامه عن الذات والصفات، وتجلي الخالق في مخلوقاته، وتلقي الخلق نور المعرفة الصحيحة بالبصيرة والإلهام نسخةً من فلسفة المتصوفة المسلمين مع قليل من التحوير.
وإذا جاز أن يكون أكهارت وسبينوزا قد استقيا بعض هذه المعتقدات والآراء من الأفلوطينية الإسكندرية مباشرة، فليس مما يجوز فيه الشك أن الفيلسوف المتصوف الإسباني «رايموند لول» قد اقتبس من ابن عربي خاصة في كتابه أسماء الله الحسنى؛ لأنه كان يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي بقرن واحد، وجعل أسماء الله مائة، وهي لم تُعرف بهذا العدد في الديانة المسيحية قبل ذاك.
•••
وقد تراخى الزمن بين فلاسفة الدول الإسلامية والفلاسفة العصريين، وقلَّ من فلاسفة هذا العصر من اطَّلع على كُتُب فلاسفة الأندلس وفلاسفة الشرق الإسلامي كما يطلع على الفلسفة اليونانية القديمة في كتبها الأصيلة، ولكن الآراء الفلسفية التي قام بها أمثال الفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل لا تعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث؛ لأنها لم تخلُ من آراء تكلم فيها أساطين الفلسفة الإسلامية وعرضوا لها إما بالإسهاب أو بالإيجاز.
ودافيد هيوم يقول: إن حصول الأشياء في ترتيب معين مرة أو ألف مرة لا يستلزم أن يكون السابق منها علة للمسبوق وسببًا لوجوده. وهذا بتفصيله ما قد سبق إليه الغزالي حين قال في تهافت الفلاسفة: «إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرًّا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفوت، بل لتقدير، وفي المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون حز الرقبة، وإدامة الحياة مع حز الرقبة، وهلم جرًّا إلى جميع المقترنات.» ثم فصَّل القول في هذا على ثلاث مقامات من أدق ما كتب المفكرون في حقائق التعليل.
واتخاذ المصلحة قياسًا للحقيقة مذهب عرض له ابن رشد — قبل وليام جيمز — حين تكلم في ختام «تهافت التهافت» عن الشرائع وحقيقتها ولزومها، و«أن الجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدًا؛ إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة من الأعمال الخلقية والعملية … وأن الحكماء يرون في الشرائع هذا الرأي؛ أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة.
والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة؛ حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها، مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلوات تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى.
وإن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بها شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شُرط فيها من الطهارة ومن التروك؛ أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها، وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد منها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها».
وسبينوزا يقول بوحدة المادة والروح، وهذه هي الفلسفة التي شرحها قبله ابن جبيرول الأندلسي في كتابه ينبوع الحياة، وأقام الدليل عليها بوحدة العلة والمعلول في الطبيعة أو في بعض أجزائها، وإلا انتفى تأثير العقل في الجسد، أو تأثير الروح في المادة.
ومن المشابهات غير البعيدة أن الأقدمين يقولون بتلازم الزمان والمكان، وأينشتين يقول بأن الزمان هو البعد الرابع من أبعاد المكان.
ومنها ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور، وقد عبَّر عنه الفارابي حيث قال في آراء أهل المدينة الفاضلة مفسرًا لأقوال المعلم الأول: إن «ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولًا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات، ثم المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، وليس بعد الناطق أفضل منه.»
وقد توسع اللاحقون في القول بالتدرج نصًّا، والإشارة إلى بعض المشابهة بين القرد والإنسان، فقال ابن خلدون: «انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج، وآخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط.
ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إليه الفكر والروية بالفعل، وكان ذلك أول أفق الإنسان من بعده، وهذا غاية شهودنا.»
والمشهور عن ديكارت أنه إمام الفلسفة الأوروبية الحديثة، وهو مسبوق إلى ثلاث من أهم قضاياه الفلسفية فيما كتبه الغزالي وابن سينا على الخصوص؛ فإن الغزالي يقول بأن الشك أول مراتب اليقين، والشك هو مقدمة الفلسفة الديكارتية إلى البراهين اليقينية. وأول هذه البراهين اليقينية عند ديكارت هو قضيته التي يثبت بها الوجود فيقول: «أنا أفكر فأنا موجود.»
وهي بعينها قضية الإنسان المعلق بالفضاء كما عبر عنه ابن سينا حين تصدى لإثبات «الأنية»، أي وجود النفس بمعزل عن الموجودات الخارجية، فقال: إننا لو علَّقنا إنسانًا في الفضاء لا يتصل عضو منه بعضو، ولا تقع حاسة منه على موجود لشعر بأنيته، أو شعر بذاته، وتأتي بعد ذلك مسألة الموجودات وحاجتها بعد وجودها إلى النعمة الإلهية لدوام قوة الوجود فيها، فهي لا تكسب الإيجاد مرة واحدة، بل تكسبه على التجدد بنعمة فياضة من الله جل وعلا. وهذا هو مذهب ابن سينا وديكارت بلا اختلاف.
•••
ويخطئ من يرى أن كل ما تركه فلاسفة المسلمين قد نقلوه قبل ذلك بحرفه عن فلاسفة اليونان، فقد وُجِد من الفلاسفة الإسلاميين من تصرف واستقل برأيه، كما وُجِد منهم من وقف عند النقل والتفسير، وأكثرهم قد تلقوا مذاهب الأولين على أنها عمل قابل للتعديل، وليس على أنها قضية مُسلَّمة لا يأتيها الباطل بحال.
فالغزالي، مثلًا، كان على علم وثيق بأصول المنطق، وكان من أقدر المفكرين السابقين واللاحقين على مناقشة البراهين اليونانية بمثلها، أو بما يفوقها وضوحًا في بعض القضايا العقلية.
… ولا نبالي من مفارقة تظهر منها لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفًا عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألَّفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم …
وقد أخذ البيروني على أرسطو في أسئلة لابن سينا أنه يعتقد بآراء الأقدمين، «وأنه جعل أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك ووجودهم إياه على ما وجده عليه حجة قوية.»
وقال عن أرسطو: إنه يرى «أن الشكل البيضي والعدسي محتاجان في الحركة المستديرة إلى فراغ وموضع خالٍ، وأن الكرة لا تحتاج إلى الفلك، وليس الأمر كما ذكره»، فاستصوب ابن سينا انتقاده وذكر له أعذار المفسرين، ومنها ما رواه عن تامسطيوس في تفسيره لكتاب السماء؛ إذ يُوصي بأن يُحمل قول الفيلسوف على أحسن الوجوه.
وأشباه هذه المتناقضات كثيرة في كتب الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، فليس في أقوال الفلاسفة الكبار ما يسوغ رميهم بالنقل والتقيد بالمنقول، ولا نستثني منهم ابن رشد — وهو أشدهم إكبارًا لأرسطو — لأنه كان يتناول بعض ما ينتقل عنه ببعض التهذيب.
وهنا مجال لكلمة تقال ويتلاقى فيها النقيضان على خطأ واحد؛ فإن الذين يثبتون أخذ الإسلاميين عن اليونان هم كالذين ينكرون ذلك إذا اعتقدوا فيه غضاضة على الآخذين، كائنًا ما كان مقدار ما أخذوه، إذ لا يُطلب من أمة أن تبتدع ثقافة جديدة تنقطع عن جميع الثقافات الأولى، ولا يُعاب عليها أنها تحج إلى المعرفة حيثما وصلت إليها، وإنما يُعاب عليها أن تنطفئ شعلة الثقافة الإنسانية في يديها، وأن تنقطع عندها السلسلة التي اتصلت من مبدأ التاريخ الإنساني إلى أن بلغتها.
وأجمل ما يذكر بالثناء للفلاسفة الإسلاميين في هذا المقام أنهم نسبوا كل مقال إلى صاحبه، ولم يسكتوا عن الإشادة بفضله كلما عرفوه وحققوه، خلافًا لما جرى عليه الإغريق فيما أخذوه من علوم الحضارات الأولى، وأن الفلسفة لم تكن في العالم الإسلامي من عمل الحكماء دون غيرهم، بل كانت عملًا مشاعًا بين كثير من المتعلمين وأشباه المتعلمين. ومن أجل هذا دعت الحاجة إلى المناظرات في مجالس الخاصة، وكتابة الرسائل في المساجلات والردود مما لم يسبق له نظير بين اليونان معاصريهم في الزمن القديم.
•••
هذه الفلسفة — أو الفلسفة الصوفية على الخصوص — هي الطريق التي ظهر منها ما ظهر من آثار التفكير الجديد في العالم المسيحي، وفي العقائد الأوروبية على الإجمال.
وربما دلت على مصدر هذه الآثار نظرةٌ واحدةٌ في أرقام السنين التي ازدهر فيها اللاهوت المسيحي، ونجحت فيها دعوة الإصلاح الديني، واشتدت فيها الحملة على الرهبانية، وأعقبها ذلك الترخص المطرد في قيود النسك وقيود الزواج، فلم يحدث شيء من ذلك كله قبل احتكاك أوروبا بالحضارة العربية تارة في الأندلس، وتارة في أثناء الحروب الصليبية، ولبثت المشكلات العقلية والدينية وما يرتبط بها من المشكلات الاجتماعية كامنة في البلاد الأوروبية لا تتسع لها فسحة للظهور والتماس العلاج والتعديل.
فلما توالى الاحتكاك بين المجتمع العربي والمجتمع الأوروبي، وتوالى معه الاحتكاك بين العقول والعقائد، توالى كذلك ظهور الفهم الجديد والنزعة الجديدة إلى التفسير والإصلاح على النمط الأوروبي العتيق، وجاء الباحثون الأوروبيون بما يوافق الفلسفة العربية أحيانًا، ويخالفها أحيانًا أخرى، ولكن المخالفة لا تنفي مصدر التنبيه، ولا تدحض الباعث على التفكير الجديد.
فالقديس توما الأكويني، أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، وُلِد في سنة ١٢٢٥، وتُوفي في سنة ١٢٧٤، وألَّف كتبه بعد أن شاعت بين الرهبان والقسوس دروس الفلاسفة الأندلسيين وفلاسفة المشرق من المسلمين، ولم يكن في كل ما كتب في الله والروح ووسائل الوصول إلى الحقيقة رأي واحد لم يتناوله ابن سينا والغزالي وابن رشد على الخصوص. وكل ما استجد من خلافاته فهو تلك الخلافات التي يقضي بها الفارق بين أصول المسيحية وأصول الإسلام.
وقد سمَّى المسلمون الغزالي حجة الإسلام، وسمَّى دانتي القديس توماس قبسًا من نور السماء؛ لأنهما قاما بعمل واحد في مناقشة أرسطو وأفلاطون، وتغليب العقيدة الإلهية على مواضع الشك من الفلسفة المادية، ولكن المقابلة بين آراء الحكيمين خليقة أن تُبدي لنا للوهلة الأولى أيهما صاحب السبق في الزمن والاستقلال. وعلى الرغم من ردود القديس توما؛ شاعت مذاهبُ العرب بين الرهبان، ولا سيما الفرنسيسكان، وتحدَّى عُشَّاق هذه المواهب قرار الحرم الصريح، الذي أصدره مجمع باريس اللاهوتي سنة ١٢٦٩، في حق كل من يردد كلام ابن رشد — على الخصوص — في النفس والإنسان الأول والقدم والحدوث.
واتصلت الدراسات الفلسفية والصوفية بين رجال الكنيسة، فكان من آثارها تلك الحملة القوية على نظام الرهبانية، وتعززت هذه الحملة في البيئات الدينية بحملة أخرى في البيئات الأدبية، قام بها أديب إيطالي يدين للثقافة العربية بمؤلفه الكبير الذي نسج فيه على منوال ألف ليلة وليلة، وهو «الديكامرون»، وعرَّض فيه الرهبنة للغمز والتشهير.
فلم ينتهِ القرن الخامس عشر حتى كانت مسألة الرهبانية قد وصلت إلى المفترق الحاسم بين مذهبين؛ فأصدر مجمع «ترنت» (١٥٤٥) قراره بتحريم الزواج على رجال الدين من جميع الرتب والدرجات، وتزوج «لوثر»، إمام المذهب الإنجيلي، براهبة كاثوليكية قبل ذلك على سبيل التحدي والاحتجاج. وكان لوثر من أكثر الناس اطلاعًا على فلسفة القرون الوسطى؛ لأنه كان أستاذًا للفلسفة في جامعة ويتمبرج، ولم يكن غريبًا عن مناقشات علماء اللاهوت وعلماء الكلام.
ولقد ترجم لوثر التوراة إلى اللغة الجرمانية بعد أن حجرت اللاتينية على لغة الدين والعلم مئات السنين، ولم يحطم قيودها المرهقة إلا ذلك الإقبال المطرد على دراسة العربية بين من كانوا قبل ذلك منقطعين لدراسة اللاتينية، مترفعين على الكتابة بلغاتهم الوطنية. وأفرط الناشئون في الإعراض عن اللاتينية حتى شكا من إفراطهم هذا بعض الجامدين، ونعى على قومه ذلك التحول الخطير كما جاء في كتاب دوزي عن إسبانيا الإسلامية.
•••
وقد أشار الأستاذ نيكولسون في كتاب «تراث الإسلام» إلى المشابهات بين أقوال الصوفية المسلمين وأقوال الصوفية الأوروبيين من الأقدمين مثل أكهارت الألماني، والمحدثين كاربنتر الإنجليزي، وتوسَّع في مقاله القيِّم في متابعة العلاقة بين صوفية المسيحية وصوفية الإسلام … وليس العجب أن تثبت هذه العلاقة التي يستلزمها المنطق والتاريخ، ولكن العجب أن ينفيها من يعلم أن العرب أقاموا في الأندلس عدة قرون، وأن دروسهم حضرها رجال الدين والدنيا هناك، وأن كتبهم قرأها الباحثون في الأديرة والجامعات، وأن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل هذا الاحتكاك بينهم وبين الأوروبيين.
وللمبالغة هنا طرفان متقابلان يتساويان في الضلال عن الحق ومجافاة الإنصاف، وهما أن يقال: إن الصوفية التي تلقاها الأوروبيون عن العرب هي صوفية أجنبية لا فضل للعرب فيها، ولا تشمل في أطوائها على مزية من مزايا الروح العربية، وأن يُقال من الجهة الأخرى: إنها عربية محض لا مشاركة فيها للشعوب الأخرى.
فهذا وذاك باطلان على السواء؛ لأن أشواق الروح الإنسانية قسط مشترك بين بني آدم لا تنفرد به أمة من الأمم، ولا تخلو منه أمة من الأمم، ولم تستوعبها عقيدة واحدة كل الاستيعاب دون سائر العقائد الدينية.
والصوفية العربية مازجت صوفية الهند القديمة وصوفية الأفلوطينيين بالإسكندرية، ولكنها أضافت إليها كما أخذت منها، ولا حاجة بنا إلى تعقب التواريخ والأسانيد لتقرير هذه الحقيقة البينة، فإن عناصر الصوفية الإسلامية مبثوثة في آيات القرآن الكريم، محيطة بالأصول التي تفرعت عليها صوفية البوذية والأفلوطينية، والمسلم يقرأ في كتابه أن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس اللاهوت في كتب القديس توما حيث يقول: إن الله مباين للحوادث، وإنه يُعلم بالتنزيه والإبعاد عن مشابهتها، أو يعلم «بما ليس هو»، ولا يعلم بما هو عليه في ذاته أو صفاته، أيًّا كان المصدر الأول الذي استقى منه القديس توما أصول هذه العقيدة.
ويقرأ المسلم في كتابه: فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأن الفرار إلى الله هو باب النجاة.
ويقرأ المسلم في كتابه أن الله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، فلا يزيده المتصوفة شيئًا حين يقولون له: إن الله أزلي أبدي قديم بغير زمان ولا مكان، عليم بالكليات والجزئيات.
ويقرأ المسلم في كتابه أن: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ … وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون: إن الوجود الحقيقي هو وجود الله، وإنه أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنه قائم في كل مكان يصل له كل كائن وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
والله يخلق ويأمر فهو فعال مريد، وليست إرادته مانعة من الخلق كما يرى الفلاسفة؛ إذ يقولون: إن الإرادة القديمة لا ينشأ منها اختيار حديث، أو مخلوق حادث أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ومما يعلمه المسلم من كتابه أن عقل الإنسان لا يُدرك من الله إلا ما يلهمه إياه؛ لأنه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.
ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن، أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلًا واضحًا لهذا الخلاف فيما كان بين الخضر وموسى — عليهما السلام — من خلاف … فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا.
وهذه آيات بينات يقرؤها جميع المسلمين في كتابهم الذي لا يختص به فريق منهم دون فريق، وبينهم ولا شك أناس مطبوعون على التصرف، واستخراج الأسرار الخفية والمعاني الروحية من طوايا الكلمات؛ فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى باب التصوف الذي شغلت به خواطر الحكماء في جميع الأجيال، وبين جميع الأجناس، وعندهم من هذا القسط وحده ما يجعلهم أصلاء في الفلسفة الربانية، ويجعل لهم فيها شيئًا ينقلونه إلى الأمم غير ما استعاروه من حكماء الهند أو حكماء الإسكندرية.